معجزة علوم القرآن

معجزة علوم القرآن

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (19)

بقلم : مصطفى ثابت[1]

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

ذكرنا في العدد الماضي كيف أن الله تعالى بخالص فضله قد أصلح عيب الإمام المهدي في ليلة واحدة تحقيقا لما كان رسول الله قد أخبر به في حديث له يقول فيه: “يصلحه الله في ليلة”. وقد ذكرنا أن ذلك العيب كان هو عدم القدرة على الكتابة باللغة العربية، الأمر الذي جعل العلماء المعاصرين لسيدنا أحمد يعيرونه ويسخرون منه ويتعالون عليه بمواهبهم الأدبية. فلما علّمه الله تعالى أربعين ألفا من مصادر اللغة وجذورها في ليلة واحدة، استطاع أن يتفوق حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

لم يكن الأمر مجرد التفوق في البلاغة والبيان، ولكن الأهم هو الإحاطة بعلوم القرآن، والتفاضل في الخبرة بدروب الحكمة ومسالك العرفان، فإن التفسير الصحيح للقرآن أمر لا يعطيه الله تعالى إلاّ لمن زكّى نفسه وطهرها وكان من الصادقين المطهرين، فقد قال تعالى عن القرآن الكريم إنه في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. ولذلك تحدّى سيدنا أحمد جميع المخالفين والمعارضين، من الأدباء والعلماء والمولويين، أن يكتبوا تفسيرا لسورة الفاتحة، وهي سبع آيات، في سبعين يوما. وذكر سيدنا أحمد أن العلماء يستطيعون أن يساعدوا بعضهم البعض في هذا المجال، ولهم أن يستعينوا بالعلماء والأدباء العرب إذا شاءوا، ولكنه أكّد على أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بتفسير مثل تفسيره بأية حال، وأنهم سوف ينهزمون جميعا في هذا النضال.

ولكن الباطل لا يريد أن يستسلم بسهولة، وإذا بواحد من أولئك المغرورين الذين يريدون أن يظهروا أمام العامة كأنهم أدباء وفضلاء، وهم ليسوا سوى جهلاء وخبثاء، واسمه المولوي مهر علي، ذهب إلى مدينة لاهور التي تبعد حوالي سبعين ميلا (115 كيلومتر) من قاديان، وأشاع أنه يقبل التحدي، ولكنه اشترط شرطا غريبا، وهو أن يتباحثا أولا قبل كتابة التفسير، ثم يحكم على المباحثة واحد من العلماء الذي كان من أشد أعداء سيدنا أحمد . وطبعا كان يعلم أن سيدنا أحمد لن يقبل هذه الشروط، فيشيع بين الناس أنه هرب من المواجهة.

وكتب سيدنا أحمد تفسيرا رائعا لسورة الفاتحة، سمّاه: “إعجاز المسيح”، ليكون المعجزة التي تقف دائما شاهدة على فضل الله عليه، وعلى أنه فعلا من عند الله تبارك وتعالى، الذي علّمه وأدّبه وآتاه العلم والحكمة. وكتب في مقدمته هذا التحدّي الذي وجّهه إلى المولوي مهر علي وغيره من العلماء، ولنقتطف بعض ما كتبه سيدنا أحمد بنفسه في هذا الشأن:

“فحاصل القول.. إن البيان والمعارف من معجزاتي، وإن مرهفاتي آياتي وكلماتي. وكنت دعوت بعض أعدائي لإراءة هذه المعجزة، لعل الله يشرح صدورهم أو يجعل لهم نصيبًا من نور المعرفة. فقلت إن كنتم تنكرون بإعجازي، وتصولون عليّ كالغازي، وتظنون أنكم أُعطيتم علم القرآن، وبلاغة سحبان، فتعالوا ندع شهداءنا وشهداءكم، وعلماءنا وعلماءكم، ثم نقعد مقابلين، ونكتب تفسير سورة مرتجلين، منفردين غير مستعينين. فما كان أحدٌ منهم أن يقبل الشرط المعروض، ويتبع الأمر المفروض، ويقعد بحذائي، ويُملي التفسير كإملائي. بل جعلوا يكيدون ليطفئوا النور، ويُكذبوا المأمور.

وكان أحدٌ منهم يُقال له مهر عليّ، وكان يزعم أصحابه أنه الشيخ الكامل والولي الجليّ. فلمّا دعوته بهذه الدعوة، بعدما ادّعى أنه يعلم القرآن وأنه من أهل المعرفة، أبى من أن يكتب تفسيرا بحذاء تفسيري، وكان غبيّا ولو كان كالهمذاني أو الحريري، فما كان في وسعه أن يكتب كمثل تحريري. ومع ذلك كان يخاف الناسَ، وكان يعلم أنه إن تخلّف فلا غلبة ولا حجاسَ، فكاد كيدًا وقال إني سوف أكتب التفسير كما أشير، ولكن بشرط أن تُباحثني قبله بنصوص الأحاديث والقرآن، ويُحَكّمُ من كان لك عدوًّا وأشد بُغضًا من علماء الزمان. فإن صدّقني وكذّبك بعد سماع البيان، فعليك أن تُبايعني بصدق الجنان، ثم نكتب التفسير ولا نعتذر ونترك الأقاويل، وإنّا قبلنا شرطك وما زدنا إلاّ القليل. هذا ما كتب إليّ وطبعه وأشاع بين الأقوام، واشتهر أنه قبل الشرائط وما كان هذا إلاّ كيدا لإغلاط العوام.

ولمـّا جاءني مكتوبه المطبوع، وكيده المصنوع، قلت إنّا لله ولعنتُ ما أشاع، وتأسّفتُ على وقت ضاع. ثم إنه استعمل كيدًا آخر، ورحل من مكانه وسافر، ووصل لاهور، وأثار النقع كالثور، وأرجفت الألسنة أنه ما جاء إلاّ ليكتب التفسير في الفور. فلمّا رأيت أنهم حسبوا الدودة ثعبانا، والشوكة بستانا، قلت في نفسي أن نذهب إلى لاهور فأي حرجٍ فيه، لعل الله يفتح بيننا ويسمع الناس ما يخرج من فينا وفيه. فشاورتُ صحبتي في الأمر، وكشفتُ عندهم عن هذا السر، واستطلعتُ ما عندهم من الرأي، وسردتُ لهم القصة من المبادي إلى الغاي، فقالوا لا نرى أن تذهب إلى لاهور، وإن هو إلاّ محل الفتن والجور. وقد تبيّن أنه ما قبل الشروط، وأرى الضمور والمقوط، وتشحّط بدمه وما رأى سبيل الخلاص إلاّ الشحوط، وهمط وغمط، وما ذبح كبش نفسه وما سمط وما قمط. وإنّا سمعنا أنه ما جاء بصحة النيّة، وليس فيه رائحة من صدق الطوية، هذا ما رأينا والأمر إليك، والحق ما أراك الله وما رأيت بعينيك.

وكذلك كانت جماعتي يمعنونني ويردعونني، ويُصرّون عليّ ويكفّونني، حتى تلوّيت عما نويتُ، وحُبّب إليّ رأيهم فقبلتُ وما أبيتُ، وتركتُ ما أردتُ، وطويتُ الكشح عمّا قصدتُ. ثم طفق المخالفون يمدحونه على فتح الميدان، ويطيرونه من غير جناح العرفان، وكانوا يكذبون ولا يستحيون، ويتصلّفون ولا يتقون، ويفترون ولا ينتهون، وينسبون إليه بحار محامد ما استحقها، وأبكار معارف ما استرقها. وكانوا يسبّونني كما هي عادة السفهاء، ويذكرونني بأقبح الذكر وبالاستهزاء. ويقولون إن هذا الرجل هاب شيخنا وخاف، وأكله الرعب فما حضر المصاف، وما تخلّف إلاّ لخطب خشَّى وخوف غَشَّى، ولو بارز لكلمه الشيخ بأبلغ الكلمات، وشَبَّح رأسه بكلام هو كالصَفات في الصِفات. وكذلك كانوا يهذرون، ويستهزءون بي ويسبّون.

ووالله لا أحسب نفسي إلاّ كميْتٍ تُرِّبَ، أو كبيتٍ خُرِّبَ، والناس يحسبونني شيئًا ولستُ بشيء، وما أنا إلاّ لربي كفَيء. وما كان لي أن أبارز وأدعو العدا، ولكن الله أخرجني لهذا الوغى، وما رميتُ إذ رميتُ ولكن الله رمى. ولي حِبٌّ قدير وإعانته تكفيني، ومتُّ فظهر الحِبُّ بعد تجهيزي وتكفيني، ووهب لي بعد موتي كلامًا كالرياض، وقولاً أصفى من ماء يسيح في الرضراض، وحجة بالغة تلدغ الباطل كالنضناض، وكلها من ربي وما أنا إلاّ خاوي الوفاض، وأُمرتُ أن أنفق هذه الأموال على الأوفاض، وأن أرُمَّ جدران الإسلام قبل الانقضاض. ومن بارزني فقد بارز الله رب العالمين، وما جئتُ إلاّ بزي المساكين، وما أجيز حزنا من حولي، ولا بطنًا من جولي، بل معي قادر يواري عيانه، ويُري برهانه. فلأجل ذلك تحامت العدا عن طريقي، وقطّعت النحور والأعناق من منجنيقي، وما لأحد بمقاومتي يدان، ويدي هذه تعمل تحت يد الله الرحمان. نزلت عليّ بركات هي حرز للصالحين، فجمعتُ بها لنفسي التحصين والتحسين.

ومن نوادر ما أُعْطى لي من الكرامات، أن كلامي هذا قد جُعل من المعجزات، فلو جَهّز سلطانٌ عسكرًا من العلماء، ليبارزوني في تفسير القرآن، ومُلح الإنشاء، فوالله إني أرجو من حضرة الكبرياء، أن يكون لي غلبة وفتحٌ مبينٌ على الأعداء. ولذلك بثثتُ الكتب وأشعتُ الصحف النخب في الأقطار، وحثثتُ على هذه المصارعة كل من يزعم نفسه من أبطال هذا المضمار، وما كان لأحد من علماء هذه الديار، أن يُبارزني فيما دعوتهم بإذن الله القهّار….

وما حملني على ذلك إلاّ قصد إفشاء كذب هذا المكّار، فإنه مكر مكرًا كُبَّارًا وأظهر كأنه من العلماء الكبار، وادّعى أنه يعلم القرآن، وفاق الأقران، وحان أن يَغلب ويُعان. والغرض من تفسيري هذا تفريق الظلام والضياء، وإراءة تضوّع المسك بحذاء جيفة البيداء، وإظهار خدع الخادع ومواساة الرجال والنساء، والإشفاق على العُمي ومُتّبعي الأهواء، وقضاءُ خطبٍ كان كحق واجب ودَيْن لازم لا يسقط بدون الأداء. فهذا هو الأمر الداعي إلى هذه الدعوة، مع قلّة الفرصة، ليكون تفسير الفرقان فرقانا بين أهل الهدَى وأهل الضلالة. ولولا التصلّف وتطاول اللسان، وإظهار شجاعة الجنان من هذا الجبان، لمررتُ بلَغوِه مرور الكرام، وما جعلته غرض السهام، ولكنه هتك ستره بيديه، فكان منه ما وَرَدَ عليه….

ولا يخفى أن القادر على تفسير القرآن، يفرح كل الفرح عند السؤال عن بعض معارف الفرقان، فإنه يعلم أن وقت إشراق كوكبه جاء، وحان أن يُعرَف ويُخزي الأعداء، فلا يحزن ولا يغتمّ إذا دُعِي لمقابلة، ونودي لمناضلة، بل يزيد مسرّة ويحسبها لنفسه كبشارة، أو كتفاؤل لإمارة. فإن العالم الفاضل لا يُقَدّرُ حق قدره، إلاّ بعد رؤية أنوار بدره، ولا يخضع له الأعناق بالكلية، إلا بعد ظهور جواهره المخفية.

وإنّا اخترنا الفاتحة لهذا الامتحان، فإنها أمّ الكتاب ومفتاح الفرقان، ومنبع اللؤلؤ والمرجان، وكوكنة لطير العرفان. وليكتب كلٌّ منّا تفسيرها بعبارة تكون من البلاغة في أقصاها، وتُنير القلب وتُضاهي الشمس في بعض معناها، ليرى الناس من اقتعد منّا غارب الفصاحة، وامتطى مطايا الملاحة. ولِيُعرَفَ أريبٌ حداه العقلُ إلى هذا الأرب، ويُعلَمَ أديبٌ ساقه الفهم إلى رياض العرب. وليُضمِرُ كلّ منّا لهذا المراد، كل ما عنده من الجياد، ويفري كل طريق من الوهاد والنجاد، بزاد اليراع والمداد، ليشاهد الناس مَنْ تُداركه العناية الإلهية، وأخذ بيده اليد الصمدية. ومن كان يزعم نفسه أنه هو العالم الربّاني، فليس عليه بعزيز أن يكتب تفسير السبع المثاني، مع رعاية مُلح الأدب وشوارد المعاني. ثم إني أرخيتُ له الزمام كل الإرخاء، ووسّعتُ له الكلامَ لتسهيل الإنشاء، وكتبتُ من قبلُ في صحيفة أشعتُها، ونميقة إليه دفعتها، أن ذلك الرجل الغُمُرَ، إن لم يستطع أن يتولى بنفسه هذا الأمر، فله أن يُشرك به من العلماء الزُّمُر، أو يدعو من العرب طائفة الأدباء، أو يطلب من صلحاء قومه همّة ودعاء لهذه اللأواء. وما قلتُ هذا القول إلاّ ليعلم الناس أنهم كلهم جاهلون، ولا يستطيع أحدٌ منهم أن يكتب كمثل هذا ولا يقدرون…..

ثم من المـُسَلّم أن الله يُربي عقول الصالحين، ويُسعدهم بالهداية إلى طرق الروحانيين، ويُذكّرهم إذا ما ذهلوا معارف كلام الله القدّوس، ويُنـزل السكينة عند الزلزال على النفوس، ويؤيّدهم بروحٍ منه، ويُعضد بالإعانة على الإبانة، ويتولى أمورهم ويُميّزهم بالحصاة والرزانة، ويصرفهم من السفاهة، ويَعصمهم من الغواية، ويحفظهم في الرواية والدراية. فلا يقفون موقف مندمة، ولا يرون يوم تندّم ومنقصة، ولا تغرب أنوارهم، ولا تخرب دارهم. منابعهم لا تغور، وصنائعهم لا تبور، ويُؤَيّدُون في كل موطن ويُنصرون، ويُرزَقون من كل معرفة ومن كل جهل يُبعدون. ولا يموتون حتى تُكَمّل نفوسهم فإذا كُمّلت فإلى ربهم يُرجعون، فإن الله نورٌ فيميل إلى النور، وعادته البَدور إلى المبدور.

ولمـّا كانت هذه عادة الله بأوليائه، وسُنّته بعباده المنقطعين وأصفيائه، لزم أن لا يرى عبده المقبول وجه ذلّة، ولا يُنسب إلى ضعفٍ وعلّة، عند مقابلةٍ من أهل ملّة، ويفوق الكل عند تفسير القرآن بأنواع علم ومعرفة. وقد قيل إن الوليّ يخرج من القرآن والقرآن يخرج من الوليّ، وإنّ خفايا القرآن لا يظهر إلاّ على الذي ظهر من يَدَيِ العليم العليّ.

فإن كان رجلٌ مَلَكَ وحده هذا الفهمَ الممتاز، فمثله كمثل رجل أخرج الرُكاز، وما بذل الجهد وما رأى الارتماز، فهو وليّ الله وشأنه أعظم وذيله أرفع من همز الهمّاز، ولمز اللمّاز، وما أُعطَى هذا الوليّ الفاني من معارف القرآن كالجَهَاز، فهو معجزة بل هو أكبر من كل نوع الإعجاز. وأيّ معجزة أعظم من إعجازٍ قد وقع ظل القرآن، وشابه كلام الله في كونه أبعد من طاقة الإنسان؟ وليس هذا الموطن إلاّ للمتّقين، ولا تُفتح هذه الأبواب إلاّ للصالحين، ولا يمسّه إلاّ الذي كان من المـُطَهّرين، وإن الله لا يهدي كيد الخائنين….

ومن لم يعلم القرآن وما أوتي البيان، فهو شيطان أو يُضاهي الشيطان، وما عرف الرحمان. وما كان لفاسق أن يبلغ هذه المنية العليّة، ولو شحذ إليها النفس الدنيّة. بل هو يختار طريق الفرار، خوفا من هتك الأسرار، وظهور العثار. وكذلك فَعَلَ هذا الرجل الكائد، والْمُزَوّرُ الصائد، فانظروا كيف زوّر، وأرى التهوّر، وقال لبّيْتُ الدعوة وما لبّى، وقال عبّيتُ العسكر للخصام وما عبّى. وما بارز بل خدع وخبّ، وإلى جُحرهِ أبّ، وتراءى مَخيفا ضعيفا، وكان يُري نفسه رجلاً ببّا، وأخلد إلى الأرض وشابه الضبّ، وما صعد وما ثبّ، وجمع الأوباش وما دعا الربّ، وحقّرني وشتم وسبّ، وتبع الحيَل وما صافى الله وما أحبّ، وما قطع له العُلَق وما جبّ، وقال إني عالم والآن نجم علمه أزبّ، وكلّ ما دبّر تبّ.

وإن كان عالمـًا فأي حرج على عالم أن يُفسّر سورة من سور القرآن، ويكتب تفسيره في لسان الفرقان، بل يُحمد لهذا ويُثنى عليه بصدق الجنان، ويُعلَم أنه من رجال الفضل والعلم والبيان، ويُشكر بما ينفع الناس من معارفٍ عُلّم من الرحمان. فلذلك أقول إنه من كان يدّعي ذُرَى المكان المنيع، فليبذل الآن جهد المستطيع، ويُثَبّت نفسه كالضليع. ولا شكّ أن إظهار الكمال من سيرة الرجال، وعادة الأبطال، لينتفع به الناس وليُخرَجَ به مسكينٌ من سجن الضلال. ولا يرضى الكامل بأن يعيش كمجهول لا يُعرف، ونكرة لا تُعَرّف. وإن الفُضُل لا تتبيّن إلاّ بالبيان، ولا يُعرف الشمس إلاّ بالطلوع على البلدان.

وإني ألزمتُ نفسي أن أكتب تفسيري هذا في إثبات ما أُرسِلتُ به من الحضرة، وأن أفتح هذه الأبواب بمفاتيح الفاتحة، مع لطائف البيان ورعاية المـُلَح الأدبية، والتزام الفصاحة العربية. ومن المعلوم أن نمق الدقائق الدينية، والرموز العلميّة، والإيماضات والإشارات، مع توشيح العبارات، وترصيع الاستعارات، والتزام محاسن الكنايات، وحسن البيان ولطائف الإيماءات، أمرٌ قد عُدّ من المعضلات، وخطبٌ حُسبَ من المشكلات، وما جمع هذين الضدّين إلاّ كتاب الله مظهر الآيات البينات، وماحي الأباطيل والجهلات. وإنّ الشعراء لا يملكون أعنّة هذه الجياد، فتنتشر كلماتهم انتشار الجراد، ولكني سألتُ الله فأعطاني، وجئته عطشان فأرواني، فنحن الموفّقون، ونحن المؤيّدون. تُواتينا الأقلام، كأنها السهام أوالحسام، ولنا من ربنا كلام تام، وظل ظليل، فكل رداء نرتديه جميل، ولنا جبلّة لا تبلغها الجُهّال، وقوّةٌ لا تُعجزها الأثقال، وحالٌ لا تُغَيّرها الأحوال، وربٌّ لا تُرَدّ من حضرته الآمال.

فحاصل الكلام إني من الله وكلامي من هذا العلاّم، وإني كتبتُ دعواي ودلائلها في هذا الكتاب، لأُسعف الخصم بحاجته وأُنجّيه من الاضطراب. فإن الخصم كان يدعوني إلى المباحثات، بعدما دعوته لنمق التفسير في حلل البلاغة ومحاسن الاستعارات. فلمّا لويتُ عذاري وتصدّيت لاعتذاري من المناظرات، حمل إنكاري على فراري من هذه الغزاة، وما كان هذا إلاّ كيدًا منه وحيلةً للنجاة، ليستعصم من اللائمين واللائمات. وكان يعلم أن إعراضي كان لعهدٍ سبق، وما كنتُ كعبدٍ أبق، ولكنه طلب الفرار بهذه المعاذير الكاذبة، لعل الناس يفهمونه بطل المضمار ومُتمّ الحجة، فأردنا الآن أن نُعطيه ما سأل ولا نردّه بالحرمان، ونُجَلّي مطلع صدقنا بنور البرهان، ونقطع معاذيره كلها بسيف البيان، لعلّ الله يجلو به صدأ الأذهان، ويُفَهّم ما لم يفهموه قبل هذا الميدان. فهذا هو السبب الموجب لنمق الدعوى والدلائل، لئلا يبقى عذر للسائل.

وإن هذا التفسير جمع المباحثات، مع اللطائف والنِكات، فاليوم أدرك الخصم كل ما طلب منّا في حُلل المناظرات، مع أنه ترك طرق الديانات، وتصدى للأمر بأنواع الاهتضام والخيانات، وبقي دَيْنُنا فعليه أن يقضي الدَيْن كرد الأمانات. وإني عاهدتُ الله أن لن أحضر مواطن المباحثات، وأشعتُ هذا العهد في التأليفات، فما كان لي أن أنكُث العهود، وأعصي الربّ الودود. فلأجل ذلك أغلقتُ هذا الباب، وما حضرت الخصم للبحث ولو عيّبني واغتاب، وإني كلّمته كالخليط فكَلِمني بالتخليط، وقد دعوتُه من قبل ففرّ من شوكتي، ثم دعوتُ فهابَهُ هيبتي، وهذه ثالثة ليتم عليه حجّة الله وحُجّتي. إنه مال إلى الزُمر وملنا إلى الذَّمَار، وإن المعارف منّا كبعوث جُمّروا على الثغور من قِبَلِ ملك الديار.

ثم اعلموا أن رسالتي هذه آية من آيات الله رب العالمين، وتبصرة لقوم طالبين، وإنها من ربي حجة قاطعة وبرهان مبين. كذلك، ليذيق الأفّاكين قليلا من جزاء ذنوبهم، ويُرِي الناس ما ترشّح من ذَنوبهم، ويُجنّبهم بمعجزة قاهرة ويزيل اضطجاع الأمن من جنوبهم، ويستأصل راحة كاذبة من قلوبهم.

والحق، والحق أقول، إن هذا كلام كأنه حسام، وإنه قطع كل نزاع وما بقى بعده خصام، ومن كان يظنّ أنه فصيح وعنده كلام كأنه بدر تام، فليأت بمثله والصمتُ عليه حرام. وإن اجتمع آباؤهم وأبناؤهم، وأكفاؤهم وعلماؤهم، وحكماؤهم وفقهاؤهم، على أن يأتوا بمثل هذا التفسير، في هذا المدى القليل الحقير، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ كالظهير. فإني دعوتُ لذلك وإن دُعائي مُستجاب، فلن تقدر على جوابه كُتّاب، لا شيوخ ولا شاب.

وإنه كنْز المعارف ومدينتها، وماء الحقائق وطينتها، وقد جاء ألطف صُنعًا، وأرقّ نسجًا، وأكثر حكمًا، وأشرف لفظًا، وأقلّ كلمًا، وأوفر معنًى، وأجلى بيانًا، وأسنى شأنًا. وما كتبتُه من حولي، وإني ضعيف وكمثلي قولي، بل الله وألطافه أغلاق خزائنه، ومن عنده أسرار دفائنه. جمعتُ فيه أنواع المعارف ورتّبتُ، وصفّفت شوارد النِّكات وألجمت. من عرفه عرف القرآن، ومن حسبه كذبًا فقد مان. فيه باكورة العرفان، ودقائق الفاتحة والفرقان. فيه بلاد الأسرار وحصونها، وسهل الحقائق وحزونها، وعيون البصيرة وعيونها، وخيل البراهين ومتونها، وذلك من بركات أمّ الكتاب. وما اطّلعتُ عليها إلاّ بعد تفهيم ربي التوّاب، فإنها سورة لا تُطوى عرصتها بإنضاء المراكب، ولا يبلغ نورَها نورُ الكواكب. ولمـّا كان الظالمون نسبوني إلى الهزيمة، أعوَزني فريَتهم هذه إلى تفسير سورة الفاتحة، لأُخلّص نفسي من النواجذ والأنياب، فإن صول الكلاب أهون من صول المفتري الكذّاب.

وهذا من فضل الله ورحمته ليكون آية للمؤمنين، وحسرة على المنكرين، وحجّة على كل خصم إلى يوم الدين، وهدًى للمتقين. وليعلم الناس أن الفوز بصدق المقال، لا بالتصلّف كالجهال، والفتحَ بطهارة البال، لا بِعَذِرَةِ الأقوال، التي هي كالأبوال، وصلاح الحال بسلاح العلم والكمال، لا بالاحتيال والاختيال. فويلٌ للذين قصدوا الفتح بالمكائد، ورصدوا مواضعها كالصائد، وإن هو إلاّ من أحكم الحاكمين، وينصر من يشاء ويُكفّل الصالحين. فيندمل جريحهم، ويستريح طليحهم، ولا تركد ريحهم، ولا تَخْمُدُ مصابيحهم. ومنصوره يُملأ من علم الفرقان ولسان العرب، كما يُملأ الدلو إلى عقد الكرب، وإنه أنا ولا فخر، وإن دعائي يذيب الصخر، وإنّ يومي هذا يوم الفتح ويوم الضياء، بعد الليلة الليلاء.

اليوم خرس الذين كانوا يهذرون، وغُلّت أيديهم إلى يوم يبعثون. وكنتُ أطوف حول هذه الأوراق، كسائل يطوف في السكك والأسواق. فأراني الله ما أراني، وسقاني ما سقاني، فوافيتُ دروبها كما هداني، وأُعطَى لي ما سألتُ، وفُتح عليّ فحللتُ. وكل ما رقّمتُ فهو من أنفاس العلاّم، لا من أفراس الأقلام، فما كان لي أن أقول إني أعلم من غيري، أو زاد منهم سيري، ولا أقول إن روحي التفّ بأرواح فتيان كانوا من الأدباء، أو غالت نفسي جميع نفائس الإنشاء. ولا أدّعي أني انتهيت إلى فناء منتهى الأدب، أو أكلتُ كل باكورة من المعاني النخب، بل دعوتُ مُخدّراته فوافتني فتياته، فقبلهن فتاه مفترّة شفتاه متهللاّ مُحيّاه. فلا تستطلعوني طِلع أديب، وما أنا في بلدة الأدب إلاّ كغريب. وكل ما ترون مني فهو من تأييد ربي، ومن حضرةٍ ألقيتُ بها جِراني وحملتُ إليها إربي، وإنه في العُقبى وهذه حِبّي، وإني مسيحه وحماري حمارة حفظه ولطفه قُتبي. ولولا فضل الله ورحمته لكان كلامي ككلم حاطب ليل، أو كغثاء سيل.

ووالله إني ما قدرتُ على هذا بقريحةٍ وقّادة، بل بفضل من الله وسعادة. وإن هذه المخدّرة ما سفرت عن وجهها بيدي القصيرة، ولكن بفضل الله وعناياته الكثيرة. فإنه رأى الإسلام كسقيم في موماةٍ، فيه رمق حياة، ساقطًا على صلاتٍ كقذائف فلوات، وعلاه صغار، وعليه أطمار، فأدركه كإدراك عهاد، لسنةٍ جماد، ورحض وجهه وأزال وسخ مئين، وصب عليه الماء المعين. فبعث عبدًا من عباده لإتمام الحجة، وأودع كلامه إعجازًا ليكون ظلاّ للمعجزة النبوية، عليه ألوف الصلاة والتحية. ولا يمس منه منقصة شأن كلام رب الكائنات، فإن الكرامات أظلال للمعجزات. وكذلك دمّر الله كل ما دمّر العِدا كالصائد، وهدم كل ما بنوا من المكائد، وأبطل كل ما حققوا مكيدةً، وأخّر كل ما قدموا حربةً، وعطّل كل ما نصبوا حيلة، وهدّم كل ما أشادوا بروجًا مشيدة، وأطفأ كل ما أوقدوا نارًا، وأغلق الدروب كلما أرادوا فرارًا. فما كان بوسعهم أن يبارزوا كأبطال المضمار، أو يخرجوا من هذا السجن بتسوّر الخنادق والأسوار. وما قدّموا قدمًا إلاّ رُجعوا بأنواع النكال، حتى جاء وقت هذا التفسير الذي هو آخر نبل من النبال، وإنّا كمّلناه بفضل الله ذي الجلال، وجاء أرسى وأرسخ من الجبال، وصار كحصن حصين بُني بالأحجار الثقال، وإنه بلغ حدّ الإعجاز من الله الفعّال، وإنه محفوظ من قصد العدوّ المدحور الضّال، وانتصفنا به من العِدا بعض الانتصاف، وكسرنا خيامًا ضربوها وقبابا نصبوها في المصاف.

وكان هذا الأمر صعبا ولكن الله ألان لي شديدًا، وأدنى إليّ بعيدًا، ونقل العدوّ من السعة إلى المضايق، وأعمى أبصاره وصرف همته عن العلوم الحقايق، وألقى الرعب في قلوبهم، وأخذهم بذنوبهم، فنبذوا سلاحهم، وتركوا لقاحهم، وأنفدوا وجاحهم، وقوّضوا قبابهم، ونثلوا جعابهم، ونفضوا جرابهم، وأروا من العجز أنيابهم. وأُذن لهم أن يأتوا بجميع جنودهم من خيلها ورجلها، وحفلها وجحفلها، وزمرها وقوافلها، فصاروا كميت مقبور، أو زيت سراج احترق وما بقي معه من نور. وسكّتنا من بارز من صغيرهم وكبيرهم، وأوكفنا من نهق من حميرهم. فما كانوا أن يتحركوا من المكان، أو يميلوا من السِنة إلى السنان، بل جرّبنا من شرخ الزمن إلى هذا الزمان، أن هؤلاء لا يستطيعون أن يبارزونا في الميدان، وليس فيهم إلاّ السب والشتم قاعدين في الحجرات كالنسوان. يفرّون من كل مأزق، ويتراءى أطمارهم من تحت يلمق، ثم لا يقرّون ولا يتندّمون، ولا يتقون الله ولا يرجعون. فهذا التفسير عليه سهم من سهام، وكَلْمٌ بكلام، لعلهم يتنبّهون، وإلى الله يتوبون.

وإنّا شرطنا فيه أن لا يجاوز فريق منّا سبعين يومًا، ومن جاوز فلن يُقبل تفسيره ويستحق لومًا. وكذلك من الشرائط أن لا يكون التفسير أقل من أربعة أجزاء، وهذه شروط بيني وبين خصمي على سواء، وقد شهرناها من قبل وبلّغناها إلى الأحباب والأعداء، بعد الطبع والإملاء. والآن نشرع في التفسير بعون الله النصير القدير، ورتبناه على أبواب لئلاّ يشق على طُلاّب. ومع ذلك سلكنا مسلك الوسط ليس بإيجاز مُخلّ، ولا إطنابٍ مُملّ، وإنه له عن هذا العاجز كالعجزة، وأُخرج من رحم القدر برحم من الله ذي العزّة، في أيام الصيام وليالي الرحمة. وسمّيتُه “إعجاز المسيح في نمق التفسير الفصيح”.

وإني أُرِيتُ مبشرةً في ليلة الثلاثاء، إذ دعوتُ الله أن يجعله معجزة للعلماء، ودعوتُ أن لايقدر على مثله أحدٌ من الأدباء، ولا يُعطى لهم قدرة على الإنشاء. فأجيب دعائي في تلك الليلة المباركة من حضرة الكبرياء، وبشّرني ربي وقال: “منعه مانع من السماء”. ففهمت أنه يشير إلى أن العدا لا يقدرون عليه، ولا يأتون بمثله ولا كصفتيه، وكانت هذه البشارة من الله المنّان، في العشر الآخر من رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، ثم بعد ذلك كُتب فيه هذا التفسير، بعون الله القدير.

رب اجعل أفئدة من الناس تهوي إليه، واجعله كتابًا مُباركًا وأنزل بركات من لدنك عليه، فإنّا توكلنا عليك، فانصرنا من عندك وأيّدنا بيديك. وكفّل أمرنا كما كفلتَ السابقين من الصالحين، واستجب هذه الدعوات كلها وإنّا جئناك متضرعين، فكن لنا في الدنيا والدين. آمين.” (إعجاز المسيح، الخزائن الروحانية ج 18 ص23-70)

هكذا كان التحدّي واضحا:

“… وإن اجتمع آباؤهم وأبناؤهم، وأكفاؤهم وعلماؤهم، وحكماؤهم وفقهاؤهم، على أن يأتوا بمثل هذا التفسير، في هذا المدى القليل الحقير، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ كالظهير. فإني دعوتُ لذلك وإن دُعائي مُستجاب.”

وغني عن البيان طبعا أن نقول إن أحدًا لم يجرؤ على قبول التحدّي، لا من علماء الهند ولا من العرب. وقد طُبع ونُشر هذا الكتاب الفريد خلال سبعين يوما في رمضان عام 1318 هجريا الموافق شهر فبراير (شباط) 1901، أي في العام الأول من القرن العشرين، ومع ذلك فإن هذا القرن يكاد أن ينقضي وما زال التحدّي قائما، وما زال فشل المخالفين ثابتا واضحا، وسوف يظل كذلك إلى يوم الدين، لأن الله يُخزي الكذابين والمفترين، وينصر عباده الصادقين المخلصين، فهل بعد ذلك من شك في صدق الإمام المهدي.. إمام المتقين الصادقين؟

[1] كاتب من مصر الشقيقة

Share via
تابعونا على الفايس بوك