الله نور السماوات والأرض
التاريخ: 1995-11-10

 الله نور السماوات والأرض

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

من خطب الجمعة

 تعريب: المرحوم الحاج محمد حلمي الشافعي[1]

خطبة الجمعة

ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد (أيدَّه الله)

الخليفة الرابع لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود

يوم 10/11/1995م

بمسجد الفضل بلندن

بدأ حضرته خطبة الجمعة بالتشهد والتعوذ وتلاوة سورة الفاتحة فقال:

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

ثم تلا بعد ذلك آيتين من سورة النور فقال:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ  (سورة النور: 36 – 37)

واستطرد بعد ذلك قائلاً:

أخذت سورة النور اسمها من هذه الآية التي تلوتها عليكم. وقد فسَّر حضرة الإمام المهدي هذه الآية، وأودُّ أن أشرحها لكم على ضوء تفسيره.

يقول حضرته: الله نور السماوات والأرض، فهو مصدر كل نورٍ ترونه في الأعالي أو في المنخفضات، سواء كان هذا النور في الأرواح أو في الأجسام، وسواءً كان نورًا ذاتيًّا أو عرضيًا مكتسبًا. والنور الذاتي يعني أن النور جزءٌ من تكوين الجسم، والعَرضي أي أنّه عارِضٌ من الصفات التي تُكتَسب ثم تزول.. كأن يكون الإنسان صالحًا أو طالحًا.. فهذه صفاتٌ لا تُضيف إلى كتلته ولا تُنقص منها، وهذه تُسمَّى صفاتٌ عارِضة. ولكن الشكل والقامة والوزن صفاتٌ ذاتيّة ثابتة. فكل الصفات التي لا تُضيف إلى الشيء بل تُقدِّمه في صورٍ مختلفة دون تغيُّر في حجمه أو هيئته.. هي صفاتٌ عارِضة. يقول سيدنا الإمام المهدي:

إنّ النور سواءً كان ماديًّا أو روحانيًّا، فهو في كِلتا الحالتين مُكتسبٌ من الله تعالى.. سواءً كانَ هذا النُّور باطنيًّا أو ظَاهِريًّا.. وسواءً كان هذا النُّور مرئيًّا أو غير مرئيّ. فمثلاً من صفات الإنسان صِفاتٌ مَكنُونة في ذاته، وما لم تَتجَلَّ هذه الصفات لا يعرِفُها الآخرون.. أما هيئة الإنسان وصورته فهي ظاهرةٌ يراها الناس. فسواءً كان هذا الحال أو ذاك، وسواءً كان هذا النور ذهنيًّا أو خارجيًّا، فهو مُنبثِقٌ من الله تعالى. مثلاً.. قد تتجلَّى على الإنسان صفاتُ الله تعالى، أو لعلَّه يتعرَّف على نقطةٍ مِنْ حِكَمِ العِرفان، فهذه حالاتٌ مِنَ النور يَمرُّ بها الإنسان. أو لعلَّه يرى نورَ الله يتجلَّى في شيءٍ ما، فهذا أيضًا نوعٌ من النور الخارجي.. فكلُّ الأشكال المختلفة للنور منبَعُها الله تعالى. فليس هناك بركةٌ من أي شكلٍ إلا وهي مُكتسبةٌ من الله تعالى. فقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. يعني أنَّ كل مخلوق يكتسب البركة من الله، ولو قطع الله بركته عنه لصارَ عدمًا وما كان وجوده ممكنًا، فإن لم يكن فيضُ الله مُتجلِّيًا عليه لا يبقى للشيء وجود. وما لم يتعلَّق الشيء برحمانيّة الله تعالى ينتهي وجوده، سواءً كان من ذوات الأرواح أو من الجمادات أو من غيرها، أو من الذرَّات التي نراها والتي لا نراها.. فكلُّ هذه الأشياء تتجلَّى فيها رحمانيةُ الله تعالى.

بعد هذا الشرح يقول حضرة الإمام المهدي:

كل هذا إشارة إلى أنّ فيض ربّ العالمين يحيط بكل شيء ولا يخلو شيء من فيوض رحمانيّته. إنّ الله هو مبدأ جميع الفيوض، ومنبع كل نور ورحمة. ذاته حقيقيّة، وهو قَيُّومٌ لكلِّ ما في العالَم. وهو القَيّوم الذي يُعطي ويكفل لكلّ شيء وجوده وبقاءه. كل شيء يجد الملجأ والحماية في قدرة الله تعالى. هذا هو معنى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . إنّ الله هو الذي أخرج كل شيء من ظُلمات العَدم.. فالعدُم ظُلمة، وعندما يُوجد شيء فقد خرجَ إلى نور. فالله تعالى يُخرج الأشياء من ظُلمة العَدم إلى نورِ الوجود، لذلك نقول إنّ الله تعالى موجدُ كل شيء. إنّه يُخرج كلّ شيء من ظُلمة العدم ويخلع عليه نور الوجود. فقوله: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني أنّه ليس لشيء سوى الله وجودٌ قديم وواجبٌ بذاته.. لأنّ السماوات والأرض في حدّ ذاتها ليست قائمة على الدوام، كما أنّها ليست موجودة منذ الأزل. هي ليست نور الله تعالى، وإنّما هي مظهرٌ لنوره .

بهذه العبارة حلَّ حضرة الإمام المهدي تلك المسألة الهامّة التي حاول الفلاسفة حلَّها منذ آلاف السنين، وأخطأوا فيها خطأً ذريعًا. يقول هؤلاء الفلاسفة: إذا كان الإله نورًا وهو موجود في كل مكان، فكل موجود يعكس ذلك النور يكون مظهرًا له، وبالتالي يكون هو ذلك الإله؛ وهذه الأنعام والحيوانات والسماوات والأرض والمخلوقات كلها أيضًا هي ذلك الإله.

ما هو الحدّ الفاصل إذن بين الخالق والمخلوق؟

يُبيّن لنا حضرة الإمام المهدي هذه النقطة، وعرَّفنا الفرق بين هذه الأشياء التي تُسمَّى نور الله وبين الله عزّ وعلا. قال: إنَّ هذه الأشياء مظاهر لنور الله تعالى، ليست فيها صفة الوجود، ولا يمكن أن يبقى ويستمر شيء منها بنفسه. إذا رفع الله قدرة التكوين من أي موجود أصبح هذا الموجود عدمًا. ولكل هذه الأشياء بداية ولكن ليس لله بداية. هكذا بيَّن حضرة الإمام المهدي الحدَّ الفاصل.. كيْلَا يظُنَّ أحدٌ أنَّ هذه الأشياء أيضًا آلهة. ثم يقول حضرته: يجب أن يتوفر شرط الوجود الدائم في الشيء ليكون واجبًا وقديمًا.. ولكن كل شيء يكتسب وجوده من الله تعالى. فلا يمكن أن يُتصوَّرَ وجودٌ يبقى حيًّا أو قائمًا بدون مددٍ من الله تعالى. هذا هو الفيضان الذي قد أحاط كل شيء كالدائرة، ولا يمكن لأي وجودٍ نتصوَّره أن يخرج عن هذه الدائرة.. دائرة فيضان الله تعالى. وبدون أي استثناء.. كل شيء سواءً كان حيًّا أو عديم الحياة، صالحًا أو فاسدًا.. يكتسب النور من الله، وهو يحتاج إلى قرارٍ بوجوده من الله تعالى.

ومن هنا نفهم لماذا طلب الشيطان مهلةً من الله تعالى. فالشيطان يعرف أنّ الله تعالى إذا لم يُمهله أو لم يسمح له بذلك.. فلا يستطيع أن يقوم حتى بالأعمال الفاسدة أيضًا. فالشيطان يعمل لأنّ الله تعالى أمهله، وإلا لما استطاع القيام بهذه الأعمال. من هنا نستطيع أن نفهم العلاقة بين الصالح والطالح.. الله تعالى يريد الخير، ولكن الشرير عندما يُصبح شريرًا ويريد أن يأخذ الشر بدلاً من الخير فالله تعالى يسمح له. عندما يُخيِّر الله الأشياء لتكون خيرًا أو شرًّا.. فحينئذٍ فقط تستطيع أن تكون خيرًا أو شرًّا. ولكن لا يمكن -دون أن يسمح الله لها- أن تبقى في حالة خيرٍ أو شر. لذلك تكون دائمًا لها علاقة بالله.

الشرُّ لا يصدر من الله تعالى، ولكن الشرّ لا يمكن أيضًا أن يحدث بدون إذن من الله تعالى. يجب أن يفهم الإنسان أنّ الشرّ ليس من الله تعالى، ولكنه أيضًا لا يمكن أن يبقى بدون إذن من الله تعالى.. وأن من يختار الشر يختاره بحريته.. لذلك هو الذي يتحمَّل العقوبة على اختيار الشر. لقد سجَّل الله تعالى حواره مع الشيطان ليشرح لنا هذا الموضوع.. وأنّ الشيطان ما كان يستطيع البقاء بدون إذن الله، وقد أَذِنَ الله له، وقال إنّه يسمح لعباده أن يتَّبعوه أو يتَّبعوا الله.

فالرسول الذي كان المثل الكامل للنور في العالَم كان أُميًّا يعيش بين القوم الذين كانوا أدنى الأُمم ثقافةً. وُلِدَ ونشأَ في قومٍ لم يكن فيهم حبُّ التعليم، ومع ذلك تطوَّر وتقدَّم سيدنا المصطفى لدرجة أن أصبح مظهرًا للنور الكامل..

هذا مشهدٌ محيّر لإذن الله تعالى.. فهو عندما خيَّر الشيطان خيَّر الناس أيضًا. لو سمح للشيطان ولم يسمح للناس لم يكن هناك أي إذنٍ للشيطان، ولكن الله تعالى قال للشيطان: استخدم كلَّ طاقتك، وتعالَ لهم من اليمين والشمال. لك أن تُضلَّهم إن استطعت. هؤلاء أيضاً مُخيَّرون أن يختاروني أو يختاروك، ولكن عبادي المـُخلصين لن يتَّبعوك أبدًا. ورغم أنني أذِنتُ لك بإضلالهم.. فلن تستطيع أن تتمكن منهم بالتضليل.

وعلى هذا.. عندما يقول حضرة الإمام المهدي أنّ كل شيء يمكن أن نتصوَّرهُ مبنيٌّ على النور.. فمعنى ذلك أنّه لا يمكن أن يبقى على حاله بدون إذن من الله تعالى. لا يمكن أن تبقى الظلم أو الخسارة ما لم يكن هناك إذنٌ من الله تعالى.

ولكن هناك فيضٌ إلهيٌّ خاص.. ويشرح حضرة الإمام المهدي ذلك الفيض الخاص ويُبيَّنه بصورة التمثيل.. فيقول هناك فيضٌ خاص مشروط بشروط، ينزل على أفراد تتوافر فيهم شروطٌ معيّنة لكسبه. لقد ذكرتُ لكم ما هو الفيض العام الذي يشمل جميع العباد.. سواءً عباد الله المخلصين، أو الأشرار من الناس. ومثاله كمثل المطر الذي يمطره الله تعالى على الشرير والصالح. هناك نِعَمُ الله المتاحة للجميع، والتي قد يستغلّها الأشرار أكثر من الأخيار. فإذا كانت الأُمم الشريرة أيضًا تعيش وتتقوّى وتتكالب على الصُلحاء.. وتستغل هذه النِّعم استغلالاً أكثر، فهذا دليلٌ على أنّ رخاءهم واستغلالهم من نِعَمِ الله تعالى بسبب الرحمة الإلهيّة العامة التي جعلها الله تعالى لجميع الناس، ولا يصحُّ أن يُخدع في ذلك أحدٌ ويقول بأنّ لله علاقةً بالشرّ.. أي أنّه هو الذي يُسبِّب الشر. بل الحق أنّ الشرَّ والخير كِلاهما يكتسبان من فيض الله ورحمته العامة الواسعة. لقد شرح الله تعالى هذا الموضوع وقال أنّه قد خلق كل الأشياء والطيّبات للناس أشرارًا وصلحاء على السواء في الدنيا، ينال منها الصالحون كما ينالُ منها الأشرار، ولكن بعد الموت.. في الحياة الآخرة تكون خالصةً للمؤمنين الذين يموتون على الإسلام ولأجله، وفي الآخرة سوف يُحرم الأشرار منها. وهذه هي النِّعمة الخالصة من الله تعالى للذين لا يَقبلونَ تأثير الشيطان. وهناك شروطٌ يوفون بها، وواجباتٌ يؤدُّونها.. حتى يتنزَّل عليهم هذا الفيض الخاص. وهذا الفيض الخاص هو ذلك النور الذي ذكره الله تعالى تمثيلاً.. حيث جعل النبي مِثالاً لذلك النور، وبيَّن أنّ هذه الرحمة الخاصة تخصُّ عباد الله المخلصين.. وعندما تصلُ هذه الرحمة إلى ذروتها ومِعراجِها.. فعندئذٍ يتألَّقُ النور في محمد . وهذا التألُّق هو أقصى الترقيَّات للإنسان.

يقول حضرة الإمام المهدي في شرح هذه الآية: إنّ هذا النور يتنزَّلُ على خاصّةِ عِبادِ الله.. الذين لديهم مَلَكاتٌ لتلقِّي هذا النور.. كالأنبياء، وأعظمُهم مقامًا هو محمد المصطفى . فمن بين جميع الناس يكون أنبياء الله تعالى مورِدًا لهذا النور بطريقةٍ كاملة، وفي القمّة منهم المقام الذي تبوَّأه الرسول .

يبدو أنّ هذا الموضوع صعبٌ وسأحاول تبسيطه، ولا بأس من الإطالة في بيانه، لأنّ كثيرًا من الإخوة كتبوا في رسائلهم أنّهم يجدون صعوبةً في فهم كل معاني هذا الموضوع، وأشار البعض الآخر أن سلسلة الخُطب هذه قد حلَّت لهم كثيرًا من المشاكل.. وهناك أمرٌ عجيب يتعلَّق بهذا الموضوع، وهو أنّ الثقافة لا تلعب دورًا كبيرًا في فهمه.. فإنَّ كثيرًا من المثقفين الذين حقَّقوا الكثير من المعارف الدنيويّة يقولون أننا لم نفهم شيئًا، وكثيرًا من غير المثقفين الذين بالكاد يعرفون القراءة والكتابة يقولون أننا فهمنا جيدًا، ويتبيّن من تعليقاتهم أنّهم قد استناروا من هذه الخُطب. وموضوع المثال الذي سوف أذكره الآن يتعلَّق بما قلت.. فالرسول الذي كان المثل الكامل للنور في العالَم كان أُميًّا يعيش بين القوم الذين كانوا أدنى الأُمم ثقافةً. وُلِدَ ونشأَ في قومٍ لم يكن فيهم حبُّ التعليم، ومع ذلك تطوَّر وتقدَّم سيدنا المصطفى لدرجة أن أصبح مظهرًا للنور الكامل.. بحيث أنه إذا كان في هذه الدنيا أحدٌ صار مظهرًا كاملاً لنور الله تعالى فهو رسول الله .

فالإخوة الذين يظنُّون أن خُطبي هذه تخصُّ العلماء والمثقفين فقط أقول لهم أنّ تعاليم الرسول يخصُّ العالَم كلّه، ولا يصحُّ لأحدٍ أن يتعلَّل فيقول: إنني لم أكن مثقفًا ولذلك لم أفهم تعاليمه. من الذي علَّم النبيَّ ؟ إنّ نورَ التقوى هو الذي يمنح الترقّي ويُعلِّم الإنسان ويزيده عِرفانًا بالله تعالى. فإذا كنتم لا تفهمون الموضوع فيجب أن ينتابكم القلق بشأن أنفسكم.. لأنّه إذا كان هناك نورٌ في السماء أمكن للإنسان أن يرى نور الشمس حتى ولو كان بصره ضعيفًا. ولا يمكن لأحد أن يقول: إنني لست مثقفًا فلا أستطيع أن أرى في النهار، أو يقول: أنا مثقف فأستطيع أن أسير في الظلام. إنّ هذا الأمر يتعلّق بنور الذكاء أو البصيرة.. فكما أنّ الإنسان بحاجة إلى النور في الدنيا الماديّة ليستفيد منه، كذلك هو بحاجة إلى بصيرةٍ ثاقبة في الأمور الروحانيّة. فيجب أن تهتموا ببصيرتكم الروحانيّة، وادعوا الله تعالى أن يصقُل بصيرتكم، ويُيسِّر لكم الأمور التي يصعب فهمها. فمثلاً يصعب على الإنسان أن يرى بعض الأشياء على البعد، كذلك تكون بعض المواضيع دقيقةً يحتاج الإنسان فيها إلى نظرةٍ دقيقة، ولكن الله تعالى قد أودع الإنسان القدرةَ على النظر الدقيق، وهو بحاجة إلى منظار التقوى. فإذا استخدمتم منظارًا قويًا من التقوى فسترون أدقَّ المعاني التي لا ترونها عادةً.

لقد فسَّر لنا حضرة الإمام المهدي هذه الأشياء لأنّه رآها بمنظار التقوى، ولم يكن أحدٌ أتقى منه في هذه الأيام. ونستطيع أن نرى بعينه إلى حدٍّ ما، ونستطيع أن نُدرك بعض الإدراك لهذه المشاهد التي رآها حضرة الإمام المهدي. لذلك فأنا أحاول أن أُبسِّط لكم أقواله، وأدعو الله تعالى أن يصقل بصيرتنا كي نستطيع أن نرى نور الله تعالى، فبدونها لا نستطيع رؤية هذا النور.

يقول حضرة الإمام المهدي: إنّ هذا الفيض حقيقةٌ دقيقةٌ نادرة، وهي حقيقةٌ ثابتة لا ريب، ولكن الحجج والأسباب التي تتعلّق بالحكمة التي أُريدُ أن أُحدِّثكم عنها هي أشدُّ لُطفًا. وبسبب ذلك أوضح الله فيضه العام أولاً، ثم بعد ذلك ذكر فيضه الخاص في صورة مثالٍ للنبي ، وهكذا يسَّر الله لنا هذا الأمر. تحدَّث أولاً عن النور العام الذي يمكن أن يفهمه كل إنسان فقال اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . فكل إنسان يستطيع أن يفهم أنّه لا يمكن لشيء أن يوجد أو يبقى ما لم تتوفّر له إرادة الله تعالى. وكل صفة أو قدرة تتجلّى في أي شيء هي في يد الله تعالى.. فإذا حافظ الله -من خلال قوانينه في الطبيعة- على هذه الصفات بقيت هذه الصفات في الشيء، وعندما يرفع الله يدَ الحماية انعدمت هذه الصفات في الشيء. وعلى هذا.. يبقى الشيء ما دام وجوده مقدَّرًا في خطة الله وإلا ينتهي. ونور الله يعمل في الإنسان، وبدونه لا يمكن تعريفه. ويقول الله أنّه في إطار هذا النظام سوف تزداد وتُصقل هذه الملَكَات، ثم بمرور العمر سوف تضعف كما يضعف ضوء الشمس بعد منتصف النهار، وهذا ما يُسمَّى عندنا الشيخوخة. وآخر مراحل هذه الشيخوخة هي أرذلُ العمر. فهذه الصفات والملَكَات وإن كانت تُسمَّى مظاهر نور الله ولكنها ليست نورًا بنفسها وإلا ما كانت لتزول.

ويقول حضرة الإمام المهدي: أما بالنسبة لنور الله تعالى فلا يمكن وصفه إلا بأن نضرب له مثالاً.. لأنّ نور الله تعالى لا يستطيع العقل البشري أن يعرف كُنْهَهُ وحقيقته بأي وسيلة. يمكن أن يستفيد الإنسان من هذا النور، ولكنه لا يستطيع أن يعرفه معرفةً تامة، لأنّ هذا أسمَى من قدرة الإنسان. لذلك بيَّن الله تعالى هذا الامر بالتمثيل والمقارنة كي نتمكن من فهمه.. وأفضل وأصدق وأقدس مثال لذلك عند الله تعالى هو محمد رسول الله .

ويقول الله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ، ويقول حضرة الإمام المهدي في تفسيره: إنّ الله تعالى ضرب هذا المثل لكي يُسهِّل فهم هذه المسألة الدقيقة، ولا يبقى هناك إِبهام. وإذا لم يُفهِّمنا الله نُوره بمثال النبي ما كان في وسع أيِّ إنسان أن يَفهَمه، لذلك ضرب الله تعالى لنا مثال نوره بالنبي . وهكذا فتح لنا بابًا لفهم هذا الموضوع الدقيق من الحِكم الإلهيّة العميقة.. لأنّ المعاني المعقولة إذا صُوِّرت في أمثلةٍ محسوسة فإنّ الإنسان وإن كان ذا فهمٍ قليل يمكن أن يفهم هذه الأمور الدقيقة، لذلك ضربَ الله مثالَ محمد لشرح نوره.

تقول الآية: إنّ مثال هذا النور موجودٌ في رجلٍ كامل هو محمد ، ومثاله كمصباحٍ في زجاجة داخل مشكاة. المشكاة مثل الفانوس. فما هي تلك المشكاة بالنسبة إلى النبي ؟ يقول حضرة الإمام المهدي: إنّها صدر النبي -أي عقله- الذي كان قد انشرح ليَسَعَ كل المفاهيم والمعارف في الكون كله، لأنّ العلوم الإلهيّة العميقة كانت تتنزَّلُ في هذا الصدر. ولماذا اختار الله تعالى صدرَ محمد؟ لأنّه كان صدرًا رحيبًا للغاية. وفي هذه المشكاة.. في هذا الصدر أو العقل يوجد سراجٌ. فما هو هذا السراج؟ يقول الإمام المهدي: هذا السراج هو وحيُ الله تعالى.. هذا السراج هو المثال الذي ضربه الله لنور الله الذي يتوقّدُ في ذهن -أو قلب- النبي . أين هذا المصباح؟ هذا المصباح في زجاجة.. في كرةٍ بلوريّة.. من الزجاج شديد الشفافيّة والصفاء بحيث لا يُكدِّر ضوء المصباح.. بل يخرج هذا الضوء صافيًا إلى كل الجوانب.

فهذا الفانوس هو قلب النبي يتجلّى عليه نور الله فينبعث للناس. ولم يكن هذا النور الإلهي ينبعث من قلب أحدٍ من الناس بمثل ما انبعث من قلب النبي لأنّه لا أحد سواه يملك هذا الفانوس المتوهِّجَ المتألِّق.. الخالي من أيِّ كدرةٍ أو غبرة.. بحيث ينشر الضوء من خلال الزجاجة الصافية كما هو دون أيّ تغيُّر. هذه هي الصفة الأساسيّة لقلب محمد ولذلك اختاره الله تعالى لينشر نوره في الدنيا. في ذلك القلب المقدَّس.. قلب محمد رسول الله.. أنزل الله تعالى هذا المصباح.. لأنّه قلبٌ مُنزَّهٌ من كلِّ كُدورةٍ وكثافة.. كالبلّور الشفاف النقيّ الذي لا يكون فيه شائبة من الشوائب، وهو قلبٌ مُطهَّر ومنزَّه تمامًا من أي علاقاتٍ بغير الله تعالى.

انظروا ما أروع هذا التفسير والوصف لقلب محمد . يقول إنّه نزيه من كل علاقة بغير الله تعالى. لو نزل الوحي على قلبٍ فيه شائبةٌ من الدنيا فلا بدَّ أن يتكدَّر هذا الوحي عندما يخرج منه. فالكدورة تنشأ من علاقات الدنيا.. التي تحرم صاحب الوحي من فهمِ هذا الوحي، وأيضًا تحرمه من أن يعكس هذا الوحي للناس صافيًا كما جاء إليه. وبقدر صفاءِ القلب يكون صفاء الفَهم وصفاءُ الأشعة المنعكِسة. وهذا الذي يقوله حضرة الإمام المهدي ليس كلامًا خياليًّا أو كلماتٍ فارغة بل هي حقائق قائمة على حكمةٍ عميقة. لو غُصنَا في أغوراها وفهمناها لعرفنا معنى النور وبأي مفهومٍ جاء. فقلب النبي الطاهر ذُكِر هنا كفانوسٍ مُتلألئ ليتنزَّل عليه وحيُ الله تعالى، وهو من اللمعان والصفاء بحيث يُضيء الدنيا كلها.. وهذا هو المثَل الذي ذكره الله في هذه الآية مُشيرًا إلى النبي .

إنّ الله تعالى ضرب هذا المثل لكي يُسهِّل فهم هذه المسألة الدقيقة، ولا يبقى هناك إِبهام. وإذا لم يُفهِّمنا الله نُوره بمثال النبي ما كان في وسع أيِّ إنسان أن يَفهَمه، لذلك ضرب الله تعالى لنا مثال نوره بالنبي . وهكذا فتح لنا بابًا لفهم هذا الموضوع الدقيق من الحِكم الإلهيّة العميقة..

ثم يقول حضرة الإمام المهدي: وهذه الزجاجة صافية ولامعة كأنّها نجمٌ شديد التَألُّق كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .. كأنّ الله تعالى رفعَ الرسول بين النجوم والكواكب وقَرَنهُ بأشدِّها تألُّقًا.. فهو وإن كان من أهل الأرض لكنه صار من أهل السماء.

ثم يقول حضرة الإمام المهدي: أي أنّ قلب محمد خاتَم الأنبياء الذي يُرى نوره كالماء الدافق مُنبعثًا منه، وهذا السراج يُوقَدُ من شجرةِ زيتون.

يقول أمير المؤمنين: هذه مسألةٌ يتدبَّر فيها الناس ولكنهم لا يستطيعون أن يفهموها، ولكن كشفها الله لحضرة الإمام المهدي. يقول عن المراد من قوله شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ هو شخصية النبي لأنّه مجموعةٌ من البركات، وفيضه ليس محدودًا بمكان أو زمان أو اتجاه، وإنّما فيضه دائمٌ لا ينتهي أبدًا وبركاته للناس جميعًا.

لقد قال هذا لأنّه من بين كل الأشجار التي خلقها الله تعالى لمنفعة الناس.. يمكن أن تكون شجرة الزيتون أنسب شجرة تصلُح مثالاً لشجرة البركة المحمديّة.. لأنّ هذه الشجرة توجد في الشرق والغرب على السواء، ويخرج منها زيتٌ صافٍ شديد النقاء، لا مثيل له في الصفاء لدى أي شجرةٍ أخرى. ثم إنَّ هذا الزيتون مفيدٌ جدًا.. ولذا ضُربت هذه الشجرةُ الطيّبة.. شجرة الزيتون.. مثلاً لشجرة وجود النبي. إنّ هناك فوائد كثيرة لزيت الزيتون.. وعندما يحترق لا يكاد يُحدث أي دُخان.

لم يكن ممكنًا أن يُضرب لشجرة وجود النبي مثالاً في شجرةٍ أخرى غير الزيتون. والقرآن أيضًا يشرح هذا الموضوع ويُبيِّن أن شجرة الزيتون نفسها أيضًا مثال أقل من مثال شجرة وجود النبي .. ففي بعض الأحيان يكون المثال (المشبَّه به) أضعف من الممثل (المشبَّه). فأقرب شيء لنور الله تعالى هو نورُ الرسول – وهو ليس الله .. وأقرب شيء لضرب مثال وجود رسول الله هو شجرة الزيتون.. وزيتها هو الأصفى والأنقى.

ويمكن أن تفهموا هذا المثال من ناحيةٍ طبيّة، فهو أفضل زيوت الطعام. لقد اتفق العلماء بعد بحوثٍ كثيرة أن الذين يأكلون زيت الزيتون أقلُّ عُرضةً للأزمات القلبية من الآخرين. ليس هناك زيتٌ آخر فيه مثل هذه الفوائد. كل زيت فيه مكوِّنات تؤثِّر في القلب، وهي تترسَّبُ في الشرايين، وهذا الترسيب يُسبب الأزمة القلبيّة. ولكن هذه المكوِّنات أقل ما تكون في زيت الزيتون. وقد أشار الله إلى هذا روحانيًّا في الآية التالية.

نرجع مرةً أخرى إلى ما كتبه حضرة الإمام المهدي، يقول: إنَّ هذا الزيت مُستخرج من شجرة الزيتون، والمراد من الشجرة المباركة هو شجرة وجود النبيّ لأنه جامعٌ لأنواع البركات والخير والكمالات، وفيوضه لا تتقيَّدُ بجهةٍ أو مكان أو اتجاه، بل هي عامةٌ لكل الناس، دائمةٌ لا تنقطع أبدًا. وهذه الشجرة ليست شرقيّة ولا غربيّة. وهذا يُشير إلى أنّ شجرة وجود النبي لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ .. فكما أنَّ شجرة الزيتون تعمُّ بنفعها الشرق والغرب فإنّ النبي بصفاته الروحانيّة وتعاليمه لا يُفرِّق بين الشرق والغرب، ولا يتعصَّبُ لهذا على ذلك، بل تفيض بركاته للجميع على السواء. ثم ليس في فطرة النبي إفراطٌ ولا تفريط، بل هو على الاعتدال الكامل. فجملة “لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ” تعني أيضًا بأنه في الوسط.. كمؤشّر البوصلة تُشير دائمًا إلى الشمال وهو دائمًا يكون في الوسط. وإنّه مشتركٌ بين الشرق والغرب، وهو في الوسط من ناحية الصفات والخِصال، وفي الوسط بالنسبة إلى العلاقات مع الناس. وكذلك هو في الوسط من ناحية تعاليمه، ولا يمكن أن يقول أحدٌ عن تعاليمه أنّها تُناسب الشرق وليس الغرب أو يقول العكس. فقوله لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يُشير إلى كون النبي هو الأفضل.. لأن كلمة أوسط تُستخدم للأعلى والأفضل. لان من يكون في الوسط هو الأفضل. فقوله لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يُشير إلى صفاته العالميّة، وإنه الوحيد الذي جُعِلَ نموذجًا لنور الله تعالى لكل العالَم.

ثم يقول حضرة الإمام المهدي أنّ شجرة وجود النبي معتدلة على أحسن تقويم. يقول الله تعالى في سورة التين لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ .. أي إنّ الله تعالى جعل صفات النبي كلها معتدلة. إنّ الله تعالى خلق صفات الإنسان معتدلة، ليس فيها ميلٌ إلى صفةٍ معيّنة كما في الحيوانات.. ففيه صفة الشجاعة كالأسد، وفيه التواضع كالشاة. كل الصفات المعتدلة الموجودة في الحيوانات الأخرى رُكِّبت في الإنسان بعد التسوية. وفي هذا إشارة إلى مرحلة التطوُّر الطويلة لتسوية صفات الإنسان وبعدها أثمرت الحياة ثمرة الإنسان. كثيرٌ من الحيوانات الأخرى لم تكن صورة كاملة لهذا التعديل. الحيوانات الأخرى ثمارٌ لِحُسنِ تقويم، ولكنها ليست ذروة هذه الثمار.. وإنما الذروة هي الإنسان. والمرحلة الأخيرة.. وذروة الناس هو الرسول الذي تجلَّت فيه هذه الصفات في أحسن تقويم.

يقول حضرة الإمام المهدي: إنّ نور الوحي قد أشعل هذا المصباح، ومعنى ذلك كمال الصفات والأخلاق الفاضلة في النبي .. المخدومة بمقدرةٍ فكريّةٍ صافية.

الموضوع يزدادُ دقةً ولُطفًا.. ولكن النبي من الصفاء والوضوح بحيث لا يعجز عن فهمه إلا عديم الذكاء.

إذا لم يستطع أحدٌ أن يفهم بسبب عمق ما يتضمَّنه الموضوع من حكمةٍ دقيقة فذلك لأنه غبيٌّ أو بليد. ولكن نور فطرة حضرة الإمام المهدي كان مصقولاً، وأُعطِيَ زيتًا كان في الحقيقة بركَةً من زيت شجرةِ محمد .. ولذلك استطاع أن يرى بيُسرٍ وسهولة. هذه الجملة ثقيلة، ولكن إذا أُزيحَ ثقلها فُهِمَتْ. وحضرة الإمام المهدي عاش في هذا الجو ورآه بجلاء، لأجل ذلك نقول إنّه كان من ذلك العالَم.. وأمثالنا يمكن أن يُعتبروا أمامه أغبياء. فإذا كنا لا نستطيع أن نرى بعين النبيّ فلنحاول أن نرى إلى حدٍّ ما. يقول الشاعر: المرآة لا تعرف صفاتك وشرفك.. فانظر بعيني لترى نفسك. فالإنسان العادي لا يستطيع أن يعرف مرتبة النبي ، فإذا أردنا أن نعرف حُسنَهُ ومرتَبتهُ فعلينا أن نراها بعين الإمام المهدي .

لو أنّ إنسانًا فيه حياءٌ وشرف قرأ تفسير حضرة الإمام المهدي لا يمكن أن تخرج منه كلمةٌ من الوقاحة ضد حضرته. حتى لو لم يفهم كل هذه الكلمات.. فإنّه على الأقل سوف يعترف بأنّ هذا الكلام صادرٌ من عارفٍ بالله تعالى.. له اتصالٌ كاملٌ برسول الله كاتصال العاشق بالمحبوب.

ثم يقول حضرته أنّ سِراج الوحي قد أُشعِلَ بذلك الزيت.. وهذا يحلُّ عقدةً صعبة لم يستطع حلَّها علماء “الباراسيكولوجي” منذ زمنٍ طويل. في بعض الأحيان، وبدون الوحي، يمكن لقلب الإنسان الذي ليست فيه كُدورَةٌ كثيرة.. أن يتوقَّد في بعض المجالات وكأنّه يرى بالوحي أشياء لا يراها الآخرون. كان العلماء يرفضون هذه المسألة ولكنهم بدأوا الآن يعترفون بها سواءً فهِموها أم لم يفهموها. هناك علماءٌ بحثوا هذه المسألة في روسيا وفي أمريكا وهنا في جامعة كامبردج أيضًا. وهذه المسألة هي: كيف يُدرك الإنسان بدون الحواس الخمسة أشياءً ليس لها رابط بالحواس الخمسة. مثلاً هل يرى الإنسان مشهدًا بدون الضوء؟ هذا أمرٌ غير مقبول علميًّا. ولكن إذا أغلق أحدٌ عينيه ورأى حدثًا يجري في الصين، ثم لو ثبُتَ بعد التحرِّي أنّ هذا الحادث كان بالفعل يجري في الصين في ذلك الوقت.. فأهلُ العلم يقعون في حيرة. ولكن الله تعالى قد زوَّد الإنسان بالقدرة التي تُتيح له الاتصال بنوره. إن الإنسان بحاجة إلى قوّة هذا الزيت الذي يُشبه شجرة الزيتون المباركة المشار إليها بالنسبة للنبي .

فكما أنَّ شجرة الزيتون تعمُّ بنفعها الشرق والغرب فإنّ النبي بصفاته الروحانيّة وتعاليمه لا يُفرِّق بين الشرق والغرب، ولا يتعصَّبُ لهذا على ذلك، بل تفيض بركاته للجميع على السواء. ثم ليس في فطرة النبي إفراطٌ ولا تفريط، بل هو على الاعتدال الكامل.

يقول حضرة الإمام المهدي أنّه لتلقّي الوحي يجب أن يكون زيت فكر الإنسان صافيًا ونقيًّا.. لأنّ هذا الزيت هو الذي سوف يشتعل بنور الوحي. إذا لم يكن الزيت من هذا النوع فلن يشتعل، ولا يؤثِّر الوحيُ في إنسان لا يستطيع تقبُّله. لو نزل الوحي على جبل لتصدَّع وتمزَّق إرباً لأنّه غير مُهيَّء له. فلكي تحصل على النور من الوحي، وتنبعث خَلْقًا جديدًا.. لا بدَّ أن يكون لفطرتك هذا الزيت الأساسي، ويجب أن يكون شفافًا وصافيًا. وكلما كان أكثر صفاءً كانت فرصة اشتعاله وإضاءته أكثر عندما يمسَّه نور الوحي.

يقول حضرة الإمام المهدي: ما هذا الزيت؟ هذا الزيت هو العقل النوراني اللطيف للنبيّ . هذا الذكاء النوراني هو الحاسة السادسة التي تتعلَّق بكل الحواس الأخرى. وهذه الحاسّة السادسة هي ذروة ما تصل إليه الحواس.. وهي الحقيقة النورانيّة.

يقول حضرة الإمام المهدي إنّ الحواس الخمسة للنبيّ كانت أكثر صفاءً ولُطفًا، وكانت نورانيّةً أيضًا، وكانت مصقولة لدرجة أن توَلَّد النورُ فيها أشدّ من القدرة العامة للإنسان. ومن الضروري لهذا العقل اللطيف النوراني من أن تصحبه الصفات الأخلاقيّة الفاضلة.. التي ترتوي من هذه الينابيع المتدفِّقة والأنهار الجارية بالنور. وهذا ما تتولَّد عنه الصفات الأخلاقيّة، وتنشأ من هذه القدرة الفكريّة، فَيُضيء المصباح بالوحي من الله تعالى.

بوِسْعِكم الآن أن تفهموا اللطائف النورانيّة التي أدركها حضرة الإمام المهدي من هذا المثل القرآني. وفَهْمُ هذه اللطائف أيضًا يتطلَّبُ نورًا، وعيْنًا ترى هذا النور كما كان لحضرة الإمام المهدي. وكل إنسان يحتاج إلى النور ليُدرك أن اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . فالجزء الثاني من الآية يتعلَّق بعباد الله الذين لا يغلبهم الشيطان، وإنما هم متحرِّرون منه، وعِباد الله هؤلاء يستطيعون الحصول على هذا النور من الله تعالى.. لأنّ نور فطرتهم أيضًا يكون مُضيئًا، وتكون أخلاقهم أيضًا لطيفة، وتكون رحلتهم إلى الله تعالى في كل لحظة بحيث يزدادون صلاحيةً لتلقّي الوحي. ورحلتهم هذه تكون في الصراط المستقيم المتصف بالوسطيّة.. الذي يُدخل الإنسان في منزلة الأنبياء، وسمَّاه الله منزلة: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . فهؤلاء عندما يمضون في هذه الرحلة يستخدمون كل ما لديهم من الصلاحيات والقدرات ويترجمونها إلى دُنيا الأفعال.. وهذا هو تنزُّل الوحي.

إنّ الله تعالى يُنزِل وحيه على من يشاء، ولكنه لا ينزله على أحدٍ بلا ضرورة وبدون حكمة، بل يُنزله على من يستحقّه، لأنّ الوحي ليس فيضًا عامًّا.. بل هو فيْضٌ خاص لمن رفضوا الشيطان. هذه الأمور لا أشرحها كمُمارسةٍ عقليّة ومتعةٍ ذهنيّة.. بل هذه ضرورةٌ حقيقيّة. فما لم تفهموا آداب هذا السَّفر في هذا النور، ولم تعرفوا القواعد والقوانين لهذه الرحلة.. لا تستطيعون أن تقوموا بها في اتجاه هذا النور. وسَفرُنا إلى النور ضرورةٌ قُصوى.. لأنّ القرآن قد بيَّن لنا أنّ خُلاصة الدين والسعادة هي أنّ الله تعالى يُخرِج عِباده من الظُلماتِ إلى النور.

فيجب ألا يقول أحد بأنّني أتحدَّث إلى ذوي الثقافة فقط، بل ما أقوله هو ضرورة مُلِّحة لكل إنسان.. يجب ألّا تعتبروا ما أقوله لطائف علميّة، حتى لو لم تفهموا دقائق الحكمة التي عبَّر عنها الإمام المهدي.. فما دام قد شرح لكم هذه الأمور وبسَّطها فيجب أن تفهموها.

والآن أُلخِّص الخُطبة: إنَّ الرحلة إلى النور تتطلَّبُ منّا أن نُنقيَّ قلوبنا من الشوائب، وتتطلّب منا أن نشرح صدورنا.. في علاقاتنا مع البيت؛ مع المجتمع؛ مع من يتفقون معنا في الآراء؛ ومع من يُخالِفوننا في الرأي أو الدين. فإذا صار الصدرُ رحْبًا لهذه الرحلة فسوف يكون مُستعدًّا لتلقّي النور المحمّدي.. لأنّ قلب النبي كان جاهزًا لتلقّي ما في العالَم من آلام. فيجب أن تشرحوا صدوركم وتجعلوها رَحْبة، وتُنقُّوا قلوبكم من شوائب الدنيا، لأنّكم إذا طهَّرتم قلوبكم منها فسوف ينصَقِلُ نورُ فِطرتِكُم، وسوف ترونه. ثم ينزل عليكم النور السماوي من السماء، ويكون بكم استعداد لقبول ذلك النور. وهذا ما ذُكِرَ في الآية القرآنيّة الكريمة، وفي ضوئها قدَّم حضرة الإمام المهدي تفسيره.

[1] رئيس التحرير السابق وهو كاتب من مصر الشقيقة

Share via
تابعونا على الفايس بوك