الإسلام .. الدين الحي

الإسلام .. الدين الحي

مصطفى ثابت

حين يُقال إن الإسلام هو الدين الحيّ.. وإنه جاء من عند الله العزيز العليّ، يتبادر على الفور في الذهن سؤال، وينشأ في الفكر أمرٌ عضال: أليست الأديان كلها أديانا حيّة؟ ألا نجد في كلَّ منها خيرًا ومزيّة؟ أليست الأديان كلها قد نزلت من لدن رب العالمين؟ أليس هو سبحانه الذي أرسل الأنبياء والمرسلين؟ أليس هو القائل وهو أصدق القائلين:

وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (سورة الفاطر25)

وقال كذلك في الكتاب المبين:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (سورة يونس: 48).

ومن قوله الكريم ما جاء في حق المرسلين:

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (سورة النحل: 37)

فإذا كان الإسلام دينا حيا لأنه جاء من عند العليّ العظيم، فالأديان الأخرى أيضا جاءت من لدن الرب الرحيم، وإذا كان الإسلام دينا حيّا لأنه جاء ببعثة سيد الرسل أجمعين، فالأديان الأخرى أيضا جاءت عن طريق الأنبياء والمرسلين كذلك قد يتفكر المرء ويقول: أليس الله صاحب كل الأحكام الربّانية؟ أليس هو الذي أعطى كل قوم شريعة إلهية؟ وقضى أن يكون لكل قوم منسك قد يختلف عن مناسك الأقوام الآخرين، وآتاهم منهاجا قد يتباين عن منهاج غيرهم من العالمين، كما ذكر ذلك في كتابه العزيز إجابة للسائلين:

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ (سورة الحج: 68)

وقال أيضا توضيحا للمستوضحين:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (سورة الحج: 35)

وقال أيضا تحقيقا للمحققين:

  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( سورة المائدة: 49).

وتدل هذه الآيات البيّنة الكريمة، على أن الله تعالى قد أعطى لكل قوم شريعة قويمة، وجعل للناس نهجًا  يمشون عليه، وأنزل لهم قوانين يستندون إليها، إذ يُبيّن القرآن الكريم، أن الله الرحمن الرحيم، لخالص رحمته ولفضله العظيم، لم يخلق الخلق بدون غاية، ولم يتركهم في أي وقت يغير هداية، بل أرسل لهم الأنبياء وبعث المرسلين، وشرع لهم الشرائع ووضع القوانين، والأمم جميعها قد نالت ذلك الفضل الكبير من الله، فهي سواء في نوال تلك النعمة العظيمة من لدنه تعالى وليس من سواه.

وكذلك قد يتساءل المرء ويقول: أليس لجميع الأديان أتباعا مخلصين يؤمنون بها؟ أليس من بين أولئك الأتباع المؤمنين من يعمل على نشرها والدعوة إليها؟ فلماذا لا تكون تلك الأديان جميعها أديانا حيّة، وفي كل منها لا بد أن نجد آثار ما أنزله الله تعالى فيها من خير ومزيّة؟

خصائص الدين الحي

والجواب هو أن الدين لا يكون حيّا لمجرد وجود أتباع يؤمنون به، وإلى الإيمان به يدعون. وليست الأديان أديانا حيّة لأنها نزلت من عند الله العزيز الكريم، أو أنها جاءت من لدن الخبير الحكيم. ولا لأنها تقضي بالقوانين والشرائع، أو أنها تحتوي على الأوامر والموانع. وإنما الدين الحي هو الدين الذي يُوصِل الإنسانَ إلى الله الذي هو بارئه وخالقه، ويجعل في قلب المؤمن بذلك الدين حُبَّا عظيمًا لله الذي هو كافله ورازقه، وحرصاً بالغاً على عبادته وطاعته، وشوقًأ شديدًا للوصول إلى بارئه طاقته، وعزمًا أكيدّا على القرب من الله ووصاله، أملاً كبيرَا في الفوز بُحب الله ونواله، حتى تفوق صلةُ العبد بربَه كلَّ ما عداها من الصلات، ويفيضُ حُبُّ الله في قب المؤمن فيطغى على حُبِّ كُلَّ محبوبٍ آخر سوى رب الكائنات، فلا يبقى في نفس المؤمن ولا في قلبه، غير حب الله ورجاء نوال قربه.

حينئذ يتطهّرُ قلبُ المؤمن من كل أنواع الشائبات، ويُنقَىَّ من الميل إلى الأهواء والشهوات. ويسطعُ نورُ الله في قلب المؤمن فتنقشع بذلك النور سُحُب الظلمات. وتتوَحَّدُ إرادة العبد مع إرادة رب السماوات. فلا يشاءُ العبدُ إلا ما أحب حبُّه، فتكون طاعة الله هي كل ما يتمناه المرء وما يُقضى به إربُه. فلا تبقى له إرادةٌ منفصلة عن إرادة الله، ولا تبقى له حياةٌ إلا في كنف الله، ولا يهنأ له بال إلا في ظل الله. فيتسامى العبد عن كل فعل خسيس، ويبذل لرضاء ربه، ويبذل لرضاء ربه كل عزيز ونفيس، ويهجر لأجل حبيبه كل صديق وأنيس، ويُعطي عن طيب خاطر كل غال ورخيص، حتى إنه يعطي قلبه روحه وفؤاده، لمرضاة رب العالمين. فتغيب من قلبه شمسُ حُبِّ الدنيا الدنيّة، وتُشرق فيه أنوار الله البهية، وتتجلّى فيه صفات الله القُدُسية، وتنير فؤاده

النفحات الربّانية.  ويكون هذا الإنسان، في ذلك الآن، مصداقا لما حدثنا به رسول الله وحكى لنا عن لسان ربه المنان، إذ قال رسول رب العالمين، وهو بعد الله أصدق القائلين:

 “ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها”. (البخاري، كتاب الرقاق)

نزول الملائكة على المؤمنين

فإذا بلغ حُبُّ الله لعبده ذلك الحدَّ، وإذا أحَبَّ العبدُ ربَّه بكل إخلاص وَجدّ، إذا مضى قُدُمًا في سبيل ربَّه بكل عزيمة وكد، فحينئذ يخبر الله ملائكته الكرام، عن ذلك العبد الوفيّ الهُمام، ويقول لهم إنه يحب ذلك الإنسان، الذي أخلص له بصدق الجنان، فتحبه الملائكة أيضا ويخرّون له معظّمين، ويتنزلون عليه ويبلّغون سلام رب العالمين. ويبشرونه بالجنة مثوى ومقصدّا، ويدافعون عنه العدا، ولأجله يتنزلون مقاماتهم العليا، ويخبرونه بأنهم أصدقاؤه وأولياؤه في الحياة الدنيا، ويُوحي إليه الله كلامًا صحيحًا، ويحدثه بقول فصيح، ويُثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويُنعم عليه بصادق الكشوف والرؤيا. ويُلقى إليه بأنواع المخاطبات، ويُكلمه بأحلى الكلمات، ويبشره بأعظم البشارات، وفي ذلك يقول رب الكائنات، في كتابه المجيد:

  أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (سورة يونس :63 – 65)

كذلك يبعث الله ملائكته إلى ذلك المؤمن الوفيّ، ليحملوا إليه سلامًا من الله الكريم العليّ، ففي ليلة القدر العظيمة، تتنّزلُ ملائكة الله الكريمة، على قلوب المؤمنين، وتُبلغهم سلاما من رب العالمين. لكل من فني في الله وقصد سواء السبيل، وفي ذلك يقول العزيز الجليل:

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (سورة القدر: 5 – 6)

الصبر عند البلاء

 

فهنا يذكر الله تعالى نزول الملائكة وفيهم جبريل، ولكنه لم يذكر اسمه مباشرة بل وصفه بلفظ جليل، فقال عنه إنه: (الروح)، لأنه يهب المؤمن المخلص روحا جديدة، تُعينه على تحمل نوائب الدهر الشديدة، فيُثْبُتُ رغم بكل بَليّة، ويصمد لكل مصيبة وأذيّة، ويبتلي الله عبده المخلص الأمين، كما أشار الله تعالى في كتابه المبين:

  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (سورة البقرة: 156 – 158)

ويمتحن الله عبده بكل أنواع الامتحان، فيخرج منها جميعا مُكرمًا ولا يُهان. وقد يصيبه الله بالفقر وقلة المال فيعطي في سبيل الله من القليل الذي بقي عنده…. شاكرا ربه في كل حال . وقد يبتليه الله بموت القارب أو الأهل أو العيال ، فيصبر على ذلك لأنه يرى أمر الدنيا كلها إلى زوال .

وقد يحاول بعض الأنكاد من بين الناس ،أن يهدموا ما بناه في سبيل ربه من عمد وأساس، ويصرفون عن عبادة الله رب الناس ، ويوسوسوا له وسوسة الشيطان الخناس . ولكنه لا يخرج قدما من الهدى ، ولا يحيد أنملة عن نوال الرضى ، ولو آذوه وقتلوه أو قطعوه بالمدى . وقد يؤذيه البعض ممن لا يحبون النور ، فيصبر على إيذائهم بكل سرور وحبور ، ولا تدفعه عداوة أحد إلى ظلم أو إلى جور .

وقد يصاب المؤمن ببعض الأمراض ، فيحب ما أصابه ولا يأبه لظهور الأعراض ، ويرضى بما قدره الله له بغير اعتراض ، بل ويسعد بما قسم الله له بغير امتعاض ، ويعلم دائما أن لله في كل أمر الكثير من الحكم والأغراض . ولا ينسى بتاتا أن الله وحده هو الشافي ، وبيده الخير كله وهو الذي يعافي ، وأن ما أصابه من مرض أو من داء ، قد أصابه بأمر الله ذي الألاء ، وأنه إذا أراد سبحانه أو إذا شاء ، فإنه القادر على أن يشفي المريض بغير الدواء .

وهكذا … قد تصيب المرء كل هذه النوائب ، فيخرج المؤمن من جميع هذه التجارب ، كالمعدن المصهور بعد أن طهرته النار من كل الشوائب ، فترى من آيات صبره الغرائب ، وتشاهد من ثباته وأمره العجائب . الدنيا وما فيها لا تخلب لبه ، وحب زخرفها وزينتها لا يمس قلبه ، وتراه دائما شاكرا ربه . وترى المؤمن في كل آن وفي كل حال ، ليس له عند غير الله من مطلب أو سؤال ، بل يشكر الله دوما شكرا

جزيلا ، ويحمد الله حبه حمدا جليلا ، ويذكر آلاء ربه وفضله بكرة وأصيلا ، فيكون حينذاك مصداقا لقول الله وليس أصدق من الله قيلا :

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (الأحزاب: 24)

مقام الاستقامة

حينئذ يصل العبد إلى مقام الاستقامة ، وتبدو منه سمات الصدق والكرامة ، ويثبت وفاءه لما حمله الله تعالى من عظيم الأمانة . فتتخذ الملائكة ذلك العبد صديقا ، وتتنزل عليه وتجعله لها رفيقا ، وتبلغه رسالة من رب العالمين ، رسالة يشتاق إليها كل مؤمن من المتقين ، ويهفو إليها كل ولي من الصالحين ، ويصبو إليها كل عبد من السالكين ، رسالة تحمل البشرى والخير العميم ، لكل من آمن بالله واستقام على الصراط المستقيم . وفي ذلك يقول الرحمن الرحيم:

( إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم ) ( فصلت: 31-33 )

حينئذ يفرح المؤمن بكلام ربه السديد ، الذي يتلقاه من الملائكة في الحياة الدنيا ويشتاق إلى المزيد . وتفرح الملائكة بهذا العبد المؤمن البار ، وتكشف له بإذن ربها علوم القرآن وما خفي فيه من أسرار . ويؤتيه الله علوما لدنية ، وينزل عليه من الحكم والدرر البهية . ويثبت فلبه وفؤاده بالقول الثابت الذي يوحي به إليه ، كما يقول الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه :

(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) ( ابراهيم 28)

فيرث ذلك العبد الصالح علوم الأولين ، ويؤتيه الله تعالى من أنباء الآخرين ، ويهبه المعارف التي أتاها للسابقين ، ويسقيه من النبع الذي سقى منه النبيين ، ويطعمه ما طاب من موائد المرسلين . ويفتح أمامه سبل العرفان ، ويمنحه من كنوز معارف القرآن ، فإن القرآن كتاب مكنون ، لا يمس معانيه إلا المطهرون ، وذلك كما بينه الرب الرحيم ، في كتابه العزيز الكريم :

 ( إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون ) ( الواقعة : 78-80)

الإسلام هو الدين الحي

من أجل هذا قلت إن الإسلام هو الدين الحي لأنه يهدي الإنسان إلى الطريق الرشيد السوي . ولأن الإسلام هو الدين الوحيد ، الذي يوصل الإنسان بنهج سديد ، إلى الصراط الذي أمر به من ربه ، ويطهر الإنسان من هواجس الشيطان وكربه . وهو الدين الذي يعلن بكل وضوح أن الله يوحي إلى عباده الصالحين ، وأن الله ينزل ملائكته على المؤمنين المخلصين ، فتبلغهم من ربهم سلاما سلاما ، وتأتيهم بالبشرى في الحياة الدنيا أنهم أولياء الله وأقرب مقاما .

و أما الأديان الأخرى كلها فقد أعلنت أن وحي الله قد انقطع ، وأن كلام الله إلى أوليائه قد امتنع ، وأن الله لا يكلم أحدا من عباده ولو قضى كل عمره في عبادة الله بخلوص النية ، فكيف تكون تلك الأديان أديانا حية ، وهي لا تستطيع أن تهب لأتباعها الحياة النقية ، ولا تستطيع أن تقود العبد إلى مراتب اليقين ، التي لا ينالها العبد إلا بسماعه وحي الله المبين ؟

نعم … قد كانت هذه الأديان أديانا حية في الزمن القديم ، وكانت توصل متبعيها إلى عتبة الرب الرحيم ، وتطهر معتنقيها من دنس الشيطان الرجيم ، ولكن لم يكن من المقدر لها أن تبقى حية إلى أبد الآبدين ، مثل الاسلام الذي أتى به سيد الخلق أجمعين ، محمد المصطفى عليه وعلى أتباعه الكرام ، أفضل الصلاة وأزكى السلام . لقد فقدت هذه الأديان لغتها الأصلية ، ونزلت عليها كل مصيبة وبلية ، فعبث بها أيادي المحرفين ، وضاع الكثير من معانيها مع كثرة المترجمين ، بل ماتت بنزول دين الاسلام ، من رب السماء على محمد المجتبى خير الأنام ، أفضل الخلق وسيد الأقوام . وجاء وعد رب العالمين ، بحفظ ذلك الدين المتين ، فقال سبحانه وهو خير الحافظين :

 ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر : 10 )

مكانة الأديان الأخرى

وأما غير الإسلام من الأديان ، فلم يحتو وعدا من الله المنان ، يماثل هذا الوعد الذي جاء في القرآن ، ولم يؤكد الله تعالى على أنه سيحفظ تلك الأديان ، من عبث أولياء الشيطان ، أو أنها سوف تظل على مدى الأزمان ، مصونة من الزيادة أو النقصان . بل أشار سبحانه في الفرقان ، إلى أن جميع تلك الأديان ، التي أرسلها الله تعالى إلى كل الأمم في سالف الأزمان ، قد مستها أيدي الشيطان ، لهم وليا من دون الرحمن ، فقال سبحانه العزيز الديان :

 ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم ولهم عذاب أليم ) ( النحل : 64 )

الاسلام هو الدين الكامل

 

كذلك فقد انتهى أمر التشريع بنزول الشريعة الغراء ، وقضى الله تعالى صاحب الأمر والقضاء ، أن يكون الإسلام آخر الأديان ، وأن يكون محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل الذين يأتون بشريعة من الله الرحمن . وذلك لأن الله قد أنزل في الإسلام كل أمر حكيم ، من الله العزيز العليم ، وضمنه كل حكم صحيح ، بلسان عربي بليغ وفصيح .

وأكمل في القرآن جميع الآيات ، وجمع فيه كل البيانات ، ولذلك قال عنه رب الكائنات :

 ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة : 4 )

الاسلام يهب الحياة 

وإذا كان الله قد رضي لنا الإسلام دينا ، فكيف نقبل غير الاسلام دينا ؟ وكيف يكون غير الاسلام دينا يهب الحياة وقد ماتت كل الأديان ، بنزول كتاب الله الفرقان ؟ لقد لقب القرآن بالروح لأنه يهب الحياة للأموات ، فقال عنه بديع السماوات :

 ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) (الشورى 53 )

وأوصى الله تبارك وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباع ذلك الدين العظيم ،أن يدعو الناس إلى نبع الحياة ، وأن يسقيهم من ذلك النهر الذي تجري فيه أعذب المياه . وأشار إلى أن من يستجيب للرسول الأعظم ، صلى الله عليه وسلم ، إنما هو في واقع الأمر يقبل حياة لا موت بعدها ، ويشرب من عين لا يظمأ بعد أن يذوق ماءها . فقد قال الله العلي الأكرم ، مخاطبا عباده … من آمن منهم ومن أسلم :

( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ( الانفال : 25)

فالإسلام في حقيقته يعني حياة السلام ، بتسليم الارادة لرب الأنام ، والعيش في أمان واستسلام ، لمشيئة رب العالمين . وغير الاسلام ليس إلا الموت الزؤام ، لأنه يلقي الإنسان في متاهات الظلام ، ويقصيه عن أنوار الرب العلام ، ويقذف به في هاوية الشياطين .والاستجابة لله ولرسول رب العالمين ، هي الحياة الحقيقية للمؤمنين الصادقين ، بل هي نبع الحياة التي يسمع لها المؤمنون رقرقة وخريرا ، ويشرب بها عباد الله ويفجرونها في الدنيا تفجيرا . وفي الأخرة تتمثل تلك الحياة جنة تجري من تحتها الأنهار ، وتنال من الله منة لعباده الأبرار ، فيفوز بها المؤمنون المخلصون الأخيار .

علامة محبة الله الحقيقية

ولا تكون الاستجابة المشار إليها في الآية السابقة ، استجابة تامة وكاملة وباسقة ، إلا بحسن طاعة الله العزيز الكريم ، وصدق طاعة رسوله الرؤوف الرحيم ، فإن علامة محبة الله الحقيقية ، هي اتباع رسول الله بصدق النية . ولذلك فقد جعل سبحانه الجزاء لمن تبع رسوله الأمين أن ينال محبة الله تعالى رب العالمين ، ووعد سبحانه في كتابه الفرقان أن يهب محبته لكل إنسان أخلص في اتباع سيد الإنس والجان ، فقال سبحانه في سورة آل عمران :

( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) ( آل عمران : 32)

الدرجات الأربع

بل إنه عز و جل قد قضى في آية وجيزة بها كل ما قل و دل ، بأنه سوف يهب جميع النعم الكريمة ، ويعطي كل الدرجات العظيمة ، التي أعطاها للأمم من السابقين ، والتي أنعم بها على من سبق من المخلصين ، فيعطيها أيضا للمسلمين ، لمن أطاع منهم الله تبارك وتعالى ، وأطاع الرسول وصدق ووالى .

فوعد بأنه سوف ينعم عليهم بأربع من الدرجات ، عطاء لهم من رب الكائنات ، كما أنعم على الذين خلوا من قبلهم من المؤمنين ، من أتباع الأنبياء السابقين . وجعل أدنى هذه الدرجات درجة الصالحين ، وجعل أعلاها درجة النبيين ، وبينهما جعل مرتبة الصديقين الأوفياء ، وأيضا مرتبة المخلصين من الشهداء . وصارت هذه الدرجات والمقامات الأربع ، وفقا من الله ذي الخير العميم الأوسع ، ومخصوصة لمن أطاع الله والرسول ، وأثبت صدق طاعته بالفعل والقول . ولهذا قال سبحانه المنعم ذو الآلاء في آية من آيات سورة النساء :

 ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك فضل من الله وكفى بالله عليما ) ( النساء . 70- 71)

ومن أجل الحصول على هذه الدرجات ، وللوصول إلى عتبة خالق السماوات ، علمنا الله تعالى دعاء جليلا ، لكي ندعوه به سبحانه بكرة وأصيلا ، ونطلب فيه أن يهدينا الصراط المستقيم ، لأنه وحده هو الحكيم العليم ، الذي يهدي من يشاء من العالمين ، إلى صراط المؤمنين الصادقين . وقد فتح علينا هذا الدعاء العظيم ، باب نوال جميع النعم من الله المنعم الكريم ،والحصول على كل الدرجات التي أعطاها سبحانه للأمم من السابقين ، والتي نالها الذين أنعم الله غليهم ممن سبقنا من المؤمنين . وجعل سبحانه هذا الدعاء من بعد حمد رب العالمين ، و ذكر صفاته الرحمن والرحيم ومالك يوم الدين ، ثم الإقرار له بالعبودية و أننا به وحده نستعين . ثم علمنا أن نطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هدى إليه السابقين ، صراط الذين أنعم الله عليهم بهذه المراتب الأربع فجعلهم من المنعمين ، وجعل منهم الشهداء والصالحين ، وأيضا جعل منهم الصديقين والنبيين . فهذه هي درجات النعم الأربع التي يريد الله لنا أن نحوز ، وهذه هي المراتب الأربع التي يود سبحانه أن يهب لنا وبها نفوز فليس هناك نعمة من النعم ، آتاها الله أي فرد في أمة من الأمم ، إلا ووعد بها الأوفياء الصادقين ، في هذه الأمة العظيمة من المؤمنين ، أتباع النبي العظيم الذي هو فخر الأولين والأخرين .

من أجل ذلك قال الله عن الاسلام ، إنه الدين الحي الذي ارتضاه لكل الأنعام . وإنه وحده هو الدين القويم ، الذي يحفظ الانسان على طريق الله المستقيم . وإن من يبتغ دينا غير الاسلام ، فإنه لا يجد في الدنيا الخير والأمن والسلام ، بل إنه يعقد صفقة خاسرة يخسر فيها الدنيا والأخرة ، ويحشر يوم القيامة مع الخاسرين . وفي ذلك يقول أصدق القائلين :

 ( ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( آل عمران : 86)

ولعل بعض القراء يقول : حسنا ….. لقد أحسنت الكلام وأفضت في بيان محاسن الإسلام وذكرت أنه الدين الحي لأنه يحفظ الإنسان من السقوط في حبائل الشيطان وينقذ من آمن به من بين الناس من شر الوسواس الخناس ويوصل العابد المخلص الأمين إلى رحاب الله رب العالمين .

وقلت إن الإسلام هو الدين الحي لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده وإنه محفوظ بمده ومداده، وإن كل من يملأ منه قلبه وفؤاده يهبه الله حبه و وداده ويبلغه رشده وسداده ويحييه حياة طيبة زاخرة في هذه الدنيا وأيضا في الأخرة . ويوحي إلى عباده الصالحين ويبشر الصادقين منهم والمخلصين وبرسل إليهم ملائكته تخبرهم في الدنيا أنهم من أوليائه وتبلغهم سلام الله وتحمل إليهم من آلائه، وعلى ذلك فإن الوحي في الاسلام لم ينقطع وكلام الله لعباده المخلصين لم يمتنع.

وقلت أيضا إن الإسلام هو الدين الحي من بين الأديان لأن الله قد قضى وهو الكريم المنعم المنان أن يهب المسلمين المؤمنين المخلصين كل النعم التي أنعم بها على الأمم من السابقين وسواء كانوا في منازل الشهداء والصالحين أو كانوا في مراتب الصديقين والنبيين .

ولكن … ما هو دليلك على ما ادعيت ؟ وما هو برهانك على صدق ما رويت ؟ أين هؤلاء الذين أوحى إليهم الله ؟ وأين هم الذين سمعوا كلام الله ؟ وأين أولئك المؤمنون المخلصون في أمة الإسلام الذين نالوا حياة الوئام بفضل اتباعهم لدين الإسلام ؟ وأين أولئك الذين وعدهم الله الوهاب كما جاء في آياته التي أنزلها في الكتاب بأن من أطاع الله والرسول فإن الله سوف يمكنه من الوصول إلى أعلى درجات المؤمنين وهي درجة النبيين التي اختار لها الكثير من الصالحين في أمم الأنبياء السابقين ؟

الدليل على أن الإسلام هو الدين الحي  

فاسمعوا إذن دليلي على صدق الكلام وخذوا برهاني على حقيقة الإسلام . لقد وعدنا الله الرحيم على لسان رسوله الكريم أنه سيأتي في زمان الظلم والجور والضلال من بين أتباع نبينا الكريم العظيم عديم المثال ، نبي سماه رسول الله بالمهدي والمسيح لأن الله يهديه عن طريق الوحي فينطلق يدعو الناس ويصيح : أن يا أيها الملأ… و يا أيها الناس ! لقد أصاب الأديان كلها الإفلاس وضل أتباع الأديان من جميع الأقوام والأجناس ولكني جئت إليكم من الرب الرحيم العلام لأبرهن لكم على صدق دين الإسلام وإني تابع للشريعة الغراء التي جاءت من لدن رب السماء وإني خادم لسيد الخلق أعظم الأنبياء محمد المصطفى أصفى الأصفياء الذي اتبعت طريقه وسنته وحافظت على وصاياه وشريعته فاجتباني ربي وأوحى إلى لأنصر دين الديان وأدل الناس على علو منولة القرآن . ذلك هو المهدي المنتظر المعهود الذي وعد بمجيئه الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال : على من لقيه منكم أن يبلغه مني السلام وقال : عليكم أن تبايعوه وتنصروه حتى لو كان ذلك حبوا على الثلج .

الامام المهدي والمسيح الموعود

 

والآن … أيها القراء الكرام! هداكم الله إلى سبل السلام ، لقد جاء ذلك المسيح الموعود وجاء المهدي المعهود . ذلك هو سيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني الذي أرسله الله تعالى للقاصي والداني وأمره بدعوة الخلق إلى نور الاسلام واتباع سنة المصطفى خير الأنام وجعله نبيا تابعا لخير المرسلين وخادما لشريعة الدين المتين .

لم يأت من بين الذين كفروا من بني إسرائيل الذين لعنهم الله في التوراة والإنجيل وجاءت لعنتهم على لسان داود المكرم ثم على لسان عيسى بن مريم ولم يأت من بين أهل الكتاب من النصارى أو من الضالين الذين ضلوا السبيل وصاروا حيارى ، ولم يأت من بين الهندوس أو البوذيين ولم يأت من أهل أي دين أو من المنبوذين بل جاء من بين المسلمين المؤمنين الموحدين . أليس في ذلك دليل عظيم الشأن .. على أن الاسلام وحده هو الدين الحي من بين كل الأديان ؟ إذ لو كان هناك دين حي غير الاسلام لجاء منه ذلك النبي الموعود الامام الذي بعثه الله في آخر الزمان ليظهر دينه على كل الأديان ، ولكن جميع الأديان إلا الإسلام قد ماتت وضاع منها الهدى فمارت وبارت ويئس منها أهلها فأعلنوا أن إلههم لا يتصل بأصفيائه ولا يوحي إلى عباده وأولياءه فأضافوا بقولهم هذا دليلا على إفلاس تلك الأديان وأنها لا تنجي الإنسان من هواجس الشيطان ولا توصله إلى رب الأكوان ولا تهب الإنسان اليقين بإيصاله إلى عتبة رب العالمين فلا يوحي إليهم الله ولا يكلمهم ولا يبعث من بينهم نبيا ولا يحدثهم .

وأما الإسلام … فإنه هو الدين الصحيح ولذلك فقد بعث الله فيه نبيه المهدي المسيح وأنزل عليه من السماء الآيات وأيده بكثير من المعجزات وخصه بأنواع البركات وأدبه بجميل الصفات وأوحى إليه بأحلى الكلمات وتجلى عليه بأجلى التجليات وبعثه نبيا للعالمين تابعا وخادما لسيد الخلق وخاتم النبيين، ولم يبعثه بشريعة تنقض القرآن أو تضيف مثقال ذرة إليه أو تنسخ حرفا من القرآن.

فالتشريع كما أوضحنا قد اكتمل وتم ولا نبي بعد رسولنا العلي الأكرم صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يأتي نبي بشرع جديد ولا يمكن أن يخالف رسول كتاب الله المجيد .

وقد أكد الإمام المهدي عليه السلام على أن الدين الحي هو الإسلام فقال :

” وإن هذا الدين حي مجمع البركات ومظهر الآيات يأمر بالطيبات وينهى عن الخبيثات ومن قال خلاف ذلك أو أبان فقد مان ونعو بالله من الذين يفترون .”(مرآة كمالات الإسلام ، الخزائن الروحانية ج 5 ، ص 531 )

               

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك