كيف نكون خير أمة أخرجت للناس
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إنَّ الله بِالْناسِ لَرَءوفٌ رَحيمٌ(144)

شرح الكلمات:

أمة وسطا-الشيء الوسط هو الذي يكون على حد الاعتدال وهو الأفضل، وكذلك القادة الكبار يكونون في وسط الجيش تحيط بهم الكتائب، وذلك لأن الشيء الأفضل والأغلى يحافَظ عليه. ومن هنا تكون كلمة الوسط بمعنى الأعلى والأفضل. والوسيط هو أشرف القوم. ولما لم تكن الأمة المحمدية في وسط الأمم زمنا، ولم تكن أدنى منها تعليما وشرعا، بل قال الله عنها (كنتم خير أمة أخرجت للناس)(آل عمران: 111)..أي أنكم خير الأمم التي خُلقت لفائدة الناس، ولذلك يكون معنى “الوسط” الأعلى والأكمل.

شهداء– الشهيد: الشاهد؛ الأمين في الشهادة؛ القتيل في سبيل الله؛ العالم الذي لا يغيب عن علمه شيء.ومن معاني شهد: عايَن (الأقرب).

كُنْتَ-كان تأتي بمعنى “وُجد” وبمعنى “صار”، ومن هنا تعني الآية: لم نعيِّن القبلة التي كنت عليها من قبل، أو التي تحولتَ إليها الآن وتثبَّتَّ عليها، فكأن أحد المعنيين يشير إلى القبلة التي كانت قبل التحويل، والمعنى الثاني يشير إلى القبلة التي كانت بعد التحويل.

لنعلَم– عَلم: أدرك وعرف. ومن أساليب اللغة العربية وضع السبب مكان المسبِّب أحيانا؛ أي يضعون الشيء الذي هو سبب لشيء آخر في مكان النتيجة، وأحيانا أخرى يعكسون أيضا. وهنا جاء السبب مكان المسبب، لأن نتيجة العلم هو التمييز ومعرفة الشيء أهو خير أم شر. ولما كان التمييز ينتج من العلم لذلك وضعوا العلم مكان التمييز؛ وذلك أيضا لبيان أن التمييز لا يقع إلا بالعلم (البحر المحيط تحت هذه الآية). وهناك أمثلة كثيرة لهذا الاستخدام في القرآن الكريم وكتب اللغة، فمثلا ترد كلمة “السماء “بمعنى “السحاب أيضا، لأن السحب تتكون بسبب الارتفاع وأشعة الشمس، ولما كانت السماء سببا لتولد السحب أطلقوها على السحب في بعض الأحيان.

فمعنى قوله تعالى (لنعلم) هو أننا فعلنا ذلك لتمييز الذين يتبعون الرسول من الذين يعرضون عنه.

اعتبرنا (لنعلم) بمعنى (لنميّز) لأنه إذا وردت كلمة “علم ” مع صلة “من” فتعني التمييز. وقد كتب أئمة اللغة أن العلم لا يتعدى بـ “مِن” إلا إذا أريد به التمييز لأن التمييز هو الذي يتعدى بِمِن (المرجع السابق).

ومن معاني العلمِ الإظهارُ والبيان، وهذا المعنى لا يوجد في القواميس العامة، ولكن الذين كتبوا القواميس للقرآن الكريم ذكروا هذه المعنى الذي يتأكد من القرآن الكريم نفسه. فقد جاء(قد علِمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) (الأحزاب: 51). ويمكن القول بصورة قطعية إن العلم هنا يعني الإظهار والبيان. إذ لا يقال “علمتُ ما قلتُ وما قمتُ به”، فمثلا لا يقال: إنني أعلم أنني بالأمس ذهبتُ إلى موضع كذا، ولو قال أحد هذا لضحك عليه السامعون واعتبروا قوله حمقا. ولو اعتبرنا معنى (قد علمنا ما فرضنا) أننا وصلنا إلى علم ما قد فرضناه، فلن يكون الكلام سليما، لأن العلم يتعلق بشيء آخر. فالمعنى أن ما فرضناه قد أظهرناه وبيَّناه. هذا، ولا يمكن أن تفسَّر العبارة بطريقة أخرى. ونفس الحال بالنسبة للآية الحالية (إلا لنعلم)أي لنظهر ونميز.

رءوف-الرأفة والرحمة معناهما واحد تقريبا، والفرق بينهما أن الرأفة خاصة والرحمة عامة. والرأفة تشير إلى دفع الشر، والرحمة تشمل دفع الشر وإيصال الخير. فالعاطفة التي تتولد لرؤية أذًى يصيب أحدا تتولد بسبب الرأفة، وكذلك بسبب الرحمة، ولكن الفرق أن الرحمة تتعلق بالإحسان أكثر، والرأفة تتعلق بدفع الشر أكثر.

التفسير:

هناك سؤال: إلام يشير قوله تعالى “كذلك”؟

قال الله قبل ذلك (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)… أي أن الله هو الذي يهدي، وقد هداكم بفضله، ولا يحق لأحد أن يعترض على ذلك؟ وكلمة (كذلك) تشير إلى هذا..أي كما أنه هداكم ووفقكم للسير على الصراط المستقيم كذلك أسدى إليكم معروفا آخر إذ جعلكم أمة وسطا.

وكما جاء في شرح الكلمات فإن الوسط يعني المتوسط، ولكن الأمة المحمدية ليست متوسطة.. لا من حيث الزمن ولا من حيث التعليم والشرع ولا الدرجة. إنها ليست أمة متوسطة زمنا لأنها لن يكون بعدها إلى يوم القيامة أي أمة أخرى، فهي يمكن أن تسمى الأمة الآخرة، لا الأمة المتوسطة. ثم إنها ليست بالأمة المتوسطة شرعا أيضا، لأنه بعد النبي لا يمكن أن يأتي شرع جديد. ثم إن القرآن آخر التعاليم، ومن هذه الناحية أيضا فهو ليس متوسطا..بل إن القرآن نفسه يقول (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة:4). ثم من حيث الدرجة والمكانة فليست هذه الأمة أمة متوسطة، لأنها أفضل الأمم وخيرها كما ورد (كنتم خير أمة أخرجت للناس)(آل عمران 111).

فلا تعني “أمة وسطا”أنها أمة متوسطة..لا زمنا، ولا شرعا، ولا تعليما، ولا مكانة..وإنما المعنى أنها من حيث الأعمال أمة ذات سلوك وسط..أي معتدل لا تميل إلى الإفراط ولا تجنح إلى التفريط، بل إن أعمالها تبقى معتدلة ككفتي الميزان، وليس هناك جانب من عملها منحرف عن حد الاعتدال. لذلك يعلم الإسلام أن يكون المسلم في جميع أعماله ذا سلوك وسطي، لا يميل إلى ناحية مهملا النواحي الأخرى. لو مال إلى ناحية وركز عليها فإن عواطفه الطبعية سوف تثور وتخرج عن حدودها. فمثلا لو أنه ترهَّب لكانت النتيجة الحتمية ألا يستطيع التحكم في عواطفه الشهوانية، فيترك طريق الحلال ويقع في الحرام. كذلك لو أنه فرّق كل أمواله على الناس ولم يُبق شيئا لحاجات أولاده وأهله ما سُدَّت حاجاتهم بهذا الفعل، فلا بد أن يضطر للتسول، وهذا في حد ذاته عمل غير مستحب، أو يلجأ إلى السرقة والخيانة..وبدلا من أن يرتقي في الخيرات يقع في الإثم. فالإسلام –باعتباره الأمة المحمدية أمة تتمسك بالاعتدال في كل أعمالها-سدّ في وجهها كل طرق الإثم. وقد أشير بقوله تعالى (أمة وسطا) إلى هذا التعليم الإسلامي الوسط مما يميزه عن سائر الأديان كلها. وهذا الأمر وحده يكفي ليثبت فضله على الأديان الأخرى.

قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس)أي فعلنا ذلك لتكونوا شاهدين على الأديان والأمم الأخرى. فكما أن شهادة الشهادة تثبت ما هو الحق، ولمن الحق..كذلك العاملون بتعاليم القرآن الذين يحدثون في أنفسهم تغيرات صالحة سوف يكونون بمثابة شاهدين على صدق القرآن للأمم الذين لم يعرفوا لذة صدق القرآن..أي أنهم بلسانهم وعملهم سوف يعلنون أنهم قد وجدوا دعاوى القرآن صادقة، وبرؤية حياتهم الطاهرة وما ينـزل عليهم من نصرة سماوية يدرك الناس أن الطريق الصحيح هو ما يسلكه هؤلاء.

ثم قال: كما أننا جعلنا المؤمنين العاملين بالقرآن شاهدين للأمم الأخرى على صدق القرآن، كذلك جعلنا رسول الله شاهدا على لهذه الجماعة المسلمة على صدق الإسلام.. بمعنى أنه برؤية معجزاته ونصرة الله له يتمكن صدق الإسلام بصورة كاملة في قلوب هؤلاء.

فمعنى الآية أننا فعلنا ذلك ليهتدي الناس برؤية هذه المعاملة الإلهية الإعجازية معكم، وبرؤية روحانيتكم وتقواكم. ومن ناحية أخرى يكون هذا الرسول شاهدا حيا على صدق الإسلام بالمعجزات العديدة والنصرة الإلهية النازلة عليه كالمطر. تكونون للدنيا شاهدين على صدق الإسلام، ويكون الرسول شاهدا أمامكم على ذلك.

ويمكن أن يعني قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) أن الرسول يعلمكم الإسلام وتقومون أنتم بتعليمه الناسَ باستمرار.

الحق أن الله تعالى قد بين في هذه الآية كيف تكونون أفضل الأمم.. وهي أن تكونوا شهداء على الناس، أي ألاّ تنقطع فيكم أبدا سلسلة التعليم والتربية، وأن تحاولوا دائما تقوية إيمان الناس. لذلك قال: جعلناكم أمة وسطا لتعلِّموا الناس وتكونوا رقباء عليهم، ومن واجب الرسول أن يعلمكم ويزيل ضعفكم وعيوبكم.

والحقيقة أنه كما يجتمع في جسم الإنسان بعد فترة بعض الفضلات الزائدة التي تظهر أحيانا في صورة إمساك وأحيانا في صورة إسهال، أو كما أن ماء المطر يتراكم على السقف ويفسده بسبب فساد أنابيب التصريف، كذلك تمامًا تتعرض الأمم في مختلف الأوقات إلى مثل هذه الأحوال. وكما أن الإنسان الحي لا يستطيع أن يؤدي كل أعماله بصحة عضو واحد من جسمه بل لا بد له من مراقبة سلامة أعضائه صباح مساء.. كذلك لا تنصلح أخلاق الأمم تلقائيًا، بل لا بد من مراقبتها مراقبة دائمة. والعجيب أن الشخص الفرد الذي لا تساوي حياته إزاء حياة شعب شيئا.. يرون من اللازم لحياته أن تراقَب احتياجاته صباح مساء، ولكنهم لا يهتمون بمراقبة حاله القوم. كل يوم، يفكرون ماذا يأكلون في الصباح، وماذا يطهون في المساء. في الحر ينامون في الخارج، وفي البرد ينامون في الداخل. يحسرون رؤوسهم في القيظ، ويغطونها عند البرودة. يجتنبون حرارة الشمس فيمشون في الظل، ويستترون تحت المظلة من المطر. يهتمون بكل هذه الأمور صباح مساء، بل إن الإنسان يفكر في حاجة جسمه بضع عشرة مرة في اليوم الواحد. فمرة يفكر في النوم، ومرة في الاستلقاء والراحة، وأحيانا في الرياضة والنـزهة، وأخرى في الاستحمام. ولكنه لا يفكر ولا يعتني بإصلاح الشعب، بل يظن أنهم سوف ينصلحون بأنفسهم. لو أن الشعب سار خطوة خاطئة..فبدلا من أن يلوم المرء نفسه ويعترف بأنه لم يؤد واجباته تجاه الشعب.. يظن أنه يكفيه التعبير عن سخطه على الشعب، ولا يحاول إصلاحهم بالعمل أبدًا. ولكن هذا الموقف ليس صحيحا. إن إصلاح الشعب يتطلب اهتماما أكثر من إصلاح الفرد، ويتطلب عناية من كل فرد في الشعب. لو أن كل فرد لم يولِ اهتماما بمسائل الشعب فلا بد أن تحدث التقصيرات والنقائص في بعد الأمور، سوف تتفاقم حتى لن تبقى إزالتها في يد الفرد بل في يد الشعب كله. ومما لا شك فيه أن الإسلام قد أقام الخلافة لاستمرار النظام وتوطيده، ولكن من الخطأ الظن أن واجب الخلافة أن تقوم بكل الأعمال وحدها.. مع أن هذا ليس واجب الخلافة وحدها، كما لا يمكن أن يقوم شخص واحد بإصلاح القوم بهذه الصورة. ما لم يكن عند كل فرد من الشعب روح وإحساس بالإصلاح القومي، وما لم يساهم كل فرد في إصلاح القوم لا يمكن أن تنجح عملية الإصلاح بصورة مرضية. إنني أرى لو أن المسلمين عملوا بهذا الأمر القرآني، واهتموا بتبليغ الهداية جيلا بعد جيل، وأدّوا واجب مراقبة حال الناس بصورة صحيحة.. لم يصبهم الدمار والهلاك أبدا. والآن من واجب جماعتنا أن يتذكروا هذا الدرس ويسعوا دائما لإصلاح الأجيال القادمة.

ينصح الله المسلمين هنا أن من واجبكم أنتم أن تنتفعوا من الفيوض الروحانية لمحمد ، فتكونوا هداة لأمم العالم، ومن ناحية أخرى فقد جعلنا محمدا رسول الله مراقِبا ومحافظا عليكم حتى إذا تطرق إليكم فساد بادر إلى إصلاحه.

الواقع أنه بقدر ما يكون الرسول أفضل بقدر ما يوهب من الله أمة أفضل. لو كان الرسول من الدرجة العليا وكانت أمته ناقصة لكان هناك خطر تبديد طاقته. لذا من المستحيل أن يبعث الله رسولا ولا يعطيه أمة بحسب قواه وطاقاته. لقد أُعطيَ موسى قوما بحسب قواه وطاقاته، وأُعطيَ محمد أمة بحسب قواه وطاقاته. والمثال الواضح لذلك هو أن أمة موسى –عليه السلام- قالت له في مناسبة حرجة جدا: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة: 25)، ولكن عندما استشار الرسول أمته في يوم بدر فقال أحد صحابته: (لا نقول لك كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك(البخاري، المغازي). وفي رواية: (لو استعرضْت بنا هذا البحر فخفضته لخضْناه معك) (السيرة النبوية لابن هشام، غزوة بدر)، وفي رواية: (لن يخلص إليك العدو ما لم يطأ جثثنا الهامدة)

والحق أن هذا الصحابي كان يتكلم بلسان أمة محمد كلها. لم يكن هذا الصوت صوته وحده، وإنما كان صوتا جماعيا، ويرتفع من لسانه نيابة عن كل الأمة.. مما أبرز روح الفدائية والتضحية عند الصحابة واضحة كالنهار. هذا الفرق بين أمة محمد وأمة موسى إنما كان لأن موسى كان محدود الزمن ومحدود القوم، وجاء لإزالة نقائص محدودة. أما الرسول ..فقد كانت بعثته للعالم كله، وكان عصره الروحاني ممتدًا إلى يوم القيامة، وكان عليه أن يزيل النقائص من الناس إلى يوم القيامة. فالجماعة التي وُهبت للرسول لم توهب لموسى، لذلك خاطب الله المسلمين: إننا جعلناكم أمة من الطراز الأول، لكي تكونوا شهداء على الناس رقباء عليهم، ويكون الرسول شهيدا عليكم.. أي أن تتم تربيتكم تحت رعاية هذا الرسول، ويتم إصلاح الدنيا تحت رقابتكم..لأن الشخص الواحد لا يمكن أن يبقى في الدنيا إلى الأبد.

وإنما جُعل المسلمون خير الأمم لأن كفاءة محمد اقتضت أن تكون أمته من الطراز الأول، وإلا لم تتحقق الغاية من بعثه. فكان من الضروري أن تكون الأمة المحمدية خير الأمم ليتشرّبوا تعليم الإسلام الأسمى فيصلحوا به العالم. ولو لم تتوافر فيهم هذه الكفاءات ما تحقق هدف إصلاح الخلق.

وفي هذه الآية أيضا دليل على بعث المأمورين في الأمة المحمدية. إذ يتضح منها أن هذه الأمة قد أقيمت لإيصال فيوض محمد المصطفى وبركاته إلى الناس دائما. ولما كان هناك خطر من أن يصبح المسلمون أنفسهم غافلين عن هذه الفريضة في زمن ما.. فقال إنه عندما تتوقف هذه الفيوض من الوصول إلى الناس بسبب سوء أعمال المسلمين، فإن محمدا سوف يأتي بنفسه إلى الدنيا شهيدا عليها. بمعنى أنه عندما لا تستطيع الأمة المحمدية مراقبة الآخرين وإصلاحهم، بل ستكون هي بحاجة إلى الإصلاح.. فإن هذا الرسول يأتي لإصلاحها. لذلك أخّر الله قوله (ويكون الرسول عليكم شهيدا)عن قوله (لتكونوا شهداء على الناس)، ولو كان هذا الذكر خاصا بزمن النبي لعكس الترتيب.. لأن النبي قام بتعليم الصحابة أولا، ثم علم الصحابة الآخرين. ولكن ترتيب الآية يبيّن بوضوح أن (شهادة الرسول) لا تتعلق بالبعثة الأولى للرسول وإنما المراد منها البعثات البروزية الأخرى له . والمعنى أنه عندما يتطرق الخلل إلى رقابة الأمة المحمدية على الآخرين، ولا يكون سلوكهم مثاليا.. يأتي رسول الله مرة أخرى شهيدا ورقيبا على العالم، وسوف يقوم بتربية المسلمين مرة أخرى ليكونوا أهلاً لتربية الآخرين.

كما يبين قوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس) أن المذكورين هنا ليسوا أولئك الذين كانوا في زمن الرسول وحدهم، وإنما المراد الجميع حتى يوم القيامة، وسوف يتحقق قول الله هذا وتبقى الأمة المحمدية شاهدة على العالم إلى آخر الدنيا.. كما يبقى الرسول شاهدا على الناس إلى يوم القيامة. ولما لم يكن الرسول ليعيش بجسده المادي إلى الأبد..لذلك فإن هذه الآية تشير إلى بعثته البروزية، وتبين أن هذه الأمة المحمدية قد أقيمت لإصلاح الآخرين، ولكن عندما يتطرق الفساد إليها نفسها..فلن يصلحها عندئذ رسول من الخارج، بل إن محمدا نفسه بطريقة بروزية سوف يقوم بإصلاح أمته، وسوف يستمر هذا الأمر هكذا إلى يوم القيامة.

وتشكل هذه الآية دليلا على كون الإسلام دينا عالميا، لأنه لو لم يكن كذلك ولم يكن ليبقى إلى يوم القيام لم يبعث الرسول لإصلاح الخلق بطريقة بروزية.

قوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه). كان النبي قبل التوجه إلى الكعبة يتجه إلى بيت القدس في صلواته، ولم يزل هكذا طيلة حياته المكية لثلاثة عشر عاما وبضعة عشر شهرًا بعد الهجرة إلى المدينة. وأخيرا..بينما كان يصلي بالناس في مسجد بني سلمة نزل عليه الوحي في شأن تحويل القبلة. فحول وجهه وهو في حالة الصلاة نحو بيت الله الحرام، واتجه الصحابة معه من اتجاه بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة.

وقد قال البعض إن النبي وهو في مكة المكرمة كان يتجه إلى الكعبة في صلواته، ولكنه عندما قدم إلى المدينة توجه في صلاته إلى بيت المقدس (البحر المحيط، قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها)…وهذا غير صحيح.

لقد استغل المؤرخون المسيحيون هذه الفكرة واعترضوا بناء عليها أن محمدا كان يريد إرضاء اليهود بالاتجاه إلى بيت المقدس، ولما لم يفُز برضاهم اتجه مرة أخرى إلى الكعبة. كتب المستشرقان ويري وسيل أن محمدا عندما جاء إلى المدينة توجه إلى بيت المقدس لإرضاء اليهود كي يؤمنوا به، ولكنه عندما لم ينجح في مكيدته هذه قال تعالوا نتجه إلى قبلة آبائنا الأصلية مرة أخرى (تفسير القرآن لويري تحت هذه الآية)، ولكننا عندما ننظر إلى الأحداث التاريخية يتأكد خطأ هذه الفكرة. فمن الثابت تاريخيا أن النبي كان مأمورا بالتوجه إلى البيت المقدس في صلاته عندما كان في مكة، وطبقا لهذا الأمر الإلهي كان يتجه إلى بيت المقدس قبل هجرته أيضا، وليس بعد هجرته إلى المدينة إرضاء لليهود كما يقولون. لم يكن في مكة أي يهودي ليرضيه النبي، وإنما كان يحيط به المشركون من كل النواحي. نعم هناك روايات تذكر أنه كان – وهو في مكة- يقف للصلاة في موضع بحيث يتجه منه إلى الكعبة المشرّفة وبيت المقدس معا، ولكنه عندما هاجر إلي المدينة لم يكن ذلك ممكنا، لأن أورشليم تقع إلى الشمال من المدينة في حين تقع مكة إلى الجنوب منها. وعندئذ أمره الله تعالى أن يبقى متجها إلى بيت المقدس. وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أن رسول الله كان مأمورا باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين..فتكون الكعبة بين يديه وهو مستقبل صخرة بيت المقدس. فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس (تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية).

وهذا يبين أنه عندما كان في مكة يرى أن بيت المقدس هو القبلة الأصلية، إلا أنه كان يتجه إليه بحيث تكون الكعبة أمامه، ولكن هذا كان يمثل فائدة ضمنية، والهدف الحقيقي هو التوجه إلى بيت المقدس. ولكن عند وصوله إلى المدنية تغير الوضع الجغرافي واستحال عليه التوجه إلى بيت المقدس والكعبة في وقت واحد. فعندئذ اتجه إلى بيت المقدس فقط.

فليس صحيحا أنه عندما جاء إلى المدينة أمره الله تعالى أن يتجه إلى بيت المقدس بعد أن كان مأمورا أن يتجه إلى الكعبة في البداية.. لأن مثل هذا الأمر ليس ثابتا. وإذ استنتج أحد من توجه النبي إلى بيت المقدس وبيت الله الحرام معا وهو في مكة أن هذا يعني أن الكعبة كانت هي القبلة الأصلية عنده، فاستدلاله ليس صحيحا. إنه كان يعتبر بيت المقدس قبلته الحقيقية، ولكنه كان يتجه إليه بحيث يكون بيت الله أمامه أيضا.

ومن الخطأ أيضا ما اعترض به المستشرق (سيل) بأن النبي كان في مكة يتجه إلى حيث يشاء.

ومما يبطل اعتراضهم الأول أن النبي عندما اتجه نحو الكعبة في الصلاة تعرض لاستهزاء اليهود إذ قالوا للمشركين: اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم (البحر المحيط، تحت هذه الآية). وتؤكد هذه الرواية بكل وضوح أن النبي كان يتجه في صلواته إلى بيت المقدس وهو في مكة، ولو أنه كان يتجه إلى الكعبة عندئذ لم يعترض عليه اليهود قائلين إنه يرجع شيئا فشيئا إلى دين أهل مكة… وإنما يصح اعتراضهم فقط إذا كان يتوجه من قبل إلى بيت المقدس لا إلى بيت الله الحرام.

وعلاوة على ذلك يجب النظر فيما إذا كان في هذا التغيير بالفعل مصلحة شخصية. يقول المعترضون إن هذا التغيير كان لإرضاء اليهود أولا ثم لإرضاء أهل مكة. ولكن القرآن يقول إن هذا التغيير كان ابتلاء كبيرا للناس. لم يكن أمرا عاديا أن يأمر الله في مكة أن يتجه أهلها إلى بيت المقدس، ثم في المدينة –حيث كان لليهود والنصارى نفوذ، وكان المشركون أيضا متأثرين بهم – يأمر الله تعالى أن يتجهوا إلى بيت الله في مكة. ولو كان أمرا عاديا لم يقل الله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) فهذه الآية تؤكد أن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس كان ابتلاء كبيرا. وهذا هو الحق. فنظرا لما يكنّه أهل مكة من تعظيم للكعبة المشرفة.. حتى أنهم كانوا لا يتعرضون لقاتل يلوذ بها.. يمكن تفهُّم ما كان في الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من ابتلاء كبير لهؤلاء. وكان هناك ابتلاء ثانٍ كبير في المدينة حيث كان لليهود نفوذ كبير.. عندما صدر الأمر الإلهي بالتوجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس. لذلك يعتبر القرآن الأمرين ابتلاء. فقال عن الأمر الأول بتحويل القبلة (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)، وقال عن الأمر الثاني بتحويل القبلة (سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها…). يتبين من ذلك أن في كلا الحادثين ابتلاء كبيرًا، وفتنة عظيمة، وكان الهدف المقصود من ذلك هو إيقاف الناس على جوهر الدين ومغزاه. ولو كان رأي المعترضين القائل بأن تحويل القبلة كان بـهدف إرضاء أهل مكة لقال تعالى: إننا نأمركم بتحويل القبلة ليرضى الناس عنكم ويميلوا إلى الإسلام أكثر، ولكن الله تعالى يقول إن الناس وسوف يعترضون عليكم بنزول هذا الأمر، وسيسبب عثارًا لهم.

بالفعل كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس في مكة ابتلاء ثقيلا على المسلمين من أهل مكة.. لأن هؤلاء كانوا يرون منذ القرون أن بيت الله معبد مقدس، ولم يكن في قلوبهم تعظيم لبيت المقدس إزاء الكعبة. ولما كان لليهود نفوذ عظيم في المدينة..كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ابتلاء شديدا لليهود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام..لأن بيت المقدس كان مقاما مقدسا لديهم. والثابت من التاريخ أن عديدا من الناس وقعوا في الابتلاء وارتدوا بسبب هذا الأمر.

فلم يكن هذا التغيير لإرضاء أحد، بل كان فيه اختيار وامتحان لإيمان الناس. ولو كان الغرض إرضاء الناس لكان الطريق الأسلم لذلك أن يأمر الله النبي بالتوجه إلى الكعبة المشرفة من بادئ الأمر وهو في مكة ليرضى عنه أهل مكة، وبالتوجه إلى بيت المقدس كقبلة عندما كان في المدينة ليرضى عنه أهلها من اليهود. ولكن الأمر جرى على العكس من ذلك تماما. ففي مكة توجه إلى بيت المقدس، أما في المدينة فبعد مدة وجيزة توجه إلى الكعبة المشرفة. فكان هذا التغيير ابتلاء شديدا لأهل هاتين المدينتين حتى ارتد عدد منهم (التفسير الكبير للرازي، تفسير جامع البيان، تحت هذه الآية).

وإلى ذلك يشير قول الله تعالى (وإن كانت لكبيرة) أي أن حادث تحويل القبلة ثقيل الوقع على الناس إلا الذين هداهم الله.. لأن الإنسان إذا كان على صلة عميقة بشيء.. لا يستطيع تركه بسهولة، اللهم إلا إذا كان قد تداركته هداية الله وكان عازما على طاعة الله في كل حال، وعندئذ لن يكون الأمر صعبا، ولن يتعثر في أي ابتلاء. منذا الذي يرفض وجود الشمس والقمر بعد رؤيتهما؟ نعم يمكن أن تنشأ في النفوس أسئلة منطقية عما يؤمنون به، ولكن الذين متعهم الله بنعمة الإيمان واليقين فلا يسبب لهم أي ابتلاء نكسة.

أما قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) فمعناه: مما لا شك فيه أن هذا كان ابتلاء شديدا صار حجر عثرة لبعض الناس، ولكن الله تعالى لم يكن ليحرمكم من الوعود والبركات المنوطة بأهل هذه القبلة.. ما دمتم قد آمنتم بهذا الرسول إيمانا صادقا. ولا تعني هذه الفقرة أن الله لن يضيع إيمان أولئك الذين توفوا قبل حادث تحويل القبلة، ولن ينقص من نعمهم ودراجاتهم الأخروية، كما كتب بعض المفسرين..وإنما معناها الحقيقي أنه لو لم يُعين الكعبة بيت الله قبلة لم تتضح للعالم عظمة نبأ إبراهيم، وما كان الله تعالى ليترككم بدون أن ينشئ صلة أبدية بينكم وبين الكعبة ما دمتم قد صدقتم بما هو مصداق للدعاء الإبراهيمي.

وقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يشير أيضا إلى أن الابتلاء لا يراد به إضاعة الإيمان، فإنما يأتي الابتلاء لإبراز إيمان الصادقين وكشف زيف الكاذبين في إيمانهم، ولتظهر به الحكم وراء أوامر الله تعالى، فيزداد العلم ويترقى..كما حصل عند تحويل القبلة. فارتقى المؤمنون علما وازدادوا عددا. ومن ناحية ظهر على الناس قوةُ وعظمة إيمانهم، ومن ناحية أخرى أدركوا بأنفسهم الحكمة من الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس أولا وإلى بيت الله ثانيا.

عندما قال الله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها …) كان من الممكن أن تحوم هناك شبهة أن الابتلاءات تنطوي على نوع من الظلم الذي يضيع الإيمان، ولدحض هذه الشبهة قال الله إن الابتلاءات لا تضيع إيمان المؤمنين، وإنما يضيع بها الزائفين فيه..وإلا لا يمكن أبدا أن يكون أحد مؤمنا صادقا ومع ذلك يتعثر. إنما فقط من لا يكون إيمانه صحيحا.

ويثير المستشرق (ويري) بهذه المناسبة اعتراضا ويقول: عندما وقع الناس في الابتلاء وتعثروا قال محمد إن هذا كان اختيارا (تفسير القرآن لويري تحت هذه الآية). الحقيقة الواقعة أن هذه الآيات نزلت قبل نزول الأمر بتحويل القبلة، وما دام الأمر بتحويل القبلة لم ينـزل بعد فكيف يحدث الابتلاء؟ وإلى ذلك تشير عبارة (سيقول السفهاء). فاعتراض (ويري) في الحقيقة نابع عن تعصبه لا غير.

ونعرف من هذه الآية أيضا أنه ليس في القرآن أي حكم منسوخ، لأن الله تعالى يعلن بكل جلاء ووضوح (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) ويتبين من كلمة “جعلنا”بوضوح أنه كان هناك أمر خاص نزل لتوجيه الرسول إلى بيت المقدس في صلاته، ولم يكن يتجه إليه بمحض اجتهاده وموافقا أهل الكاب في التوجه إلى بيت المقدس حين الصلاة. فإذا كانت بعض الأحكام القرآنية تنسخ كما يقول المفسرون..لوجب أن توجد في القرآن تلك الآية التي أمرت الرسول بالاتجاه إلى بيت المقدس.. والذي يشير إليه (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها). ولكن ليس هناك آية كهذه في القرآن. فلا بد إذن من التسليم بأنه لو كان هناك جزء من القرآن لينسخ فما كان هذا الجزء ليوضع في القرآن. ولكن الحقيقة الأصلية هي أنه لم يكن هناك شيء من القرآن ينسخ أبدا. وما كان سينسخ لم يكن ينـزل في الوحي القرآني. كانت بيت المقدس قبلةً مؤقتة، وكانت الكعبة المشرّفة لتكون القبلة الدائمة..لذلك نزل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس في وحي غير قرآني ونسخ فيما بعد. ويتبين من ذلك بجلاء أن جميع الأوامر والأحكام التي كانت ستنسخ لم تنـزل في القرآن الكريم، ولو كانت هذه الأحكام موجودة في البداية في القرآن ثم نُسخت لكان من الضروري أن تكون موجودة في القرآن بشكلها الأصلي في موضع منه.. ولكن عدم وجودها في القرآن يدل على أن الوحي المقرّر نسخه كان ينـزل خارج القرآن الكريم..كما هو الحال بالنسبة للأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس. فهذا الأمر ليس موجودا في القرآن الكريم في أي مكان.. ومع ذلك فإن نسخ هذا الأمر يدل على أن الرسول قد أوحي إليه وحي في هذا الشأن، ولكن الله تعالى كان يعرف أن هذا الأمر سوف يُنسخ، لذلك لم يضمه إلى الوحي القرآني. إذن فكان النبي يتلقّى نوعين من الوحي: الوحي القرآني والوحي غير القرآني. الوحي القرآني كان أسمى من أن يأتي عليه النسخ، ولكن الوحي غير القرآني كان يمكن أن يُنسخ كما هو الحال في الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس.

Share via
تابعونا على الفايس بوك