خـتـم النبــوة

خـتـم النبــوة

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (10)

إن موضوع ختم النبوة.. واعتبار كون نبوة سيدنا محمد هي النبوة التي لا يمكن أن تأتي في ظلها أي نبوة أخرى.. هو من الموضوعات التي ما زالت تستعر على أشدها بين جمهور المسلمين وبين أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية. وإننا نرجو من حضرات العلماء الأفاضل.. ومن جمهور المسلمين عامة.. أن يزنوا الأمور بميزان العقل والمنطق، في ظل ما جاء في كتاب الله تعالى وفي سُنّة رسوله، وألا يتسرعوا بالإدانه والتكفير، مثلما فعل المولويون المتعصبون أيام الإمام المهدي في قضية وفاة المسيح بن مريم ، ثم بعد مضي ردح من الزمن.. أقر العلماء المتنورون، والنخبة المثقفون، بصحة الرأي الذي نادى به سيدنا أحمد .

ويتركز الخلاف في موضوع ختم النبوة حول الآية الوحيدة التي وردت في سورة الأحزاب وهي قوله تعالى:

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (الأحزاب:41)

ولا بد من التنويه هنا بأن سيدنا الإمام المهدي كان يؤمن كل الإيمان بأن رسول الله كان بحق خاتم النبيين، وفي ذلك كتب يقول:

“وبعزة الله وجلاله إني مؤمن مسلم، وأؤمن بالله وكتبه ورسله وملائكته والبعث بعد الموت، وبأن رسولنا محمدا المصطفى أفضل الرسل وخاتم النبيين.” (حمامة البشرى، الخزائن الروحانية ج 7 ص184)

وكذلك قال ما تعريبه:

“إن التهمة التي تُلصَق بي وبجماعتي أننا لا نؤمن بكون رسول الله خاتَم النبيين، إنما هي افتراء عظيم علينا. إن القوة واليقين والمعرفة والبصيرة التي نؤمن بها ونتيقن منها بكون النبي خاتم الأنبياء، لا يؤمن الآخرون بجزء واحد من المائة ألف جزء منها.” (الملفوظات ج1 ص342)

وقد شرح سيدنا أحمد رأيه في موضوع ختم النبوة فقال:

“اعلموا أننا نؤمن بأن القرآن هو آخر الكتب ونهاية الشرائع، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة بمعنى أن يكون صاحب شريعة أو يتلقى الوحي دون واسطة متابعة النبي بل إن هذا الباب مغلق إلى يوم القيامة، أما نوال نعمة الوحي بالمتابعة النبوية فأبوابه مفتوحة إلى يوم القيامة. ولن ينقطع أبدًا ذلك الوحي الذي هو ثمرة الاتباع النبوي. أما النبوة التشريعية أو النبوة المستقلة فقد انقطعت، ولا سبيل إليها إلى يوم القيامة، ومن قال إني لست من أمة محمد وادّعى أنه نبيّ صاحب الشريعة أو من دون الشريعة وليس من الأمة فمثله كمثل رجل غمره السيل المنهمرُ فألقاه وراءه ولم يغادر حتى مات. وتفصيل ذلك هو أنه حيثما بشّر الله تعالى أن النبي هو خاتم الأنبياء أشار هنالك أيضًا أنه نظرًا إلى روحانيته بمنـزلة أب لأولئك الصلحاء الذين يتم تكميل نفوسهم بواسطة المتابعة، والذين يُشرّفون بالوحي الإلهي والمكالمة مع الله، كما يقول الله في القرآن الكريم: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .” (تعليق على مناظرة بين الشيخ البطالوي والشيخ الجكرالوي، الخزائن الروحانية ج 19 ص 213- 215)

وعلى هذا.. فإن الخلاف بين الجماعة الإسلامية الأحمدية وبين غيرهم من المعارضين، ليس خلافا على كون رسول الله خاتم النبيين، فكلا الفريقين يؤمن ويقر ويعترف بأن محمدا كان بحق خاتم النبيين، وإنما الخلاف ليس إلا في معنى هذه الجملة التي جاء ذكرها في كتاب الله في سورة الأحزاب، وذكر في حديث شريف أنها صفة تكريم، أعطيت له وحده تفضيلا على سائر الأنبياء والمرسلين، ضمن صفات ستٍّ لم يؤتها أحد من الأنبياء السابقين، بل اختصه بها الله تعالى تكريما لشأنه، وقد عدّدها وذكر منها قوله: “وخُتِم بي النبيون”.

لهذا.. لا يستطيع مسلم يؤمن بكتاب الله تعالى وسُنّة رسوله الكريم، أن ينكر كون رسول الله خاتم النبيين، وقد أوضح سيدنا أحمد هذا الأمر تمام الإيضاح. ورغم ذلك.. فإن الذين يعارضون الجماعة الإسلامية الأحمدية، لا يكفون عن اتهامهم بأنهم لا يؤمنون بأن رسول الله خاتم النبيين، وهي تهمة باطلة، وفرية كاذبة، يبرأ منها المسلمون الأحمديون براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

وأما لماذا يشتد الخلاف بين الجماعة الإسلامية الأحمدية وغيرهم من طوائف المسلمين حول هذا الموضوع، فذلك لأن الجماعة الإسلامية الأحمدية ترى في معنى “خاتم النبيين” رأيا ويرى غيرهم رأيا آخر. والجدير بالذكر أن الرأي الذي تراه الجماعة الإسلامية الأحمدية يتفق تماما مع رأي العديد من علماء الأمة الإسلامية منذ نشأتها وعلى مدى تاريخها الطويل، فأفراد الجماعة ليسوا مبتدعين ولا خارجين على ما تعارفت عليه الأمة، ولا ينكرون ما هو معروف من الدين بالضرورة، وإنما ينكرون ما فيه تعارض واختلاف لكلام الله تعالى، وما ليس فيه إعلاء وتكريم لشأن رسوله .

والآن.. فلنحاول أن نفهم قوله تعالى في سورة الأحزاب:

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا

(الأحزاب:41)

إن الله تعالى ينفي عن محمد أنه كان أبا لأحد من الرجال في قوله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ، واستعمال حرف الاستدراك وَلَكِن بعد نفي الأبوة الجسدية يؤكد على إثبات الأبوة الروحية الشاملة بكونه رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ . ولا شك أن من مقتضى الأبوة الروحية وجود الأبناء الروحيين الذين يكونون بمثابة الوارثين لفضل خاتم النبيين، وعلى ذلك فإن هذه الأبوة الروحية الشاملة تمنع أن يأتي بعده نبي مستقل عنه، أي يكون قد حاز على تلك الدرجة، ووصل إلى ذلك المقام، بدون اتباعه ، فهذا النوع من النبوة قد انسد بابها، وانفرط عقدها، وانتهى أجلها، وانقطع زمانها.

ومن المعروف أن حرف الاستدراك “لَكِن” يُستخدم لينفي شيئا ويُثبت شيئا آخر من نفس الجنس، أي أنه لا بد أن تكون هناك علاقة اشتراك بين المنفي قبل حرف الاستدراك وبين المثبت بعده، كما في قوله تعالى:

فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ (الحج: 47)

فهنا ينفى الله عماية.. ويُثبت عماية أخرى، فالعماية هي العلاقة المشتركة بين المنفي والمثبت. كذلك في قولك: “ما هذا أحمر ولكنه أخضر” نفي لون واثبات لون آخر، فاللون هو العلاقة المشتركة بين المنفي والمثبت، ولذلك لا يجوز أن يُقال: “ما هذا أحمر ولكنه حصان”. فليس هناك من علاقة بين اللون والحيوان اللهم إلا إذا كان الحصان أحمر اللون، فتتواجد بذلك علاقة الاشتراك بين الألوان.

وفي الآية التي نحن بصددها.. آية خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، نرى أن حرف الاستدراك وَلَكِن يسبقه نفي كون رسول الله أبا لأحد من الرجال.. ويتبعه إثبات كونه رسول الله، وليس ثمة علاقة ظاهرة بين الأبوة المنفية والرسالة المثبتة، اللهم إلا إذا كان المقصود من إثبات الرسالة هو إثبات أبوته الروحية لكل المؤمنين، وبذلك تتأكد العلاقة المشتركة بين الأبوة الجسدية المنفية وبين الأبوة الروحية المثبتة. وبهذا يستقيم المعنى.. خاصة وقد ذكرت السورة نفسها في أولها أن زوجاته هن أمهات للمؤمنين:

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (الأحزاب:7)

وإذا كانت أزواج النبي أمهات للمؤمنين، فمن الأوْلى أن يكون هو أبا للمؤمنين. وهكذا تتضح الحكمة من استخدام حرف الاستدراك وَلَكِن في الآية الكريمة، وأن الغرض من استخدامه هو الاستدراك من نفي الأبوة الجسدية وإثبات الأبوة الروحية بكونه رسول الله.

وقد كان الاستدراك في الآية واجبا لتقرير الأبوة الروحية، لأن نفي الأبوة الجسدية يُفهم منه أنه أبتر لا ولد له. وكان العرب يُعَيِّرون الرجل إذا كان أبتر بغير ولد من الذكور، ولذلك فقد ردّ القرآن الكريم في سورة الكوثر على أعدائه وأكد لهم أنه ليس بأبتر.. بل إن عدوه هو الذي يكون أبتر، فقال: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر (الكوثر:4). ولما كان نفي الأبوة الجسدية في الآية التي نحن بصددها مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ قد يُفهم منه أنه كان أبتر، وهذا يتعارض مع آية سورة الكوثر التي تنفي كونه أبتر، لذا كان من المحتم استخدام الاستدراك للتأكيد على بيان أبوته الروحية، فكونه رَسُولَ اللهِ يثبت أنه الأب الروحي لأمته، وكونه خَاتَمَ النَّبِيِّينَ يحمل أيضا معنى الأبوة الروحية الشاملة التي تعني استحالة وجود نبي مستقل عنه، يصل إلى هذا المقام العظيم من النبوة بدون أن يكون من أبنائه الروحيين، وبغير أن يكون من أتباعه الميامين، الذين يجدون الفضل من الله من خلال طاعتهم الكاملة لله تعالى واتباعهم لسُنة رسوله. وبهذا ينقطع كل احتمال في أن يأتي أي نبي من الأنبياء الأولين، الذين خلوا من قبل رسول الله ، فإن هؤلاء جميعا حصلوا على مقام النبوة بفضل الله الخالص، ولكن ليس بفضل اتباعهم لسُنة رسول الله ، وهؤلاء هم إخوة لرسول الله ولكنهم ليسوا أبناءه، بل إن أبناءه هم أتباعه المخلصون، الذين ينالون الهَدْيَ منه، ويستضيئون بنوره، ويكونون ظلا له وتجليا لأنواره، وبذلك يكونون مطبوعين بختم خاتم النبيين، فهو لكونه خاتم النبيين.. قد ختم أولئك التابعين له وطبعهم بختم نبوته، فنبوتهم ليست شيئا مستقلا ولا منفصلا عن نبوته ، بل إنها نبوته التي أينعت وأثمرت وآتت أكلها بإذن ربها.

وفي ذلك يقول سيدنا أحمد ما تعريبه:

“إن الله قد جعل النبي صاحب الخاتَم، أي وهبه، لإفاضة بركاته الروحانية، خاتَمًا لم يوهب لأحد من الأنبياء مطلقًا، لذلك فقد سمي بخاتم النبيين بمعنى أن اتّباعه يمنح كمالات النبوة، وتربيته الروحانية توصل الإنسان إلى مقام النبوة. ولم يؤت هذه القوة القدسية أحدٌ من النبيين سواه.” (حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية ج 22 ص 100 الهامش)

كذلك كتب يشرح دعواه وما أعلنه عن نفسه فقال:

“لقد حزت هذا الشرف بسبب اقتدائي للنبي فقط. لو لم أكن من أمته ولو لم أقتد به لما نلت شرف المكالمة والمخاطبة أبدا حتى ولو كانت أعمالي مثل سائر جبال الدنيا لما حزت هذا الشرف للمكالمة والمخاطبة إطلاقا، لأن النبوات بكل أنواعها قد انقطعت ما عدا النبوة المحمدية. لا يمكن أن يأتي نبي بشرع جديد، ويمكن أن يأتي نبي بغير شريعة بشرط أن يكون من أمة النبي أولا. فبناء على ذلك أنا نبي ومن أمته أيضا.” (التجليات الإلهية، الخزائن الروحانية ج20 ص411-412)

ولتوضيح معنى النبوة المستقلة والنبوة التشريعية والنبوة غير التشريعية نقول: إن النبوة قبل الإسلام كانت كلها نبوة مستقلة. وكانت هذه النبوة المستقلة تنقسم إلى قسمين: نبوة تشريعية ونبوة غير تشريعية. وكلا القسمين كان يختاره الله تعالى بفضله المحض، دون اشتراط اتباع سُنّة أي نبي من الأنبياء الذين سبقوه، وهذا ما يعنيه الاصطلاح:”نبي مستقل” أو “النبوة المستقلة”.

والنبوة التشريعية هي التي يختار الله فيها نبيا (مستقلا) ويؤتيه شرعا يحكم به بين الناس، ويكون اختيار الله لذلك النبي اختيارا مباشرا بفضله تعالى، دون التزام النبي باتباع سُنة أحد من الأنبياء الذين سبقوه. وكمثال على هذا النوع من الأنبياء نذكر موسى الذي آتاه الله شريعة التوراة، وسيد الخلق أجمعين الذي آتاه الله شريعة القرآن، فكلاهما آتاه الله شرعا، وكلاهما كان نبيا مستقلا.

والنبوة غير التشريعية هي التي يختار الله فيها نبيا (مستقلا) ولكن لا يؤتيه شرعا، وإنما يتبع الشريعة التي سبق أن أنزلها الله تعالى، ويكون اختيار الله لذلك النبي اختيارا مباشرا أيضا بفضله تعالى، دون التزام النبي باتباع سُنة أحد من الأنبياء. وكمثال على هذا النوع من الأنبياء نذكر هارون وغيره من أنبياء بني إسرائيل الذين لم يؤت الله أحدا منهم شريعة، وإنما كانوا جميعا تابعين لشريعة التوراة، وهي الشريعة التي أنزلها الله تعالى على موسى . وقد تم اختيار كل منهم بخالص فضل الله، ودون اشتراط اتباع أحدهم لسُنة موسى .. إذ لم تكن لموسى سُنة ملزمة يجب اتباعها كما هو شأن سُنة رسول الله .

وعلى هذا.. فإن جميع الأنبياء الذين جاءوا في هذه الدنيا.. منذ آدم إلى سيدنا محمد، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام.. كانوا أنبياء مستقلين، والنبوة التي كانت معروفة في العالم كانت نبوة مستقلة.. أي أن الله تعالى كان يختار النبي اختيارا مباشرا دون اشتراط اتباع ذلك النبي لسُنة أحد من الأنبياء الذين خلوا من قبله. وهذا النوع من النبوة المستقلة قد انتهى ببعث سيد الخلق ، إذ أنه وحده هو الرسول الذي شرّفه الله تعالى فقضى أن تكون سُنّته هي التفسير العملي لتشريع كتابه العزيز، فهو النبي الوحيد الذي له سُنة ملزمة الاتباع، من أنكرها أو تركها فقد ترك جزءا من الشريعة. وعلى هذا.. فإن النبوة المستقلة.. أي تلك التي يختار الله فيها نبيا مستقلا غير تابع لسُنة أحد من الأنبياء.. قد انتهت ببعثة الرسول .

وحيث إن التشريع قد اكتمل في كتاب الله القرآن وبيّنته سُنة نبيه فقد انتهت كذلك النبوة التشريعية.. أي تلك التي يختار الله فيها نبيا ويوحي إليه بشرع جديد. وعلى هذا.. فإن جميع أشكال النبوة التي كانت معروفة قبل بعث سيدنا محمد قد انتهت.

ولكن.. لما كانت النبوة نعمة كبرى من نعم الله تعالى.. بل هي أعظم النعم الروحانية قاطبة.. ولما كان رسول الله رحمة للعالمين، ولم تكن بعثته سببا لحرمان أمته من أي نعمة نالتها الأمم السابقة، فقد شاء الله تعالى.. بخالص فضله ورحمته.. أن يهب الأمة.. التي جعلها خير أمة أخرجت للناس.. نوعا جديدا من النبوة التي لم تكن معروفة من قبل.. وهي النبوة التابعة. والنبوة التابعة هي نبوة غير تشريعية.. أي نبوة لا ينـزل من الله فيها تشريع جديد، بل يلتزم فيها النبي التابع بالشريعة الإسلامية الكاملة.. لا يُنقص منها حرفا ولا يُضيف إليها أمرا. ولا يهب الله تعالى هذا النوع الفريد من النبوة التابعة إلا لمن كان تابعا لسُنة خير الرسل ، فكل باب للرحمة قد انغلق إلا باب ذلك النبي الأعظم، وكل نبوة قد انتهت إلا نبوة ذلك الرسول الأكرم، لأنها هي النبوة التي كتب الله لها أن تبقى وتدوم إلى قيام الساعة. ومن بركاتها أنها تمهد السبيل للمؤمن الصادق الذي يتشرف بطاعة الله تعالى والتمسك بسُنة رسوله أن يصل إلى مقام النبوة، إذا شاء الله تعالى اختياره لهذا المقام. أما بدون طاعة الله تعالى، وبغير طاعة رسوله والسير على نهجه والتمسك بسُنته، فلا يمكن أن يصل أحد إلى هذا المقام، ولا يمكن أن يختار الله تعالى أحدا ليكون نبيا على هذا المقام مهما كان عمله، ومهما عظم جهاده، ومهما زاد فضله، ما لم يكن من بين أتباع الرسول .

إن النبوة القائمة على طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله ، التي لا تأتي بشرع جديد، وإنما تلتزم بكل ما جاء في شرع محمد ، هي النوع الوحيد.. والجديد.. من النبوة التي لم تكن بطبيعة الحال موجودة قبل بعثة رسول الله ، وإنما هي من بركات النبي الأعظم يُسبغها الله تعالى إذا شاء على أتباع رسوله الكُمّل المخلصين. وهي تلك النبوة بعينها التي أعلنها سيدنا أحمد بصفته الإمام المهدي والمسيح الموعود، فهو تابع من أتباع محمد ، وشرّفه الله تعالى باختياره لهذا المقام، لفضل طاعته سبحانه وطاعة رسوله .

هذا النوع من النبوة في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون سوى انعكاس وتجلٍّ لنبوة الرسول وامتداد لها، وظل من ظلالها، ونور من أنوارها، وقبس من أضوائها، وهدى من هداها. هذا النوع من النبوة مثل القمر الذي يستمد نوره من الشمس.. فلو لم تكن الشمس لما أضاء القمر مهما بلغ حجمه وجَرمه. هذا النوع من النبوة لا يحط من شأن الرسول كما لا يحط ضوء القمر من نور الشمس، لأن القمر لا يضيء إلا بفضل نور الشمس. وهذا النوع من النبوة لا يتناقض بتاتا مع كون رسول الله آخر الرسل وخاتم النبيين، فهو آخر جميع أنواع النبوات التي كانت في الدنيا من قبله، ولكن الله تعالى اختصه بنوع جديد وفريد من النبوة لم يهبه لأحد غيره من الأنبياء، وكان ذلك أحد أسباب تفضيله على كل الأنبياء السابقين، فذكر أن الله تعالى فضَّله على النبيين بست خصال ذكر منها قوله: “وخُتم بي النبيون.” فهو بمجيئه قد أغلق كل باب للرحمة إلا بابه هو، وانتهت كل النبوات السابقة إلا نبوته هو، وانقضى كل فضل إلا فضله هو. اللهم صل عليه وعلى أتباعه الكاملين الصادقين إلى يوم الدين يا رب العالمين.

إن كتاب الله القرآن يؤيد هذا النوع الفريد من النبوة، بل ويحض المؤمنين على الدعاء لنوال مقامها. وفي سورة الفاتحة.. علمنا الله تعالى الدعاء:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

وألزمنا الله تعالى أن نقرأ هذا الدعاء في كل ركعة من كل صلاة، وإن كل مؤمن مخلص من أتباع محمد ليدعو بهذا الدعاء العظيم ما لا يقل عن ثلاثين مرة في اليوم الواحد باعتبار عدد ركعات الفروض والسنن والنوافل. فأي النعم هذه التي حض الله المؤمنين أن يدعوه لكي ينالوها، ومَن أولئك الذين أنعم الله عليهم والذين ساروا على الصراط المستقيم فاستطاعوا بفضل الله أن ينالوا تلك النعم؟ إن القرآن العظيم يجيب على هذه الأسئلة فيقول:

وَمَن يُطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا $ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا (النساء:71-72)

إن الله تعالى بنفسه يحث المؤمنين في سورة الفاتحة أن يدعوه دائما.. ويكرروا الدعاء في كل ركعة من صلاتهم لكي ينالوا البركات والنعم التي نالها النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما هو مذكور في سورة النساء، وعلى ذلك فمن المستحيل أن يأمر الله عباده أن يدعوه لينالوا نعمة معينة.. ثم يُغلق هو باب تلك النعمة، ويحرم منها عباده المؤمنين، ويجعل نوالها مستحيلا. وحينما نضع دعاء سورة الفاتحة مع آية سورة النساء جنبا إلى جنب، يتضح لنا أن نعمةَ معيّةِ الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السابقة هي من النعم التي شرّف الله بها هذه الأمة أيضا.

ولا يظنن أحد أن المقصود من معيّة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السابقة، هو مجرد مصاحبتهم في الجنة فقط دون نوال درجاتهم التي حصلوا عليها في الدنيا، فإن هذا ظلم عظيم للأمة التي وصفها الله تعالى في القرآن بأنها خير أمة أخرجت للناس. وتفسير الآية الكريمة بهذا الشكل يعني أن أقصى ما يمكن أن يصبو إليه المؤمنون من أمة محمد ، وأعلى مقام يمكن أن يصلوا إليه نتيجة طاعتهم الله وطاعة الرسول.. هو أن يتمتعوا بمعيّة ومصاحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السابقة، ولكن دون أن يكون من بينهم أحد من النبيين أو الصديقين أو الشهداء أو الصالحين، ودون أن ينال أحد منهم في الدنيا درجة النبيين أوالصديقين أوالشهداء أوالصالحين، كما نالها المؤمنون من الأمم السابقة!! فأي ظلم أكبر من هذا يمكن أن يوصف به وعد الله؟

إن بعض المعارضين لدعوة سيدنا أحمد قـد فسر لفظ مَعَ في الآية الكريمة بهذا الشكل الذي يغمط المؤمنين كل فضل وكل نعمة. وحسب رأيهم.. يكون جزاء من يطع الله والرسول هو أن يتمتع في الجنة بصحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السابقة، ولكن دون أن ينال أيّا من تلك الدرجات أو إحداها، فلا يكون من بينهم النبيون أو الصديقون أو الشهداء أو الصالحون. والبعض يقول إنه من الممكن نوال درجة الصديقين ودرجة الشهداء ودرجة الصالحين، ولكن لا يمكن نوال درجة النبيين، وكأن الله تعالى، وحاشا لله، قد أخطأ في ذكر درجة النبيّين مع الدرجات الثلاث الأخر. إن هذا التفسير لهو عدوان على كلام الله العزيز، وبخس شديد لوعده العظيم لعباده الطائعين له ولرسوله الكريم. كذلك فإنه يتعارض مع استخدام الحرف مَعَ الذي استخدمه الله تعالى بمعنى “من” في هذه الآية وفي آيات أخرى كثيرة، فهو لا يعني المصاحبة فحسب.. وإنما يعني أيضا نوال نفس النعمة أو النعم.. ونفس الدرجة أو الدرجات.. التي يدعو لنوالها المؤمنون. فقد علّم الله تعالى عباده دعاءً آخر في سورة آل عمران يقول فيه:

رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (آل عمران:194)

فهنا استخدم الله تعالى نفس الحرف مَعَ ، ولكن من الواضح تماما أنه لا يعني توفنا بمعية الأبرار، أو توفنا في الوقت الذي تتوفى فيه الأبرار، أو توفنا في معيـة وصحبة الأبرار دون أن نكـون منهم، بل تَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ أي توفنا ونحن من الأبرار.

وقد أكد القرآن الكريم على مجيء الأنبياء من بين الأمة الإسلامية فقال:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ $ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (الأعراف:36-37)

فهنا يخاطب القرآن بني آدم، ويقول إنه لا بد وأن يأتيهم رسل منهم يقصون عليهم آيات الله تعالى. وبطبيعة الحال فإنه لا يخاطب أولئك الذين ماتوا قبل بعثة الرسول ، وإنما يخاطب هؤلاء الذين كانوا على قيد الحياة حينما نزلت هذه الآية.. وكل من سوف يولد بعدها إلى يوم القيامة. ويقول جلال الدين السيوطي في كتاب “تفسير الإتقان في علوم القرآن” في تفسير هذه الآية: “فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل من بعدهم”. أي أنه رغم أن الخطاب موجه إلى بَنِي آدَمَ إلا أنه خاص بالأمة الإسلامية، فإن الأمة الإسلامية داخلة ضمن بني آدم، وكذلك فإن مجيء الرسل من غير الأمة الإسلامية ممتنع، حيث إن محمدا قد سد هذه النعمة عن كافة الناس إلا عن أتباعه. وقد وجّه الله تعالى الخطاب في نفس السورة، وفي نفس السياق، واستخدم نفس لفظ يَا بَنِي آدَمَ ، ولكنه يشمل الأمة الإسلامية فقط، كما في قوله تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (الأعراف:32)

كذلك يقول تعالى:

مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وِلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وِرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران:180)

في هذه الآية يظهر أثر حرف الاستدراك “لكن” الذي يُستعمل لنفي شيء وإثبات شيء آخر من نفس الجنس، وذلك كما سبق توضيحه. والخطاب في الآية موجه للمؤمنين: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، وهنا ينفي الله إطلاع المؤمنين على الغيب، ثم يستدرك باستخدام حرف “لكن”. وعلى ذلك، وحيث إن نفي الاطلاع على الغيب هو ما استُدرك منه، فإن ما يأتي بعد “لكن” يكون إثبات الإطلاع على الغيب أو على بعض منه، وهو أن الله يجتبي ويختار من رسله من يشاء، وهكذا تكون هناك علاقة اشتراك بين المنفي قبل “لكن” وبين المثبت بعدها. وكأن الله تعالى يقول إنه لن يترك المؤمنين على حالهم الذي هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وحيث إن هذا التمييز بين الخبيث والطيب سوف يتم في المستقبل.. أي إنه أمر من أمور الغيب.. فالله يقول إنه لن يطلع المؤمنين على أمور الغيب، ولكنه يكتفي بأن يطلعهم على أمر هام من أمور الغيب، وهو أنه في المستقبل سوف يختار ويجتبي من رسله من يشاء، ويرسله إلى هؤلاء المؤمنين من أمة محمد لكي يميز بين الطيب والخبيث منهم، فمن يؤمن ويتقي فله أجر عظيم، ومن ينكر ويكفر فقد عصى ربه وحاد عن طريقه القويم.

إن الآيات التي تشير إلى بعثة الأنبياء في الأمة الإسلامية كثيرة ومتعددة، ولكن البعض من بين علماء المسلمين قد وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه علماء الأمم السابقة، حين ظنوا أن نبيهم الذي بُعث إليهم هو النبي الأخير، الذي لن يبعث الله من بعده رسولا. ويشير كتاب الله العزيز إلى قِدَم هذا المسلك فيقول:

وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيَّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ في شَكٍّ مِمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (غافر:35)

ويشير كتاب الله الحكيم أيضا إلى أنه حينما يأتي مبعوث الله فعلا.. فإن البعض يظن أن الله تعالى لن يبعث أحدا، فيخبرنا سبحانه عن ذلك في سورة الجن بقوله: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا (الجن:8)

والله تعالى يقص علينا هذه الأمور لتكون موعظة وهدى للمتقين، فلا نقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه من سبقنا من الأمم، لأن إرسال الرسل أمر لا يختص به أحد إلا الله ، فهو أمر من أمور السيادة الإلهية، وهو من صفات الذات الربانية التي تتجلى حسب مشيئة الله تعالى، ولذلك يُنحي الله باللائمة على الذين ما قدروا الله حق قدره.. فيبين لهم قدره سبحانه بأن يعدد لهم صفاته التي لا يشترك فيها مع الله أحد، فيقول:

مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ $ اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ $ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (الحج:75-77)

هنا يوضح بصيغة الفعل المضارع.. الذي يدل على الحال والاستقبال.. أن الله تعالى وحده هـو الذي يتصف بأنه يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ كما أنه وحده الذي يَعْلَمُ في الحال والاستقبال مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ . وكما أن علمه هذا مستمر ولن ينقطع.. كذلك فهو يَصْطَفِي في الحال والاستقبال مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ، وسوف يستمر أيضا هذا الاصطفاء ولن ينقطع.

*  *  *

وغني عن البيان تكرار القول هنا.. أن استمرار بعث الرسل من الناس قد انحصر بعد ظهور رسول الله في نوع فريد من الأنبياء الذين لا يوحي إليهم الله بشرع جديد يخالف أو يناقض شرع سيد الخلق ، ولا يصطفيهم الله تعالى إلا إذا بلغوا كمال الطاعة لله تعالى ولرسوله . ومهمة هذا النوع الفريد من الأنبياء هي هداية الناس إلى صراط العزيز الحميد، وإلى سبيل رسوله الكريم، وإنذار الأمم التي ضلت لتهتدي إلى طريق التوحيد القويم، ولذلك.. فإن كتاب الله تعالى يتساءل مستنكرا عن داعي العجب لدى بعض الناس حين يسمعون عن دعوة داع ونذير من عند الله تعالى فيقول:

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ (يونس:3)

ثم يبين سبحانه بكل قوة أنه هو الذي يقرر إرسال الرسل، وهو الذي يبعث من يشاء، وهو الذي يُنـزل عليه الملائكة والروح.. أي جبريل .. لكي يقوم بإنذار الناس وحضهم على تقوى الله، فيقول تعالى:

يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (النحل:3)

وأيضا قوله تعالى:

رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ (غافر:16)

ومن الواضح أن الله تعالى استعمل هنا أيضا صيغة الفعل المضارع يُنَزِّلُ المـَلآئِكَة و يُلْقِي الرُّوحَ ليدل كذلك على استمرار تنْزيل الملائكة والروح في الحال والاستقبال.

*  *  *

إن هذا النوع الفريد من النبوة التي قضى الله سبحانه ببقائه واستمراره، واشترط لنواله كمال طاعته تبارك وتعالى وطاعة رسوله .. هو ذلك النوع من النبوة التي تعظم شأن رسول الله، وتقر بخاتميته وكمال شريعته، فهي نبوة تابعة وليست ناسخة أو مبطلة، وهي نبوة تشهد بعلو شأن المنهل الذي تنهل منه وهو سيد الخلق أجمعين. فلولا وجوده لما وُجد ذلك النوع الفريد من النبوة. لذلك.. فحين دلل الله تعالى على صدق رسوله ذكر أنه الرسول الأوحد الذي شهدت له نبوة سابقة، كما تشهد له نبوة تالية، بينما يذكر الله تعالى نفس الدليل في حق بعض الأنبياء الآخرين، بغير أن يصحبه شهادة من سبقه أو من تلاه من الأنبياء.

ففي سورة هود الآية 29 يقول تعالى على لسان نوح :

يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي وَءَاتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ

وفي نفس السورة الآية 64 يقول تعالى على لسان صالح :

يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي وَءَاتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً

ومن الواضح هنا أن الاستدلال على صدق النبي يقوم على أنه على بيّنة من ربه، وأن الله تعالى قد آتاه رحمة من عنده.

وأما رسول الله الذي اصطفاه الله تعالى، والذي لم يأته رحمة فحسب.. بل جعله رحمة للعالمين.. فقد دلل على صدقه في نفس السورة بأنه كان أيضا على بينة من ربه، شأنه في ذلك شأن جميع الأنبياء الذين يصطفيهم الله تعالى، إلا أن الله قد ميزه وفضله بأن جعل من دلائل صدقه أن يتلوه شاهد من عند الله تعالى يشهد على صدقه، كما شهد على صدقه أيضا موسى في كتابه، فقال تعالى:

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً (هود:18)

أي إن محمدا كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه.. أي يأتي بعده شاهد منه.. أي من أتباعه، إذا اعتبرنا أن الضمير في مِنْهُ يعود إلى محمد ، أو يأتي بعده شاهد من الله تعالى.. إذا اعتبرنا أن الضمير في مِنْهُ يعود إلى رَبِّهِ . وكلمة يَتْلُوهُ في هذا السياق لا تعني “يقرأه” كما قال بعض المفسرين، ولكنها من تلا يتلو، كما يُقال: “جاء فلان يتلوه فلان”، أي أنه أتى بعده، وكما في قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا . وفي الآية التي نحن بصددها في سورة هود.. يدلل الله تعالى ويقدم هذا البرهان على صدق رسوله الأعظم بأنه على بيّنة من ربه، ولكن حتى لا يظن الناس أنه يتساوى في هذا مع غيره من الأنبياء الذين جاء ذكرهم في نفس السورة، وذكر الله عنهم أنهم كانوا أيضا على بيّنة من ربهم، أراد سبحانه أن يُبرز مكانة رسوله الأكرم ، فأكد على أنه هو وحده الذي يتميز بأن يتلوه شاهد من الله تعالى يشهد على رفعة مقامه وعظمة شأنه، كما سبق أن شهد بذلك أيضا موسى في كتابه الذي أشار فيه إلى مجيء ذلك النبي العظيم.. ذي الجاه والسلطان، الذي لا نهاية لملكه ولا ناسخ لشريعته ولا مبطل لدينه.

ولكن.. أليس من طبائع الأمور أن يشهد النبي الذي يتلو نبيا سبقه في أمة على صدق ذلك النبي الذي جاء من قبله؟ إن واقع الأمر في أمة بني إسرائيل يؤكد لنا أنه إن لم يشهد النبي على صدق النبي الذي سبقه فلن يؤمن به أحد من أتباع ذلك النبي، بل إن عدم شهادته تدل على كذبه، حيث إنه يسلب النبوة عن نبي سبقه، آمن به الناس من قبله. وعلى هذا.. فما هي أهمية أن يذكر الله تعالى شهادة ذلك الشاهد الذي يتلو رسول الله ؟ والجواب على هذا هو أن أهمية الشاهد تعود إلى كونه يتلو رسول الله ، بمعنى أن هذا المجيء في حد ذاته دليل على عظمة سيدنا رسول الله. فبعد انتهاء جميع أنواع النبوات السابقة ببعثة رسول الله ، لا يمكن أن يأتي بعده هذا الشاهد إلا من خلال النبوة التابعة، التي لا يمنحها الله تعالى لأي إنسان مهما علا قدره وصلح عمله إلا إذا كان من أتباع سيدنا رسول الله. فبمجيء هذا الشاهد يتحقق عمليا مدى عظمة مقام رسول الله، ومدى تفرده وحده من دون الأنبياء جميعا بهذه النبوة التابعة له، والتي بالتالي تشهد له وتقر بعظمة مقامه.

لقد انتهت كل إمامة سابقة لأنها كانت تختص بالزمن الماضي فقط، أما إمامة رسول الله فهي الإمامة الباقية المستمرة إلى يوم القيامة، وإمامة الشاهد الذي يتلوه هي إمامة تابعة له، تنهج منهجه وتستظل بظله، وليست إلا قبسا من أنواره وفضلا من أفضاله، ولذلك فهي تشهد له وتقر بطاعته وتأتمر بأمره وتستن بسنته. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى من اهتدى بهديه وشهد بفضله إلى يوم الدين.

إن هناك الكثير من الآيات القرآنية الدالة على استمرار هذا النوع الفريد من النبوة غير التشريعية في الأمة الإسلامية، وقد نشرت الجماعة الإسلامية الأحمدية الكثير من الكتب بلغات متعددة لمعالجة هذا الموضوع، وبتفصيل وإيضاح كاملين، ويمكن للقارئ الذي يتطلع إلى الاستزادة أن يرجع إلى تلك الكتب والنشرات، فالموضوع طويل.. وخطير.. ولا يمكن الإحاطة بكل جوانبه في هذا البحث المختصر. غير أننا لا نستطيع أن نغفل في هذا السياق ذكر بعض الآيات التي تدل بدلالة قاطعة على خطأ الفكرة التي انتشرت بين عامة المسلمين، ومؤداها أن النبوة بجميع صورها وأشكالها قد انتهت.

ولا ضير من تكرار القول هنا مرة أخرى، أننا نقر ونعترف بانتهاء النبوة التشريعية، لأن التشريع اكتمل بنُزول القرآن الكريم حسب قوله تعالى:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا (المائدة:4)

وعلى ذلك.. فلا يمكن أن يأتي رسول بدين أو تشريع يغاير الإسلام لقوله تعالى:

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران:86)

ولذلك فإن الجماعة الإسلامية الأحمدية تتفق مع كافة المسلمين من جميع الطوائف الأخرى على أن نبوة التشريع قد انتهت، ولا نبوة تشريعية.. ولا وحي تشريعي.. بعد رسول الله .

وينحصر الخلاف بين الجماعة الإسلامية الأحمدية وبين غيرها من بعض الطوائف الإسلامية، حول إمكان مجيء رسول من عند الله تابع للشريعة الإسلامية، وخاضع لسُنة رسول الله . وهنا يمكن تقسيم الطوائف الإسلامية الأخرى إلى قسمين: الأغلبية العظمى منهم تقول بجواز مجيء رسول من عند الله، وهو عيسى بن مريم، الذي سيأتي في آخر الزمان تابعا للشريعة الإسلامية.. عاملا بها.. وداعيا إليها. والأقلية منهم تقول بعدم مجيء أحد على الإطلاق.. فلا مهدي منتظر، ولا مسيح موعود، ولا نبي مشرع أو غير مشرع إلى يوم القيامة.

والجماعة الإسلامية الأحمدية تنتهج نهجا وسطا بين هذين الرأيين، فهي ترى أن النبوءات التي ذكرها رسول الله عن الإمام المهدي، وعن نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، إنما تتعلق برجل واحد من أمة محمد ، يشابه عيسى بن مريم في الفضل، فيُطلق عليه اسمه. وهذا الأسلوب.. أي إطلاق اسم شخص ما على من يشابهه.. أسلوب عربي استعملته العرب، وأقره العلماء من المسلمين، واستعمله القرآن الكريم حين أطلق اسم “المـَلَك” على سيدنا يوسف ، واستعمله رسول الله حين ذكر عن زوجاته أنهن صواحب يوسف.

وحين أخبر رسول الله أمته عن المهدي المنتظر وعن المسيح الموعود، وذكر أنهما شخص واحد كما جاء في حديث ابن ماجه: “لا مهدي إلا عيسى”، وكما جاء في مسند ابن حنبل عن عيسى بن مريم أنه يأتي “إماما مهديا” فإن رسول الله قد أدى بذلك أمانة التبليغ إلى قومه تحقيقا للميثاق الذي أخذه الله تعالى من كل الأنبياء، وأوضحه في سورة آل عمران حيث قال:

وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين لَمَآ ءَاتَيْتُكُمْ مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ $ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:82-83)

ويتبين من هاتين الآيتين الكريمتين أن الله تعالى قد أخذ من النبيين.. جميع النبيين.. ميثاقا أطلق عليه اسم ميثاق النبيين. وهنا يجدر التنويه بأنه حين يأخذ الله من النبيين ميثاقا فإنه يُلزم به أتباعهم أيضا، ولهذا يحذر الله تعالى أولئك الأتباع.. أنه إن لم يلتزموا بهذا الميثاق فإنهم سيكونون من الفاسقين:

فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .

ومن طبائع الأمور ومنطقها أن الأنبياء لا يتولون عن الوفاء بميثاقهم مع الله ولا يخلفون عهودهم معه، فلا يمكن أن يكون منهم الفاسقون. ولكن أمم الأنبياء هم الذين يحتمل أن يتولوا عن الالتزام بذلك الميثاق، فحذرهم الله تعالى أن من يتولى منهم عن الميثاق فأولئك هم الفاسقون.

ثم نعود إلى الميثاق لنفهم شروطه والتزاماته. ففي هذا الميثاق.. ميثاق النبيين.. يقول تعالى إنه إذا أنزل على الأنبياء وعلى أممهم الكتاب والحكمة، ثم جاءهم رسول من عند الله تعالى مصدق لما معهم، فإن من واجبهم الذي يُلزمهم به الله تعالى أن يؤمنوا بذلك الرسول إيمانا أكيدا، وينصروه نصرا معززا، وأن الذي يتولى عن هذا الالتزام يكون من الفاسقين.

وتحقيقا لهذا الميثاق كان كل نبي يقوم بإبلاغ قومه عن الرسول المقدّر في علم الله تعالى أن يأتي إلى قومه، ويبلغهم على وجه الخصوص عن سيدنا محمد الذي سوف يبعثه الله تعالى إلى كل الأقوام. وحيث إن رسول الله كان هو صاحب الشريعة التي تنسخ كل شريعة أخرى، وهو صاحب الدين الذي لايقبل الله دينا سواه، لذلك فقد أخبر كل نبي قومه عن صفات وعلامات ذلك النبي الأعظم، حتى إذا جاء زمن رسول الله استطاع أتباع كل الأنبياء السابقين أن يتعرفوا عليه ويتبعوه ويدخلوا في طاعته. ولما كانت جميع أنواع النبوات السابقة قد انتهت بمبعث رسول الله ، ولم يبق منها سوى ذلك النوع الفريد من النبوة غير التشريعية وغير المستقلة.. أي النبوة التابعة لنبوة رسول الله ، فقد قدّر الله تعالى أن يأخذ هذا الميثاق.. ميثاق النبيين.. من رسول الله حتى يلتزم به أتباعه متى جاء ذلك المبعوث المنتظر.. في آخر الزمان. ولهذا فقد أدّى الرسول الأمانة، وبلغ الرسالة، وأخبر قومه عن المسيح الموعود والإمام المهدي المنتظر، وأمرهم أن من يلق منهم ذلك الإمام فليُقرؤه منه السلام، وحثهم على أن يأتوه ويبايعوه ولو حبوا على الثلج، وذلك تحقيقا لميثاق النبيين الذي يلزمهم بأن يؤمنوا به وينصروه.

ولا يخفى على الملمين باللغة العربية أسلوب التأكيد الذي استعمله الله تعالى بشأن هذا الميثاق في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ، وهو كما لا يخفى على من له إلمام ومعرفة بأساليب اللغة العربية.. أنه قمة أسلوب التأكيد.. حيث استعمل الله تعالى “لام” التأكيد و “نون” التأكيد في كل من فِعْلي الإيمان والنصر لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ . وهذا للدلالة على أهمية الإيمان بذلك المبعوث وضرورة نصرته، وإن أي تقصير في هذا الإيمان والنصر، إنما هو بمثابة تولٍ وانصراف عن الإلتزام بهذا الميثاق، مما يؤدي إلى الفسوق.

ويزعم بعض المفسرين أن هذا الميثاق.. ميثاق النبيين.. قد أخذه الله تعالى من جميع الأنبياء السابقين فقط، وأن غرض هذا الميثاق هو الإيمان برسول الله حين مجيئه، وعلى ذلك فإن هذا الميثاق في رأيهم لم يؤخذ من رسول الله لأنه حسب زعمهم لن يأتي بعده نبي ولا رسول، وبالتالي فليس هناك حاجة لأخذ هذا الميثاق منه أو من أتباعه.

ولكن كتاب الله الحكيم يُكذب هذا الزعم وينقضه، ويؤكد على أن الله قد أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم يذكر.. للتأكيد.. أسماء الأنبياء من أولي العزم الذين أخذ الله منهم ذلك الميثاق على وجه الخصوص، فيقول تعالى:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظًا $ لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (الأحزاب:8-9)

ويشير اللفظ مِنْكَ بدلالة قاطعة إلى الرسول تأكيدا على أن هذا الميثاق قد أخذه الله تعالى أيضا من الرسول وبالتالي فقد التزم به أتباعه.

وحين يتضح الحق.. فإن أصحاب النفوس السوية يسارعون إلى قبوله والالتزام به، وأما الذين في قلوبهم مرض فإنهم يحاولون الهروب من الحق وانكاره، ولذلك فإن بعض الناس يزعم أن ميثاق النبيين الذي ذكره الله تعالى في سورة آل عمران، يختلف عن الميثاق الذي أخذه من النبيين وذكره في سورة الأحزاب. وللرد على هؤلاء نقول: إن مادة كلمة (ميثاق) وردت 25 مرة في الكتاب العزيز، وكلمة (النبيين) وردت 16 مرة، ولكن كلمة (ميثاق) وكلمة (النبيين) لم يقعا سويا في الكتاب العزيز كله سوى مرتين اثنتين فقط.. مرة في سورة آل عمران ومرة في سورة الأحزاب، أي أن الله تعالى لم يتحدث بتاتا عن ميثاق النبيين، ولم يذكر شيئا بالمرة عن ميثاق النبيين، في كل آيات وسور القرآن الكريم، سوى في هذين الموضعين فقط. فمن يزعم أن ميثاق النبيين المذكور في سورة آل عمران يختلف عن ميثاق النبيين المذكور في سورة الأحزاب، فإن عليه يقع عبء إثبات ذلك الاختلاف. فإن لم يفعل.. ولن يستطيع أحد أن يثبت ذلك.. فليتق الله ربه، وليكن على حذر، حتى لا يُعدّه الله تعالى من الفاسقين.

*  *  *

وقبل الانتهاء من هذا المبحث، يجدر بنا أن نتناول بالشرح تلك الأحاديث التي قد يفهم منها البعض بطريق الخطأ انتهاء النبوة بجميع صورها وأشكالها. كذلك يجدر بنا التنويه بأهمية القاعدة المتفق عليها وهي أن آيات القرآن الكريم يقينية قطعية الثبوت، ولا شيء يساويها في قطعيتها، ولا حديث يجاريها في يقينيتها. وإذا صادفنا حديثا منسوبا لرسول الله ولكن يبدو أنه يتعارض أو يختلف مع آيات القرآن، فعلينا أن نفسر الحديث بما يتفق مع القرآن، لا أن نفسر القرآن بما يتفق مع الحديث. أما إذا كان من المستحيل التوفيق بين القرآن والحديث.. فالواجب يحتم علينا أن ندع الرواية جانبا ونأخذ بما يقوله القرآن، لأن للقرآن الأولوية والأسبقية فوق أي حديث آخر، ولأن كل حديث يختلف ويتعارض مع آيات الذكر الحكيم.. هو حديث حتما مكذوب، لأن رسول الله .. وهو الذي لا ينطق عن الهوى.. لا يمكن أن يقول شيئا مخالفا أو معارضا لكلام الله تعالى.

ومن الأحاديث التي كثيرا ما يجيء ذكرها في هذا المجال قول رسول الله : “لا نبي بعدي”. ومن المعروف أنه قال ذلك حين أراد الخروج لغزوة تبوك واستخلف سيدنا علي بن أبي طالب على المدينة أثناء غيابه. وقد كان سيدنا عليّ حزينا لحرمانه من التواجد في الصفوف الأولى للقتال مع رسول الله ، وأظهر اكتئابه لتخلفه مع النساء والأطفال، فأراد الرسول أن يُسَرّي عنه فقال له: “يا عليّ.. أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى.. غير أنه لا نبي بعدي”. (صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب ) وفي رواية أخرى قال : “إلا أنك لست بنبي.” (مجمع الزوائد، كتاب المناقب، أبواب مناقب علي بن أبي طالب باب جامع في مناقبه )

وبدون فهم الظروف التي قيلت فيها هذه الجملة.. فإنها تبدو للوهلة الأولى كأنها غير مترابطة، إذ يقارن الرسول في أول الجملة منْزلة هارون من موسى ويماثلها بمنْزلة عليّ منه، ثم يقول إنه لا نبي بعده. وإن المرء ليعجب من إقحام موضوع عدم وجود أنبياء بعد رسول الله في موضوع المقارنة بين منـزلة عليّ من الرسول وتماثلها بمنـزلة هارون من موسى. ولكن العجب يزول ويختفي حين نعرف أن كلا من موسى وهارون عليهما السلام كان نبيا، وأن موسى حين استخلف هارون.. خلفه هارون أثناء غيبته وهو نبي. وقد أراد رسول الله أن يُوَضح وجه المماثلة في استخلافه لعليّ كرم الله وجهه.. واستخلاف موسى لهارون عليهما السلام، فبيّن أن وجه المماثلة ينحصر في عملية الاستخلاف نفسها، ولكنه لا ينسحب على المماثلة بين نبيين، أو كون عليّ قد صار نبيا بعد خروج الرسول إلى تبوك.. كما كان هارون نبيا بعد خروج موسى لميقات ربه. ومن هنا جاءت الجملة: “غير أنه لا نبي بعدي”.. لتوضيح أن عليا لن يكون نبيا بعد خروج الرسول . فليس المقصود هنا أبدا نفي النبوة بجميع صورها وأشكالها بعد بعثة رسول الله . وسياق الحديث يدل بوضوح على أن “البعدية” المذكورة هنا هي بعدية محدودة، وهي تشير إلى ما بعد خروج الرسول إلى تبوك وليست هي البعدية المطلقة. وهذه البعدية المحدودة ذكرها القرآن في حق موسى في قوله تعالى:

فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (طه:86)

فالفتنة التي وقع فيها قوم موسى.. من بعده.. إنما كانت من بعد ذهابه لميقات ربه واستخلافه هارون ، وليس من بعد انتهاء حياته أو من بعد وفاته. وكذلك.. الجملة التي جاءت في حديث رسول الله : “غير أنه لا نبي بعدي” تشير البعدية فيها إلى ما بعد ذهابه إلى تبوك واستخلافه سيدنا عليّ ، ولا تشير إلى ما بعد حياته إلى يوم القيامة.

ومن الأحاديث التي تُذكر كذلك في هذا المجال قوله : “إني آخر الأنبياء.”

وهنا أيضا لا بد من فهم سياق الحديث حتى يمكن فهم المقصود من هذه العبارة. وقد ورد في هذا الشأن قوله : “فإني آخر الأنبياء ومسجدي هذا آخر المساجد.” ويتضح من هذا السياق أن الأخروية المذكورة هنا ليست أخروية مطلقة، وإنما هي أخروية تختص بالدين وبالشريعة. فحيث إن الدين الإسلامي هو آخر الأديان، وشريعة القرآن هي آخر الشرائع، يكون رسول الله هو آخر ذلك النوع من الأنبياء الذي يأتي بدين من عند الله، والذي يأمره الله تعالى بشرع جديد للناس. وبهذا المفهوم يكون رسول الله هو آخر الأنبياء المشرعين وليس آخر الأنبياء على الإطلاق، بل إذا حدث وجاء للأمة نبي فإنه يأتي تابعا له، ملتزما بشريعته، طائعا لسُنته. وللتأكيد على هذا المعنى أضاف الرسول قوله: “ومسجدي هذا آخر المساجد”، وهو لا يعني بالطبع أن مسجده هو آخر المساجد التي تُبنَى على الإطلاق، وإنما هو النمط الأخير للمساجد التي يُعبد الله تعالى فيها، وإذا حدث أن بُني مسجد آخر بعده فإنه لا بد أن يُبنى على نفس نمط مسجد رسول الله ولا يكون مخالفا أو مغايرا له. وبالتالي فإنه إذا جاء نبي.. فإنه لا بد وأن يكون تابعا لرسول الله ، ولا يكون مخالفا أو مغايرا له.

ومن الأحاديث التي كثيرا ما يأتي ذكرها في هذا المجال ما أخرجه الشيخان عنه أنه قال: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين.” (البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين )

وقد فهم بعض المفسرين قوله : “وأنا خاتم النبيين” على أنه يعني كونه آخر الأنبياء الذي لا يأتي بعده نبي على الإطلاق. ولكن سياق الحديث يدل على أن رسول الله كان يتحدث عن بيت الشريعة أو بيت الدين الذي كان يضيف إليه كل نبي لبنة، ولكن ظل هذا البيت ناقصا إلى أن جاء سيد الخلق صاحب أكمل الشرائع فاكتمل البيت على يديه، وبلغ الدين إلى منتهاه، فلا أحد يستطيع أن يضيف بعده شيئا، ولا حاجة لنبي يُغير من ذلك البيت الذي اكتمل بناؤه.

وإذا افترضنا أن جملة “خاتم النبيين” تعني آخر الأنبياء ونهايتهم.. فهي تعني أن رسول الله هو آخر الأنبياء الذين آتاهم الله شرعا لاستكمال بناء بيت الدين، أما وقد اكتمل بناء البيت.. فلا يأتي بعد رسول الله نبي بشرع آخر إلى يوم القيامة. وأما النبي التابع لشرع رسول الله، فهو لا ينقض ذلك البيت ولا يغير من شكله وأركانه، وإنما يجدد البناء فيبدو جميلا جذابا، بعد أن علاه تراب الخلافات الدينية، وشوهته أوساخ الإسرائيليات والروايات الدخيلة، وغير سوء الفهم من شكله وجماله.

ومن المعروف في اللغة العربية أن هذا التركيب: “خاتم النبيين” إنما يستعمل للمدح وبيان فضل الموصوف وعلو درجته ورفعة مقامه، ولكنه لا يدل بتاتا على أنه الآخر أو النهاية، اللهم إلا إذا كان يعني آخر الدرجة عُلوًا ونهاية المقام رفعةً، ولذلك فقد ذكره رسول الله في سياق تفضيله على سائر الأنبياء فقال: “فُضلت على الأنبياء بست: أُوتيتُ جوامع الكلم ….. وأُرسِلتُ إلى الخلق كافة وبيَ خُتم النبيون.”

وفي حديث آخر خاطب فيه عليَّا بن أبي طالب فقال: “أنا خاتم الأنبياء وأنت يا عليّ خاتم الأولياء” (التفسير الصافي عن آية خاتم النبيين ص111). ومن الواضح أن رسول الله يذكر هنا هذا التركيب ليدل على الأفضلية والنهاية في المقام، وليس النهاية في الزمن، إذ لم يقل أحد أن هذه الأمة سوف تخلو من وجود الأولياء بعد عليّ .

وقد استعمل العرب وعلماء المسلمين هذا التركيب على سبيل المدح لبيان التفضيل وليس لبيان النهاية الزمنية، فقال الشاعر:

فُجِعَ القَرِيضُ بخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ

وَغَدِيرِ رَوْضَتِهِ حَبِيب الطَّائِي

وهنا يُوصَف الشاعر حبيب الطائي بأنه خاتم الشعراء، وهو أسلوب لبيان التفضيل، وليس لبيان أنه آخر الشعراء الذي لا يمكن أن يأتي بعده شاعر إلى يوم القيامة. وكذلك استعمل علماء المسلمين تعبير: خاتم المفسرين، خاتم المحققين، خاتم المجتهدين، ووُصف ابن سيناء بأنه خاتم الأطباء، وكلها أساليب تدل على أن الموصوف هو أكمل الموصوفين، ولا تدل أبدا على أنه آخرهم ونهايتهم من حيث الزمان. ولعل السيدة عائشة رضي الله عنها، قد أدركت بثاقب بصرها ما يمكن أن تثيره جملة “لا نبي بعدي” من سوء فهم فقالت: “قولوا إنه خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده” (تكملة مجمع بحار الأنوار ص15). وهذه الجملة التي وردت في ذلك الكتاب منذ مئات السنين، ليست بالطبع من تأليف أو وضع الجماعة الإسلامية الأحمدية، وإنما ذكرها مؤلف الكتاب نقلا عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وهي تدل بدلالة واضحة على أن معنى “خاتم النبيين” لا يعني بتاتا أنه لا نبي بعده أبدا على الإطلاق إلى يوم القيامة.

كذلك.. حين مات ابراهيم ابن رسول الله ، وكان ذلك بعد خمس سنـوات من نزول سـورة الأحزاب التي وُصـف فيها رسـول الله بأنه خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، حدث أن قال رسول الله : “لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا” (ابن ماجه- كتاب الجنائز). وقد فسر العلماء قول رسول الله عن إبراهيم بأنه لو كان قد عاش وصار نبيا لكان نبيا تابعا لشرعه، وبهذا لا تكون نبوته ناقضة لقوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، إذ أن المقصود من هذا التعبير هو ألا يكون بعده نبي ينسخ شرعه أو لا يكون من أتباعه ولا من أمته. (راجع كتاب موضوعات كبير ص69 للإمام ملا علي القاري).

وقد أخذ بهذا الرأي والتفسير الكثير من علماء الأمة الإسلامية، وعلى ذلك فإن الجماعة الإسلامية الأحمدية لم تنكر ما عُرف من الدين بالضرورة، ولم تخرج على أي إجماع للأمة، ولم تبتدع رأيا شاذا لم يقل به أحد غيرها، وفيما يلي بعض الآراء التي تتفق مع رأي الجماعة الإسلامية الأحمدية، والتي أعلنها علماء الأمة في الأزمان الغابرة، قبل أن يبعث الله تعالى سيدنا أحمد .

يقول محي الدين بن العربي:

“فإن النبوة التي انقطعت بوجود رسول الله إنما هي نبوة التشريع لا مقامها، فلا شرع يكون ناسخا لشرعه ، ولا يزيد في حكمه شرعا آخر، وهذا معنى قوله إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي، أي لا نبي بعدي يكون على شرع يخالف شرعي، بل إذا كان.. يكون تحت حكم شريعتي، ولا رسول بعدي إلى أحد من خلق الله بشرع يدعوهم إليه، فهذا هو الذي انقطع وسُدّ بابه، لا مقام النبوة.” (الفتوحات المكية – المجلد الثاني- ص 3)

وجاء في كتابه “فصوص الحكم” صفحة 134-135:

“وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة، وفي محمد قد انقطعت، فلا نبي بعده يعني مُشرّعا أو مُشرّعا له، ولا رسول وهو المشرّع، دون الحق بانقطاع النبوة والرسالة. ألا إن الله لَطَفَ بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد.”

ويقول الإمام عبد الوهاب الشعراني في كتاب “اليواقيت والجواهر” صفحة 39:

“اعلم أن النبوة لم ترتفع مطلقا بعد محمد ، إنما ارتفع نبوة التشريع فقط، فقوله لا نبي بعدي ولا رسول بعدي أي ما ثم من يُشرّع بعدي شريعة خاصة”.

ويقول عبد الكريم الجيلاني في كتابه “الإنسان الكامل” ص 115:

“فانقطع حكم نبوة التشريع بعده، وكان محمد خاتم النبيين، لأنه جاء بالكمال ولم يجئ أحد بذلك.”

ويقول المحدث شاه ولي الله الدهلوي في كتاب “التفهيمات الإلهية” الجزء الثاني:

“وخُتم به النبيون.. أي لا يوجد بعده من يأمره الله سبحانه بالتشريع على الناس”.

ويقول محي الدين بن العربي في كتابه “الفتوحات المكية” الجزء الثاني، باب 73:

“فإن النبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق، وإن كان التشريع قد انقطع، فالتشريع جزء من أجزاء النبوة”.

وقال الإمام مُلاّ على القاري في كتاب “الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” ص 192:

“قلت، ومع هذا لو عاش إبراهيم وصار نبيا، وكذا لو كان عمر نبيا لكان من أتباعه عليه الصلاة والسلام، كعيسى والخضر وإلياس عليهم السلام، فـلا يُناقض قولَه تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، إذ المعنى أنه لا يأتي نبي بعده ينسخ ملته ولم يكن من أمته”.

وفي كتاب “الفتوحات المكية” الجزء الأول ص570:

“فقطعنا أن في هذه الأمة من لحقت درجته درجة الأنبياء في النبوة عند الله لا في التشريع”.

وجاء ما يلي للعلامة جار الله في كتاب: “حروف في أوائل السور” ص 132:

“ومعنى هذه الآية الكريمة الثالثة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فيِ الأُمِّيِّينَ رسولا من الأميين، وبعث في آخرين رسلا من آخرين، فكل أمة لها رسول من نفسها، وهؤلاء الرسل هم رسل الإسلام في الأمة، مثل أنبياء بني إسرائيل هم رسل التوراة في بني إسرائيل”.

وقال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية الجزء الثالث ص 171:

“قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا سُمي سراجا لأن السراج الواحد يؤخذ منه السرج الكثيرة، ولا ينقص من ضوئه شيئا”.

وجاء في كتاب “إكمال الدين” ص375:

“فالهداة من الأنبياء والأوصياء لا يجوز انقطاعهم ما دام التكليف من الله لازما للعباد”.

وجاء في كتاب: “الصافي في شرح الأصول الكافي”، الجزء الثالث الفصل الثاني ص142:

“عن أبي الحسن قال ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولا إلاّ بنبوة محمد ووصية علي”. يقصد بأبي الحسن الإمام أبو الحسن موسى الكاظم.

ويتضح من المراجع المذكورة أن هذا المعنى يشترك فيه كل من علماء أهل السُنة وعلماء أهل الشيعة على السواء، وهذا الشرح والتفسير الذي جاء به علماء المسلمين من قبل، هو نفس الشرح والتفسير الذي تأخذ به الجماعة الإسلامية الأحمدية، كما بيّنه سيدنا الإمام المهدي .. وهو الإمام الحكم العدل الذي أقامه الله تعالى ليفصل في كل القضايا الخلافية بين المسلمين، فأية غرابة في هذا الرأي؟ ولماذا لا يقبله علماء هذا الزمان فيكونون سببا لهداية الناس، بدلا من تكفيرهم وإخراجهم من الإسلام؟

*  *  *

ولعل السؤال الذي قد يطرأ على بال بعض القراء هو: لماذا لا يكون التعبير: “خاتم النبيين” يعني نهاية جميع أشكال النبوة على الإطلاق؟ ولماذا لا يكون رسول الله هو آخر النبيين فعلا ولن يأتي بعده نبي آخر إلى يوم القيامة؟

والإجابة البسيطة على مثل هذا التساؤل هو أن ذلك يتعارض مع ما قال به الرسول ، ويخالف ما ذكره القرآن الكريم. وقد رأينا فيما سبق بعض الآيات الكريمة التي تدل على استمرار نوع فريد وخاص من النبوة غير التشريعية التابعة لنبوة محمد ، كما أوضح رسول الله بكل جلاء مجيء الإمام المهدي والمسيح الموعود وذكر أنهما شخص واحد بقوله: “لا مهدي إلا عيسى” (ابن ماجه)، وبقوله: “يوشك أن ينـزل المسيح…. إماما مهديا وحكما عدلا….” (مسند احمد بن حنبل). ثم وصف رسول الله المسيح الموعود بأنه “نبي الله” أربع مرات في حديث طويل ذكره الإمام مسلم في صحيحه، وقد أجمع علماء المسلمين على أنه حين يأتي المسيح الموعود فإنه سيكون نبيا تابعا لشريعة محمد ، ولكنهم اختلفوا.. فمنهم من قال إن ذلك المسيح الموعود هو رجل من الأمة الإسلامية، يشابه عيسى بن مريم في الفضل، ويماثله في الأحوال الخصال والصفات، ولذلك يُطلق عليه اسمه.. وهذا هو الرأي الذي تؤيده الجماعة الإسلامية الأحمدية. والبعض من العلماء ظن أن الشخص الموعود هو نفس عيسى بن مريم، الذي ذكر عنه القرآن أنه كان رسولا إلى بني إسرائيل، وهنا اختلف العلماء في شأنه.. فمنهم من قال إنه لم يمت وإنه صعد إلى السماء وإنه سينـزل منها، ومنهم من قال إنه مات ولكن الله سوف يحييه مرة أخرى. وكل هذه الآراء تُعارض كتاب الله الفرقان كما أوضحنا في المبحث الأول عن وفاة المسيح .

*  *  *

بقي سؤال نريد أن نهمس به في أذن أخواننا من المسلمين الذين يناصبوننا العداء، ويصموننا بالكفر والفسوق والخروج من الإسلام، ويعلم الله أننا بُرآء من كل ما يصفون.

إننا نقول لهم: نحن وأنتم نؤمن أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..

ونؤمن أنه من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين..

ونؤمن أن كتاب الله القرآن هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه تنزيل العزيز الحميد..

ونؤمن أن شريعة الإسلام هي آخر الشرائع وأعظمها وأكملها..

ونؤمن أن سُنة رسول الله واجبة الاتباع وملزمة لكل الأمة..

ونؤمن أن رسول الله هو آخر الأنبياء الذين آتاهم الله شرعا..

ونؤمن أنه لا يمكن أن يأتي بعد رسول الله نبي أو رسول بشرع يخالف شرع الإسلام..

ونؤمن بأنه لا يمكن أن يختار الله أحدا لمقام النبوة دون أن يكون من أتباع ذلك النبي الأعظم ..

كل ذلك نشترك نحن وأنتم سويا في الإيمان به..

والبعض منكم يقول بمجيء نبي في آخر الزمان سبق إرساله إلى بني إسرائيل هو عيسى بن مريم ..

والبعض منكم ينفي مجيء أي نبي على الإطلاق..

ونحن نقول إن نبي آخر الزمان هو نفسه الإمام المهدي وهو رجل من أتباع محمد ومن أمته..

فإذا وضعنا هذا الخلاف جانبا، وافترضنا.. مجرد افتراض.. أن الله قد بعث فعلا رجلا من أتباع محمد ومن أمته.. وأعلن هذا الرجل للعالم أجمع أن الإسلام هو الدين المقبول عند الله تعالى ولا من دين سواه.. وأن الرسول هو أفضل وأعظم الرسل أجمعين، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، وأنه لا نجاة لأحد إلا إذا كان من أتباعه المخلصين، وأن كتاب الله القرآن هو الكتاب الحق الذي يقود المرء إلى صادق الإيمان، ويهدي السالك إلى سبيل الرحمن، ولا نجاح ولا فلاح لأحد بغير الاهتداء بهدي ذلك الكتاب الفرقان..

فهل بعثة ذلك الرجل تكون خيرا للإسلام ونصرا له أم تكون شرا له وطعنا فيه؟

أفيدونا.. وخبرونا.. لماذا إذن تُعادوننا؟

إذا افترضنا.. مجرد افتراض.. مجيء ذلك النبي الذي يدعو الناس جميعا من كل الأديان إلى الإيمان بنور الإسلام.. ويقول إن الإسلام وحده هو الدين القويم.. وإن رسول الله هو الرسول الرؤوف الرحيم.. وإن كتاب الله الفرقان هو الكتاب الوحيد الذي يهدي للتي هي أقوم ويرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم..

فهل مجيء ذلك النبي يُنقص من شأن الإسلام أم يرفع من قدر ذلك الدين العظيم؟

أفيدونا.. وخبرونا.. لماذا إذن تُعارضوننا؟

إذا افترضنا.. مجرد افتراض.. مجيء نبي يقول إنني ما بلغت هذا المقام، وما اختارني الله تعالى نبيا إلا لأني التزمت بطاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله الأكرم ، ولو كانت أعمالي مثل الجبال، ولو بلغت تلك الأعمال من السمو ما بلغته قمم الجبال الشاهقة.. ولم أكن من أتباع رسول الله لما أفادتني كل تلك الأعمال، ولما حققت شيئا، لأني لم أصل إلى ما وصلت إليه إلا بفضل من الله تعالى، وبفضل التزامي واتباعي لسُنة رسوله الأعظم والأكمل ..

فهل مجيء ذلك النبي يُنقص من شأن رسول الله أم يدل على علو شأنه وسمو مقامه؟

أفيدونا.. وخبرونا.. لماذا إذن تُكفروننا..

إن هذا هو بالضبط ما قاله الإمام المهدي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.. الذي بشّرنا رسول الله بمجيئه، وحث المسلمين على مبايعته واتباعه، لأنه يسير على درب رسول الله ، فطريقه هو طريق الرسول الكريم، وصراطه هو الصراط المستقيم، وسبيله هو سبيل الحق القويم، فطوبى لمن عرف الحق ونال اليقين، واتبع داعي الله وكان من المؤمنين المخلصين، والحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك