التضحية التي يطالب بها الله المؤمن
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(208)

التفسير:

هنا بين الله تعالى أن من الناس من لا يبالون ببذل نفوسهم في سبيل الله، وهم مستعدون لفداء أرواحهم لوجهه.. ولا يمكن أن يأتوا بما يضر الآخرين. وهكذا وجّه النظر إلى أن عليكم اتباع سبيل هؤلاء، فلا تتجنبوا الفتن والفساد فقط، بل يجب أيضا أن تقفوا حياتكم لابتغاء مرضاة الله تعالى.

(والله رؤوف بالعباد) أي أن الله شديد الشفقة على عباده، وتقتضي شفقته هذه منكم أن تجتنبوا الفتن والفساد، وتُكرسوا حياتكم لخدمة الإنسانية وفلاحها حتى تكونوا مظاهر لرب رؤوف بالعباد.

 

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(209)

 شرح الكلمات:

السلم –الصلح؛ السلام؛ الإسلام (الأقرب).

التفسير:

يمكن أن تكون كلمة (كافة) هنا حالا من الذين آمنوا، أو حالا من السلم. ويكون المعنى الأول: أيها المؤمنون، ادخلوا في الإسلام جميعا، وينبغي أن تدخلوا كلكم في طاعته، وتضعوا نير طاعته على أعناقكم جميعا. يجب ألا يكون منكم أحد لا يحوز مقام الطاعة والإسلام لله تعالى.

والمعنى الثاني: أيها المؤمنون، يجب أن تقبلوا الإسلام كله، وتتخذوا كل السبل للطاعة والاستسلام لله تعالى، ولا تتركوا أي أمر من أوامر الله.

هذه هي التضحية التي يطلبها الله من المؤمن: يُضحي في سبيله بكل أمانيه وأهوائه وأهدافه. وليس أن يعمل بما شاء ويترك ما شاء.. لو رأى أن الشرع يقضي عليه بالحق، رضي بحكم الشرع ونادى باتباعه؛ أما إذا وجد الشرع يقضي عليه بالحق، في حين أن القانون الوضعي يقف في صفه، قال أتبع قانون البلد. هذا الأسلوب يتنافى تماما مع الإيمان الحقيقي.

في الآيات السابقة بيّن الله أن هناك ضعاف الإيمان بين المسلمين ويسعون بالفساد والفتنة في أيام الرقي القومي وفي زمن الرفاهية، وينسون ما كانوا عليه من قبل، وأن كل ما عندهم هم من فضل الله، ولذلك ينصح الله المسلمين هنا ويقول: صحيح أنكم تُدْعَون مؤمنين، ولكن تذكروا أن التفوّه بالإيمان لا يجعل الإنسان مستحقا للنجاة. فإذا أردتم أن تفوزوا بالنجاة فسبيل ذلك أولا-أن تسعوا لمحو كل صنوف النفاق وعدم الإيمان من بينكم، وأن تجعلوا كل فرد من قومكم ثابتا على صخرة قوية من الإيمان والطاعة. وثانيا-ألا تفرحوا بالعمل ببعض أحكام الشرع، بل عليكم أن تعملوا بكل ما تؤمرون به من الله تعالى، وأن تكونوا مظاهر كاملة للصفات الإلهية.

(ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) أشار بكلمة (خطوات) إلى أن الشيطان دائما يدفع الإنسان إلى الضلال خطوة خطوة، ولا يحضّه على ارتكاب الكبائر دفعة واحدة، وإنما يرغبه في السيئة بالتدريج؛ فإذا تخطّى أول خطوة حضّه على خطوة أخرى، حتى يدفعه إلى ارتكاب الكبائر.

يقول الله تعالى: ننصحكم أنكم إذا فرحتم بالعمل ببعض أحكام الشرع وأهملتم أحكاما أخرى، وظننتم أنكم مسلمون صادقون فهذه وسوسة شيطانية. ونحذركم أنكم لو أهملتم أحكام الله هكذا فسوف يأتي عليكم وقت لن تعملوا فيه بما كنتم تعملون من أحكام الشرع. فيجب أن تراقبوا أعمالكم باستمرار، وتسعوا لتجنب وساوس الشيطان دوما.

 

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(210)

 التفسير:

يقول الله تعالى: إذا لم تهتموا بإصلاح أنفسكم، وإذا لم تعملوا على خدمة الإنسانية عند نيلكم السلطة والقوة، وبدأتم ظلم الناس واضطهادهم وإلحاق الأضرار بأرواحهم وأموالهم، فتذكروا أن فوق رؤوسكم إلها غالبا قادرا على أن يعاقبكم وعلى أن يسلب القوة من أيديكم. فخافوا الله القادر على أن يحوّلكم من ملوك إلى متسولين، ومن أثرياء إلى فقراء، ويجعلكم بعد العزة أذلاء.

وبذكر (حكيم) بيّن أنه ليس في أفعاله أي ظلم، وإنما كل أفعاله تنطوي على حكم عظيمة، فلن يكون في عقوبته ظلم وإنما إصلاح الإنسان. ولو أن الناس كفّوا عن همجيتهم، وأنشئوا علاقة بالله تعالى، وجعلوا خدمة الناس شعارا لهم، وتعاملوا بصدق وسداد وأمانة، وطهروا قلوبهم من كل غش وخداع، وأصبحوا طيبي الباطن صالحي القلوب، متحلِّين بمحاسن الأخلاق، خاشعين لله.. فلا بد أن يرحم الله عباده ويستجيب أدعيتهم، ويحول فشلهم إلى نجاح، وذلتهم إلى عزة.

هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (211)

التفسير:

لقد بين الله هنا أن هؤلاء الكفار الذين يعارضون المسلمين، وهؤلاء المنافقين الذين يوافقون الكفار في آرائهم.. يحلمون بهلاك الإسلام. إنهم في الظاهر يتربصون يوما يتم فيه القضاء على الإسلام، وتتمكن القوى الشيطانية من الاستيلاء على الحكومة الإلهية، ولكن الحقيقة أنهم بأعمالهم هذه ينتظرون يوما يأتيهم الله فيه في ظلال السحب.. يعني يدمرهم ويهلكهم بأسباب خفية. ينتظرون أن ينـزل عليهم الملائكة من السماء فتمزقهم، وتظهر آية إلهية بينة متألقة تحسم كل هذه النزاعات الناشبة كل يوم، وهكذا يرى الجميع ما يحكم الله به. ولسوف يحدث هذا في آخر الأمر، وسوف يظهر الله لأعينهم يوما ما، وسوف يرون هلاكهم محلقا فوق رؤوسهم.

وفعلا، في غزوة بدر ظهر الله لهم من خلال السحب. فقبل بداية المعركة أنزل الله مطرا ألحق بالكفار ضررا بالغا من الناحية الحربية. ونفع المسلمين نفعا عظيما. كما أن الله تعالى أنزل ملائكته تثبت قلوب المؤمنين وتقوِّيها، وتبث الرعب في قلوب الكفار، بل لقد رأى عدد منهم ملائكة الله بأعينهم عندئذ(الأنفال: 10 والسيرة النبوية لابن هشام، موقعة بدر). وبحسب قوله تعالى (وقضي الأمر) أهلك نخبة كبراء قريش.. حتى أن الذي كانوا يسمونه “سيد الوادي” لقي مصيره وحتفه على أيدي اثنين من صبية الأنصار(البخاري، العلم). وعمَّ مكة البكاءُ والعويل، ولم يكن بيت من بيوتها إلا وفيه مأتم.

أما اليهود فلم يكن لهذه الحرب تأثير مباشر عليهم، ولكنها كشفت نواياهم الشريرة، وهلكوا على يد المسلمين أخيرا. وهكذا رأى الكفار الآية التي طلبوها بأنفسهم، وقضي على شوكتهم وعظمتهم. وهذا نفس ما عامل به الله الأعداء الذين كانوا بعدهم، فظهر الله لهم بتجلياته القاهرة مرة بعد أخرى حتى ظهر الإسلام على العالم.

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(212)

التفسير:

لقد سبق أن ذكرتُ عند تناول ترتيب الموضوع أن الخطاب هنا موجه إلى اليهود، وأن البحث يدور حول النبأ الإبراهيمي عن بعث سيدنا محمد ، وأنّه هو المصداق لهذا النبأ، فقد قال الله في هذا السياق (ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام)، وتنبأ بذلك عن فتح مكة على أيدي المسلمين. وقد أعلن عن هذا النبأ في وقت كان الكفار فيه غالبين حاكمين على مكة، وكان المسلمون يبحثون عن ملاذ لهم في المدينة. عندئذ أوحى الله إلى رسوله أنكم سوف تفتحون مكة، وبالتالي سوف تزول العراقيل الموجودة في طريق حجكم إلى بيت الله الحرام. ثم بيّن لهم ماذا عليهم أن يفعلوا إن أُحصروا ومُنعوا من أداء العمرة. وهكذا تنبأ عن صلح الحديبية إذ قال بأنه سيأتي على المسلمين زمن يُمنعون فيه من أداء العمرة. كما أشار بقوله (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) (197) إلى أن مكة سوف تصبح دار إقامة لكم في يوم من الأيام. سوف تُفتح لكم أبواب مكة، وسوف تدخلونها آمنين. وبقوله (فإذا أمنتم) أشار إلى أنكم ستكونون في أمن وأمان، وعندئذ عليكم بعمل كذا وكذا.

وبعد ذكر هذه الأنباء قال هنا للمسلمين: اسألوا بني إسرائيل: كم من آية بينة على صدق محمد أريناهم، وإن في نبأ فتح مكة أيضا لآية عظيمة سوف تثبت صدق محمد. فالذين يكفرون بهذه النعمة العظيمة من الله تعالى –أي محمد والإسلام –ويريدون القضاء عليه.. عليهم أن يتذكروا أن الله تعالى سوف يعاقبهم عقابا شديدا. وفعلا تلقى اليهود بفتح مكة ذلة شديدة وبدأ هلاكهم بالتدريج.

وقد تعني الآية أن الله أنعم على اليهود بنعم كثيرة من قبل. ولكنهم كفروا بها. فكان أكبر نعم الله عليهم أنه بعث فيهم أنبياء لهدايتهم بالتواتر والتوالي، ولكن اليهود دأبوا على تكذيبهم وجعلوا معارضتهم شعارا لهم حتى أنهم قتلوا بعضهم. وهذا كفران بنعمة الله كبير قد صدر عنهم. أما المسيحيون –وهم فرع من اليهود –فقد كفروا بنعمة الله كفرانا كبيرا؛ إذ اعتبروا الشريعة لعنة. ونتيجة لهذا التمرد المستمر من جهة اليهود نزع الله منهم نعمة النبوة، لأن من سنة الله تعالى أنه إذا كفر أحد بنعمته حرمه منها، وأنزل به عذابا طويلا من آلام وهموم وحسرة وقنوط.

Share via
تابعونا على الفايس بوك