في عالم التفسير
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ  (البقرة :36)

 شرح الكلمات:

اسكُنْ: سَكَنَ يَسْكُن سُكُونًا: قَرَّ. سكن فلانٌ دارَه: استوطنها وأقام بها. (الأقرب).

زوجك: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (… ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون).

الجنة: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (وبَشِّرِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار….).

رغَدًا: رغَد عيشُه رغدًا: طابَ واتَّسع (الأقرب).

والرغَدُ: الكثير الواسع الذي لا يُعييك من مالٍ أو ماءٍ أو عيشٍ أو كلأٍ (التاج).

حيثُ: ظرف مكان… وتلزم الإضافةَ للجملة (عند الجمهور)، وإذا لحقتْها (ما) الكافّةُ ضُمِّنتْ معنى الشرط وجزَمتْ فعلينِ كقوله:

حيثما تستقمْ يُقدِّرْ لك … الله نجاحًا في غابِرِ الأزمانِ

وتَرِدُ للزمان كما في هذا البيت (الأقرب).

فقوله تعالى حيث شئتما يعني: (1) أين شئتما، (2) متى شئتما.

الظالمين: جمعُ ظالم. ظلَمَ فلانٌ ظُلمًا وظَلمًا: وضَع الشيءَ في غير موضعه. وظلَم فلانًا: جارَ عليه وفعَل له الظلمَ. وظلَم فلانٌ حقَّه: نقَصه إياه… والظلم: انتقاص الحق… ومن هنا سُمي التصرف في مِلك الغير ومجاوزةِ حدِّ الشارع ظلمًا. (الأقرب)

الظلم ثلاثة: الأول: ظلمٌ بين الإنسان وبين الله، وأعظمُه الكفر والشرك والنفاق، لذلك قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ … والثاني: ظلمٌ بينه وبين الناس… والثالث: ظلمٌ بينه وبين نفسه، وإياه قصد في قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ (المفردات).

فالظالم: (1) مَن يعمل عملاً في غير محله، (2) مَن ينقص حقوق الآخرين، (3) مَن يتجاوز الحد ويعتدي على مِلك غيره، (4) المشرك، (5) مَن يفعل الجَور.

التفسير:

لقد بين الله تعالى هنا أنه أمَر آدم وزوجته أو رفقاءه بالعيش في الجنة، وقد جاء تفصيل ذلك في آية أخرى في قول الله تعالى لآدم: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (طه 119-120)، وكذلك قيل لهم أن يأكلوا منها رغدًا حيث شاؤوا.

قال البعض أن هذه الجنة التي دخلها آدم هي الجنة التي يدخلها الناس بعد الموت. وقال آخرون أنها كانت منطقة من هذه الأرض التي نعيش عليها.

وورد في الكتاب المقدس: {وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ}(سِفْرُ التَّكْوِينِ 2 : 8). وورد فيه بعد ذلك أن نهري دجلة والفرات يسقيانها (الفقرة رقم 14). وهذا يعني أن الكتاب المقدس قد خلَط بين الاستعارة والحقيقة والخطأ والصواب، إلا أن ذكر منطقة النهرين دجلة والفرات يحدد مكان هذه الجنة. إن واقعات نوح وقومِه أيضا كانت وقعت في هذه المنطقة، كما أن “أور” مولد إبراهيم أيضا تقع في العراق، وتدل البحوث الجديدة على أن أعمال الحفر الأثرية كشفت عن أن هذه البلاد كانت مهدًا لحضارة موغلة في القدم. وعليه فالأقرب إلى القياس أن مولد آدم كان في منطقة العراق وأن جنّته التي ورد ذكرها كانت منطقةً في هذه البلاد نفسها، وقد سُمّيت جنّةً لما فيها من الراحة ورغد العيش والنظام المثالي الذي أقامه آدم .

وكما أشرت آنفًا فإن أعمال الحفر الأثرية أكدت أن هذه المنطقة كانت مهدًا لحضارة قديمة جدًا. وقد قام “السيد هول” بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بعده “السيد وود” بأعمال التنقيب عن الآثار في منطقة مدينة “أور” التي كانت وطنًا لسيدنا إبراهيم وتقع قريبًا من مجمع نهري دجلة والفرات. لقد اكتشفوا في هذه الأعمال الحفرية آثار مدفونة لهذه المدينة يرجع زمنها إلى ما قبل ميلاد المسيح بحوالي ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، بل قد أكدت البحوث المتأخرة أنها أقدمُ منها زمنًا (دائرة المعارف البريطانية، تحت كلمة ur).

فعندما نرى في الجانب الغربي للجزيرة العربية الكعبةَ (المعبَد العتيق) من جهة، ونجد من جهة أخرى في شرق الجزيرة العربية آثار حضارة “أور” الموغلة في القدم، كما نجد أن هذه المنطقة كانت مركزًا للتغيرات العظيمة في التاريخ المعلوم، فالأقرب إلى القياس أن هذه المنطقة نفسها كانت مكان ولادة آدم ، أو المكان الذي بدأ منه التقدم البشري المدَني.

أما القول أن الجنة التي أُسكن فيها آدم هي تلك الجنة التي سوف يدخلها الصالحون بعد الموت فهو باطلٌ بالبداهة، ذلك (أولا): لأن الله تعالى يقول في القرآن الكريم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة :31)، فمن غير المعقول أن يرسل الله آدم خليفةً في الأرض لإقامة النظام فيها لكن يُسكِنه في السماء.

(وثانيا): في سياق قصة آدم قال الله في صفة الجنة الأخروية: لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (الحجر:49)، بينما أُخرج آدم من الجنة التي أُسكنَ فيها، فثبت من هنا أن جنة آدم لم تكن الجنة السماوية، وإنما كانت جنةً على الأرض.

(وثالثا): تصرِّح الآيات القرآنية أن الشيطان بل ذريته أيضا قد دخلوا في جنة آدم، ولو سلمنا جدلاً أن آدم أسكن في الجنة السماوية، فمن غير المنطقي أن يسكن فيها الشيطان وذريته أيضا.

ويستنبط من الآية أيضًا أن آدم كان يسكن مع زوجته أو أصحابه في منطقة ما على الأرض في أول الأمر، ثم انتقل منها بأمر الله إلى موضع آخر سماه الله “الجنة”، لأن كلمات الآية تقول اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (البقرة 36)، فالله تعالى يوجهه ليغادر مكانه إلى مكان آخر.

لقد بيّنّا لدى شرح الكلمات أن معنى الرغد هو توفُّر حاجات الحياة بسهولة وكثرة، وقد بيّن الله تعالى بهذه الكلمة ما في التمدن من مزايا وفوائد. التمدن هو الذي يساعد على توفر حاجات العيش للإنسان بكثرة وسهولة، فبدون التمدن لا يمكن ادّخار المأكولات والمشروبات ولا يمكن إنتاجها بكثرة، إذ كان من المحال في العيشة الحيوانية التي عاشها البشر التوجهُ إلى إنتاج الحاجات الضرورية وادّخارُها، ونقصانها يسبب المعاناة للإنسان. فكلمة رغدًا إشارةٌ إلى منافع التمدن، حيث قال الله تعالى إنكم بالعيش معًا ستتمكنون من إنتاج ضروريات الحياة وادخارها عند الحاجة، وهذه هي الجنة الأرضية التي أُسّستْ على التمدن في زمن آدم . إن الأمة التي تحافظ على التمدن يعيش أبناؤها كلهم براحة ورخاء، وقد عمل أهل الإسلام في أوائله بهذا التعليم، فصار كل طفل من أطفال المسلمين في مأمن من الجوع والعطش وضنك العيش.

هذا الحكم يبدو في بادي الرأي حُكمًا ماديًا محضًا، ولكن الواقع أن أسلوب العيش هذا يقي الناس من المعاصي. إن أكبر دواعي السلب والنهب والغش والخداع هو الفقر وضيق اليد وقلة الحيلة. والشعوب التي تؤمّن لجميع أبنائها المأكل والمشرب والملبس تحميهم من الوقوع في الإثم، وتقضي على السبب الداعي إلى الظلم والإثم. فثبت أن هذا الأمر، وإن بدا ماديًا وسياسيًا محضا، ولكنه في الحقيقة نظام ديني خالص يجتثّ الإثم من جذوره. إن كل أنواع النزاع والفساد المنتشرة في العالم اليوم إنما سببها أن بعض الناس أثرياء جدًا، وغيرهم يموتون جوعًا وفقرًا. لو قام في العالم نظام يضمن لكل شخص توفُّرَ ضروريات الحياة بسهولة لقُضي على كل النزاعات والحروب نهائيًا.

أما قوله تعالى حَيْثُ شِئْتُمَا فبيّنَ الله فيه أن من أهم عناصر التمدن البشري المتكامل سهولةَ السفر والإقامة، وأن تُرفع عن الإنسان القيود التي لا داعي لها. وإن إهمال هذا الأمر هو من أكبر أسباب الفسادات والنزاعات في هذا العصر. إن الشعوب تضع القيود بعضها على بعض وتقول: لن نسمح لأفراد شعب كذا بالدخول إلى أراضينا أو العيش فيها، وهكذا تحتكر هذه الشعوب نعم الله ، مع أن الله تعالى قد خلق هذه الدنيا كلها للبشر كلهم، وإن حرمان الآخرين من نعم الله تعالى بفرض هذه القيود والعراقيل عليهم لَإثمٌ كبير. يعيش في هذا العصر بضع مئات آلاف الأشخاص في قارات كبيرة، ويمنعون الآخرين من القدوم إليها والإقامة فيها. فمثلًا يبلغ عدد سكان الهند قرابة أربعمائة مليون شخص، أما أستراليا التي تبلغ مساحتها قرابة ضعفيْ مساحة الهند فعددُ سكانها سبعمائة ألفٍ فقط، ولكنهم يمنعون الهنود من المجيء إلى أستراليا أو الإقامة فيها! كذلك تحرم “جنوب أفريقيا” الهنودَ المقيمين هناك من حقوق المواطنة كاملة، وليس أساس قوة الزعيم الهندي السياسي المعاصر “غاندي” إلا تلك المشاعر المجروحة التي تولدت في قلبه أيام إقامته في جنوب أفريقيا.

إن هذا التمييز يخلق في القلوب البغضاء والشحناء، ويرى الإسلام أن الله تعالى قد نهى عن مثل هذه القيود منذ زمن آدم ، وسمح لأفراد الجنس البشري كلهم بالتمتع بنعم الدنيا بدون تمييز وتفرقة. يا ليت الناس عملوا بهذا التعليم ليُقضى على ما يوجد في الدنيا اليوم من بغض وحقد وفساد، ولتصبح هذه الدنيا جَنّةً للجميع بعد أن أخذت تتحول جحيمًا لبعض الناس في هذه الأيام.

لعل أحدًا تنتابه هنا شبهة فيقول: لماذا منع الإسلام إذنْ أتباع الأديان الأخرى من دخول الحجاز؟

والجواب: لا شك أن الإسلام قد منعهم من دخول الحجاز، ولكن هذا لا يؤثر سلبيًا على المعاملات الاقتصادية للعالم. ذلك أن الحجاز وادٍ غير ذي زرع، فلا علاقة لطعام العالم وشرابه بهذه البقعة. لماذا يذهب الناس إلى مكان لا يوجد فيه زرع ولا ماء عذب، وماذا يعملون هنالك بشأن حاجات معيشتهم. لن يرغب أحد في الذهاب إلى ذلك المكان والعيش هنالك إلا الذي تربطه به أواصر الدين، ومثل هؤلاء فإن الذهاب مسموح لهم إلى هنالك بغض النظر عن قومهم وعرقهم. ولعل الحكمة في اختيار الله لهذا الوادي غير ذي الزرع مكانًا لأول وآخر مسجد له، هي أنه حينما يُمنَع أتباع الأديان الأخرى من الذهاب إليه بهدف إقامة نظام دين الله فيه، فلا يكون لأحد مساغٌ للاعتراض قائلا: لماذا حُرمنا من المنافع والفوائد المادية هنالك؟ أما لو كانت الكعبة في أرض خصبة مخضرة لحُرم أتباع الديانات الأخرى من منافعها المادية، أو لم يعُدْ هذا المكان حصنًا حصينًا لدين الله تعالى.

ثم يقول الله تعالى وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . ما هي تلك الشجرة التي نُهي آدم عن الاقتراب منها؟ هذا السؤال ظل محل اختلاف كبير بين الناس. فهي عند البعض المرأة، وعند غيرهم الحنطة، وعند آخرين الكرْم (فتح البيان). ولكن كل هذه الأقوال هي خلاف القرآن الكريم. فلا يمكن أن يُراد بها المرأة، لأن آدم قد أُمر بالإقامة هناك مع زوجته. كما لا يُراد بها الحنطة ولا الكرْم، لأن كلاهما حلال، وقد قال الله تعالى لآدم وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا ، أي كُلا من أغذية تلك المنطقة بكثرة.

يرى الكتاب المقدس أن الشجرة الممنوعة هي شجرة العلم والمعرفة حيث ورد: {وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ}(سِفْرُ التَّكْوِينِ 2: 16-17). لكن هذا باطل بالبداهة، لأن معرفة الخير والشر هي التي تجعل الإنسان أفضل من الحيوانات، وإلا فما الفرق بين الإنسان والثور والحصان والحمار؟! والكتاب المقدس نفسه يقول إن الله تعالى قد خلق الإنسان على صورته وشَبَهِه (التكوين 1: 26)، وهذا يعني أنه تعالى قد جعل في الإنسان معرفة الخير والشر وزوّده بالعلم والعرفان، وإلا فما هو المراد من خلق الله الإنسان على صورته وشَبَهِه إذنْ! ما دام تعالى قد خلقه على صورته وشبهه، فهذا يعني أنه منذ ولادته كان يعرف الخير والشر، فما الحاجة ليأكل من ثمرة شجرة من أجل معرفة الخير والشر. فإذا كان الله تعالى قد خلقه على صورته وشبهِه أولًا، ثم نهاه عن أكل ثمرة شجرة معرفة الخير والشر فهذا يعني أنه تعالى قد أبطل فعله بنفسه، وتصرف كالأطفال الذين يبنون بيتًا من الرمال أولًا، ثم يهدمونه.

والسؤال الآن: إذا لم تكن الشجرة الممنوعة قمحًا ولا عنبًا ولا معرفةَ خير وشر، فما هو المراد منها حتى مُنع آدمُ من الاقتراب منها؟

فأولاً، يتضح من القرآن الكريم أن آدم حين أكل ثمرة هذه الشجرة بدتْ عورته، وفي هذا دليل على أنها لم تكن شجرة نباتية أرضية حقيقية، بل هي شجرة مجازية، إذ لم نرَ على وجه البسيطة شجرة يؤدي أكل ثمارها إلى كشف العورات.

وثانيا: لا نجد في الشريعة الإسلامية ولا في الشرائع السابقة شجرةً يحرُم الأكل منها شرعًا. وهذه شهادة أخرى أن تلك الشجرة لم تكن شجرة مادية، بل هي شجرة مجازية.

وثالثًا: قال الله تعالى إن آدم وزوجته وأصحابه إن اقتربوا من الشجرة فسيصبحون من الظالمين، وهذا أيضًا يؤكد أن لفظ الشجرة هنا استعارة، لأنهما بأكل ثمرتها يمكن أن يكونا آثمين لا ظالمين، لأن الظلم يعني في القرآن الكريم الشرك بالله، أو هضم حقوق الغير.

ورابعًا: إن الله تعالى يشير هنا إلى شجرة معينة وينهى آدم عن الاقتراب منها، ومع ذلك يأكل ثمرتها بإغواء الشيطان، فلو كانت شجرة مادية محددة لكانت مقاربة آدم إياها عصيانًا متعمدا، وليس خطأً أو نسيانًا على الإطلاق، لكن القرآن الكريم يعلن فَنَسِيَ (طه 116)، أي أن آدم أكل من الشجرة ناسيًا لا متعمدًا، الأمر الذي يدل على أنها لم تكن شجرة مادية، بل كانت شيئًا معنويا يمكن أن يقترب منه الإنسان خطأً، وهو شجرة معنوية كشجرة الظلم مثلاً، فلو نُهي المرء عن أن يقرب الظلم فهذا حُكم غير محدد، والخطأ فيه محتمل، فمن الممكن تمامًا أنه إذا نُهي المرء عن الظلم وأراد اجتنابه، فمع ذلك هناك احتمال أن يتصرف تصرفًا هو ظلمٌ في الحقيقة، ولكنه لا يدري أنه ظلم.

لقد ثبت من كل هذا أن ما نُهي عنه آدم قد سُمي شجرةً على سبيل الاستعارة، ولم يكن شجرة في الحقيقة.

والآن نتوجه إلى القرآن الكريم لنرى هل ورد لفظ الشجرة بمفهوم آخر، أعني: هل أُطلقت الشجرة على شيء آخر على سبيل الاستعارة أم لا؟

قد استعيرت الشجرة في القرآن الحكيم لمعان طيبة ولمعان سيئة. يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ… وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ (إبراهيم:25-27)، فشبّه الله تعالى هنا الكلامَ الطيب بالشجرة الطيبة والكلامَ السيء بالشجرة الخبيثة، وعليه فنهيُ آدمَ عن أن يقرب تلك الشجرة يعني أن الله تعالى أمَره بتجنّب شجرة المنكرات، فكما أن الله تعالى شبّه نظام الخير الذي وهب لآدم في الجنة بالشجرة، كذلك وصف الأمور المنافية لهذا النظام بالشجرة أيضًا، ونهى آدمَ عن الاقتراب منها؛ فكأن الله تعالى قال لآدم: كما إننا نأمركم بالإقامة في هذه الجنة، فإننا نأمركم أيضا بالابتعاد عن الأمور المنافية لهذه الجنة، كيلا تضيع منكم. وعلى ضوء هذا المعنى، فمن السهل جدًا تفهُّمُ احتمالِ وقوع آدم في الخطأ في أمر من دقائق الأمور، كما كان من السهل أن يخدعه أحد في هذا.

لا شك أنه يمكن أن يراد من الشجرة الممنوعة كلُّ تلك المنكرات التي نهى الله تعالى آدمَ عنها، إلا أنه في ضوء موضوع هذه الآية سيراد من ذلك أخذ الحيطة والحذر من إبليس وذريته خاصة، لأنه أقسم بإغواء آدم وذريته، حيث قال الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (طه: 118)، فهذه الآية تبين أن الأمر باجتناب إبليس كان فرعًا هامًا من هذه الشجرة التي نُهي آدم عن الاقتراب منها.

ومما يؤيد هذا المعنى أيضًا هو استعمالنا لكلمة شجرة بمعنى شجرة النسب، والحق أن إطلاق لفظ الشجرة على إبليس إطلاق رائع ولطيف للغاية، لأن نهي آدم عن الاقتراب من إبليس شملَ نهيه عن ذريةِ إبليس، أي أتباعِه أيضًا.

وجدير بالتذكر أن حوار الله عز وجل مع آدم لم يكن كحوار إنسان مع غيره، بل كانت حتمًا على شاكلة الحوار الذي يتم بين الله وأنبيائه جميعًا، أي بصورة الوحي. والوحي الإلهي يكثر فيه الاستعارة والمجاز والتمثيل، لأن كلام الله جميل، واستعمال المجاز والاستعارة والتمثيل يزيد الكلام جمالًا وبهاءً.

أمر الله تعالى آدم بأن يقيم فى مكان هو كالجنة راحةً ونعمة، ووهب له شريعةً تحوِّل هذه الدنيا جنّة، وأنعم عليه بزوج وأصحاب كانوا مطيعين منقادين له، يتسببون له في كل أنواع الراحة والطمأنينة، ويحولون هذه الحياة إلى جنة آمنة، ونظرًا لكل هذه النعم الجليلة، قال الله تعالى لآدم: اسكن الآن أنت وأصحابك في هذه الجنة؛ ونظرًا إلى هذه الاستعارة سمّى ما يُفسد هذا النظام ورفاقَ السوء شجرةً، وقال لآدم نأمرك بالإقامة في هذه الجنة، كما نحذرك من الاقتراب من هذه الشجرة.

باختصار، قد استعملت كلمة الشجرة بسبب مناسبتها لكلمة الجنة .

قد أُطلقتْ على النظام الجيد ورفاقِ الخير كلمةُ “الجنة”، وهي مجموعة أشجار كثيرة، بينما أُطلق على الأمور السيئة ورفاق الشر كلمة “الشجرة” وهي مفردة، وقد أشير بذلك إلى الأمور التالية:

  1. أن أصل التعاليم التي تلقاها آدم من ربه هو حِلُّ الأشياء، أما التحريم فهو من أجل الضرورة فقط، وهكذا فإن الحلال أكثرُ من الحرام بكثير.
  2. أن جماعة آدم ستكون هي الغالبة والأكثرَ عددًا، وأن أعداءه سوف يتحولون إلى أقلية، بحيث يمكن تسمية آدم وجماعته جنةً كثيرةَ الأشجار، ويمكن تسمية أعدائه ونظامِهم شجرةً واحدة محدودة الظل والنطاق.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة: 37)

 شرح الكلمات:

أزلَّهما: أزله: أزلقَهُ؛ حمَله على الزلل. (الأقرب)

الزَّلة في الأصل استرسالُ الرِّجل مِن غير قصد… وقيل للذنب بغير قصدٍ زلّةٌ تشبيهًا بزلّة الرِجل. (المفردات)

أزلَّه: حمّله على الزلل. (اللسان)

الشيطان: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم).

عنها: “عَنْ” حرفُ جرٍّ، وله عشرة معانٍ منها التعليل نحو: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة (الأقرب والمغْني)، أي لم يستغفر لأبيه إلا بسببِ وعدٍ منه. وهذا هو معنى (عن) في قول الله تعالى أزلهما الشيطان عنها : أي حمَلهما على الزلّة بسببها، أي بسبب الشجرة.

اهبطوا: هبَطه من الجبل يهبُطُ هبطًا: أنزلَه. وهبط بلدًا: دخله. وهبَطَه بلدًا: أدخله، لازمٌ ومتعدٍّ. وهبطَ السوقَ: أتاها. وهبط فلان من الجبل يهبُط ويهبِط هبوطًا: نزل. وهبط الواديَ: نزله. وهبط من موضع إلى موضع آخر: انتقل (الأقرب).

فمعنى (اهبطوا منها): انتقلوا إلى من مكان إقامتكم هذا إلى مكان آخر؛ اخرجوا.

الأرض: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض).

مستقَرٌّ: استقرَّ بالمكان: ثبتَ… سَكَنَ. والمستقرّ: موضع الاستقرار (الأقرب).

متاع: كلُّ ما يُنتفع به من الحوائج كالطعام والبزِّ وأثاث البيت والأدوات والسلع. وقيل:… ما يُنتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها ما سوى الفضة والذهب، وعُرفًا: كلُّ ما يلبسه الناس ويبسطه. وفي “الكليات”: المتاع والمتعة: ما يُنتفع به انتفاعا قليلا غيرَ باق بل ينقضي عن قريب… وأصلُ المتاع ما يُتبلَّغ به من الزاد… ويأتي المتاعُ اسمًا بمعنى التمتيع (الأقرب).

حين: الحين وقتٌ مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر. وقيل: الدهر؛ المدّة (الأقرب).

التفسير:

يُحتمل أن يكون ضمير المؤنث (عنها) في قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا راجعًا إلى الجنة أو إلى الشجرة. فإذا كان راجعًا إلى الجنة، فالمعنى أن الشيطان أبعدَ آدم عن الجنة، أو أن حالةَ الجنة تغيرتْ بسبب خداع الشيطان، فصارت موضع أذى لهم. وأما إذا كان الضمير راجعًا إلى الشجرة فالمعنى أن الشيطان اتخذ الشجرة ذريعةً لخداع آدم وأزَلَّه من مكانه.

لقد بيّنّا لدى شرح الكلمات أن: أزَّلَه يعني جعَله ينزلق بدون إرادة منه، وعليه فالمعنى أن الشيطان أزلّ قدمَ آدم بواسطة الشجرة بدون عزم منه ، فكل ما حصل كان نتيجة خداع ومكر من الشيطان.

وقوله تعالى فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ يمكن أن يعني أن الشيطان أخرجهما مما كانا عليه من حالة الأمن والاطمئنان؛ أو من الجنة التي كانا فيها. ولكن المعنى الأول هو الأصح، لأنهما أُمرا بالخروج من الجنة بعد ذلك. ولو أخذنا بالمعنى الثاني فيعني قوله “فأخرجهما” أنه جعَلهما مستحقَّيْنِ للخروج من الجنة.

وقوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، أي اذهبوا فقد وقع العداء بينكم، ولا تظنوا أن هذا العداء سوف ينتهي هنا، بل سوف يستمر بينكم في المستقبل، ولسوف يسعى الشيطان لمثل هذا الهجوم عند مبعث كل نبي من عند الله تعالى.

وقوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ يعني: سوف تمكثون في هذه الأرض وتنتفعون من أسباب العيش فيها، فعليكم الحذر، إذ لا مفر لكم من العيش مع ذراري الشيطان. والمعنى الثاني أن هذه الحياة وسيلة للتزود للحياة الآخرة، فلا تتغافلوا عن هذا الهدف، بل خذوا بأسباب الحياة الآخرة.

لقد بين الله تعالى هنا أنه لا بد للمؤمن والكافر والصالح والطالح من العيش معًا في مكان واحد، لذا فعلى المؤمنين والصالحين ألا يألوا جهدًا في صدّ هجمات الشيطان عن أنفسهم وعن أولادهم. وهذا الأمر بالغ الأهمية لأن الغفلة عنه هي التي تؤدي إلى انقضاء عهد الحسنات. لأنه كلما ظن المؤمنون والصالحون أنهم بمأمن من هجمات الشيطان بدأ التدهور والانهيار، وأخذ الشيطان يغلبهم شيئًا فشيئًا. يا ليت أنه كان هناك قوم يجعلون هذا الأمر نصب أعينهم، فيحطّمون رأس الشيطان نهائيًا. من المؤسف أن الناس رغم صلاحهم يُفرِطون في حب أولادهم ويثقون بهم أكثرَ من اللازم، مما يوقع الأولاد في السيئات، فيسقط القوم من قمة الصلاح.

ويُستنتَجُ من هذه الآية أمرٌ رائعٌ آخر يفنّد عقيدة خاطئة عند المسلمين اليوم، وبيانه أن الله تعالى قد قضى هنا بأن آدم وذريته سيسكنون هذه الأرض مع الشيطان، ومن المحال أن يغادروها إلى مكان آخر فرارًا من هجمات الشيطان، ولكن المؤسف أن بعض المسلمين يزعمون أن ذرية الشيطان لما هجموا على عيسى أنقذه الله منهم برفعه إلى السماء. الحق أن هذا الاعتقاد يناقض هذه الآية صراحةً، لأن الله تعالى قد أعلن هنا بكل وضوح أنه لا بد لآدم وذريته أن يعيشوا في هذه الأرض، فكيف يمكن أن يُرفع المسيح الناصري إلى السماء؟ لو كان أحدٌ أحقَّ وأولى بالرفع إلى السماء لكان آدمَ الذي هو أول الأنبياء، أو محمدًا المصطفى سيدَ وُلْدِ آدم، ولكنهم يؤمنون بأن آدم عندما تعرَّض لهجوم الشيطان طُرح من السماء إلى الأرض، وبأن محمدًا اضطر للهجرة من مكة إلى المدينة. فما دام الله تعالى لم يبدّل سنّتَه المذكورة هذه مِن أجل هذين النبيين، فلماذا بدّلها من أجل عيسى ؟ ولماذا أبطل بنفسه قراره سبحانه وتعالى؟

أما وكيف تمكّنَ الشيطان من خداع آدم بسبب هذه الشجرة؟ فهذا سؤال هام، حيث يُقال: ما دام الله تعالى قد حذّر آدم من إبليس ومن الشجرة أيضًا، فكيف انطلى عليه خداع الشيطان؟

لقد سبق أن بيّنتُ أن سبب انخداع آدم هو أنه مما لا شك فيه أن الله تعالى كان قد أمره بأخذ الحذر من إبليس، إلا أن الهدف من ذلك أن يتجنب أتباعَ إبليس، لأن إبليس ليس إلا روحًا شريرة تحثّ على الشر، وما كان لها أن تأتي إلى آدم وتخدعه مباشرة، وإنما كان أتباعُ إبليس هم الذين سيحثّون الناس على الشر، ولكن أتباع إبليس هؤلاء يكونون أناسًا يصعب معرفتهم أحيانًا، إذ يندسّون بين صفوف المؤمنين متظاهرين بالإيمان، وهكذا يتمكنون من خداعهم لصعوبة معرفة ما إذا كانوا لا يزالون أتباعًا لإبليس أم أصبحوا بعد الإيمان من الناصحين. وهذه هي المكيدة التي لجأ إليها الشيطان المذكور هنا، حيث ذكر القرآنُ الكريم: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (الأعراف:22). وهذا يعني أنه انضمّ إلى آدم وصاحبِه متظاهرًا بترك عدائه لهما، ومؤكدًا إخلاصه ونصحه لهما. وكان انخداع آدم به في هذا الظرف واردًا تمامًا، إذ ظنّ أن هذا الشخص كان ظلًا لإبليس من قبل وكان تجنبه ضروريًا عندها، ولكنه الآن قد ترك العداء وانضم إلينا حتى يقسم لنا على أنه من أنصارنا المخلصين، فلا حرج من قبوله في صفوفنا. فخداع آدم بسبب هذا الاجتهاد ممكن تمامًا، لأن هذا ليس خلاف العقل. وقد وُجد مثل هؤلاء القوم في زمن الرسول أيضًا حيث قال الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المنافقون:2-5).

Share via
تابعونا على الفايس بوك