من خُطب الجُمعة

من خُطب الجُمعة

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

من خُطب الجُمعة

من مسجد الفضل – لندن 26/11/1994

بعد حمدِ الله والثناء عليه قال إمامُ الجماعةِ أيَّدهُ الله بنصره العزيز:

في الخُطبة الماضية تحدَّثتُ إليكم عن موضوع (الغِيبة) على ضوء القرآن الكريم والأحاديث النبويّة الشريفة، ولكني لم أُكمل الموضوع لضيق الوقت، وسوف أُكمله اليوم إن شاء الله. والأحاديث النبويّة بصدد هذا الموضوع هامة.. لذلك سوف أذكرها لكم، وأصل كلامي من حيثُ توقفتُ في الجمعة السابقة.

  عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: “تَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ” ..

يقوم بالنميمة بين الناس.. وهذه الكلمات أضافها المترجم من عنده وليست في النص. ويجب أن يحتاط المترجم ولا يُضيف من عنده شيئًا في الترجمة.. بل عليه أن يترجم نصَّ الحديث أولاً ثم يشرحه كما يريد.

أما وصفُ ذي الوجهين بالنميمة فصحيح.. لأنّه يأتي هؤلاء بكلام ويأتي غيرهم بكلامٍ آخر. وكل المفاسد تنتشر بسبب النميمة، وتقع الفتن بين الأقارب، ويتشاجرون وتطول بينهم النزاعات، وتفترُ الصِلات، وتفشلُ الزِيجات، وتُقطع الأرحام. وإذا رأيتم ما رأيتُ لتبيّن لكم أنّ النزاعات وأعمال النميمة مرتبطان متلازمان. وتقوم النسوة بدورٍ كبير في هذا الصدد. وأروي لكم هذا الحادث مع الاعتذار للسيدات. تقول إحدى السيدات شيئًا ويصل قولها إلى الأخرى بصورةٍ مزعجة شيئًا ما، ولا بدَّ أن يتسبّب في قطع الصلة بينهما. عندما تحدَّثت المرأتان زعمت المستمعة أنّها لن تُبلغ الحديث أحدًا آخر.. ولكنها أصبحت ذات الوجهين.. وذهبت بالحديث إلى أخرى، ولم تفِ بوعدها عن كتمان الأمر والاحتفاظ به سرًا. فصارت راوية الخبر ذاتَ وجهين. وناقلته عنها ذات وجهين أيضًا.

المجالس بالأمانة.. ولقد ذكرتُ هذا الموضوع من قبل. إذا تحدَّث أحدٌ إلى آخر عن شخصٍ ثالث.. فإنّه لا يريد أن يصل حديثه إليه.. وإلا لماذا لم يُبلغهُ الحديث بنفسه؟ فيبدأ بنقل الحديث بذات الوجهين. وإذا نقلته السامعة كانت ذاتَ وجهين. ثم تضرب هذه الوجوه في وجوهٍ أخرى. ولا بدَّ أن تُنكر المتحدِّثة الأولى ما قالته، وهكذا تبدأ سلسلةٌ من الأكاذيب. وتحاول الأولى أن تُلبس حديثها لباسًا مختلفًا. وتخلع عليه معاني معوجَّة. وعندما تتفوّه بمثل هذه الأحاديث فإنّ الوجوه والألسن لا تبقى واحدة وإنّما تتعدَّد، وكل شهادةٍ تزداد اعوجاجًا. ولن تعترف الأولى بما قالت ولسوف تُنكر المعنى المفهوم. وسوف تتصرف تصرُّف أهل السياسة في هذا الزمن.. إذ أنّهم دائمًا ذوو الوجهين.

فقول النبي عميقُ المعنى، ويكشف لنا كثيرًا من المفاسد الموجودة في المجتمع، وعلى ضوء هذا الحديث يمكن لنا معالجة هذه المفاسد. وعلى الإنسان أن يتجنَّب الكلام الذي تدلُّ التجربة على أنّه لا بدَّ واصلٌ إلى الطرف الآخر في صورةٍ مشوَّهة مُفسِدة للأحوال. إذا كان في أخيكم شيء فأبلغوه إيّاه بأنفسكم. وإذا علِمتم أنَّ مصارحتكم له سوف تغضبه فلا تُثيروه، بل بلِّغوه بأسلوبٍ فيه رفق. وإذا غضِب رغم ذلك فالذنب عليه وليس عليكم. أما إذا غضب بسبب شدَّتِكم في مصارحته فالذنب على من اشتدَّ في المصارحة.

يذهب أحدهم ليُصارح أخاه ويقول له سوف اُخبرك بالحق. ولكن قول الحقّ أيضًا له أسلوبه، وقد علّمنا النبي كلّ الأساليب. ليس هناك جانبٌ من جوانب حياتنا إلا أوضح لنا النبي كيفيّة التصرُّف حِيَاله. لقد علّمنا كيف نتعامل مع الآخرين في الأمور التي تُغضبهم، وأخبرنا أنّه لا حقَّ لكم في أن تُبلغوها أصحابها بأسلوبٍ يُزعجهم. ولا حقَّ لكم في إشاعتها بين الآخرين. إذا كان ما تقولونه حقًا فهو غيبة. وإذا كان كذبًا فهو بُهتان. يريد المصطفى القولَ أنّه إذا بلغك عيبٌ حقيقي في أخيك يُغضبه.. فيجب ألا تذكره له.. لأنّ ذلك يتسبَّبُ في شرور. لقد أوضح النبي ذلك فقال كأنّ سهمًا أطلقه أحدهم عليه فلم يُصبه.. وتأخذه أنت وتطعن به صدره. هذا الذي أوصل السهم إلى صدر أخيه أيضًا قاتل. ربما قال الأول ما قاله بسبب غضبٍ أو لعذر. ولكن الذي أخذ هذا السهم وصوَّبه إلى صدر أخيه فلا عذر له.

لقد ذكر لنا النبي كل جوانب الأمور بوضوحٍ وجلاء. يقول حضرته أنّ قول الحقِّ شيءٌ حسَن، ولكن ينبغي أن تعرفوا متى تُبلغونه ومتى تسكتون. ويقول إنني أتحدُّث إليكم عن أمورٍ تتعلّق بالمجتمع، وحديثي أمانةٌ في أعناقكم، يجب عليكم أن تُبلغوه الناس. هذا معنى قوله (المجالس بالأمانة). ما تسمعونه مني في مجلسي معكم يتضمن تعاليم تخصُّ المجتمع، فاحفظوها عني وبلِّغوها للناس جميعًا.

وللحديث معنىً ثانٍ هو: إذا كنتم في مجلس وسمعتم قولاً من أحد فلا تبلغوه إلا بإذنٍ من صاحبه. وهناك حديثٌ نبويّ آخر يتصل بهذا المعنى.. فعن جابر بن عبد الله عن النبي قال: “إذا حدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم التفتَ فهيَ أمانة”.. أي إذا تحدَّث الرجل بحديثٍ ثم انتهى منه ودخل في حديثٍ آخر، فإنّ ما سلف من حديثه صار أمانةً في عنق أهل المجلس، ولا يجوز أن يخونوا هذه الأمانة. ولا يُبلغوا قوله لأحدٍ إلا بإذنه.

أما فيما يتعلق بحديث النبي نفسه فإنّه يقول: كل ما أُحدِّثكم به في مجلسي معكم هو لصالح الأمة، وصار أمانةً في أعناقكم للقوم، فليُبلِّغ الشاهد منكم الغائب، وليوصل السامعون قولي للناس. فكلمة الأمانة تنطبق على معنيين: الأول – أنّ الحديث في المجالس الخاصة أمانة ينبغي حفظها بألّا يُبلَّغ الحديث إلا بإذن قائله، والثاني أنّ حديث النبي في مجالسه مع صحابته أمانةٌ ينبغي حفظها بأن تُبلّغ للناس جميعًا.. لأنّ حديثه تعليمٌ وتربية عامة للأمة.

لقد حدث أن تكلّمتُ في البيت ببعض الأحاديث. فيصل هذا الحديث إلى باكستان ويرجع إليَّ بصورةٍ فيها اعوجاج. وأفكر متى صدر مني هذا القول. وأتذكّر أنني قلت هذا الكلام على مائدة الطعام تعقيبًا على قول الجالسين حولي على المائدة.. ولكنهم أبلغوا قولي هذا للناس، وأفسدوا المعنى المراد منه. هذا التصرُّف من شخص يسمع حديثًا وعنده الرغبة في أن يُبلغه للناس يدمغه بأنّه ذو الوجهين. هذه صفةٌ يتميّزُ بها ذو الوجهين.. لأنّه يتمتّع بمثل هذه الأحاديث. ويبالغ فيها. ويُضيف إليها من عنده التوابل لتحسين طعمها. إذا كان قولي هذا لا يُرضيه تمامًا فإنّه يضع له بعض “الرتوش” ويجعل منه حديثًا له وجهٌ مختلفٌ تمامًا.

تأتيني الأخبار بأنّ بعضهم يروي عني أنّي قلتُ كذا وكذا في حقِّ فلان، مع أنّني لم أذكر هذه الأمور بالكيفيّة التي بلَغتهُم، والحق أنّني ذكرتها في ذلك المجاس ولكن السامعين لم يحفظوا الأمانة. ولا بدَّ أنّ الذين يُبلِّغون هذه الأمور يقصدون الفتنة. لقد بيَّن النبيُّ أنَّ هذه المجالس وما يدور فيها أمانة.. ويجب أن يُسأل أهل الأمانة قبل تبليغ قولهم. يعلن النبيُّ أنّه يريد إصلاح ما بين الناس، ومخالفته إفسادٌ في الأرض. وإنني في بعض المجالس أتحدَّثُ بُغية الاستفسار وإصلاح بعض الأمور، ولكن الذين يلتقطون هذه الأحاديث ويُبلغونها للآخرين بقصد الإفساد.. يُصبحون أهل نميمة. وهذا الفعل في نظر الرسول خيانة. أما الذين ينالون تربيتهم من يدِ الرسول فَيُتوقع منهم الأخلاق السامية، ويرون مثل هذه الأفعال خيانة. هذا هو المعيار الذي يتوقعه المصطفى من أمته. يقول: إذا قال المرء كلمته والتفتَ صارت أمانة. ربما كان يريد إكمال كلمته وتوضيحها ولكنه التفتَ وغيَّرَ الموضوع، فعلى السامع أن يُدرك كون هذا الذي سمعه أمانهً عنده، وعليه الاحتفاظ بهذه الأمانة فلا يتصرَّف فيها بالتبليغ إلا بإذن صاحبها.

وهناك حديثٌ آخر طويل.. أخرجه في صحيحهما الإمامان مسلم -باب تحريم الظنّ، والبُخاري- كتاب الأدب.. قدَّم فيه النبيُّ كثيرًا من النصائح. عن أبي هريرة انَّ رسول الله قال:

“إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ.. لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ (وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ وقالَ) التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا”.

  لقد كتب مترجم الحديث أنّ التقوى في القلب، ولكنني أرى أنّ النبيّ يُشير إلى نفسه.. يعني: إنني أنا المعيارُ الحقيقي للتقوى. إنّني أنا الأُسوةُ التي تقيسون بها أعمالكم لتعرفوا هل هي من التقوى أم لا. عندما أشارَ الرسول إلى صدره لم يكن يريد القول بأنّ التقوى في القلوب، فإنّ هناك قلوبًا خاليةً من التقوى. هناك ملايين من القلوب التي لم تدخلها التقوى قطّ. فلا يريد بيان أنّ التقوى في كل قلب.. ولكنه أشار بيده الكريمة إلى صدره مُبيِّنًا أنّ التقوى حقَّ التقوى في قلبي. فإذا أردتم أن تعرفوا ما هي التقوى فابحثوا عنها في قلبي. إذا أردتم أن تتعلَّموا التقوى فتعلَّموها من محمدٍ رسول الله.. وليس هناك سبيلٌ آخر لتعلُّمها. ولذلك أشار إلى صدره. وكل ما ذكره في هذا الحديث وغيره هو خلاصة التقوى. وهي أمورٌ تعرفون أنّكم قد تتعثَّرون فيها. وقال أنَّ هذه علامات لمعرفة تقواكم. فإذا كنتم تقعونَ فيها لم تكونوا من أهل التقوى. إنني أُعلِّمكم أين هي المخاوف والعثرات. ويجب عليكم أن تروا هذه العلامات التي تمرُّون بها في رحلة الحياة. لقد وضعتها لكم، فعليكم أن تنتبهوا لها ولا تُخالفوها فتظلموا أنفسكم وتخسروا.

ثم يمضي الحديث الشريف:

“بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ.. الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ. إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.”

  وفي رواية البخاري:

“لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.”

  وهنا بيَّن النبيُّ كل المخاطر التي تُفسد سلام المجتمع، ولو أننا نظرنا في مجتمعنا الأحمدي، وراقبنا أعمالنا على ضوء هذا البيان النبوي.. لأصابتنا صدمة، لأنَّ علينا أن نتعلَّم الكثير من هذا الحديث. إنّ كثيرًا من هذه العيوب توجد إلى حدٍّ ما حتى في أهل الصلاح أيضًا. وجذور هذه المفاسد موجودةٌ في أعمالهم، وعندما تجد فرصةً فإنّها تنبت وتُلقي بفسادها على الأحوال. لقد ذكر النبيُّ هذه الأشياء، وليس من الضروري أن يتبيَّنها المرء بنظرةٍ عادية سطحيّة، ولكنه يُبيّن أنّ جذورها موجودة، وعندما تجد فرصةً مناسبة تتحول إلى شجرةٍ محرّمة تفسد الجنات. إننا ندعو العالَم كلّه إلى جنّة دنيوية.. وإن كانت أُصولها سماويّة.. وسوف تصلح أحوال العالَم؛ فكيف يمكن أن ندعو العالَم إلى الجنة ما لم نُنشئِها أولاً في مجتمعنا وبيئتنا. هناك مناسبات موجودةٌ للجدال. وتقتضي أيامُنا هذه أن نُصلِح أعمالنا ونُحسِّنَ أحوالنا حتى نُقيم مجتمعًا جميلاً يُحسُّ العالَم حولنا أنّه لا بدَّ لهم من دخوله ولن يجدوا طُمأنينة بدونه.

هذه أمورٌ ليست من قبيل الفروض وإنّما هي موجودةٌ في حياتنا اليوميّة في كل بيت. إنّها أمورٌ لا تتعلَّق بمدنٍ كبيرة أو مجتمعاتٍ مثقفة. بل تتعلَّق بكل إنسان وكل يومٍ من حياته.. سواءً تربَّى هذا الإنسان في الطرقات أو في بيوتٍ ثريّة. يجب عليكم أن تستمعوا إلى هذه الأمور جيدًا، ويجب أن تنتهوا عنها.. وإلا لن نحصل على جنّتنا، ولن نُقدِّم للعالَم أيَّ جنة.

يُحذِّرنا النبيُّ من سوء الظنّ، فإنّ هذا الظنّ أكذبُ الحديث، وسوء الظنِّ موجودٌ في مجتمعنا كثيرًا حتى أنّه ينسج حكايات وأكاذيب إضافيّة، فيُقال ربما فعل كذا وحدَّث كذا. ويتحيَّرُ المرء من هذه الأكاذيب.. يقول بعضهم أنّ فلانًا قال أو فعل كذا.. وعندما أتحرَّى الأمر يتبيَّنُ أنّ الشاكي بنى شكايتهُ على ظنٍّ ظنّهُ، وتقديرٍ قدَّرهُ استنادًا إلى هذا الظن.. وقال ربما فعل كذا وكذا. وهذا ليس كذبًا في حُسبانه. هذا ما يقوله الرجل، ولكن الرسول يقول: هذا أكذبُ الحديث.. لأنّ بدايته من الكذب وسوء الظنّ. فكيف حكمتَ أنّه قال ما قال بسوء النيّة؟ وكيف عرفتَ أنّ من سمعهُ منه فهمهُ بمثل ما فهمتهُ؟ إنّ الشاكي لم يتحقّق من وصول الكلام إلى المقصود به.. ولكنه يفترض ما يحدث ويقول إنّه قد حدث! هذا أسلوبٌ رديءٌ وخبيثٌ للغاية، ومُخالف لنصائح الرسول ، ويدلُّ على أنّ صاحبه لا يهتمُّ بها.. وبذلك يفسد المجتمع. وهذا الظنُّ موجودٌ أيضًا فيمن يُعرفون بأنّهم من علماء الدين ولهم مكانة في المجتمع. مثل هؤلاء الناس أيضًا يقعون في هذه المفاسد.

ثم يَنهى النبيُّ عن البحث في عيوب الناس. يقول: لا تحسَّسوا. ولقد وجدتُ أنّ أكثر العيوب في أولئك المهاجرين من باكستان إلى ألمانيا هو التَّحَسُّس. وهو عادةٌ قبيحةٌ جدًا، لو حلَّلتموها لوجدتم أنّ وراءها رؤية إنسان إلى إنسان أفضل منه فيحسده، ويحاول أن يجُرَّ رجله ليُحطَّ من شأنه. هذه هي الرغبة التي تدفعه إلى التَّحَسُّس والتَّجَسُّس. يقول المتّحسِّسُ في نفسه عن أخيه: إنّ سمعته طيّبة في المجتمع، ولا بدَّ أن أُحقِّرهُ وأذُلَّه حتى تسوء سمعته بين الناس. فيتحسَّس أخباره بسوء نية.. ولا بدَّ أن يلعب سوء الظنّ في هذا الحال دورًا كبيرًا لهذا الغرض. وإذا كان المرء يبحث عن عيوب أخيه بالتحسُّس والتَّجسُّس.. فإنّ الله تعالى ورسوله لا يُعطيانه أيَّ حقٍّ في البحث عن عيوب أخيه. لم يسمح الله تعالى لأيّ أحد أن يبحث عن عيوب الآخرين ليُخبر الناس عنها. وعلى المسئولين أن يُبلِّغوا الأمورَ مَنْ هم فوقهم.. ولكن ذلك إنّما يكون بحكمة. لقد فرض الله عقوباتٍ شديدة على من يتحسَّس عيوبَ الآخرين وصلت إلى 80 جلدة. لقد اشترط القرآن شروطًا للإبلاغ عن الجريمة وفرض وجود شهود عيان. أما من يتّهم بلا شهود فعقوبته أن يُضرب 80 جلدة، لأنّه ساهم في إشاعة الفحشاء بدون دليل.

ويقول النبيُّ : ولا تَنَافَسُوا. وقد جمع بين التَّجسُّس والتَّحسُّس والتنافس.. لأنَّ التنافس هو أن يسعى المرء ليحصل على شيءٍ يستحسنه موجودٌ عند غيره، ويتمنّى أن يناله سواءً كان مالاً أو جاهًا. إذا رأى حُسنَ حالِ أخيه أراد الانتقام منه، وطريقة ذلك أن يفتِّش عن عيوبه ويُذيعها في المجتمع.

ويقول ولا تَحَاسَدوا. من التنافس يتولّد الحسد. عندما يرى المرء حال أخيه الطيّب فإنّه يحسده. لقد ذكر الرسول جانبين: أحدهما في هذا الحديث. فالذي يرى أخاه في حالٍ طيّب ويؤذيه ذلك ولا يُطيقه فهو حاسد. وإذا رأى عند أخيه خيرًا ففرح له فهذا ليس حسدًا وإنّما هو غِبطة. إنَّ المصطفى لا يمنع من الغِبطة، وإنّما ينهى عن الحسد. وعلامة الحسد أن يغتمَّ الحاسدُ لنعمةٍ أصابت أخاه. ومن رأى في نفسه الحسد فليهتم بعلاج نفسه وإصلاحها. وإذا سررتَ بهذه النعمة عند أخيك فأنت بار. وينبغي أن تتسابق في هذا البِرِّ مع أخيك بحسب قول الله تعالى فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ . إذا رأيتم أحدًا في حالٍ طيّب فتسابقوا معه لتحقيق هذا الخير.. وهذه النيّة وليدةُ الغِبطة، ولكن الحسد يؤدِّي إلى الانتقام وتحقير أخيه. والهدف في الأمرين واحد.. هو أن يسبق الأخ أخاه في الخير، ولكن الطريقة في أحدهما صحيحة وفي الثانية سيئة. تسابقوا واسبقوا كما شئتم ولكن بطرقٍ شرعيّة، وهذا ما يشفي غليلكم ويحقِّق غرضكم. لقد أوجد الله تعالى هذه الرغبات في الإنسان ولكنه أمر أن تُستخدم العواطف والأماني بصورةٍ شرعيّة. عليك أن تتفوق على أخيك ولكن بأسلوبٍ سليم، فلا تحوِّل نعمته بالحسد إلى نِقمة. لماذا تبحث عن عيوبٍ فيه وتذكرها عند الآخرين؟ وكل ما تفعله بعد ذلك لا بدَّ أن يكون ناجمًا عن الحسد، والقرآن لا يسمح بذلك.

ثم قال ولا تَبَاغَضُوا. يجب ألّا يُبغض بعضكم بعضًا. لقد ذكرت من قبل أن الحسد ينبعث من البغضاء والعداء. إذا رأى المرء نعمة عند أخيه وتأذى من ذلك حسده، فمعنى ذلك أنّه يُعاديه، ولا يمكن أن تكون العلاقة بينهما علاقة أخوّة.. وإنّما هو عدوٌّ له في نظره، ولذلك قال النبيُّ: لا تباغضوا. ليس أحدٌ من البشر بقادرٍ على إدراك الفطرة البشريّة مثل النبيّ . عندما يتأمل الإنسان في نصائحه البسيطة يكتشف أنّه يُقدِّم أفكارًا سامية من أصول علم النفس.

ثم قال ولا تَدَابَروا. أي لا يُعطي أحدكم ظهره لأخيه إعراضًا عنه. هناك أساليب لإظهار العداوة.. منها إعراض المرء عن أخيه. ويُعرض الإنسان عن غيره إمّا لأنّه يحتقره أو لأنّه أفضل منه. يُعلِّمنا الرسول هذه الحقيقة، ويقول إن كان ردُّ الفعل لرؤية النِّعمة إعراضًا عن صاحب النِّعمة – وهذا نوعٌ من الكِبْر، وكأنّه لا يُبالي به. وتكثر هذه العادة في إقليم البُنجاب بين الأقارب الذين يُعادي بعضهم بعضًا. يقولون لو كان فلان صاحب ملايين فلا نُبالي به ويُحقِّرونه. يقول الرسول : ولا تَدَابَروا.. لأنّه من أساليب إظهار العداوة بين الأخوة، فلا تفعلوا ذلك.. بل كونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا كما أمركم. فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه. ولكن ما يحدث في الواقع هو أنّ الإخوان يظلمون إخوانهم.

هذه أمورٌ بسيطة يفهمها كل إنسان، ويعترف أنّها نصائحُ طيّبة. ولكن من يعمل بها الآن؟ قليلٌ ما هم الذين يُدركونها ويُطبِّقونها على أنفسهم. هذه النصائح الطيّبة لا تبقى طيِّبةً حقًّا في نظرهم ما لم يُطبِّقوها على أنفسهم. يقول المصطفى أنّ المسلم لا يظلم أخاه. تأتيني كثيرًا أخبار النزاعات وظلم بعض الإخوان لإخوانهم. عندما يضعُ يده على أملاك إخوته فإنّه لا يرفعها، ولا يُشركهم معه في النِّعمة. وهذا بالطبع يؤدِّي إلى فساد المجتمع. إننا نبغي وحدةً وارتباطًا داخل الجماعة، وبدونها لا يمكن أن نتقدَّم، ولكن هذه الشرور تعوق الوحدة. وهذه العادات القبيحة ليست موجودةً في باكستان وحدها، وإنّما هي موجودةٌ أيضًا في بنجلاديش والهند وكثير من البلاد الإفريقيّة. وحيثما توجد هذه الرذائل فإنّها تُعطّل ازدهار الجماعة. هذه العادة القبيحة البسيطة تضرُّ الجماعة وتضرُّ العالم.. لأنّ دعوتنا لا تصل إلى هؤلاء بسبب هذه العادات القبيحة. أذكر أنّ بعض محافظات باكستان كان فيها كثيرٌ من الأحمديين، وكانوا يتمتَّعون بصلاحياتٍ لنشر الأحمديّة فيها على نِطاقٍ واسع، وكان من الممكن أن يكون الحال غير ما هو عليه هناك. إنّ الله تعالى قد أعطى جماعتنا صلاحياتٍ عظيمة لقلب النظام روحانيًّا في أي بلد بصورةٍ إيجابيّة، ولكن انظروا كيف أنّ هؤلاء لم يستخدموا هذه الصلاحيات، وأفسدوا الأحوال في باكستان، وانظروا كيف تضرَّر أهل باكستان بسبب ذلك.. لأنّهم لم يستغلوا هذه القوى الموجودة في جماعتنا استغلالاً إيجابيًّا. وقد رأيتُ أنّ التنازع فيما بينهم والتباغض والتعصُّب للعائلات أوقف تقدُّم هذه الجماعة.. لأنّهم لم يستطيعوا أن يُربُّوا أجيالهم تربيةً أحمديّة، بل وقعت أجيالهم في أيدي الأعادي.. لأنّ كل هؤلاء كانوا يُبدِّدون طاقتهم في نشر الفساد فيما بينهم، وتولَّد منهم جيلٌ فاسد. كيف يمكن لهؤلاء أن يُحدِثوا انقلابًا في المجتمع؟ أمّا أهل الصلاح والتربية الأحمديّة فقد تقدَّموا كثيرًا.

هناك مثلاً جماعة كلكُتا بالهند.. طالما نصحتهم ليتخلَّصوا من نزاعاتهم ويحسموا خلافاتهم. وكانت الجماعة متفكِّكة متحاربة، وكانت قد انكمشت بسبب هذه المفاسد كما ينكمش مريض السرطان. كانوا ينطوون على مرضهم هذا وينكمشون حوله.. وقد نصحتُهم وتحسَّنت حالهم كثيرًا والحمد لله. إنّهم لم يصلوا إلى الحال التي أشرتُ إليها أولاً، ولكن كانت أعمالهم محرومة من البركة ولا تخدم الآخرين أيضًا. وأخيرًا قبلوا نُصحي المتكرر، ووفَّقهم الله تعالى. لقد حذَّرتهم: إمّا أن تعملوا بُنصحي أو تقطعوا صلتكم بي. وأخيرًا تقبَّلوا نُصحي، وتحسَّنوا في كثيرٍ من النواحي التي لم أتوقع أن يُغيِّروها فورًا. قالوا: لن نقطع صلتنا بك، وسوف نعمل بكل ما تقول. ولقد باركهم الله كثيرًا، وصاروا الآن أفضل جماعة في الهند من حيث نشر الدعوة ومن حيث الأخلاق. يحاول الأعداء إلحاق الضرر بهم ولكنهم يُسيطرون وينتشرون في كل مكان. وأعرف أنّه لا يزال بعضهم لم يَفِقْ بعد، ولكن الذين استيقظوا كثيرون، وعندهم بركة الاتحاد وينتفع الجميع بهذه البركة. وإذا كان البعض لا يزال سادرًا في الفساد فإنّ فسادهم لا يضرُّ الجماعة، ولو أنّهم طهَّروا قلوبهم وأعمالهم من هذا الفساد، واتَّحدوا كما يُريد النبي أن نكون إخوانًا مُتَّحدين.. فلسوف يحدث في هذه المنطقة انقلاب عظيم بسبب نشاطهم ودعوتهم.

يتصدَّى كثيرٌ من المشايخ لعداوة جماعتنا ووقْف تقدُّمها وصدِّ الأحمديين الجُدد عنها.. بل ويؤذون بعضهم إيذاءً بدنيًّا.. ولكن الله تعالى قد وهبهم استقامةً وثباتًا، وألقى في قلوبهم حبَّ الجماعة حتى إنّهم لا يُلقون بالاً لكلّ هذا ولا يخافون. والسبب في ذلك هو أنّ الجماعة اتَّحدت وأزالت من صفوفها كل النزاعات والخلافات بناءً على علاقتهم الوطيدة بالخلافة. كانوا يظنُّون أنفسهم على حقّ فيما يتعلَّق بخلافاتهم ولكنهم أبعدوا كل هذه الخلافات بعد أن أخبرتُهم بوصية سيدنا الإمام المهدي: “عليكم أن تتذلَّلوا رُغمَ صِدْقِكُم كما يَتَذلَّلُ المذنِبُونَ الكَاذِبون”. هذا قولُ من نالَ العرفان والعلم من الله تعالى.. أنْ تَصرَّفوا بِتذلُّلٍ مع أنكم صادقون، واعتذروا كما لو كنتم كاذبين. لو أنّي طالبتهم أنْ أَثبِتوا لي أنّ فلانًا قد أخطا وفلانًا ليس على حقّ.. ما توقّفت هذه النزاعات.. ولكن بقول سيدنا المهدي هذا عالجتُ نزاعاتهم وطردتُ هذه المفاسد.

يُجادل بعض الناس أنّهم على حقّ، وأنّ الحكم الذي صدر ليس صائبًا. فأقول لمثل هؤلاء: عليكم أن تَذّلَّلوا كالمجرمين الكاذبين رغم أنّكم صادقين.. هذا ما ينصحكم به سيدنا المهدي. إنّه يُناديكم لتقبلوا هذا التوجيه. وهي صفةٌ نافعة دائمًا في كل الأحوال عند من يُحبُّون سيدنا المهدي.

يقول النبي : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ. لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ؛ ولكن الأسف أن الأخ يظلم أخاه ويخله ويُحقِّره. إن قوله ولا يُحقِّره مسألةٌ هامة جدًا. إذا كان الإنسان يعرف حقيقة نفسه فإنّه لا يمكن أن يُحقِّرَ أخاه. التوجيه النبويّ يقول: لا يُحقِّره، ولا يقول: لا يَعدُّهُ حقيرًا. ومعنى ذلك أنّه عندما يفكّر في نفسه لا يرى غيره حقيرًا. يقول سيدنا المهدي أنَّ على أحدكم أن يرى نفسه أحقر من الآخرين، بل أحقر الناس، فقد توصلكم هذه الفكرة إلى الله تعالى. ويقول سيدنا المصطفى ولا يُحقِّره. لأنّه عندما يفكّر المرء في نفسه يقول له صوتُ ضميره: إنّك أنتَ الحقير.. ولو كنتَ عزيزًا فهذا بفضل ستر الله تعالى لك، ولو كنت ذا مكانة فهذا من نعمة الله عليك، إذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة فلا يمكن أن يرى أخاه أحقر منه. وإذا رآه حقيرًا بالفعل فإنّه يخجل من نفسه.. بمعنى أنّه يقول لنفسه: إنّ هذا أخي يُضحّي ويجتهد أكثر مني.. ومع ذلك جعلني الله تعالى أحسن منه مكانةً. فإذا فكَّر هكذا استغفر ربّه واعتراه الخجل.. ولا يمكن أن يعتبر أخاه حقيرًا في الحقيقة.

بهذا الأسلوب يريد منا النبيُّ ان نتعمَّق في الأحوال، وهكذا يريد تربيتنا. لماذا لا تهتمون بنصائح النبي؟ انظروا منذا الذي يبذل هذه الجهود لأجلنا؟ ذلك النبيُّ المبارك الذي بُعِثَ قبل 14 قرنًا.. والذي خُلِقَ الكون من أجل كمالاته، إنّه يسعى كل هذا السعي لأجلنا؛ إنّه يسهر الليالي ويبكي ويشخِّص لنا أمراضنا بوضوحٍ تام، ويصف لنا الدواء الشافي من هذه الأمراض. ولكن لا يزال بعضنا يسمع نصائحه ويقول: نعم لقد قال النبيُّ ذلك، ومع ذلك لا يقبلها ولا يعمل بها! لماذا لا ترونَ حُبّه وتضحياته من أجلكم؟ لو أدركتم مدى حُبِّه وتضحياته ما أمكن أن تَغضُّوا النظر عن نصائحه.

يقول بعض الناس: نحن نقبل قولك لأنّك تقوله ولا نحتاج دليلاً. ذهبت ذات مرة في قضية قتل إلى غرفة القتيل وتكلَّمت مع والدته، وقلتُ لها: لقد جئتُ أسألُكِ باسم الجماعة أن تغفري للقاتل فغفرت له. وقبل أيام قابلتُ أحد الأخوة من سيالكوت.. وكان هناك نزاعٌ في فرع الجماعة هناك، ويتقاتلون. وكنتُ أعرف أنّ ورثة القتيل أهل سعادة، فأرسلت إليهم أن اغفروا للقاتل.. فتنازلوا عن حقِّهم. جاءني واحدٌ منهم وقال: إننا ورثة الفقيد وقد تنازلنا عن حقِّنا لقولكم. ولقد دعوتُ لهذه الأسرة كثيرًا.. بحرارة ومن صميم القلب.. ومثل هذا الدعاء لا بدَّ أن يُقبل بإذن الله.

ولكن أين أنا من المصطفى؟ وأين دعواتي من دعواته؟ لماذا لا تحترمون توجيهات النبي ، ولماذا لا ترون إلى ما في وجهه وإلى حبّه وإلى جهوده؟ لا تجدونَ إنسانًا بذل هذه الجهود لتربية قومه كما فعل النبيُّ .. وإذا فكَّرتم في ذلك فلا بدَّ أن تتأدَّبوا وتحترموا نصائحه بقلبٍ ذائب. لأنّ الطاعة تتفجَّر من القلب الذائب. الذي ينصهر عند قدمي المصطفى ولا يستطيع أن يرفض نصائحه. لا تقبلوا النصائح فقط لما تذخَرُ به من حكمة.. وإنّما انظروا أيضًا إلى منبع هذه النصائح. إنّه رحمة الله للعالمين.. سيدنا محمد المصطفى . وإذا قَبِلتم وعملتم بهذه النصائح فسوف تفوزون بفائدةٍ أخرى، وهذا ما يُحبِّبكم لله ورسوله.. وهذا هو أقصى أمانينا. إن الله تعالى قد سهَّل لنا السبيل لتحقيق هذه الأمنية.

يقول النبي بعد ذلك: التقوى ها هنا، التقوى ها هنا ويُشير إلى صدره. إنّ مقام التقوى هو صدري، صدر المصطفى.

ويُضيف: بحسبِ امرئٍ من الشرِّ أن يُحقِّر أخاهُ المسلم. يكفيه من الشر أن يُداخله شعورٌ بالتحقير نحو أخيه المسلم. منع أولاً من التحقير ثم كرَّر نفس الأمر، وقال إنّه شرٌّ كافٍ لإهلاك من يُحقِّر أخاه.. ويعني ألا يعتبر أخاه حقيرًا أو لا يُحقِّره. أي لا تظنُّوا أخاكم أحقر منكم. أو لا تُعاملوا أخاكم بما يُحقِّره.

للمسلم ثلاثُ حُرمات: دمه وعِرضُهُ ومالُهُ. والناس عمومًا لا يسفكون الدماء ولكنهم يهتِكونَ عِرضَ الآخرين ويخونونهم في أموالهم. ما أكثر من يرتكبون هاتين الجريمتين: هَتك العِرض واختلاس المال. وبدون إصلاح هذه الأمور لا يمكن لجماعتنا أن تتغلَّب على العالَم. إنّ في جماعتنا بحمدِ الله كثيرًا من ذوي القلوب الطاهرة.. ولكن يُتوقّع منكم أن تُفكِّروا في هذه النصائح كثيرًا، وأن تُطهِّروا قلوبكم وتُراقبوها، وببركة كلمات المصطفى نقُّوا أقوالكم وأعمالكم كي تُنشِئوا مجتمعًا يكون مِثالاً حيًّا للعمل بهذه النصائح.. ثم انظروا بعدها ماذا تنالون.. وماذا تفقدون. سوف تتيقَّنون أنكم فقدتم جهنَّم ونِلتُم الجنّة. قبل ذلك كنتم تعيشون في جهنَّم.. عندما كنتم تغتابون وتحتقرون الآخرين.. كانت هذه الأمور نار جهنّم تنبعث من القلوب وتحرق المجتمع، وكانت تخرج من أفواهكم كالتنين الذي تروي الأساطير أنّه يُخرج النار من صدره. ولكن بعد الاستجابة لنصائح النبي سوف تطمئنُّ قلوبكم، وتخلو صدوركم من لفحاتِ النار، وسوف تكونون مصدر أمنٍ للآخرين. ومثل هذا المجتمع لا يمكن أن يُغلب، ولن تُضيركم القوانين الجائرة في أي بلد إذا تخلَّقتم بأخلاق المصطفى وخرجتم بها إلى الطُرقات. إذا خرجتم بها فلا بدَّ أن تعشقكم الدنيا.

ويقول : إنّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوَركِم وأموالِكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. يحلُّ هذا القول مشكلة أننا إذا نظرنا إلى محاسن الآخرين فلا نحسدُهم.. لأنّ القرار الأخير بيدِ الله تعالى. إذا كانت هذه التي ترونها محاسن في الآخرين لا تعني شيئًا عند الله.. فلماذا تحسدون الآخرين عليها وتحسبون أنّكم محرُومون منها، وتعذِّبون أفكاركم بها؟ إنّ الله تعالى ينظر إليكم بنظرةٍ أخرى. ما دام الله تعالى لا يُبالي بمظاهر الناس ولا بأشكالهم ولا مكانتهم.. فلماذا تُلهبون في صدوركم نارًا.. حسدًا لهم على ما لا يستحقُّ ذلك، أو إحساسًا بالحرمان من أمورٍ لا قيمة لها عند الله تعالى كالمال والجاه؟ يقول المصطفى أنّ الله لا ينظر إلى هذه الأشياء ولا يهتمُّ بها.. فلماذا تنظرون إلى إليها وتهتمون بجمعها؟ نعم، اجمعوا من الدنيا شيئًا، ولكن بِطُرقٍ شرعيّة سليمة. وإذا لم تحصلوا عليها فلا تحزنوا، واعلموا أنّ الله ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، والذي ينظر إلى القلب ينظر إلى التقوى. إنّ أكثر الناس مالاً وجمالاً هو من يتربَّى على التقوى ويزداد في قلبه التقوى. وهذا ما يراه الله.

يسأل الإنسان: كيف نعرف أنّ الله تعالى ينظر إلى تقوانا؟ الحقّ أنّ صاحب التقوى يُعرف بعلامات. إنّ كنوز التقوى أثمنُ من أموال الأرض. وإنّ الله تعالى يُقيّم أهل التقوى ويضعهم في مكانةٍ ساميةٍ بالعالَم وإن كانوا فقراء. هل كان أحدٌ أفقرَ مالاً من المصطفى ؟ كان أحيانًا لا يجد ما يأكله أو ما يفترشه. وكان لا يطهي في بيته طعامًا لشهر أو شهرين، ويجلس على حصير يؤثِّر في جلده. ولكن انظروا إلى الملوك تنزل من عروشها لذكر اسم محمد! لذلك يقول حضرته: التقوى ها هنا.. إنّ الله تعالى لا ينظر إلى أموالكم ولا إلى صوركم وإنّما ينظر إلى تقواكم. وعندما يراها تعالى فإنّه يوجِّهُ أنظار الدنيا لتراها. يمحو الله الإحساس بالفقر، ويصبح المرء رغم فقره ثريًّا. انظروا إلى نُصح النبيّ بالحب والاحترام.. فَهي تليقُ بأن يهبطُ لها الملوك من عروشهم تقديرًا وإجلالاً. وفي هذا رفعتهم ورُقيِّهُم.

ثم يقول : لا تَحَاسَدوا ولا تَنَاجَشوا.. أي (لا تُثيروا الأمور الدفينة)، وكونوا عِباد الله إخوانًا كما أمركم. بهذه الكلمات يُنهي حضرته نصيحته الغالية.. وحيث تنتهي نصيحته تبدأُ جنَّتُنا.. وفيها حلُّ مشاكلنا. وفقنا الله تعالى للعمل بها.. آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك