ملخص عدد من الخطب ألقاها إمام الجماعة عن رمضان والصوم

ملخص عدد من الخطب ألقاها إمام الجماعة عن رمضان والصوم

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 184-187)

يمكن فهم هذه الآيات الكريمة بطرقٍ متعدّدة: فعندما يكون مجرى النهر ضيقًا لا يُسبَرُ غوْرُه. ولكن إذا بلغ المصبَّ واتَّسع مجراه.. أمكن تقدير كميات المياه التي تجري فيه. وكذلك كلمة الله تعالى: قد تبدو الآية محدودة المعنى ضيّقة المجال. ولكن التأمُّل يكشف للإنسان أنها تُحيط بموضوعاتٍ واسعة.

إنّ كلمة “يُطيق” مشتقة من الطاقة أو القوة. وتحمل الكلمة في صورة الفعل مدلولاً إيجابيًّا وآخر سلبيًّا. وينبغي فهمها مع سياق العبارة.

فقوله (يُطيقونه) يُشير إلى أولئك الذين عندهم القوة والمقدرة، وإلى من لا يملكون القوة والقدرة. وفي سياق هذه الآيات يسأل المرء: القوة والقدرة على ماذا؟ أو إلى أي شيء يُشير ضمير “الهاء” في يُطيقونه؟ لقد ورد ذكر الصوم والفدية معًا، فهل تُشير “الهاء” إلى الصوم، أم إلى الفدية، أم إليهما معًا؟ فيمكن أن يكون المراد من قوله:

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ

أن الذين يستطيعون دفع مال الفدية عليهم أن يؤدّوها. وهي ليست فرضًا على كل مسلم.. وإنّما هي عملٌ اختياري مرغوب وإن لم يكن إجباريًّا كالصوم. فالقادر على أداء الفدية والصوم معًا.. عليه أن يقوم بهما معًا. وبهذا المعنى يكون قوله تعالى (يُطيقونه) شاملاً الصوم والفدية.

ويمكن أن تكون كلمة (يُطيقونه) تُشير إلى الصوم، أي أن الذين يستطيعون الصوم ولكن ظروفهم تحول بينهم وبينه.. عليهم أن يدفعوا الفدية. وقد صرَّح الإمام المهدي بأنّ الفدية تُتيح لمن لم يستطع الصوم أثناء شهر رمضان أن يصوم في وقتٍ لاحق. أو بعبارةٍ أخرى: الفدية وسيلةٌ للاستعانة بالله تعالى للوفاء بفريضة الصوم.

وبربط كلمة (يُطيقونه) بالصوم وحده.. يكون المعنى أيضا أن الصوم واجبٌ على القادر عليه، أما الفدية فمن لا يقدر عليها فلا إلزام عليه. وفي الجانب السلبي تُشير كلمة (يُطيقونه) إلى الصوم وحده وليس إلى الفدية. أي أنّ الذين لا يقدرون على الصوم بسبب مرضٍ مُزمنٍ طويل.. هؤلاء يجدون العزاء في دفع الفدية، وينتفعون ببركاتٍ من رمضان.

وخلاصة القول: إنه طبقا للظروف والأحوال يصوم الشخص ويدفع الفدية، أو يصوم ولا يدفع الفدية، أو يؤجِّل الصوم ويدفع الفدية، أو لا يصوم لمرضه المزمن ويدفع الفدية وحدها.

ومن قوله تعالى

وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

يُستنتج أن الصوم مع كل الخيارات المذكورة آنفًا هو الخيار الأفضل، وأنّ كل عمل من أعمال البِرّ سوف ينال أجرا جزيلاً، ولن يدع الله تعالى شيئا منها بلا ثواب. ولكن على المرء ألا يستهين بالصوم ويلتمس الأعذار للإفطار، فالفدية ليست بديلاً عن الصوم.. ما لم يكن المرء مريضا بمرض طويل الأمد.

ويقول الله تعالى

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ،

ويتحيّر بعض المفسرين من ذلك، لأنّ القرآن نزل على مدى سنواتٍ طويلة وليس في شهرٍ واحد. ويمكن فهم هذا التصريح القرآني بأكثر من طريقة: منها مثلاً أن الوحي القرآني بدأ في شهر رمضان عندما كان النبي يتحنَّثُ ويتعبَّد في غار حراء.

ومنها أنّ جبريل الأمين كان يلقى النبي في رمضان ويُكرِّر معه تلاوة ما سبق أن نزل من آياته. ففي ذلك الوقت لم يكن القرآن مسجلاً على هيئة كتاب، وكان حفظه يعتمد على التكرار، وكان جبريل يطلب من النبي أن يُردِّد معه ما تلقّاه من القرآن.

ومنها أيضا أن التعاليم الخاصة بشهر رمضان تتضمن خلاصة تعاليم القرآن. ويُوصَفُ القرآن في هذه الآيات أنّه هُدًى لِّلنَّاسِ أي هدايةً للعالم. ولمـّا كان نزوله في شهر رمضان فإّن ذلك يعقد صلة عميقة بين هذا الشهر المبارك وبين الـهُدى. وهذا يُثير مسألةً هامة: الآيات تُخاطب المؤمنين، فكيف يكون الشهر هدايةً للعالم كله؟ ونجد الجواب في نفس هذه الآيات حيث قيل إن الصيام كان مفروضا على الأُمم السابقة أيضا. فسُنّة الله تعالى أنّه فرض الصوم بشكلٍ أو بآخر على الأُمم التي تلقَّت وحي السماء مع نفس التعاليم الأساسية التي صدرت بشأن رمضان. وقد ذكر القرآن أنّ الكعبة أيضا هُدىً للناس، ذلك لأنّ الجنس البشري أساسا ينتمي إلى عقيدة سيدنا إبراهيم، وكانت الكعبة محلَّ اجتماعهم. ثم نشأت الخلافات بعد ذلك فيما بينهم.. ولكن المقدَّر في نهاية الأمر أن يتَّحد بنو الإنسان مرةً أخرى تحت راية الإسلام. ومن ثَمَّ يصبح رمضان هدايةً لكل الناس.

والقرآن هداية كاملة تامة. ولرمضان خاصيّةٌ فريدة لأنّ النبي قد وضع التعاليم الشاملة المتعلِّقة بسلوك الإنسان خلال هذا الشهر، وهذا لم يحدث من قبل أن قدَّمت أي ديانة مثل هذه القواعد التفصيليّة للسلوك أثناء الصوم. والقرآن كتابٌ يُقدِّم أسمى الآيات. ويأخذ رمضان الإنسانَ إلى أعلى الدرجات، ويمنحه امتيازا إذ يزوِّده بالحُجج الغالبة. ولذلك فإنّ تعليم القرآن، ورمضان كما يُقدِّمه القرآن.. يكفلان الهداية العامة، فضلاً عن الهداية إلى الدرجات العُلا.. وهذا ما سُمِّيَ بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى أي الدلائل الواضحة للهداية.. وهي التي تمنح الامتياز للمؤمنين. ولقد اجتمعت كل هذه البركات في شهر رمضان.

وبعد أن عرض القرآن كل هذه الحُجج لبيان فضل رمضان. جدَّد الله الدعوة لصومه، كما لو أنّ تعالى يقول: أما وقد فهمتم عظَمَة هذا الشهر فأَعِظُكم مرةً أخرى أن تحرصوا على صومه.

وقد رُخِّصَ لبعض الناس في الإفطار، وهم المسافرون والمرضى وأُبيحَ لهم تأجيل الصوم إلى أن يكونوا قادرين على مشقَّته. وفلسفة التقوى لا تتطلب أن يضع الله الناس في المصاعب كي يُعانوا. نعم، يُحسُّ الصائم بشيءٍ من المشقّة، ولكنها ليست فضيلةً في حدِّ ذاتها وليست هدفا مرادًا.. ولكن الفضيلة المنشودة هي استرضاء الله تعالى. وإذا اقتضى طلب رضوان الله تعالى أن يتحمل المرء شيئا من المشقة زادت هذه الفضيلة علوًّا في الدرجة.

ثم تأمر الآيات بني البشر أن يُكبِّروا الله ويمجِّدوه ويُجِلُّوه من أجل الهدى الذي منحه إيّاهم.. لعلهم بذلك يؤدُّون حقَّ الشكر له. والغرض الجوهري من الصيام، ومن كل العبادات.. هو الفوز بالقُرب إلى الله تعالى. وفي هذه الآيات يُطمئِن الله عباده الذين يطلبونه ويسعون إليه بقوله إِنِّي قَرِيبٌ . ومع أن الله تبارك وتعالى لا يغيب وجوده في أي مكان.. إلا أن الشعور بوجوده يتطلب من الإنسان أن يُنمِّي في نفسه ملَكَاتٍ روحيّة معينة. ففي المقام الأول ينبغي أن يُقرِّر الإنسان لنفسه أنه مخلِصٌ في رغبته الوصول إلى ربِّه. ثم عليه أن يبتهل إلى الله، ويتضرَّع بمحبةٍ وخشوعٍ وتواضع.. وعندئذٍ سوف يجد الله يستجيب له، وهكذا ينشأ حِوارٌ بين الإنسان وخالقه، يترتّب عليه شعور المرء بالقرب من الله تعالى. لا بدَّ أن يُبدي الإنسان اهتماما نحو الله، وعندئذٍ يُجيب الله تعالى دعواته. وهكذا يتمُّ إدراك الهدف من رمضان.

وبعد ذكر أهمية الصوم وبركات رمضان يقول الله تعالى وَلْيُؤْمِنُواْ بِي . لقد بدأ الموضوع بخطاب المؤمنين.. فلماذا اختتمه بالدعوة؟ والجواب على هذا أنّه بعد أن يخوض الإنسان مشاقَّ الصوم يتّخذُ إيمانه لونًا جديدا. فهو أولاً يكمل رحلة نحو ربه، ويلقى المصاعب من أجله، وينشأ حِوارٌ بين الله تعالى وبينه، ويبتهل إليه، ويشعر بالقرب منه.. وهذا هو الإيمان الحقيقي. وهكذا تبدأ الرحلة بالإيمان، وتنتهي عند درجةٍ أسمى من الإيمان. والذين يؤمنون بالله يتولى بنفسه هدايتَهم وإرشادهم. ويؤدِّي هذا الهَديُ الإلهي إلى أن يزداد المؤمن حكمة. والواقع أن أولياء الله هم أهل الحكمة بحقّ. يفتخر كثير من أهل الدنيا بذكائهم، ولكن قراراتهم لا تصدر منهم بالرجوع إلى الله تعالى.. وقد تتوافق قراراتهم أحيانا مع مشيئة الله فتلقى النجاح. ولكن عندما تكون اهتماماتهم مخالِفة لتعاليم الله تعالى فإنّهم يتّجهون نحو رغباتهم الذاتيّة، ولذلك تكون ثمراتهم قصيرة العمر. كم من الأُمم وقعت في أخطاء جسيمة في قراراتها السياسيّة لأنها حُرِمت من نور الله تعالى!

هناك الكثير مما يمكن تحصيله في رمضان خلال ثلاثين يوما فحسب. فالشهر المبارك يلبث فترةً قصيرة ويأتي مرةً واحدة في السنة.. ولذلك لا ينبغي التفريط فيه. إنّه فرصةٌ رائعة لإرضاء الله تعالى؛ ومشقاته ضئيلةٌ بالنسبة لبركاته العظيمة. والذين لديهم معرفةٌ صادقة بالخيرات يتزوَّدون فيه لتعويض زلّاتهم والتماسِ المغفرة.

يروي عبد الرحمن بن عوف أنّ النبيَّ قال:

“شهرُ رمَضَان يَفضُلُ كُلَّ الشُّهُور وَمَنْ قَامَ هذا الشَّهرَ إيمَانا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقْدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”.

وفي هذا بِشارةٌ عظيمة تتعلق بهذه الأيام المعدودة. وباتِّباع توجيه النبي الكريم يفوز الإنسان ببركات رمضان. ينبغي تحقيق كل ركنٍ من أركان العقيدة من عمل الخيرات في سبيل الله، وأداءُ الصلوات من أركان الدين. وتسيرُ محاسبة النفس مع التمسُّك بالفضيلة لأنّها تصونها وتحفظها. إنّ مُحاسبة المرء لنفسه حِسابا دقيقا على مقاصدها يضمن لروح رمضان الاكتمال. رمضان يعني أن يجد المرءُ ربَّه، وأن يصل بالفضيلة إلى ذروتها؛ وكل ما يتعارض مع روح رمضان يبتعد بالمرء عن الفضيلة. وينبغي على الإنسان أن يُركِّزَ في رمضان على العبادة والبِرِّ وذِكرِ الله تعالى.

لقد وردَ عن النبي أنّه قال: «المـَدِينةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا». فالحديد يُعالَجُ بالنار فيتخلَّص من الشوائب، ولكنه بعد فترة يُصيبه الصدأ.. ولذلك أوصى النبيُّ المسلمين أن يزوروا المدينة بين الحين والآخر.. ليُزيلوا عن نفوسهم الصدأ الذي يتراكم عليها بسبب البُعد عن صُحبته المطهَّرة. وكذلك دعا الإمام المهدي الأحمديين لزيارة قاديان، والحكمة وراء ذلك هي نفسها التي تُعبِّر عنها كلمات النبي الأكرم . وعلى المسلم أن يُصلّي خمس مرات في اليوم ليُطهِّرَ نفسه من الشوائب بهذه العبادة المتكرِّرة. ثم هناك عبادة الحج إلى مكة المكرّمة، وهي فريضةٌ واجبة وكافية لتطهير المرء من الخطايا على مدى العمر كلهّ. ويتكرّر رمضان كل عام، وفي ذلك حكمة ينبغي أن نتذكَّرها دائما.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ النبي قال:

«إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ». وفي حديثٍ آخر «إِذا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجنَّةِ».

ليس هناك علاماتٌ مرئيّةٌ للتحسُّن الأخلاقيّ في العالَم، وبدلاً مِنَ التطلُّع إلى الخارج.. فلينظر المرء إلى داخل نفسه. كل إنسان له عالَمَهُ الخاص، وله سماؤه وأرضه. والحديث السابق يتعلَّق بالعالَم الباطني. فَمَن أحدث تغييرا في عالَمه الباطني وتمسَّك بأعمال البِرِّ المصاحبة لهذا الشهر، التي تيسَّر القيام بها في رمضان.. تُفتح له أبواب سمائه، وتُغلق له أبواب ناره. وإذا لم يحدث هذا، وإذا لم يكن لرمضان تأثيرٌ إيجابي على المرء.. فإنّ هذا الحديث النبوي لا ينطبق على عالمه.

لماذا تنفتح أبواب الجنة والرحمة في رمضان مقارنةً بسائر شهور العام؟ السبب أنّ جو البِرِّ والتقوى يتكون في هذا الشهر، ويزداد انتباه الناس إلى العبادة، ويكون هناك ميلٌ أكثر على البذل والعطاء وعمل الخير. رمضان هو موسمٌ تجنَحُ فيه القلوب إلى البرّ، ومن الضروري أن يُستفاد من الجو الصالح التقيّ. وشيئا فشيئا تنفتح أبواب الجنة وتُسدُّ أبواب النار. إنّ أبواب الجنة والنار المذكورة في الحديث هي أبواب العالَم الباطني للإنسان. والشيطان المقيَّد في السلاسل هو شيطان المرء نفسه. ونتيجة لكل ذلك يتقدَّم الإنسان في البِرِّ والفَضيلة وإن كان تقيًّا من قبل. ولتحقيق هذا التقدُّم يعتمد الإنسان على رحمة الله . على الإنسان أن يُجاهد من جانبه بقوة ليُخلِّص نفسه من الفسوق والعصيان.. فتجتذب جهوده وابتهالاته رحمة الله تعالى. يروي أبو سعيد الخُدري أنَّ النبي قال:

“مَنْ صَامَ رَمَضانْ بِحَقِّهِ وامتَنَعَ عَنْ المـُحرَّمَات غُفِرَ لهُ مَا تَقْدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”.

  هناك أحاديث أخرى تقول بأنّ من فَطَّرَ صائما نال الخلاص. ولا بدَّ أن الصوفيين يرفضون هذا الحديث إذ يبدو أنّ هناك تناقضا كبيرا. فمن ناحية يُراد من الناس أن يتحمَّلوا صرامةَ النظام الرمضاني للخلاص، ومن ناحية أُخرى يُطلب منهم فحسب مساعدة فقيرٍ ليُفطر. الواقع أنّ أي حديثٍ يتعارض مع القرآن وسجيَّة النبي الكريم جديرٌ بالرفض. العطف على الفقير فضيلة، ومساعدة الفقير على الإفطار آيةٌ على التقوى، ولكن لا يمكن أن تنحصر التقوى في هذا العمل وحده. إنّ الله تعالى يُثبِّت فضائل الإنسان بأن يُعينه على مزيد من الخير والبِرِّ، ومحو خطاياه بعمليةٍ تدريجيّة.

وقد رُويَ أنّ النبي كان جوادًا كريما يُنفق بسخاء، ولكن جوده كان في رمضان كالريح العاصفة. كان من سُنّة النبي أن يُعِينَ الفقير والمحتاج بطرق عديدة.. منها طعام الإفطار. إنّ الزعم بأن إعطاء الفقير لُقيمات يفطر عليها بعد إهمال حاجاته طول اليوم حتى يحين موعد الإفطار.. عملٌ يُحقِّق للإنسان الخلاص لزعمٌ باطلٌ وخطأٌ محض.

لقد أخبر النبي أن من لا يستطيع العبادة خلال شهر رمضان لا يستطيع من باب أولى أن يعبد الله تعالى سائر العام. فها هو باب العبادة مفتوح، وما أن يُمرّ منه المرء حتى يجد أبواب الجنة مفتوحة على سعتها. والمرور من باب العبادة هذا لا رجعة منه.. بل على المرء أن يظلَّ ثابتا. إنّ المرء لا تكون له حياة روحيّة بدون العبادة. إنّها الطعام والشراب اليومي للروح، ولولاها لا يكون للعالَم الروحيّ معنى. ووسيلة الثبات في العبادة أن نستمد منها المتعة. بعض الناس يُدمن المخدِّرات بعد جُرعاتٍ قليلة. واعتياد العبادة يقتضي الاستمتاع بها. ويمكن تحقيق ذلك مع الاستعانة بالله تعالى. على الإنسان أولاً أن يواظب على الصلاة، ويسأل الله معونته كي يجد متعةً في العبادة. وبدون اكتشاف المعنى الحقيقي للصلاة تظلُّ حياة الإنسان جدباء. وثمرة العبادة الحقّة أن يتجمَّل قلب الإنسان وحياته، كما قال الله تعالى

نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

ويصبح هدايةً لغيرهم. ومهما كان المرء بارًّا فإنه لا يستطيع تحقيق سلامه النفسي بدون حياة روحانية. يقول الإسلام أنّ من يركع ويسجد بين يدي الله تعالى يُظلُّه السلام. وبالرغم من أنّ هناك كثير من الكرام وَالنُبلاء بين غير المؤمنين إلا أنّهم محرومون من مزايا المعاني الإسلاميّة السامية التي تتعلَّق بخضوع الإنسان لله تعالى.

ورُويَ عن النبيّ أنّ من وجدَ طُمأنينةً وسلاما في رمضان وجدهما سائر العام. إنَّ ذلك كقذيفةٍ من بُندقيّة.. تسيرُ في الاتجاه التي سُدِّدت إليه. فيجب أن يبذل المرء كلّ جهدٍ ليتمسَّك بالعادات الصالحة التي تتولَّد في رمضان، وأن يمضي في نفس المسار الذي اتَّخذه في الشهر المبارك.. وعندئذٍ يكون عامه كلّه سلاما وطمأنينة.

روى أبو هريرة أن النبي قال:

«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

يُفسد المرءُ صيامَهُ بتورُّطهِ في الشرور. مِنَ العجب أنّ الناس راغبون في الكفِّ عن الأمور المشروعة، وغير راغبين في الامتناع عن الأفعال المحرمة. يا له من تناقض! إنّ الناس جميعاً مُصابونَ بهذا الداء إلى حدٍّ ما. إن لم يكونوا مرضى بالكبائر فَهُم واقعون في الصغائر. وأشدُّ الأمراض فتكًا هو قول الزور. إنّه حامضٌ يُذيب التقوى. وتنشأ مشكلاتٌ عظيمةٌ بسبب هذا الزور. كم من طلاق، وكساد أعمال، وخرابِ بيوت يحصل بسبب قول الزور. يجب أن يُعلن المرء الجهاد ضد الزور، ويقتلع جذوره من نفسه. قد يكون المرء صادقا أمينا في حياته اليوميّة العاديّة، ولكنه إذا تعرَّض لموقف امتحان نطق بالكذب لينجوَ بجلده. يجب القضاء على بذرة الزور. الخيانة موجودة في كثير من مناحي الحياة. هناك غِشُّ الصالح العام، وسوء استخدام للخدمات الحكوميّة، وتدليسٌ في ضريبة الدخل وما إلى ذلك. إنّ لصوص الخيانة مُختبئونَ في قلب كل إنسان، والواقع أنّه يعبدهم أكثر مما يعبد الله تعالى. في زمن الشدة يُنادي الناس الله تعالى، بل ويناديه أيضا الوثنيون. يجب على المؤمن أن يتّجه إلى الله تعالى عندما يجد نفسه في ورطة، ولا يعتمد على الزور والباطل لينجو بنفسه. ينبغي أن يتأمَّل المرء في نفسه بعُمق، ويقتلع الخيانة منها، وعندئذٍ يجد الإيمانُ بالله تعالى طريقا إلى قلبه. وفي النهاية يجد الطمأنينة والسلام في عقيدة توحيد الله .

البذل والعطاء في رمضان

يقول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (التوبة: 34)،

تُشير هذه الآية الكريمة إلى قومٍ عندهم علمٌ بالدين، وزهدوا في الدنيا من أجل الله، واعتزلوا المجتمع.. على زعم أنْ يتفرَّغوا لعبادة الله.. كالملَّات والنُّساك والرُهبان. كثيرٌ من هؤلاء يأكلون أموال الناس بالزور والتدليس. ومن العلامات المميّزة لهؤلاء أنّهم يصدُّون الناس عن الله بأن يضعوا العراقيل في الطريق إليه تعالى. وتُشير الآيات أيضا إلى مَنْ يُحبُّون المال حُبًّا عميقا، بحيث يكون هدفهم في الحياة أن يجمعوا المال ويُخزِّنوه بالحلال أو الحرام، ويقضون حياتهم في اكتناز الذهب والفضة. ومن الملامح المميّزة لهذا الفريق أنّهم لا يُنفقون في سبيل الله تعالى. وهذان الفريقان كِلاهما مُرتبطان بمن يُنكرون الحق. ويقول القرآن المجيد في هؤلاء:

فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ .

هذا العقاب مرسومٌ للفريقين السابقين. وتختلف الجماعة الإسلامية الأحمدية عن هذين الصنفين من الناس. فأبناء الجماعة لا يكسبون أموالهم من حرام، ولا يضعون العراقيل في الطريق إلى الله، بل بالأحرى هم يدعونَ الناس إلى الله جلَّ عُلاه، ويُنفقون أموالهم في الدعوة إلى طريق الله.

وفي بعض الأحيان ينطبق جانب من هذه الآية على الضعفاء من أبناء الجماعة، وهذا هو الأثر السلبي لشغفهم بزيادة ثروتهم. وعندما يبذلون المال لحاجاتهم فإنّهم أحيانا لا يفعلون ذلك بحسب مقدرتهم. بينما الفقراء من أبناء الجماعة عموما يبذلون فوق طاقتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى. لقد هيّأ لنا القرآن المجيد وسيلةً لنتعرَّف بها هل ننفق بقدر استطاعتنا أم لا. فالذين يُنفقون المال في سبيل الله يتعرَّضون بسبب ذلك لشيءٍ من المشقَّة أو نُقصان مالهم.. أولئك في نظر القرآن هم المنفقون بقدر استطاعتهم. ولذلك ينبغي أن يختبر كل أحمدي نفسه في هذا الطريق. هل هو يُنفق في سبيل الله تعالى بقدر استطاعته؟.. وإن لم يكن قادرا، وإن كان حُبّه للمال يُشير له إلى اتجاهاتٍ أخرى؟ إذا كان الحال هكذا فإنّه يتمتَّعُ بحماية الله تعالى وليس هناك ما يخشاه.

هذا الموضوع له صِلةٌ خاصة برمضان، وأيضا بدخول المرء جنة الله تعالى. ففي موضعٍ آخر من القرآن الكريم يقول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (الأعراف: 41).

فالذين يرفضونَ آيات الله ويُعرِضون عنها استكبارا.. تنفتح عليهم أبواب نارٍ روحانيّة. ولا يدخلون الجنّة حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة. هكذا يكون عقاب المعتدين.

وقد أشار عيسى إلى هذا الموضوع بطريقةٍ أخرى، فقال لحوارييه:

“الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ! وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!”. وقد استخدم هنا كلمة (غني) بدلاً من (استكبروا) الواردة في الآية القرآنيّة. {فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ:«إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ». (إِنْجِيلُ مَتَّى 19: 25-26).

هناك تشابهٌ بين المثل المذكور في القرآن الكريم والمثل الوارد في الإنجيل لأنّ كلاً منهما كلمة الله تعالى. وعندما بلغ الدين كماله، وجاء إلى الدنيا خاتم النبيّين سيدنا محمد .. عرض المثل مرةً أخرى أمامنا ولكن بطريقة مختلفة. والعامل المشترك في المثَلين هو الكِبْر. ذلك الخُلقُ الذَميم الذي يُمثِّل في الواقع المحصلة الكليّة للشخص الذي لا صلة له بالحقيقة الواقعة. إنّ أنانية المرء تؤدِّي إلى تضليل النفس، وهذا ينتهي به إلى الاعتقاد بأنّه أعظم مما هو عليه فعلاً. وهذا يشبه حال حشرة لا تكاد تُرى بالعين وتحسب نفسها في حجم الجمل. إنّ ما يريد المسيح عيسى قوله هو أنّ الثري ينفخ نفسه. إنّ حبّه للمال يجعله يستنفذ حياته كلها في جمعه. وما دام ماله يتراكم، وممتلكاته تزداد.. يشعر بالرضا. وإذا حال شيء دون ولعه بالاقتناء أحاط به البؤس والتعاسة. وما الجنّة بالنسبة له إلا الكسب المالي. قال المسيح عيسى أنَّ مثل هذا الشخص لن يتمكن من دخول الجنة. وهذا الموضوع تتناوله الآيات القرآنيّة أيضا. لماذا يُحال بين الذين يكنزون المال وبين دخول الجنة؟ السبب في ذلك أنّ مداخل الجنة هي طرق الصدق والحق. والذي اتَّخذ موقفه في الباطل لا يستطيع أن ينفذ في طريق الحقِّ الضيّق.

والآيات القرآنيّة التي تذكر هذا الموضوع تتضمَّن حكمةً أسمى. لقد قال سيدنا عيسى أنّ مرور الجمل من ثقب الإبرة أيسر من دخول الثريّ ملكوت السماء. والآن، ليس من الممكن للجمل أن يمرَّ من هذا الثقب.. ومن ثَمَّ فإنَّ هذا المثل يجعل الثريّ يفقد الأمل. أما المثل القرآني فإنّه يذكر الكِبر ويقول: حتى يمرَّ الجمل في ثقب الإبرة. وبعبارةٍ أخرى يُشير إلى احتمال هذا المرور، ويفتح أمام المرء باب البحث عن وسيلةٍ لفعل ذلك. إنَّ السبيل إلى النجاة هو التواضع وأن يتفهَّم المرء موقفه. عندما يتخلَّى الإنسان عن كِبره ويتخلَّق بالتواضع، ويرى نفسه لا يزيد عن دودة صغيرة يسهل عليه المرور في ثقبٍ دقيق. لقد قال الإمام المهدي : لستُ أكثر من دودة الأرض ويُحقِّرني الدنيويون في هذا العالَم.

إذا أقلع الإنسان عن التكبُّر فلا بدَّ أن يمرَّ من ثقب الإبرة. إنَّ كلمات القرآن عميقةٌ في بلاغتها وفصاحتها، وتُلقي لنا الضوء على جواهرَ من الحكمة. ففي رمضان إذا أراد الثري أن يدخل الجنّة حقا فرسالة رمضان تقول له: لا مناصَ من طاعة محمد رسول الله ، وينبغي ان يبذلوا تضحياتٍ ماليّة أعظم، وأن يتواضعوا ويحدُّوا من شهواتهم. إذا لم يستطع الإنسان أن يتخلَّص من جشعه فلن يتمكن من انتهاج التواضع وتخفيف أعباء نفسه.

وفي هذا الصدد يأتي رمضان برسالةٍ لكلِّ إنسان. فعلى المستوى الماديّ يُتيح رمضان فرصةً للصائم أن يُقلِّل نسبة الشحم في جسده، ويتمكن الذين اعتادوا الطعام الدسِم أن يتخفَّفوا من الدُهن الزائد في أجسامهم. وعلى المستوى الروحاني، يُتيح لنا رمضان التخلُّص من أخطائِنا الروحيّة. روى أبو هُريرة أنَّ النبيّ قال: إنّ كلَّ شيءٍ يتطهَّرُ بالصدقة، وصدقةُ الجسم الصوم. والصوم أيضا صدقةٌ للروح طبعا، ولكنه ذكر هنا صدقة البدن. وفي حديثٍ آخر يقول النبيُّ «جوعوا تصحُّوا».. أي إذا أردت أن تصُحَّ فعليك بالصوم. فالصوم يُذيب الشحم الزائد ويترك الجسم خفيفا نشيطا. ويُضيف الحديث: وصومُ رمضان يُطهِّرُ القلبَ من المعاصي. كيف يُزيل الصوم المعاصي؟ من الناحية الطبيّة يُقلِّل الصوم نسبة الكولسترول. هذه المادة التي تترسَّبُ في الشرايين وتُضيِّقها. وإذا ضاقت الشرايين الدمويّة وعاقت الدورة الدمويّة أحسَّ الإنسان بألمٍ حارق، يُسمِّيه البعض حُرقةَ القلب، ويُسمِّيه آخرون الذبحة الصدريّة. وهناك كثيرٌ من الأمراض التي تنشأ عن الكسل والخمول. يقول رسول الله أنّه عندما يمرُّ الإنسان في أتون رمضان فإنّ الشحم الزائد يحترق، ويُحسُّ الصائم بالصحّة والراحة الروحيّة. قال أنّ هناك صدقةً تُطهِّر كلَّ شيء، وأراد هنا أنَّ رمضان صدقةٌ للنفس الباطنة وللبدن.

كما أنّ سُنّة النبي توجِّهنا لرفع تضحياتنا المالية.. وهذا علاجٌ لأمراضنا الروحيّة، إنّ الإنسان في رمضان يتخلّص من الأمراض الجسديّة والروحانيّة المتراكمة. ويحاول بعض الناس أن يُحافظ على هذه المنافع سائر العام؛ والبعض لسوء حظّهم يعود إلى حاله القديم.

ينبغي على الجماعة أن تنتفع انتفاعا كاملاً من شهر رمضان، فينفقوا في سبيل الله تعالى بوسائل عديدة. وأساسا يجب أن تكون نيّة الإنسان صحيحة طيّبة، وأن يكون إنفاقه خالصا لوجه الله. وعلى سبيل المثال.. يستطيع أولئك الذين يُقتِّرون في الإنفاق على زوجاتهم وأولادهم أن يسعوا في شهر رمضان لاكتساب مرضاة الله تعالى بالسخاء على ذويهم. لقد أخبرنا المصطفى أنّك عندما تضع لقمةً في فم زوجتك تريد بذلك مرضاة الله تعالى فعملك هذا برٌّ وخير وهو صدقة.

لنبدأ عمل الخير والصدقة في بيوتنا. فإذا ما تدبَّرت مشاكلك المنزليّة وجب عليك أن تنظر فيما حولك.. هناك جيرانك وغيرهم ممن يُعانون في هذا العالَم كأهل البوسنة وكشمير. ينبغي أن تدفعوا لهم الصدقات والزكاة لتخفيف ويلاتهم. وينبغي أن تؤدِّي زكاة بدنك وقلبك وروحك ونفسك. وعندما تؤدَّى الزكاة حقا بحسب معنى الزكاة فإنّ أثقال الإنسان تسقطُ عنه، ويزداد قوةً ومقدرة. وبانتهاء رمضان تُوضَعُ أوزار المؤمنين عنهم ويزدادون قوةً بدنيّة وروحانيّة، فتسرع خُطاهم نحو التقدُّم والازدهار. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبيَّ كان أسخى الناس وأجود ما يكون في رمضان عندما كان جبريل يأتيه ليراجع معه تلاوة القرآن الكريم. فكان النبيُّ ينفق ويتصدَّق بقوة الريح المرسلة.

أهمية الصلاة

في حديثه عن “روح رمضان” قال المسيح الموعود أنَّ رمَضَان هو حرارةُ الشمس، ففيهِ يُسيطرُ المرءُ على شهَوَاتِهِ الماديّة، وفي نفس الوقت يُبدِي شَغَفَاً للتَقَرُّبِ مِنَ الله تعالى. هذهِ الحرارةُ الروحيّة والحرارةُ البَدنيَّة معًا تُشكِّلانِ رمضان. الرَّمَضْ يعني الحرارة، ورَمَضَان يعني “حَرَارتان”. يقول الإمام المهدي: “ينبغي على الإنسان مَزجُ هَاتين الحرارتين معًا لِيُكوِّنا رمضان. يجب أن يُؤدِّي زكاة البدَن وَزَكاةَ الروح، وعِندَئذٍ يَتوَّلدُ رَمَضان بالمعنى الحقيقي للكلمة.»

يظنُّ بعض الناس أنَّ الحرارتين هما قيظُ الصحراء العربية مع حرارة الصوم.. ولكن الإمام المهدي حسمَ هذه الفكرة وقال إنّ رمضان الروحاني يعني التلهُّفَ على البركات الروحانيّة. إنّه يرمز إلى نوعٍ من الحرارة التي تُذيب أقسى القلوب.

ويذكر الإمام المهدي أنّ امتياز رمضان يتبيّن في حقيقة أنّ القرآن نزل في هذا الشهر. ويقول الصوفيون أنّه شهرٌ عظيم لتنوير القلب: فالصلاة تُطهّر الإنسان ورمضان يُنمّي قدراته الكشفيّة. فما هو تنوير القلب؟ الإنسان ذو القلب المستنير تكون له تجارب كشفيّة مثل الرؤى الصادقة أو الإلهامات. ولكن الإمام المهدي قال إنَّ المرء لا يستطيع أن يكتسب نورًا في القلب إلا إذا طهَّر نفسه عن طريق الصلاة. فكيف تُطهِّر الصلاة؟ إنَّها تُطهِّر الإنسان بأن تُبعده عن حُبِّ الشهوات الجسديّة والرغبات الماديّة. وبدون تصحيح الأخطاء وطرح الخطايا لا يستطيع القلب أن يستضيء. ولا يتحقَّق الإصلاح بدون الصلاة.

وينبغي أن يوجِّه الإنسان اهتماما خاصا نحو الصلاة خلال رمضان. وأن تُؤدَّى الصلوات بحيث يشعر المرء بأنّ معاصيه وذنوبه تتساقط بعيدا عنه، وتتخلَّص روحه من أوزارها. وبالتأمُّل في كلمات الصلاة وتعديل السلوك وفقا لها.. يحدث تحوُّلٌ عظيم في مسيرة الإنسان. فمثلاً: تحتوي سورة الفاتحة على دعاء:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .

ولهذا الدعاء العظيم متطلبات خاصة. سَلْ نفسك: من هؤلاء الذين أغدقَ الله عليهم نِعَمَهُ؟ هل أملك شيئا من صِفاتهم؟ ومَنْ هم الذين باءوا بغضبِ الله تعالى؟ هل بي عيبٌ من عيوبهم؟ هذا التفكُّر وتحليل النفس سوف يؤدِّي إلى ارتفاع مستوى الإدراك الذاتي. في البداية يَرِدُ على الذهن نقيصةٌ أو اثنتان.. ذلك لأنّ المرء غارقٌ في الظلام. عندما ينتقل الإنسان من الظلام إلى غرفةٍ مضيئة فإنه يرى القليل أول الأمر. في البداية تظهر الخطايا الرئيسية.. ويجب أن يتناولها الإنسان في دعائه. ولسوف تفيده النوايا الطيّبة في قبول دعواته. ونتيجةً لذلك يسهل التخلُّص من هذه العيوب. سيتطلَّب الأمر شيئا من الجهاد والصراع طبعا. ولكن كل هذه النقائص سوف تزول بفضلٍ من الله تعالى ومعونته، ثم يزداد الضوء وينقشع الظلام، ويصبح الإنسان عارفًا بمساوئ أخرى فيه. ثم ينبغي أن تتكرَّر عملية الدعاء والتطهير. يذكر القرآن الكريم مرارا وتكرارا أنّ النبي وتعاليمه تُخرِج مُتَّبِعَهُ من الظلمات إلى النور. ويتمُّ هذا بالدعاء الخالص فحسب. فما إن يتطهَّر الإنسان إلا ويستنير قلبه. ولا يتعايش الحق والباطل فيه ويستنير القلب إذا زالت الظلمات.

الاعــتـكــــاف

يحبُّ بعض الناس أن يُمضوا العشَرَ الأواخرَ من رمضان في المسجد حيث يقضون وقتهم في ذكر الله تعالى. وهذا المكث في المسجد يُعرف باسم الاعتكاف. ولما كان شهر رمضان ثلاثين أو تسعة وعشرين يوما.. لذلك كان النبي يعتكف يوما مبكرًا حتى يضمن أن يكون الاعتكاف عشرة أيامٍ كاملة. وما زال الاعتكاف منذ بدء الخلق متعلِّقًا بعبادة الله تعالى تعلُّقًا وثيقًا. ويمكن أن نجد نظرية الاعتكاف في أول بيتٍ أُنشِئَ لعبادة الله العليّ القدير.. الكعبة المشرَّفة. وفي كل ديانات العالم تجد الاعتكاف على صورةٍ ما. ولكن مفهوم الاعتكاف في الإسلام قد وصل النضج والقوة. فالاعتكاف عادةً هو أن ينفصل المرء عن العلائق الدنيويّة ويُخصِّص وقته لذكر الله تعالى. وفي بعض الديانات يكون ذلك بصورةٍ متطرِّفة، فمثلاً يعمد الرُهبان المسيحيون والنُسَّاك الهندوس إلى عزل أنفسهم عن العالَم عزلاً دائما. ولا يؤيّد الإسلام ممارسة عزل النفس عن العالَم مدى الحياة. والرهبانيّة، كما هي في المسيحيّة، ليست من تعاليم السماء، ولكنها من ابتداع الأجيال التالية. وهكذا حوّلوا تعليما سامي الحكمة إلى وضعٍ يتعذّر على الإنسان أن يتمسَّك به. والقرآن المجيد تعليمٌ عالمي مرتبطٌ ارتباطا قويا بالكعبة المشرَّفة، وهي أول بناء لعبادة الله وحده.. فلا جرم أن تكون تعاليم القرآن متوافقة مع أسلوب الاعتكاف الأصلي. وفي هذا الصدد سنَّ لنا النبي مسلكا لا نظير له.. يوضّح الغرض الحقيقي من الفضيلة.

كانت حياة النبي مثلاً يُحتذى في إقامة علاقةٍ شخصيّة مع الله جل عُلاه. إنّ قطع العلاقات مع العالَم هروب.. تهرُّب من الابتلاءات والمحن. ولكن سُنّة النبي كانت بحيث عاش حياةً كاملة نشِطَة فعَّالة.. ومع ذلك ظلَّ بعيدا من جذبات الدنيا ومُغرياتها، ولم يدع نفسه الشريفة تخضع لها. هذا هو الجهاد الحق.. أن يظلَّ الإنسان مشتغلاً بالجهاد في كل الجبهات، مُتعرِّضا لشتّى الاختبارات، ولكنه لا ينفكُّ ثابتا على طريق البرِّ والتقوى، ولا يترك نفسه لتقع في الشِراك.

هذا في الواقع هو السبيل الذي بيَّنته سُنّة النبي لإنشاء رابطةٍ بالله العليّ القدير. إنّ الصراط المستقيم طريقٌ وسط أوصى الله تعالى بالسير فيه، وعلى الناس أن يَفُوا بمسئوليّتهم. وأن يظلوا ثابتين عليه.. مُحافظين على صلتهم بالله. والمدلول الحقيقي للاعتكاف هو أن ينسحب الإنسان من الدنيا لفترةٍ قصيرة.. تاركا الابتلاءات الدنيويّة وراءه. ولم يصف النبي الاعتكاف بأنّه منزلةٌ عالية من التقوى.. بل سمَّاه تضحية.

بدأ النبي الاعتكاف في الأيام الأولى من الإسلام في منتصف رمضان، واستمر حتى ليلة 21 منه. وظلَّ هذا النظام لفترة ثم أخذ صحابته ينضمُّون إليه. والواقع أنّ بعض أُمّهات المؤمنين زوجات المصطفى أقمنَ في أخبيَتِهنَّ في المسجد. وذات مرة نصبت السيدة عائشة رضي الله عنها خِباءها في المسجد بإذنٍ من النبي . ولما بلغ ذلك بعضَ زوجاته رَغِبنَ أن يُشارِكنَ في هذا العمل الصالح وأقمنَ خِباءً في المسجد. ولم يكن النبي قد رخَّص لهًنَّ في ذلك وإنّما فَعلنَهُ بموافقةٍ من السيدة عائشة. ولما جاء النبي اندهشَ لوجود القِباب. ثم علِم أنها خيمات نسائه، فقال: ما حملهُنَّ على هذا؟ آلْبِرَّ أَرَدْنَ؟ وأبدى حضرته عدم رضاه، لأنّ البِرّ الحقيقي ينبع من دافعٍ داخلي وليس تقليدًا أو غيرةً. وبلغ من سخط الرسول أنّه لم يعتكف في المسجد عامه ذاك. ولقد اعتكفت السيدة عائشة من قبل، وليس هناك ما يُبرِّر حرمانهنَّ منه، ولكنه أحسَّ أنهنَّ يحاولنَ التنافس فيما بينهُنَّ. ولذلك قرَّر ألا يلومهُنَّ وإنّما ابتعد بنفسه بحيث يشعُرنَ أنّ حقّ السيدات لم يُمسَّ، وأنه وحده الذي كابدَ وعانى إذ حرم نفسه من الاعتكاف.

كيف تحوَّل الاعتكاف إلى العشر الأواخر من رمضان؟ أخبر النبي صبيحة عشرين من رمضان: إنّي أُريتُ ليلةَ القَدْر وإنّي نُسِّيتُها فَالتَمِسُوها في العشْرِ الأواخِر. ومن وقتها قرَّر أن يبقى في المسجد مدة العشر الأخيرة من الشهر، واستمر النبي الكريم بعدها على هذه السُنّة.

وينبغي على المعتكف ألا يشتغل بأمورٍ لا لزوم لها لا داخل المسجد ولا خارجه. ويُباحُ للمعتكف أن يُغادر المسجد عند الضرورة الـمُلِحَّة. ولا يُباحُ له التزيُّن والتجمُّل. رُويَ أنّ السيدة صفيّة أم المؤمنين رضيَ الله عنها ذهبت إلى النبي وهو معتكفٌ بالمسجد. وبحثت معه بعض الأمور الهامة.. وهذا لا يتعارض مع روح الاعتكاف. وعندما همَّت بالانصراف رافقها النبي حتى الباب. وفي هذا التصرُّف لفتة كريمة نحو زائرته.. لأنّ النبي في الاعتكاف اتَّخذ من المسجد بيتا مؤقَّتا، وأراد تكريم ضيفته فأوصلها إلى الباب وودَّعها هناك. وفي هذه اللحظة شاهدهما اثنان من الأنصار كانا يمُرَّان، فسلَّما على النبي ومَضيَا في طريقهما ولكن النبي استوقفهما وقال لهما: تَعَاليَا. إنّها صفيّة بنتُ حُيَيّ. فانزعج الصحابيان وقالا: سبحان الله يا رسول الله! يعني هل يُعقل أن نرتاب فيك؟ لماذا سُقْتَ لنا هذا التوضيح؟ فقال النبي : إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وخشيتُ أن يقذف في قلبيكما شيئا. خاف عليهما أن يتعثَّرا، ولذلك وضَّح لهما.

هكذا كان اعتكاف محمد ، كان يتعبَّدُ بانهماك واستغراق. كان تركيزه على الصلاة عظيما في رمضان عموما. ويزداد أكثر في العشر الأواخر منه. واستمرت هكذا سُنّته حتى العام الأخير من عمرة.. حيث اعتكف فيه عشرين يوما. ولعلّه كان يُحسُّ بالموت الوشيك. وإن لم يُعلن ذلك حتى لا يدفع أصحابه إلى الحزن والأسى.

الحديث

هناك أحاديثٌ كثيرة تتناول سُنّة النبي في رمضان. جاء في البخاري

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَير، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ حتّى يَنسَلِخَ.. يَعْرِضُ عَلَيْهِ القُرْآنَ. فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المـُرْسَلَةِ.

وعن ابن عباس أن دُعاء الصائم عند إفطاره لا يُرَدُّ. ولذلك ينبغي على الصائمين أن يجتنبوا اللغو وقت الإفطار.. فهو فرصةٌ ثمينة يتقبَّل الله فيها الدُعاء، فلا يُفرِّط فيها الإنسان. وجعل الله حكمة لتقبُّله الدعاء في هذا الوقت.. فقد راعى الصائم طوال يومه القيود المفروضة لوجه الله تعالى وترك أمورا من الحلال.. ثم وقت الإفطار يشرع باسم الله في تناول ما أحلَّه الله تعالى، ويقدِّر الله للإنسان هذه التضحية، ويُبدي رِضاه بقبول دعائه. وهنا ينبغي على الصائم أن يُكثِر من الدعاء. وليتخيَّر من الأدعية ما ينفعه في أُخراه.

ولكن ليس هذا مما يوهَبُ تلقائيّا لكل صائم.. ولكنه للذين يُحافظون على الصوم بما يُرضي الله تعالى.. ويتّضح في هذا الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ أنَّه قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالى:

“كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ”. إنَّ القُربَ من الله تعالى يُنالُ بالصوم. يقول الله تعالى إنّ عبدي ترك حاجته المشروعة من أجلي ووقاه الصوم من الخطايا. فلعبدي فرحتان فرحةٌ عند إفطاره، إذ يستشعر في آخر النهار لذّة الرضا والارتواء، وفرحةٌ ينالها في الآخرة يوم لقاء ربّه، ويرضى الله عن عبده هذا.

وقال النبي :

“وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رَائِحةِ المِسْكِ”.

إنّ الإنسان لا يمتنع في عبادات أخرى عن أمورٍ من الحلال، لقد أباحها الله تعالى ولن يُحرِّمها أحد، ولكن الصائم يُحرَمُ من أمورٍ مشروعة. ولا حاجة لله تعالى في الطعام أو الشراب.. ولكن الإنسان يعتمد في حياته كل يوم على الطعام والشراب. وبسبب هذه التضحية يُقرِّب الله عبده الصائم إليه. ولذلك يقول الله تعالى: إنني سأكون المكافأة لعبدي هذا.. لأنّه سعى ليقترب مني. إنّ كلمة “عبد” تعني المملوك الذي لا يملك لنفسه شيئا. ولقد استخدم الله تعالى كلمة “عبد” لأنّ بني الإنسان مِلكٌ لله تعالى، ولا شيء لهم في أنفسهم. يمنحهم الله ممتلكات مؤقَّتة ثم يطلب منهم أن يعيدوها بإرادتهم إلى الله الذي أعطاها لهم.

هذه هي العبادة الحقّة كما تُعلَّم للإنسان. جاء إلى الدنيا فارغ اليدين، وأُعطيَ كل ما في يده.. وأنشأ ارتباطاتٍ بهذه الأشياء. وعليه أن يَمُرَّ بنوعٍ من الموت الإرادي يُعيد فيه هذه الممتلكات.. ليس كُلَّها.. ولكن بعضها. إن لم يكن ذلك لزمنٍ طويل فلفتراتٍ قصيرة. وفي مفهوم العبوديّة يُفرض على الإنسان أن يستسلم لمشيئة الله، ولكن العبادة هي أن يرتبط المرء مع الله تعالى بإرادته ويقطع علاقاته بالدنيا. يكون الله تعالى مركز رغبات قلبه. وسواء كان ذلك معنويا أو ماديًّا أو روحيًّا.. فهو هجرةٌ إلى الله تعالى. ويصبح الصوم عونا في هذه الهجرة. إنه عملٌ يُساند الإنسان في تقديم نفسه إلى الله تعالى بهيئةٍ تُقارب الموت. رمضان هو الإقدام على الشدائد التي يكون فيها المرء على حافة الهلاك. وعندئذٍ يقول له الله تعالى: أنا جزاؤك.

لقد اعتبر النبي تخلّي المرء عن جذبات الدنيا في رمضان تضحيةً. قال إن من يقطع علاقته بالدنيا ويعيش في المسجد يكتب الله تعالى له كل الطيبات التي كان يعملها خارج المسجد كما لو كان لا يزال يقوم بها. الاعتكاف هو أن تصير متعلِّقًا بالله تعالى. روَى البخاري أن النبي قال:

“إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ”.

  يرسم هذا الحديث صورةً للجنة يمكن فهمها عن طريق الحواس الخمس. إنّ صاحب البصيرة يرى الدنيا بكيفيّة لا يشاركه فيها مَنْ ضعُفت بصيرته. فعلى سبيل التشبيه يُقال إنّ هناك خمسة أبواب يستطيع المرء من خلالها أن يتعامل مع بيئته. فإذا سُدَّ أحد هذه الأبواب في شخص انعدم وجود هذا العالَم بالنسبة إليه.. إذ لم يعد له صلةٌ بهذه الحاسة، وتوقف تعامله مع العالَم من خلالها. فمن فَقَد البصر مثلاً لا يستطيع أن يستمتع بملذَّات النظر. والذين لا يتمكنون من الصوم سوف يدخلون الجنة أيضا بسبب فضائلهم الأخرى. ولكن المقصود هنا أنّ الذين يُضحُّون بحقوقهم في سبيل الله مُختارين.. يوهبون حاسةً خاصة. هذه الحاسة سوف تُمكِّنهم من الاستمتاع بخيرات الجنة بطريقةٍ فريدة. هذا هو الباب الذي يذكره الحديث الشريف.

وفي البخاري

عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ أنَّ النَّبِيَّ قَالَ: تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً”.

يحاول بعض الناس أن يُحقِّقوا مقاما عاليا مِنَ البِرِّ بأن يمتنعوا عن طعام السحور، ظانّين أن شدّة الجوع تعني زيادةً في الخير والبِرّ. وعندما وصل إلى مسامع النبي خبرُ هؤلاء الناس كان يَعِظُهم وينصحُهم أن يُرضوا الله تعالى باتِّباع الطريق الذي شرَّعه الله. وكان يأمر هؤلاء أن يتسحَّروا قبل الفجر، ويُبيّن لهم أن مخالفة هذا التعليم يُخالف البِرَّ والتقوى. فالسحور جانبٌ أساسي من فريضة الصوم.

وروى الترمذي أنّ النبي قال إنَّ لِكُلِّ حَسنَةً جزاء يُضاعفُ حتى سَبعمائَةِ ضِعف إلا الصَوم فإّنهُ لي وأنا أَجْزِي الصَائِمَ بنفسي. وفي القرآن الكريم ذكر الله تعالى الحبّة التي تُنبتُ سبعَ سنابِلَ في كلِّ سُنبُلةٍ مائة حَبّة. وهذا هو المفهوم الذي يُبيّن كيف تنبُتُ الأعمال الصالحة وتزدهر. ولا يعني هذا أن نُحصي الأعمال بهذه النسبة العددية، ولكن القرآن الكريم يستخدم هذه الأمثلة التوضيحيّة ليُساعد الناس ويُشجِّعهم على عمل الخيرات.. لو قام المرءُ بعملٍ صالحٍ صغير نالَ ثوابا جزيلاً عليه. والواقع أنّ الثواب غير محدود، وهذه الفكرة ثابتةٌ في القرآن الكريم، لأنّ الحدّ الأقصى لما لا نهاية هو الله تعالى. ولهذا السبب قال المصطفى أنّ الجزاء يُضاعف فوق سبعمائة ضعف إلى أن يكون الله نفسه هو الجزاءَ!

Share via
تابعونا على الفايس بوك