في عالم التفسير

 

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (البقرة: 76)

 

شرح الكلمات:

تَطمَعون: طمِع فيه (يطمَع): حرِص عليه (الأقرب).

والطمع: نزوع النفس إلى الشيء شهوةً له (المفردات).

طمِع فيه وبه: حرص عليه ورجاه (التاج).

والطمع ضدُّ اليأس (اللسان).

فمعنى أَفَتَطْمَعُونَ أفَتَرْجون؟ أفَتَحْرِصون؟

أن يؤمنوا لكم: آمنَ له: خضع له وانقاد. وآمنَ به: صدّقه. وآمنَه: أَمَّنَه (الأقرب).

فمعنى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ هو: هل تحرصون أو ترجون أن يصدقوا  قولكم أو ينقادوا لكم.

فريق: الفريق: الطائفة من الناس أكثَرُ من الفِرقة، وربما أُطلقَ الفريق على الجماعة، قَلَّت أو كثُرت (الأقرب).

يحرّفون: حرَّفه: غيَّره؛ وحرّف الكلامَ: غيّره عن مواضعه (الأقرب).

وتحريف الكلام أن تجعله على حرفٍ من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين (المفردات).

التفسير:

معنى آمنَ له، كما ذُكر عند شرح الكلمات، هو: أطاعه وانقاد له، أو صدّقه تصديقًا جزئيًا، أما آمنَ به فيعني صدّقه تصديقًا كليا أيضا، كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ (البقرة:5). وحيثما جاء االفعل آمَنَ أو آمَنوا في القرآن الكريم ورد مقرونًا بالحرف الجار (الباء) أو (اللام)، فقد ورد آمن به 53 مرة، وآمن له 4 مرات.

** **  الحاشية: الأعداد المذكورة – هنا ولاحقا- لعدد مرات ورود الأفعال، تشمل اشتقاقاتها (المترجم).

وكلما ورد الفعل (آمَنَ له) في القرآن الكريم جاء بمعنى الطاعة والانقياد بالمقام الأول، كقوله تعالى فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (يونس 84)، أي أن عددا كبيرا من بني إسرائيل آمنوا بموسى في قلوبهم، ولكن قليلا منهم هم مَن وفّقوا لطاعة أحكامه والانقياد له علنًا، أما الباقون فخافوا أن يتعرضوا للأذى على يد فرعون وأعوانه.

كذلك ذكر الله تعالى قولَ فرعون للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ (طه72)، أي أنكم أطعتم موسى وتمردتم عليّ. ذلك أن فرعون ما كان يهمّه كثيرا إيمانهم بموسى في قلوبهم، إنما كان يهمّه ألا يطيعوه في الظاهر، أي سياسيًا. ولقد ورد قول مماثل لفرعون في سورة الشعراء الآية 50 أيضا.

باختصار، حيثما أراد القرآن الكريم الإشارة إلى الإيمان بالمعنى المعروف قال (آمن به)، وحيثما أراد الإشارة إلى الطاعة والانقياد قال (آمن له).

أما صيغة (تؤمنوا بِـ) فقد وردت في القرآن الكريم في 12 موضعا، وصيغة (تؤمنوا لِـ) فوردت في موضع واحد، وهو قول موسى لفرعون وقومه: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (الدخان22)، ومعنى الإيمان هنا الطاعة أيضا، إذ ورد مِن قبل قولُ موسى لهم أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ (الدخان19)، فالمعنى أنكم إذا لم تطيعوني ولم تسلّموا لي بني إسرائيل طواعيةً، فلا تضعوا العراقيل في طريقي على الأقل.

أما صيغة اسم الفاعل مِن (آمَنَ بـهِ)، أي المؤمن بالمعنى المعروف، فاستخدمها القرآن في موضعين، أما صيغة اسم الفاعل مِن (آمنَ له)، أي بمعنى المطيع أو المصدق تصديقًا جزئيا، فاستخدمها في موضع واحد، وهو قول إخوة يوسف لأبيهم وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (يوسف:18)، أي لن تقبل قولنا وإن كنا صادقين.

والفعل (نؤمن بـ) ورد في 4 مواضع، أما الفعل (نؤمن لـ) فورد في 8 مواضع، وهي:

(أولا) قول الله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (الشعراء112)، أي كيف نطيعك وأتباعُك أراذل.

و(ثانيا) قول الله تعالى: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (المؤمنون48)، أي قال قوم فرعون هل نطيع شخصين من قوم هم عبيدٌ لنا، لنصبح عبيدا لعبيدنا؟

و(ثالثا) قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ (آل عمران184)، وهنا يمكن أن يكون أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ بالمفهومين: أي الإيمان أو الطاعة، غير أنه يُفضَّل اعتباره بمعنى الطاعة أو التصديق الجزئي وليس بمعنى الإيمان الكلي، وذلك نظرًا لاستعماله في المواضع الأخرى.

و(رابعًا) قول الله تعالى عن المنافقين: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ (التوبة 94)، وهنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ يعني لن نطيعكم في الأمر المذكور، ولا يعني الإيمان المعروف، لأن النبي لا يؤمن بأفراد جماعته.

و(خامسا) قول الله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (الإسراء91)، وهنا أيضا يعني الإيمان الطاعة والانقياد، إذ ذُكر هنا الأسباب المادية والمـُلك المادي. وكذلك ورد قول الكفار في هذه السورة نفسها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ (الإسراء94)، وهنا أيضا يعني الإيمان تصديقَ أمر معين وليس الإيمان الكلي المعروف.

و(سادسا) قول الله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (البقرة56)، وهنا جاء الإيمان قطعًا بمعنى الطاعة، لأن القوم كانوا قد أظهروا إيمانهم الكلي بموسى عند خروجهم من مصر. أو يعني الإيمان هنا تصديقَ أمر معين فحسب.

و(سابعا) قول الله تعالى وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (الأَعراف133)، وهذا قول قوم فرعون لموسى بعد أن طالبهم بخروج بني إسرائيل من مصر، والمعنى أننا لن نقبل مطلبك ولن نرسلهم معك. هذا وقد ورد بعد ذلك بآية واحدة قولُهم لموسى لئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (الأَعراف 135)، وهذا يؤكد أن الإيمان هنا بمعنى الطاعة قطعًا، إذ لو كان بمعناه المعروف لقالوا لموسى لن نرسل معك بني إسرائيل فقط، بل سوف نخرُج معك مِن مصر مؤمنين بك.

أما الفعل (يؤمن) أو (يؤمنون) فقد ورد في 80 موضعا، ورد في 77 موضعا منها بالباء، وفي موضعين فقط باللام، أحدهما قول الله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ في هذه الآية قيد التفسير، والثاني قول الله تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِين (التوبة 61)، أي قال المنافقون إن الرسول ( ) يستمع كلامَ من يعارضنا من المؤمنين ويصدّقه، فردّ الله عليهم بقوله: صحيح أن رسولي يفعل هكذا ونِعم ما يفعل. فإن يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِين هنا يعني بكل تأكيد تصديق قول المؤمنين، أما يؤمن بالله فيعني الإيمان الكلي بالله تعالى.

باختصار، كلما ورد في القرآن الكريم القول (آمن له) وما شابه ذلك فمعناه الطاعة أو التصديق الجزئي بشي معين، أما إذا أريد الإيمان الكلي بالله أو رسوله كان القول (آمنَ به) وليس (آمنَ له). وعليه، فقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ يعني: هل تأملون وتحرصون أن يقبلوا قولكم، وهذا المعنى يؤكده أيضا ضمير المخاطب في كلمة لَكُمْ الذي يعود على جماعة المؤمنين، لا على الله تعالى ورسوله، لأن الإنسان إنما يؤمنُ الإيمانَ المعروفَ بالله ورسوله، لا بجماعة المؤمنين. فثبت أن الإيمان ورد هنا بمعنى الطاعة، والمراد أن بعض المسلمين يُحسنون الظن باليهود ويصدّقون وعودَهم بالعيش معهم في سلام ووئام، فيقول الله تعالى لهؤلاء المسلمين: إنكم مخطئون في هذا الظن، لأن نبل النفس أو خشية الله هو الدافع إلى الوفاء بالعهد، ولكن الذي يلجأ إلى الكذب والخداع فلا يُتوقع منه الوفاء بالعهد. باختصار، هنا قد حذر الله المؤمنين من اليهود بأنكم ترون كيف يلجأ هؤلاء إلى الكذب والخديعة، وهذا دليل كافٍ على أن لا قيمة لوعودهم وأقوالهم؟

ثم يقول لهم الله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أي أن التحريف فعلٌ سيئ بلا شك، ولكن إذا وقع المرء في تحريف شيء لعدم فهمه له أو نتيجة سَهْوٍ فلا يدل ذلك على شرٍّ منه، بل على جهلٍ وخطأ، أما اليهود فلا عذر عندهم من هذا القبيل، بل إنهم يحرفون كلام الله عمدًا وبعد معرفة مراده جيدًا؛ ومَن يرتكب مثل هذا الافتراء والظلم في حق دينِ قومٍ أو في حق ديانتِه وقومه هو، فكيف يُتوقع منه أنه سيفي بعهده نبلاً وأمانةً أو خشيةً من الله تعالى.

إذا كان المراد من كلام الله هنا كُتب اليهود -كما قال عامة المفسرين القدامى-فأيضا لا يؤمَن جانبُ اليهود عقلاً، لأن الأمة التي ترتكب الخيانة في حق دينها هي فلا يتوقع منها أن تعامل الآخرين بأمانة.

أما إذا كان المراد من كلام الله هنا القرآن الكريم -كما رأى بعض المفسرين وكما أرى أنا أيضًا نظرًا للسياق- فأيضا لا قيمة لقول اليهود المذكورين هنا؛ لأن كلام الله تعالى هو أغلى ثروة عند أي أمة، وتكون مشاعرهم تجاهه حساسة للغاية. فإذا كان اليهود معتادين على تحريف معاني القرآن وتقديمها للناس بصورة مشوهة، مجرّحين بذلك مشاعر المسلمين المرهفة، فكيف يرجى منهم الوفاء بعهودهم معهم في الأمور الدنيوية؟ إذا جرّح المرء مشاعرَ وأحاسيس غيره في الأمور الحساسة للغاية، فكيف يتوقع منه ألا يجرح مشاعره في الأمور العادية.

يتضح من هذه الآية أنه كان من دأب اليهود تقديم آيات القرآن الكريم للناس مبتورة عن سياقها وبمعنى مشوه، من أجل إثارتهم ضد الإسلام. وهذا هو دأب أعداء أنبياء الله تعالى منذ القدم. فلم يُبعث نبي إلا واتبعوا هذا الأسلوب الشائن ضده، بل ليس هناك حقيقة إلا وحاربها أعداؤها بهذه المكيدة، لأن معارضة الحق تدفع المرء إلى الكذب، إذ كيف يستطيع أحد معارضةَ الحق وإثارة الناس ضده بدون أن يلبسه لباسَ الباطل. وهذه هي أكبر جريمة تُرتكب في هذا العصر أيضا، وهذا هو الحائل الأكبر دون قبول الناس للحق. فلو أن الناس صمّموا على عدم تقديم دين معارضيهم للناس في ثوب الكذب، وعرضوه أمام قومهم وأمام الآخرين كما يقول به أهله لما تعذر على الناس معرفة الحق، ولزال النزاع والشقاق والنفاق بين الأمم بسرعة.

 

وإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (البقرة: 77)

 

التفسير:

في الآية السابقة بيّن الله تعالى أن اليهود يعاملون المسلمين بتعصّب شديد، حتى إنهم يتعمدون عرض القرآن الكريم على الناس بمعانٍ محرفة، سعيًا لإثارتهم ضد المسلمين، أما في هذه الآية فبيّن الله تعالى أنهم لا يسخرون من كلام الله تعالى فحسب، بل لا يعاملون المسلمين بإخلاص. فعندما يلقونهم يتظاهرون لهم أنهم يؤمنون بصدق الإسلام من الصميم، بل يخبرونهم بأدلّةٍ أقنعتْهم بصدقه، ويُطْلعونهم على أنباء كتبهم التي تنطبق عندهم على محمد رسول الله ، وتنطق بصدقه؛ ولكنهم حين يرجعون إلى أصحابهم من اليهود يلوم بعضهم بعضًا قائلين: كيف تخبرون المسلمين بأمور سوف يتخذونها حجة عليكم في دينكم؟ إن هذا التصرف من قبل اليهود دليلٌ على أنهم لا يعارضون المسلمين بسبب الدين فقط، بل يعادونهم عداءً سياسيا ومدَنيا، إذ إنهم لا يكتفون بالاعتراض على الإسلام فقط، بل إنهم ليسوا مخلصين في علاقاتهم الدنيوية بجيرانهم المسلمين، وإنما يعاملونهم بمكر وخداع.

وهذا الجانب الأسود من أخلاق اليهود خطير جدًا. كانوا يلقَون المسلمين ويتظاهرون لهم بالصداقة، ويقولون لهم إننا مقتنعون بصدق الإسلام من القلوب، ولكنهم عندما يلتقون باليهود الآخرين كانوا يتلاومون قائلين: لماذا تخبرون المسلمين بما فتحه الله علينا من الأمور، فإنهم سوف يستخدمونها حجة علينا. إن اليهود بأسلوبهم هذا كانوا يعترفون عملياً بأن ما يذكرونه للمسلمين هو من أنباء الله الواردة في كتبهم، وأنه يدل على صدق الإسلام، ولكنهم لا يريدون أن يطّلع عليه المسلمون كيلا يستخدموه ضد دين اليهود. وكأنهم بسلوكهم هذا يريدون التمسّك بمكانتهم المادية وعزهم الدنيوي حتى لو أدى ذلك إلى اعتبار أن كلام الله تعالى باطل وأن مشيئته لم تتحقق. والأمة التي قد ساءت أخلاقها لهذه الدرجة كيف يرجى منها الخير من حيث الدين؟ كلا، بل إن هلاكها خير للدين والأخلاق والعالم. فهذا التصرف الذي ظهر من قبل اليهود عند بعثة النبي لدليلٌ بيّنٌ على أن هذه الأمة لم تعدْ مستحقّة لِنِعَم الله تعالى؛ وكان لا بد أن يظهر النبي الموعود خارجَها.

وقال الله تعالى في آخر هذه الآية أَفَلَا تَعْقِلُونَ ، أي أن المرء يتكلم بما يؤدي إلى عزته أو عزة قومه، ولكن قائل الكلام المذكور أعلاه يقرّ صراحة أنه يخون الله تعالى، إذ يعلم مشيئة الله ويفهم نبوءاته ومع ذلك يعلن أنه يسمح بانجلاء صدق النبوءات الإلهية وسيعيق تحقق المشيئة الإلهية. ومن ادعى هذا الادعاء الخطير أمام أصدقائه فأيُّ شبهة في أنه من الذين لا يعقلون. إنما مثله كمثل من قيل فيه: يا له مِن لصٍّ جريء، حيث خرج للسرقة حاملا السراج بيده.

وقوله تعالى أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يفيد مفهومين: الأول؛ إذا كان الله تعالى قد كشف عليكم صدق الإسلام بالأدلة العقلية أو بالآيات والمعجزات، فلماذا تذكرون هذا الأمر أمام المسلمين، والثاني؛ لماذا تخبرون المسلمين بالأنباء التوراتية التي وردت عن محمد رسول الله والتي قد تحققت في شخصه مؤكِّدةً صدقه؟ وكلا المفهومين ينطبق هنا في آن واحد. كان اليهود على صنفين: صنف لم يكن مطَّلعاً تمامًا على الكتاب المقدس، ولكن كانت قلوبهم مستيقنة بصدق الرسول بعد سماع الأدلة العقلية ورؤية المعجزات على يده ، وصنف آخر كانوا مطلعين تمامًا على الأنباء الواردة في كتبهم عن النبي الموعود والتي كانت قد تحققت في شخص النبي محمد ، وكان صدقه قد تبين لهم، وكانوا يذكرون هذه الأنباء للمسلمين ويقولون لهم إن رسولكم صادق بحسب نبأ كذا وكذا في سِفر كذا وكذا من كتبنا.

أما قوله تعالى لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ، فهناك إشكال حول عبارة عِنْدَ رَبِّكُمْ أريد توضيحه. المعنى العام لهذه الجملة أن بعض اليهود قالوا لبعض: لماذا تذكرون للمسلمين الأنباء الواردة في كتبنا أو لماذا تعترفون أمامهم أن صدق نبيهم قد ظهر لكم بالأدلة العقلية؟ ألا تعلمون أنهم سيحتجون بها عليكم عند ربّكم إثباتًا لجريمتكم؟

قد يعترض البعض على هذا المفهوم قائلا: إن الله تعالى هو عالم الغيب عند المسلمين واليهود، فكيف يُعقل أن يلوم بعض اليهود إخوانهم على اعترافهم للمسلمين بما يوجد في قلوبهم من يقين أو بما يوجد في التوراة من أنباء، ليقيم المسلمون الحجة عليهم أمام الله تعالى يوم القيامة؟

والجواب الأول هو: يصحّ هذا الاعتراض إذا سلّمنا بأن الناس كلهم متساوون في إيمانهم بالله تعالى. وهذا غير صحيح، إذ يوجد بين الناس من يعتقدون بأن بعض البشر يعلمون الغيب من دون الله تعالى، وهناك من يظنون أن الله تعالى لا يعلم كل الغيب. فقد قال القرآن الكريم عن الحوار الذي سيدور بين الله تعالى وبين الكفار يوم القيامة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (الأنعام:24)، أي عندما تقوم الحجة على الكفار يوم القيامة سوف يرددون كلامًا واحدًا ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ . ومثل هذا الجواب أمام علاّم الغيوب ليس إلا جهلاً فاضحًا، ولكن بعض الناس يحملون مثل هذه الأفكار الحمقاء فعلاً. فهناك فلاسفة يعترفون بأن الله عالمٌ علمًا كليًا إجماليًا، ولكنهم ينكرون أن الله يعلم الأشياء علمًا تفصيليًا بكل جزئياتها، ولم يكن بمستبعد من أمثال هؤلاء الموجودين بين اليهود أن يقولوا لإخوانهم: لماذا تخبرون المسلمين بما في نفوسكم فإنهم سيحتجون به عليكم يوم القيامة. والواقع أن اليهود كانوا يرتكبون مثل هذه الحماقة في أمور أخرى أيضا، فمثلاً قد ورد في سورة البقرة لاحقًا بعد آيات قلائل أنهم قالوا أن إبراهيم كان يهوديًا، مع أن اليهودية بدأت بموسى ، بل لم يطلق هذا الاسم عليهم إلا بعد سليمان . فالأمم عندما تصاب بالانحطاط والإدبار تسارع في ترديد مثل هذه الأقوال اللامنطقية والمتضاربة، ذلك لأن إيمان الناس عندها لا يتأسس على دليل وبرهان، بل على ما يسمعونه دون تدبر، وإن مصدر ما يسمعونه أناسٌ يحملون أفكارًا متضاربة، فتكون حصيلةُ ما يصل إليهم معلومات متضاربة. هذا أولاً، وثانيًا إن الإنسان عندما يعتنق عقيدة مخالفة للعقل يضطر لإثبات صدقها لقولِ ما يخالف العقل أيضًا. وإن الدين الحق لا يحقق النجاح إلا لخلوه من التضارب والتعارض، وعندما يخلو الإنسان إلى نفسه ساعة ويتخلى عن التعصب يغزوه الحق، وهكذا تزدهر الجماعات الربانية.

أما الجواب الثاني فهو: أن لكلمة (عِنْدَ) عدة معانٍ، منها مكان الحضور، وعليه فإن قوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني بحضور ربهم. ومن معاني (عند): بحسب الحُكم أو الرأي، فيقال: هذا عند فلان حرام، أي بحسب حُكمه ورأيه، ومثاله في القرآن الكريم: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (النور:14)، أي أن هؤلاء الذين اتهموا الآخرين بالفاحشة ولم يأتوا بأربعة شهداء فهم الكاذبون بحسب حكم الله تعالى. فليست عِنْدَ اللهِ هنا بمعنى في علم الله تعالى أو في حضوره، إذ من الممكن أن يكون الشخص في اتهامه غيرَه صادقًا، ولكن ليس بمقدرته الإتيان بالشهداء الأربعة، فهو في علم الله صادقٌ، ولكنه بحسب حُكم الله كاذب ولا يُعتدّ بقوله، لكيلا يشجّع ذلك الكاذبين على رمي الآخرين افتراءً بالفاحشة بدافع العداوة دون أن يأتوا بالدليل الكافي، وإلا فالله يعلم الصادق من الكاذب بدون شهادة.

وقال بعض العلماء أن عِنْدَ في قوله تعالى لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ جاءت بمعنى (في)، أي ليحاجوكم به في ربكم، بمعنى: ليحاجوكم به في الأمور المتعلقة بالله تعالى.

وقال البعض أن هناك مضافا محذوفا هنا -وهو جائز بحسب القواعد العربية- وتقديره: عند ذكر ربكم (البحر المحيط). ومفهوم الجملة: مخافة أن يحتجوا عليكم وقت النقاش عن ربكم بما تخبرونهم من أنباء، بمعنى: أنكم لو قلتم للمسلمين عند النقاش هل عندكم من برهان من ربكم على صدق محمد ( )، فنخاف أن يحتجوا عليكم بالأنباء التوراتية التي يسمعونها منكم.

ويتبين من قوله تعالى أَفَلَا تَعْقِلُونَ أن الإسلام لا يرضى بالإيمان نفاقًا بدون إخلاص، ولأجل ذلك استنكر الله تعالى فعْل اليهود هذا، حيث كانوا يعترفون أمام المسلمين بالإيمان مع أن إيمانهم لم يكن صادقًا. فلو كان التصديق باللسان وحده مُجديًا عند الإسلام لأشاد القرآن الكريم بتصرف اليهود هذا ولهيّأ لهم الفرص لمزيد من التقارب مع المسلمين وللتظاهر بمظهر المؤمنين.

كما أن قوله تعالى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ردٌّ على مزاعم الذين قالوا إن محمدًا كان قد سمع من اليهود ما ورد في كتابهم المقدس من واقعات وذكرها في القرآن الكريم. ذلك أن الذي يستقي المعلومات من مصدر يحاول توطيد الصلة به، لا قطْعها. فلو كان نبينا يفعل ما يزعمونه، وحاشاه أن يفعل، لم يهتك ستر اليهود ولم يكشف فسادهم هكذا، بل لسعى لإتاحة فرص التقارب لهم أكثر فأكثر.

أولا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (البقرة: 78)

 

التفسير:

هذه الآية أيضًا ردٌّ على الكتّاب النصارى الذين يتهمون رسول الله بأنه سمع من اليهود واقعات الكتاب المقدس ووضعها في القرآن الكريم، حيث تبين هذه الآية أن الله تعالى يخبر نبيه بكل خبر ضروري، ألا يعلم اليهود أن الله تعالى يعلم ما يسرّون وما يعلنون؟ أي أنه تعالى قد ذكر في القرآن الكريم أخبارًا لم يذكرها اليهود في الكتاب المقدس، وذكَر أيضًا أخبارًا ذكروها في كتابهم. أفلا يدركون من ذلك أنهم لو لم يذكروها لما نقص ذلك من مضامين القرآن الكريم شيئًا.

مازال أعداء الحق يعترضون على أنبياء الله تعالى بأنهم من صُنع أحداثِ زمنهم، حيث يدّعون النبوةَ متأثرين بالتيارات الفكرية المعاصرة لهم.

لا شك أن الله تعالى إذا أراد بعثة نبي وجّه أنظار الناس إلى ضرورة بعثة أحد، فمثلاً يتحدثون عن بعض الأنباء السابقة عن بعثة موعود ويقولون إن هذا العصر عصرُ تحقُّقها، ويستنتجون من بعض العلامات أن المأمور الموعود سيبعث في هذا العصر. وهكذا يجب أن يكون، لأن تهيئة الأسباب والمناخ لقبوله في الدنيا أمر ضروري لا يمكن أن يغفل عنه الله تعالى. فإذا أتى الموعود استند إلى تلك الأنباء أيضا التي كان علماء عصره يتطلعون إلى تحققها قبيل مجيئه.

لكن القول -بسبب هذه الظاهرة- أن الأنبياء من صُنع أحداث عصرهم قولٌ واهٍ جدًا. هل يرى هؤلاء المعترضون أنه لابد أن يبعث الله النبيَّ أولاً، ثم بعد ذلك يهيئ الأسباب لمعرفة صدقه؟ لو فعل الله ذلك فكأنما أراد بنفسه حرمان الناس من الهدى! أم أن هؤلاء المعترضين يريدون أن يهيئ الله الأسباب لمعرفة الأنبياء، ويُظهِر الآثار الدالة على تحقق الأنباء السابقة، ولكن لا يجوز للنبي أن ينتفع بها ويستدلّ بها على صدقه، وإلا لعُدَّ من المتأثرين بالأفكار السائدة في عصره؟ وسخفُ هذا القول واضحٌ بالبداهة، لأن عدم انتفاع المبعوث الإلهي بما هيأ له الله تعالى من أدلّةٍ على صدقه يُعَدّ خيانةً في حق الله ودينه، والنبي لا يكون خائنًا أبدًا.

فلا قيمة لمثل هذه الاعتراضات، سواء أثيرت ضد الأنبياء السابقين عليهم السلام، أو ضد نبينا محمد ، أو ضد أحد بعده. لقد ردَّ الله في هذه الآية القرآنية على هذا الاعتراض ردًّا رائعًا حيث قال لليهود إن كتابنا هذا يذكر أمورًا توجد في كتبكم، كما يذكر أمورًا لا تذكرونها للناس، أو لا تقدرون على ذكرها؛ والله عليم بكل الأمور، والكتاب المنزل من عنده ليس بحاجة إلى علمٍ مِن غيره، كما لا يمكن أيضًا أن يسكت هذا الكتاب عن ذكرِ شيءٍ لمجرد أنْ ذَكَرَه أحدٌ مِن قبْلُ، لأن ذلك وأدٌ للحق، وكتاب الله تعالى أسمى من ذلك وأجلُّ.

Share via
تابعونا على الفايس بوك