التقوى منكم وإليكم

التقوى منكم وإليكم

اعتراض على مجلة التقوى

وصل إلى مجلة التقوى هذا الاعتراض من الصديق ح. ق. من سوريا، يقول فيه: “مع احترامي الشديد لمن كتب نص موضوع “الصبغة الإلهية” (عدد مايو/ أيار 1997) أرجو التفضل بقبول أحد الاقتراحين:

  • إتلاف العدد كاملاً وإعادة طبعه بعد تعديل المقال في جذوره، فإن في هذا إساءة شديدة لنظرة المتربصين بالجماعة الأحمدية، وسيكون لهم حجج وسوف نعطيهم فرصة لتكفير الجماعة.
  • إصدار ملحق مع العدد ملصوق على نفس الصحيفة فيه توضيح للمقال فيما يستطيع العبد الاتصاف به بصفة الخالق وما لا يستطيع على اختلاف وشساعة الصفات.

ثم يقول: هناك نوعين من الصفات الربانية:

  • صفات يختص بها الخالق وليس لسواه أن يتصف بها أو يتمثل بها، وتلك الصفات نذكر منها على سبيل المثال: الرزاق – الوهاب – المهيمن – القدوس – السلام – العظيم – المحيي – المميت..
  • صفات يختص بها الخالق ويحب عبده الذي يحاول الاتصاف بها على مستوى العبودية لا الربوبية. مثال: الله رحيم: ويحب عبده المتصف بالرحمة. الله (الحليم): ويحب عبده الحليم والمتصف بالحلم. الله (السلام): ويحب عبده المتصف بالسلام. ولكن مهما حاول العبد التمثل بتلك الصفات فلا يمكن أن تصل صبغته وصفته لصفة الله ، فمهما تمثل الإنسان بالحلم لا يمكن أن يصل بحلمه إلى حلم الله .

وخلاصته: لا يستطيع العبد أن يشترك مع الله سبحانه وتعالى ولا بصفة واحدة، وشتان بين الخالق والمخلوق. فالذي ورد في النص ص 5 عندما ذكرتم: الله ستّار وشكور ووهاب ورزاق كذلك يمكن للإنسان أن يكون في دائرته واستطاعته ستّارًا وشكورًا ووهابًا ورزاقًا. حتى ولو أخذنا المعنى على دائرة البشر والعباد المخلوقين فلا يمكن لبشر أن يكون رزّاقًا ولا بأي صورة حتى ولو كانت على مستوى دائرة البشر مع بعضهم.. كذلك وهابًا، وما إلى ذلك.

وهناك صفات ربانية تقابلها صفات بشرية على الأرض لمن أراد التقرب إلى الله وإرضائه، فصفة الله سبحانه (البصير) يقابلها على مستوى العبد أن يكون متبصرًا مدركًا مفكرًا. وصفة الله سبحانه (السميع) وهذه الصفة العامة الشاملة في سمع وإدراك كل ما له صوت أو حتى من دون صوت كدعاء القلب أو نية العقل.. فهذا هو السمع المطلق، فيمكن للعبد أن يكون سامعًا ويتصف بالسمع وفهم من حوله وشتان بين سمع الله وعبده.

أما تلك الحشرات والفراشات المتلونة بلون الوسط الذي تعيشه فذلك ليس من فعلها حتمًا إنما وهبه الله لها لمساعدتها على إخفاء نفسها من قبضة أعدائها..

وتتساءل في النص: هل نحن أضعف شأنًا من تلك الحشرات؟ والحق يُقال أننا أضعف منها (فهي) تقوم بتحويل لونها (وهذا) ليس من ابتكارها ولا من صنعها، إنما من صنع الله، وتلك الحشرات ما هي إلا مخلوقات فقط لا تملك سوى أن تستخدم أعضاءها كما اعتادت. وتفضلوا بقبول التحية.”

وقد أَحَلْنا رأي الصديق ح. ق. من سوريا إلى الأستاذ “أبو خالد” من كندا فكتب يقول: إنني أشكر الصديق ح. ق. على غيرته الشديدة التي أبداها وحرصه على ألا يشوب مجلة التقوى أية شائبة. غير أني أريد أن أطمئنه بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية، ومجلة التقوى التي تصدر عنها، هي أحرص من على ظهر هذه الأرض على توحيد الله تعالى وتنزيه صفاته، وفي سبيل ذلك فقد لاقت الجماعة الأذى الشديد، والاضطهاد الفظيع، والمعارضة العاصفة، والعداوة والبغضاء، والصد والتكفير.. إلى آخر هذه القائمة الكريهة من الأعمال التي عادة ما يقوم بها أعداء الأنبياء. وبالتالي فإننا لا نهتم كثيرًا بما يقوله أو يفعله “المتربصون بالجماعة الأحمدية”، لأن اهتمامنا الأكبر هو نحو ما يقوله الله تعالى وما يفعله بنا، وإذا كنا عند الله تعالى من المؤمنين المخلصين، فلا يهمنا تكفير أو “نظرة المتربصين بالجماعة”، ولا يهمنا تلك “الحجج” التي “تعطيهم فرصة لتكفير الجماعة” كما يقول الصديق ح. ق.

ثم نأتي إلى المقال الذي يظن الأخ العزيز أن به “إساءة شديدة لنظرة المتربصين بالجماعة الأحمدية”. يقول المقال:

“ومن معاني “صبغة الله” الاصطباغ بصبغته، فالمعنى أن عليكم أن تتصفوا دائمًا بالصفات الإلهية، وتنظروا باستمرار هل أصبحتم مظاهر لصفات الله أم لا؟الحق أن الإنسان لم يُخلق إلا للاتصاف بصفات الله وأن يكون مظهرًا لها، وقد أودع الله الفطرة الإنسانية استعدادًا لهذا الغرض. ليس هناك إنسان يستطيع القول أنه ليس عنده الاستعداد ليكون مظهرًا لصفة الربوبية أو الرحمانية أو الرحيمية أو المالكية. وهناك حديث يشير إلى هذا المعنى فيقول الرسول : “خلق الله آدم على صورته” (البخاري)، والظاهر أن الله تعالى ليست له صورة مادية، ولا يقول الإسلام بذلك. فالمراد من الحديث أن الله أودع آدم استعدادًا وصلاحية ليكون مظهرًا لصفاته جل وعلا، فلا يمكن لإنسان أن يقول أنه لا يستطيع أن يكون مظهرًا لصفات الله. بل كما أن الله ستار وشكور ووهاب ورزاق.. كذلك يمكن للإنسان أن يكون في دائرته واستطاعته ستارًا وشكورًا ووهابًا ورزاقًا.”

ولعل الأخ ح. ق. يظن أن “المتربصين بالجماعة الأحمدية” قد يسيئوا فهم هذا الكلام، حيث أنهم لا يعتبرون أن الإنسان يمكن له أن يكون في دائرته ستارًا أو شكورًا أو وهابًا أو رزاقًا كما هو شائع بين عامة المسلمين. ولا شك أن الأخ ح. ق. لحرصه الشديد على مجلة التقوى، يشوبه القلق من وقوع سوء الفهم بسبب المفهوم العام الذي انتشر بين عامة المسلمين عن صفات الله تعالى، وهو أن هذه الصفات خاصة بالله تعالى فليس للبشر أن يتصفوا بها أو حتى أن يحاولوا الاتصاف بها. وهم قد أقنعوا أنفسهم أن الله تعالى.. الذي لا تحد قدرته حدود.. ليس له من الصفات غير تسع وتسعين صفة، وهذه الصفات خاصة به وحده، وليس لأحد أن يتصف بها غيره. ومع ذلك فهم يقولون أنهم يؤمنون بالله ويعبدونه ويوحدونه، فكيف يؤمنون بإله لا يعرفونه، وهم حتمًا لا يعرفون الله إلا إذا عرفوا صفاته، وهم لا يعرفون صفاته حق المعرفة إلا إذا خبروها وجربوها وذاقوا حلاوتها واستمتعوا بجمالها، وعرفوها معرفة المجرب وليس مجرد معرفة من يسمع عنها.

إن الإيمان بوجود الله عند عامة المسلمين يبدو وأنه قد صار مثل الإيمان بوجود مدينة من المدن، ولتكن مدينة “بادن” مثلاً في سويسرا، نعم.. هم على يقين أن مدينة بادن موجودة، وأنها مدينة جميلة وفيها مناظر طبيعية خلابة ولها رونق وجمال يأخذ بالقلوب، وذلك لأنهم سمعوا عنها من الناس أو من وسائل الإعلام أو من قراءة الكتب. ويبدو أن هذا بالضبط هو مقدار إيمان الناس بالله تعالى الذي هم أيضًا على يقين من وجوده، وأنه يتصف بتسع وتسعين صفة، وأن صفاته جميعًا كاملة ومنزهة، لأنهم سمعوا عن الله من الآباء أو من المجتمع أو من قراءة الكتب. ولكن.. كما أن أولئك الذين هم على يقين بوجود مدينة بادن في سويسرا، لا يعرفونها حق المعرفة لأنهم لم يجربوا بأنفسهم الاستمتاع بجمال صفاتها، فكذلك أولئك الذين يظنون أنهم على يقين بوجود الله، غير أنهم لا يعرفونه حق المعرفة لأنهم لم يجربوا بأنفسهم أن يتخلقوا بجمال صفاته وجلالها، ولا ذاقوا حلاوة الاتصاف بهذه الصفات.

إن المعرفة القائمة على السماع والاستنتاج فقط هي بلا شك نوع من أنواع المعرفة، ولكنها أقل درجات المعرفة، والإيمان القائم على هذا النوع من المعرفة هو إيمان جاف مصمت، ولا أثر له في النفس غير اكتساب معلومة من المعلومات، تمامًا كاكتساب معرفة وجود مدينة بادن في سويسرا. وهذا النوع من الإيمان يشترك فيه معظم أهل الأرض، ويشترك فيه أيضًا أهل الأديان عمومًا الذين يؤمنون كذلك عن يقين بوجود الله، ويعرفون صفاته التي سمعوا عنها من آبائهم ومجتمعهم. ولكن الله تعالى يريد للناس عامة وللمسلمين خاصة، أن يعرفوه ليس فقط معرفة سماع واستنتاج، ولكن معرفة كاملة وحقيقية وعملية. والمعرفة الكاملة كما شرحها سيدنا الإمام المهدي لها ثلاثة مراتب.. هي علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وقد أوضح أن علم اليقين يمكن أن يكون مبنيًا على الاستنتاج، كأن تستنتج وجود النار إذا علمت بوجود الدخان. ثم عين اليقين هو العلم القائم على الرؤية والمعاينة، كأن ترى النار بنفسك فتتيقن من وجودها وتعلم بعض صفاتها. وحق اليقين هو العلم القائم على التجربة، وهو أن تعرف صفات النار وتستشعر هذه الصفات بنفسك، بأن تضع يدك في النار.

والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي كرّمه الله تعالى وشرفه بأن أودع في فطرته الاستعداد للاتصاف بصفات الله، أو كما حث رسول الله بقوله: “تخلقوا بأخلاق الله”، وأيضًا كما سبق الإشارة إلى الحديث الذي ذكره البخاري: “خلق الله آدم على صورته”، أي أنه يشابهه ويماثله في صفاته. هذا هو فضل الله تعالى الذي أسبغه على الإنسان واختصه به حيث قال:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: 71)،

وهذا التكريم والتفضيل ليس تفضيلاً على الجمادات والنباتات والحيوانات فقط.. بأن جعل الله الإنسان حيوانًا ناطقًا.. كما يظن بعض الناس، بل هو تكريم وتفضيل على الملائكة أيضًا، ومن أجل هذا التكريم والتفضيل أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، ومن أجل هذا التكريم والتفضيل، لم يتمكن جبريل من مصاحبة رسول الله في رحلته للقاء الله في المعراج، وإنما قال له: “تقدم أنت يا محمد فلو تقدمت أنا لاحترقت”.

ألا ما هو السر في هذا التكريم والتفضيل؟ إنه الاستعداد الفطري الذي خلقه الله في الإنسان وجعل لديه القدرة على الاتصاف بصفات الله تعالى (بالطبع في حدود قدرته واستطاعته ودائرة إنسانيته). ولَكَمْ من مرة  شرح الإمام المهدي هذا الأمر، ولكم من مرة بيّن خلفاؤه الكرام هذه الحقيقة، فضربوا مثال الشمس والمرآة، فكما أن المرآة تعكس صورة الشمس بحيث أن الناظر في المرآة يرى الشمس، إلا أن ما يراه الناظر ليس الشمس الحقيقية بل هو مجرد انعكاس (أو تجلي) للشمس يظهر في المرآة، كذلك فإن الإنسان الكامل يستطيع أن يعكس في نفسه صفات الله تعالى، ولا يعني هذا أنه قد صار مساويًا لله في صفاته، فإن هذا المفهوم لا يدور بخلد أحد إلا هؤلاء الذين يظنون أن المرآة قد تساوت مع الشمس لأن الشمس تظهر فيها ظهوراً كاملاً وواضحًا.

هذا هو التكريم والتفضيل الذي اختص الله به الإنسان، ومن أجل ذلك قال:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: 5)،

غير أن أولئك الذين لا يحققون الغاية من خلقهم.. أي لا يعملون على الاتصاف بالصفات الإلهية، (بالطبع في حدود قدرتهم واستطاعتهم ودائرتهم الإنسانية)، فإنهم يرتدون إلى أسفل سافلين، ولذلك جاء الاستثناء:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (التين: 7)،

وهذا الإيمان والعمل الصالح، ليس هو مجرد الإيمان أو حتى اليقين بوجود الله، ذلك الإيمان واليقين القائم على الاستنتاج فحسب، والذي يماثل الإيمان واليقين بوجود مدينة بادن بسويسرا، ولكنه الإيمان واليقين القائم على التجربة، وذلك بالعمل والجهاد ومجاهدة النفس للاتصاف بصفات الله والتخلق بأخلاقه (وأظن لا داعي لتكرار القول أن ذلك في حدود القدرة والاستطاعة والدائرة الإنسانية).

ولكن.. قد يعترض أولئك الذين “يتربصون بالجماعة الأحمدية” كما يصفهم الأخ ح. ق.، فيقولون: من الذي قال أن الغاية من خلق الإنسان هي الاتصاف بالصفات الإلهية؟ ولسرعان ما يستشهدون بالآية التي تقول:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 57)،

ويشيرون بذلك إلى أن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله وليس الاتصاف بالصفات الإلهية. وهؤلاء لا يعرفون المعنى الحقيقي للعبادة، فهم يظنون أن العبادة هي مجرد أداء صلوات ينقرونها كنقر الدجاجة، أو صيام يدعو إلى التكاسل والخمول وقلة العمل والإنتاج، أو زكاة يدفعونها عندما يتوفر لديهم المال الذي يحول عليه الحول، أو حج إلى بيت الله يؤدونه تأدية للفرض المكتوب للظفر بلقب “حاج”. وحتى لو كان الإنسان يقوم بجميع هذه الفرائض كلها على أكمل وجه هي وسائل العبادة، وإن جاز أن يطلق عليها أيضًا كلمة عبادة. فما هي العبادة الحقيقية إذن؟

إن كلمة “عبد” في اللغة العربية تُطلق على الإنسان الذي يملكه سيده، والذي لا يملك من أمر نفسه شيئًا. ولكن السيد قد يملك أشياء أخرى كثيرة، فهو قد يملك أموالاً، وقد يملك بيتًا، وقد يملك سيارة، وقد يملك ضيعة، وقد يملك حيواناً إلخ.. ولكنه لا يسمي أيًا من هذه الأشياء المملوكة له “عبدًا” إلا إذا كان يملك كائنًا يماثله، أي أن كلمة “عبد” لا تُطلق على أي شيء يملكه السيد إلا على من كانت هناك صفات مشتركة بينه وبين ذلك العبد المملوك، وبالتالي فإن العبودية تدل على المشابهة بين العبد والسيد. وحيث أن الله تبارك وتعالى قد خلق الإنسان ليكون عبدًا له، فإنه بذلك يومئ إلى أن الإنسان بعبوديته لله تعالى إنما يستطيع أن يتشبه بالله عز وعلا، أي يتصف بصفاته، أي يتخلق بأخلاقه، أي يصطبغ بصبغة الله، أي تتجلى على العبد الصفات الربانية فيصير بذلك إنسانًا ربانيًا. وهذا هو الغرض من بعثة جميع الأنبياء.. وهو تحويل الناس إلى ربانيين. يقول تعالى:

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (آل عمران: 80).

وكيف يكون الإنسان (في حدود قدرته واستطاعته في دائرته الإنسانية) إنسانًا ربانيًا؟ لقد أوضح سيدنا رسول الله سيد الخلق وخاتم النبيين هذا الأمر فقال في حديث قدسي: “ما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا عبدي أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها”.

والغريب والعجيب.. أن أولئك الذين يصفهم الأخ الكريم ح. ق. بأنهم يتربصون بالجماعة الأحمدية.. يعترضون على إمكانية أن يتصف الإنسان بصفات الله تعالى، ولا يعترضون على قول رسول الله أن الله يكون سمع وبصر المؤمن الذي يتقرب إليه سبحانه، بل يكون يده وحتى رجله أو قدمه التي يمشي بها. إن هؤلاء المعترضون لا يعلمون أنه إذا فنا العبد الكامل في طاعة الله سبحانه وتعالى، واصطبغ تمامًا بصبغته، وتخلق إلى أقصى حد في نطاق قدرته الإنسانية بأخلاقه ، فإن صفات الله تتجلى عليه، حتى أن أعماله التي يقوم بها في طاعة الله وتنفيذًا لأوامره.. لا تُنسب له وإنما تنسب إلى الله تعالى. وفي ذلك يقول تعالى:

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى (الأَنْفال: 18)،

ويقول أيضًا:

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح: 11)،

وفي كلتا الحالتين يجري سياق الكلام عن رسول الله ، ولكن الله تبارك وتعالى يقول أنه هو الفاعل. وهنا يبين الله تعالى بصورة عملية معنى ما قاله في الحديث القدسي المشار إليه عاليه.. أي كيف يكون الله يد وقدم عبده المؤمن الذي يحبه، فيشير إلى يد الرسول الذي يبايعه الناس فيقول أنها يد الله، وليس معنى هذا بتاتًا أن الرسول قد صار هو الله أو أن الله قد حل فيه، فحاشا لله، وإنما هو قد صار مظهرًا كاملاً تجلى الله فيه كما تتجلى الشمس في المرآة، حتى أن يده صارت تعبر عن إرادة الله تبارك وتعالى وكأنها قد صارت يد الله. بهذا المعنى.. وبمعنى العبودية المشار إليه.. والذي يعني المماثلة والمشابهة بين السيد والعبد، يقول تعالى في كتابه العزيز:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر: 54).

فهنا يأمر الله تبارك وتعالى نبيه الكريم أن يقول للذين أسرفوا على أنفسهم (يا عبادي) ولا يعني بذلك أن الناس يعبدون النبي من دون الله حتى أنهم صاروا عبادًا له، ولكن معنى الآية أن قل يا أيها الناس الذين تؤمنون بي، وتطيعون أوامري، وتتمثلون بي، وتتبعون سنّتي، وتتشبهون بي، وتتخلقون بأخلاقي.. أي قل يا عبادي.. إذا أسرفتم على أنفسكم بسبب ضعف إنساني أو زلة من وسوسة الشيطان، فلا تقنطوا من رحمة الله تعالى فإنه يغفر الذنوب جميعًا. وبهذا المعنى للعبودية.. أي معنى المماثلة والمشابهة التامة.. يُسمّي بعض العرب أبناءهم باسم “عبد النبي” أو “عبد الرسول”، وغير العرب يسمون أبناءهم باسم “غلام نبي” أو “غلام رسول” أو “غلام محمد” أو “غلام أحمد” كما سُمّي بذلك الاسم الأخير الإمام المهدي والمسيح الموعود مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ، فصار بحق اسمًا على مُسمّى.

ويظن العامة من المسلمين أن الله تعالى الذي لا تحده حدود ليس له غير تسع وتسعين صفة، ولكن.. كيف يكون الله غير محدود بينما تكون صفاته محدودة العدد؟ الحق أن صفات الله تعالى غير محدودة في عددها وغير محدودة في نوعها. أما هذه الصفات التي اشتهرت عند الناس بأنها تسع وتسعين صفة، فهي تلك التي نستطيع نحن البشر أن نفهمها، وخلقنا الله سبحانه وتعالى لكي نتحلى بجمالها ونتخلق بأخلاقها. خذ مثلاً صفة “البصير” .. هذه الصفة في الله تعالى غير محدودة، بمعنى أن لا شيء في الكون يغيب عن بصره وإدراكه في أي وقت من الأوقات، والإنسان كذلك يتصف بأنه بصير، ولكن بصره محدود ولا يستطيع أن يرى سوى ظاهر الأشياء ولا يرى بواطنها، ولا يستطيع أن يدرك كل شيء في هذا الكون. فالإنسان إذا ينال قبسًا من صفة الله “البصير”، وشتان بين الله البصير والعبد البصير. وخير مثال يوضح هذه المشابهة هو مثال الشمس والمرآة، فالمرآة تُظهر قبسًا من نور الشمس، ومن ينظر في المرآة التي تكون في اتجاه الشمس يستطيع أن يرى الشمس، ولكنها ليست الشمس حقيقة التي يراها في المرآة، فالشمس لم تغادر مكانها، ولم تغير حجمها الذي يبلغ مليون مرة حجم الأرض، ومع ذلك فهي تظهر في المرآة الصغيرة. وهكذا صفات الله الحسنى.. إنها صفات لا نهائية.. كمًّا ونوعًا.. ولكن الله تعالى شاء أن يخلق الإنسان ويضع في فطرته الاستعداد لكي تتجلى فيه هذه الصفات التي ذكرها في كتابه العزيز، وهذا التجلي لا يعدو أن يكون قبسًا يظهر في العبد المؤمن كما تظهر الشمس في المرآة.

وعلى هذا.. “يمكن للإنسان أن يكون في دائرته واستطاعته ستّارًا وشكورًا ووهابًا ورزاقًا” كما يقول المقال، أي أن الإنسان يستطيع في حدود قدرته واستطاعته أن يتشبه بهذه الصفات ويتخلق بها. إن الذي يستر عيوب أخيه ولا يتكلم عنه في غيبته بما يسيء له يكون ستارًا، والذي يُكثر من شكر الناس إذا أحسنوا إليه ويُكثر من شكر الله على فضله وإحسانه يكون شكوراً، والذي يهب لأصحابه وأقاربه وجيرانه الهدايا والعطايا ليؤلف بين القلوب يكون وهابًا، والذي يفتح المجال أمام الناس للعمل وكسب الرزق ويرزقهم مما رزقه الله يكون رزاقًا، وهكذا.. ولكن من المفهوم بالطبع أن هناك بونًا شاسعًا بين هذه الصفات التي يمكن أن تتصف بها البشر وبين الصفات التي يتصف بها الله . وأثناء محاورة سيدنا إبراهيم مع الملك..

قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (البقرة: 259)،

فهنا لم يعترض سيدنا إبراهيم على قول الملك (أنا أحيي وأميت)، وإنما أدرك على الفور أن من فضل الله تعالى على الإنسان أن جعله مظهرًا لصفاته، ولذلك فقد غير مجرى المحاورة من الاستشهاد بصفات الله التي يمكن أن يتصف بها البشر، إلى أفعال الله التي لا يمكن أن يأتي بمثلها البشر، فكان أن بُهت الذي كفر. ثم يقول المقال: “والحق أنه بحسب الوجهة الإسلامية.. لا يمكن أن يحظى أحد بقرب الله ما لم يكن مظهرًا لصفاته تعالى، وما لم يكن بينه وبين الله مشابهة ومشاركة من نوع ما، وما لم يصطبغ بصبغته. انظروا إلى الحشرات كيف أنها تتلون بلون الأشجار التي تقع عليها وتعيش فيها. انظروا إلى الفراشات كيف أنها تتخذ ألوان الأزهار التي تحوم حولها وتقف عليها. فهل نحن أضعف حولاً من هذه الحشرات، وهل ربنا أقل شأنًا -والعياذ بالله- من هذه الأشجار والأزهار.. ولكن عباد الله إذا اقتربوا من ربهم فإنهم لا يمكن أن يتلونوا بلونه ويصطبغوا بصبغته؟”

ولعل هذا المقطع يثير في نفس “المتربصين بالجماعة الأحمدية” كما يصفهم الأخ ح. ق.، نوازع الاعتراض وتوجيه أصابع الاتهام والإدانة.. إذ سرعان ما يصرخون ويصخبون ويقولون: هذا هو الدليل على كُفر هؤلاء لأنهم يزعمون أنه من الممكن أن يشارك العبد ربه في صفاته الإلهية.

ولعل هؤلاء الذين يصرخون ويصخبون ويعترضون لا يدركون مدى جهلهم الفاضح، وضيق أفقهم المظلم، فهم يأخذون من معاني كلمة “المشاركة” معنى واحد فقط، ويتجاهلون أو يجهلون أن لهذه الكلمة معان أخرى أوردها القرآن الكريم، ولكن أنى لهؤلاء أن يفقهوا كلام الله العزيز وقد أعماهم التعصب المقيت، وملأ قلوبهم الحقد والكراهية البغيضة.

نعم.. إن من معاني المشاركة أن يمتلك المشارك جزءًا مما يشارك فيه، فإن كان مالا يكون لكل شريك جزء من هذا المال، كما يقول تعالى عن توزيع الإرث: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث (النساء: 13)، أي أن ثلث التركة يوزع عليهم بالتساوي وينال كل منهم جزءًا من هذا الثلث. وبهذا المعنى ينفي الله تعالى أن يكون له شريك في ملكه فقال:

وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك (الإسراء: 112).

ولكن من معاني المشاركة كذلك اتفاق الغرض ووحدة الهدف، فمن الممكن أن نقول: أنا أشاركك حب الوطن، بمعنى أن حب الوطن هو الذي يربط بيننا، وكلانا يهدف إلى العمل لمصلحته، وغرضنا في هذا الأمر قد اتفق على حب الوطن والولاء له. وهنا لا يوجد تجزئة ولا مشاركة بالمعنى السابق، ومشاركتي لك في حب الوطن لا يُنقص من حبك للوطن شيئًا ولا يزيده شيئًا. وبهذا المعنى يقول تعالى على لسان نوح مخاطبًا قومه:

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (يونس: 72).

ومن الواضح هنا أن كلمة (شركاءكم) لا يقصد بها شركاء التجارة أو شركاء الإرث أو شركاء المال والعقار، بل أولئك الذين اتفقت أغراضهم وتوحدت أهدافهم للقضاء على سيدنا نوح ومحاربة دعوته.

ومن معاني المشاركة أيضًا هو الاتصاف ببعض الصفات التي قد تتماثل مع صفات الطرف الآخر، فمثلاً يمكن أن نقول أن الضفدع يشارك الفيل صفة الحياة والوجود، ولكن شتان ما بين صفات الضفدع وصفات الفيل، إذ أن حياة الضفدع ووجوده يختلفان تمامًا عن حياة الفيل ووجوده، ولا تتوقف حياة الضفدع أو وجوده على حياة الفيل ووجوده، فليس بينهما سوى نوع ما من المماثلة. وبهذا المعنى يقول تعالى عن أهل جهنم:

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (الصافات: 34)،

ومن الواضح أن الاشتراك في العذاب معناه التماثل، وليس معناه أنهم سوف يمتلكون العذاب كما يمتلكون المال والإرث.

بهذا المعنى الأخير وردت هذه الجملة في المقال: “لا يمكن أن يحظى أحد بقرب الله ما لم يكن مظهرًا لصفاته تعالى، وما لم يكن بينه وبين الله مشابهة ومشاركة من نوع ما”. وقد سبقت كلمة “مشاركة” كلمة “مشابهة” تدليلاً وتفسيرًا على أن المقصود هنا من كلمة “مشاركة” هو المشابهة والمماثلة، بحيث أنك إذا استبدلت كلمة “مشاركة” بكلمة “مماثلة” لا يتغير المعنى بتاتًا، وهذا ما يتفق تمامًا مع الحديث الذي رواه البخاري: “خلق الله آدم على صورته”، أي أنه يشابهه ويماثله في صفاته.

وأخيرًا.. يقول الأخ ح. ق. عن الحشرات والفراشات التي تتلون بلون الأشجار والزهور التي تقف عليها، أن هذا التلون الذي تقوم به تلك الحشرات “..ليس من ابتكارها ولا صنعها وإنما من صنع الله، وتلك الحشرات ما هي إلا مخلوقات فقط لا تملك سوى أن تستخدم أعضاءها كما اعتادت”. ونحن نتفق تمامًا مع ما يقوله الأخ ح. ق. عن هذه الحشرات من حيث أنها تستخدم تلك المواهب التي أعطاها الله إياها لمساعدتها على إخفاء نفسها. وكذلك الإنسان الذي كرمه الله تعالى وفضله على كثير من خلقه وسخر له كل ما في الأرض.. لا يمكن أن يكون أضعف شأنًا من تلك الحشرات. فإن الله تعالى هو أيضًا الذي وهبه الفطرة السليمة، ومنحه الاستعداد ليصطبغ بصبغة الله، فهو لم يكتسب ذلك بنفسه، وإنما الله هو الذي أعطاه القدرة على التخلق بأخلاقه والاتصاف بصفاته، غير أنه تعالى جعل له الخيار في هذا الأمر، وهذا هو الفارق بين الحشرات “التي لا تملك سوى أن تستخدم أعضاءها” وبين الإنسان الذي يستطيع أن يستخدم ما منحه الله تعالى من قدرات واستعدادات للتقرب إليه والتخلق بأخلاقه فيصل إلى أعلى عليين، أو يختار أن يُهمل تلك القدرات وينكرها، ولا يستفيد من تلك الاستعدادات التي منحه الله تعالى إياها فينقلب إلى أسفل سافلين.

وخلاصة القول.. إن الله تعالى خلق الإنسان وأراد له أن يكون عبدًا له، بمعنى أن يتصف بصفاته ويتخلق بأخلاقه ويصطبغ بصبغته فيصير عبدًا ربانيًا. ومن أجل هذا أرسل الله تعالى جميع الأنبياء. وأكْملُ خلق الله تعالى الذي تجلت فيه صفات الله تعالى على أتم وأكمل وجه كان سيدنا محمد المصطفى . وقد استقى الإمام المهدي من نور هذا المصطفى وتخلق بأخلاقه، ولذلك فقد بعثه الله تعالى في هذا الزمن لنفس الغرض والهدف.. أي أن يجعل الناس ربانيين، يتخلقون بأخلاقه سبحانه، ويتصفون بصفاته عز وعلا. وقد وصف رسول الله الإمام المهدي بقوله: “خُلُقُهُ خُلُقي”، أي أن خلق الإمام المهدي يماثل خلق سيدنا محمد المصطفى الذي وصفه الله تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 5)، ووصفته السيدة عائشة بأن خلقه القرآن. فطوبى لمن تبعه بإخلاص القلب وروح الوداد، وأطاعه بعزيمة السعي وصدق الفؤاد، وجاهد للقرب من الله ووصاله، وكدّ للفوز بحب الله ونواله، وسعى للاتصاف بصفات الله، وذاق حلاوة التخلق بأخلاق الله، فنال بذلك حب الله، وفاز بقربه ووده ورضاه. اللهم أكرمنا واجعلنا من هؤلاء، واستجب لنا بفضلك وكرمك هذا الدعاء، يا محبوبنا يا ربنا.. يا ذا المجد والحُسن والآلاء.

-جزاك الله على اهتمامك بخدمة الإسلام وإعلاء كلمة الحق. في الحقيقة يتعذر على المجلة أن تلبي كل رغبات قرائها الكرام، وندعو الله أن يوفقكم ويجازيكم حسب نيتكم الصادقة.

* الصديق الدكتور عبد المجيد حسن (لاغوس، نيجيريا) أرسل مقالة حول الفقه الإسلامي. يسعدنا أن ننشر لك عملك ولكن نود أن تُرسل لنا حلقات أخرى حول نفس الموضوع كي يتسنى لنا انتقاء أكبر عدد ممكن من المعلومات لنشرها على صفحات مجلتكم التقوى.

       ردود خاصة

* الصديق م. الروابده (الأردن) أبدى إعجابه بالمواضيع التي تُعالجها التقوى وأعرب عن استعداده للتعاون معنا في المستقبل.

– شكراً أيها الأخ الكريم على مشاعر الأخوة ونتطلَّع إلى تعاونٍ مُثمرٍ إن شاء الله.

* طاهر معمر محمد (الجزائر) طلب المزيد من الكتب التي تُعرِّف بمعتقدات الجماعة.

– حُوِّل طلبك إلى الجهات المختصة لتنظر فيه.

* الصديق محمد أرغال (المغرب) شكرنا على الخدمات التي نقوم بها للتعريف بالدين الإسلامي والطريقة السليمة التي ننشره بها، وأعرب عن استعداده لمساعدتنا في هذه المشاريع الروحانيّة الهائلة.

القُدس بلد السَّلام 

القدس الجديدة لها أهمية بالغة عند عامة الشعب اليهودي إلا أنَّها تحمل القداسة بسبب المسلمين أكثر من أي شعبٍ آخر.

لقد رأى سيدنا محمد المصطفى في الرؤيا أنّه ارتفع إلى السماء من المسجد الأقصى (ويعتقد بعض المسلمين أنَّ هذا الصعود كان صعودًا جسمانيًّا). وسخر كفّار قريش من الرسول واتَّهموه باتهاماتٍ لا فائدة ولا جدوى من سردها.. ولكن ربَّ العزة ردَّ على اتهاماتهم وافتراءاتهم وقال:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (الإسراء: 1)

تبعد مدينة القُدس حوالي 800 ميل من مكة المكرَّمة، و650 ميلاً من المدينة المنوَّرة، وحوالي 40 ميلاً من شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

لقد تأثَّرت طباع، ثقافة وتقاليد سكان القُدس بدياناتٍ ثلاثة: اليهوديّة، المسيحيّة، والإسلام. فاليهود تمسَّكوا بالمدن والأماكن التي وقعت فيها أحداث هامة في وقت حضرة سُليمان وداود عليهما السلام.. وتمسَّك المسيحيين بالأماكن التي عُذِّبَ فيها المسيح الناصري . أما المسلمين تمسَّكوا بالقُدس بناءً على معتقداتهم أنّ سيدنا محمد قد أسرى الله به من المسجد الحرام بمكّة إلى المسجد الأقصى بالقُدس..

وكلمة (القُدس) تعني بالهيروعليفيّة المصريّة (أوروشامم)، وفي اللغة الآريّة بـــ (أورشليم) وباللغة العبريّة بــــ (بروشالايم) التي تعني بلد السلام، أو عثرت عليَّ يدُ الله السلام. أما الآن فهي بلد الكروب والقتال والحصار الدائم الذي لا نهاية له.

من أقدم الأماكن في القُدس الحرم الشريف (القُدس القديمة) والحرمين، والصخرة والمسجد الأقصى وتحظى هذه الأماكن باحترام كبير لدى المسلمين. وبجوار المسجد الأقصى يقع جدار المبكى لليهود الذين يعتقدون أنّه بقايا معبد سُليمان. سُمِّيَ بحائط المبكى لأنَّ الرومان أوقفوا وحرموا دخول اليهود على المدينة وسمحوا لهم بالبكاء على حجارة الحائط.

وللمسيحيين هنالك عدّة كنائس، والكنيسة المركزيّة هي كنيسة القبر المقدَّس وتقع بالبلدة القديمة (القُدس القديمة) ومحاطة بعدّة بوابات كمدخل إلى المدينة.

وقد أثبت علماء الآثار أنّه من الصعب تحديد سببٍ واحد لقيام حضارةٍ في القُدس. فتبيَّن أنَّ أقوام من العصر الحجري سكنوا هنالك وعبدوا الطبيعة. وهناك آثارٌ أخرى للأقوام الجليليّة من اليرموك. أما أوائل الشعوب هناك فهم الكنعانيون. وكنعان تُعرف اليوم بأرض فلسطين.

عندما هاجر سيدنا إبراهيم مع والده إلى أرض كنعان.. أرض الجبال والوديان، كان أول شخص مؤمنٍ بتوحيد الله في تلك المنطقة. تُوفّي والده بحرَّان (بتركيا اليوم)، وبعد وفاته ترك سيدنا إبراهيم حرَّان بأمرٍ من الله ليعود إلى كنعان. وقد وعد الله أبناءه إسماعيل وإسحاق وذريَّتهم أن يتولَّوا الأرض. وقد أثبت التاريخ هذا الوعد. فقد استقرَّ إسماعيل بالعربة، وإسحاق بشمال كنعان، أما يعقوب ابن اسحق وقد سُمِّي بإسرائيل (أي الذي جاهد مع الله) فقد رُزِقَ بإثنى عشر ابنًا، وقد عُرِفوا مع عائلاتهم باسم بني إسرائيل. أما أحبُّ أولاد يعقوب وهو يوسف فقد بِيْعَ في مصر، ولكن سرعان ما استطاع أن يحكم بعد ذلك مصر. وعندما حلَّ القحط والمجاعة في أرض كنعان استدعى يوسف والده وإخوته ليحضروا مصر، وأعطاهم أرض هناك فاستقرُّوا فيها. ولكن بعد وفاة يوسف أمر فرعون باستعباد اليهود.

وفي الفترات الأولى من تاريخ الإسلام اعتاد المسلمون الاتجاه إلى القُدس في صلاتهم، ولكن بعد ذلك أمر الله المسلمين بالاتجاه نحو الكعبة المكرَّمة وذلك في قوله تعالى:

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (البقرة: 145).

وفي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عُرضت القُدس مقرًّا للخليفة وأن يتولّى المدينة. وحضر حضرة عمر بن الخطاب من المدينة المنوَّرة إلى القُدس. وبنى مسجدًا هنالك وعليه تلك القُبَّة الفاخرة العظيمة والتي سُمِّيت باسم (قُبَّة الصخرة) لأنّها تُشير إلى النقطة التي صعد منها النبي محمد إلى السماء في الرؤيا. وقد بُنيت القُبَّة الصخرة على يد معماري بيزنطي في القرن السابع.

ويُطلعنا التاريخ أنّ اليهود أُجبِروا على التشتُّت في كل أنحاء العالم في عهد الرومان، وبعد ذلك على يد المسيحيين. وقد قامت إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال على طرد اليهود من بلدانهم وسنُّوا قوانين لدعم أعمالهم هذه. وقد أُجبر اليهود على الإقامة في مناطق محدَّدة. ولم يتمتَّعوا بالحقوق المدنيّة بل أُجبروا على اعتناق المسيحيّة.. وفي هذه الظروف كان اليهود المتعصِّبين يعيشون في أمنٍ وسلام ولم يُجبروا في الاشتراك في أي حرب. وبعد الغزوات الصليبيّة على القُدس نُزعت الحماية عن اليهود، وفُرِضت عليهم الضرائب. ولكن هذا الاحتلال الصليبي كان لمدةٍ قصيرة فقط حتى عهد التارتان. وفي عام 1517م تولّى العُثمانيون الأتراك الحُكم وسمحوا لليهود بالعبادة على حائط المبكى بالرغم من أنَّ الصلاة على الحائط وقتها كانت فقط عند الشعور بالموت. وبقي الشعب اليهودي في أوروبا يُعاني بشدّة من التمييز العنصري والديني الأوروبي.. وفي هذه الظروف الصعبة تولَّد في اليهود أفكار الهجرة إلى بلدان تُرحب بهم مثل شمال إفريقيا ولكنهم أصرُّوا على العودة إلى القُدس. وفي عام 1917م عقد الإنجليز “وعد بلفور” الذي نتجت عنه خلافات كثيرة بين اليهود والعرب في فلسطين، وهُزِم الأتراك على يد الإنجليز. وفي الفترة ما بين عام 1904 وبداية الحرب العالمية الأولى هاجر خمسون ألف يهودي من أوروبا إلى فلسطين حتى يكون لليهود أغلبية السكان في المنطقة. إلا أنّهم لم يكونوا من المرغوبين فيهم من قِبل السكان الأصليين للمنطقة من يهود وعرب الذين ظنُّوا أنّ اليهود القادمين من أوروبا ليس فيهم الاحترام للدين ومبادئه.

فالسؤال: ما هو مستقبل القُدس؟

جاء في القرآن الكريم عن الأرض المقدَّسة:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (الأنبياء: 106)

ففلسطين هي الأرض الموعودة للذين وفوا بعهودهم مع الله كما فعل إبراهيم . وبما أنّ القُدس فيها تجمُّع لأعظم الديانات فمن الممكن العيش فيها في سلام وأمان ومن الممكن أن تصبح مرةً أخرى بلد السلام.. وما ذلك على الله بعزيز. (*)

(*) عن مقالةٍ بالإنجليزيّة لمنصور أحمد شاه

مساهمة الصديقة: ندى بجوى

(سويسرا)

Share via
تابعونا على الفايس بوك