مولد البطل

السيرة الطاهرة (3)

أثناء حكم السيخ الطويل للبنجاب انحط التعليم انحطاطا كاملا. وبسبب ضعف المسلمين عموما في الهند.. كانوا لا يهتمون بأمور التعليم إلا ما ندر، ولم تكن تحظى المناطق النائية عن المدن بوسائل التعليم من مدارس ومعاهد إلا بالمستويات البسيطة والأولية. ولم يكن في قاديان.. وهي القرية الصغيرة في ذلك الوقت.. سوى مدرسة واحدة أولية تتولى تعليم أبناء بعض العائلات مبادئ القراءة والكتابة.

وقد كتب سيدنا مرزا غلام أحمد بنفسه، ووصف بكلماته الإجراءات التي اتخذها والده لتعليمه فقال ما تعريبه:

“لقد تم تعليمي في الصغر بحيث لما بلغت ست أو سبع سنوات من عمري.. استُخدم معلمٌ يتقن اللغة الفارسية علمني القرآن الكريم وبعض الكتب الفارسية، وكان اسمه “فضل إلهي”. ولما بلغت حوالي العاشرة من عمري.. استُخدم شخص لتعليمي عالم باللغة العربية اسمه “فضل أحمد”. وإنني لأرى أنه لما كان تعليمي هو الغرسة الأولى من فضل الله، لذا فقد كان اسم كل من المعلميْن يبدأ بكلمة “فضل”. لقد قام المولوي المحترم (أي فضل أحمد)، الذي كان رجلا متدينا وصالحا، على أمر تعليمي باهتمام كبير ومثابرة، ودرست على يده بعض كتب الصرف وقواعد النحو. ولما بلغْتُ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمري.. تتلمذت لبضع سنين على يد مولوي آخر كان اسمه “كل على شاه”، وكان والدي قد عينه أيضا لتعليمي في قاديان، وتعلمت منه ما شاء الله تبارك وتعالى من قواعد النحو ودرست المنطق والطب وغيره من العلوم المتداولة في ذلك الوقت. ولما كان والدي طبيبا حاذقا فقد قرأت على يده بعض الكتب في علم الطب كذلك.

وفي تلك الأثناء صرت مولعا بقراءة الكتب لدرجة كبيرة، حتى وكأني لست أعيش في هذا العالم. وكان والدي ينصحني دائما بالإقلال من قراءة الكتب، حيث إنه كان يخاف شفقة علي ألا يضر ذلك بصحتي، وكان يرمي إلى أن أتخلى عن هذه الأمور وأشاركه في أعماله وأشغاله. وفي نهاية المطاف هذا ما حدث بالضبط، إذ كان والدي في ذلك الوقت مشغولا برفع القضايا في محاكم الحكومة الإنجليزية أملا في استعادة أملاك أجداده من القرى التي كانوا يملكونها. فوظفني في تلك المهمة فصرت مشغولا بها لوقت طويل. وقد أسفت دائما على الوقت الثمين الذي ضاع هباءً في تلك القضايا التافهة. وإلى جانب ذلك أوْكل إليّ والدي أمور الإدارة والإشراف على الأراضي الزراعية، ولكني لم أكن أجد في نفسي ميلا للاهتمام بتلك الأمور، مما كان يُغضب والدي في بعض الأحيان. ولقد كان والدي حنونا بي وشفيقا علي جدا، ولكنه كان يريد أن يجعلني منصبّا على الأمور الدنيوية مثل عامة الناس، غير أنني لم أكن أميل إلى هذه الأمور بتاتا.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج 13 من ص181-183 حاشية أسفل الصفحة)

كان “فضل إلهي” و”فضل أحمد” يقومان بتدريس مرزا غلام أحمد في قاديان، وأما المولوي “كول علي شاه” فقد كان في أول الأمر يقوم بتدريسه في قاديان، ولكنه سرعان ما عاد إلى مدينة “بطالا” التي كان يسكنها، واضطر مرزا غلام أحمد أن ينتقل للإقامة في “بطالا” بعض الوقت حتى يستكمل دراسته هناك على يد أستاذه.

وفي تلك المرحلة كان مرزا غلام أحمد قد بدأ يبدي اهتماما خاصا بالعلوم الدينية، وكانت دراسته العميقة للقرآن الكريم تحتل مكان الصدارة دائما. ولكنه لم يقتصر على قراءة الكتب الإسلامية وحدها، بل كان يقرأ أيضا الكتب المسيحية. وقد أفزعه مدى خبث وبذاءة المطاعن المسيحية الموجهة إلى الإسلام، وضد نبي الرحمة ، مما ترك أثرا عميقا في قلبه ووجدانه.

وكما هي العادة في تلك الأيام.. فقد اتُّخِذت ترتيبات زواجه من ابنة خاله، وكان اسمها “حُرمة بي بي”، وقد رُزق منها بولدين هما مرزا سلطان أحمد الذي ولد في عام 1852، ومرزا فضل أحمد الذي ولد في عام 1855، حسب بعض التقديرات.

ومن المعلوم أن الشاب حين يتزوج ينشغل عادة بالأمور الحياتية وكسب العيش والانغماس في الأمور الدنيوية التي تقتضيها ظروف الحياة. ولكن.. حين تم زواجه.. كان مرزا غلام أحمد لم يزل مشغولا بدراسته، ولم يسمح أن يكون لزواجه أي أثر على برنامج دراسته أو على أسلوب حياته الذي صار فيه مغرما بالقراءة والدرس والمطالعة، وميالا للتأمل والتفكر. ولم يكن التغيير الذي طرأ عليه في تلك الفترة سوى أنه بدأ يُكرّس وقتا أطول للعبادة والصلاة ودراسة القرآن الكريم، وكان يقضي في ذلك أوقاتا طويلة في مسجد العائلة.. ماشيا ذهابا وإيابا وهو غارق في تفكير عميق وتأمل شديد.

وكان قد تعلم السباحة وركوب الخيل في حداثة سنه، ولكن رياضته المفضلة كانت المشي الحثيث، وقد واظب على تلك الرياضة حتى أثناء أشد أوقاته انشغالا. ولما انتهى من دراساته المدرسية كان والده يسعى لتوجيه اهتمامه بالأمور الدنيوية، وأمور العائلة، وأسباب المعيشة. ولكن تلك الأمور لم تكن تعنّ له، ولم يجد في نفسه ميلا لها. وفي ذلك كتب يقول ما تعريبه:

“كان والدي يريد أن يجعلني منصبّا على الأمور الدنيوية مثل عامة الناس، الأمر الذي كان يتعارض مع طبعي وميولي…. ومع ذلك فأرى أنني -طاعةً لوالدي ولنيل رضى الله تعالى وليس حبا في تلك الأمور- كرّست نفسي لخدمة والدي، وكنت دائما أدعو الله له. وإن والدي بسبب سلوكي هذا كان يعتبرني بارًّا بالوالدين. وكان كثيرا ما يقول إنني أوجه ابني هذا إلى الأمور الدنيوية على سبيل الترحم، وإلا فإني أعرف جيدا أن المنهج الذي ينتهجه -أي منهج الدين- هو المنهج السليم والقويم، أما نحن فنمضي أعمارنا هباء.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج 13 ص182-184 الحاشية)

وقد حدث مرة في إحدى محاولات والده تشغيله بأمور الدنيا أنه استطاع فعلا أن يوظفه في وظيفة صغيرة في الإدارة المدنية لمحافظة “سيالكوت” حوالي عام 1864. ومع أنه قام بتأدية واجبات وظيفته على الوجه الأكمل وبأمانة تامة.. إلا أنه كان كثير الإنعزال. واستمر يقضي وقت فراغه في العبادات والدراسات الدينية. وكان لديه البعض من معارفه المقربين، ولكنه كان يرفض رفضا باتا أن يستقبل في مسكنه أي شخص تتعلق زيارته بأمور وظيفته. ولم يكن له من الأصدقاء المقربين في تلك الآونة سوى “لاله بهيم سين” وهو محام هندوسي وكان قرينه في الدراسة على يد أستاذه “كول علي شاه” في “بطالا”، وكان يُقدِّره تقديرا خاصا، والمولوي “سيد مير حسن” وهو عالم مبجل ومعلم أيضا، و”مير حسام الدين صاحب” وهو طبيب تعلم الكثير من علوم الطب من مرزا غلام أحمد وصار صديقا مقربا إليه.

وأثناء إقامته في سيالكوت.. تعرَّف مرزا غلام أحمد على اثنين أو ثلاثة من المبشرين المسيحيين، وكان يتبادل معهم وجهات النظر في بعض الأمور الدينية. وكان أحدهم مستر بتلر الذي كان قسيسا على جانب كبير من العلم، وفي عدة مناسبات كان يتبادل الحديث مع مرزا غلام أحمد في الموضوعات الدينية، وكان يحمل له كل احترام وتقدير. ولما حان موعد عودته إلى بريطانيا حرص على زيارة مرزا غلام أحمد في مكتبه ليودعه قبل سفره.

وفي سيالكوت أيضا وقعت حادثة غريبة في ليلة من الليالي حيث كان نائما في غرفة بالطابق الثاني في أحد البيوت.. إذ سمع صوتا ينبعث من الدعامات الخشبية التي تحمل سقف الغرفة، وكان الصوت يشبه صوت زقزقة العصفور. وقد أُلقيَ في بال مرزا غلام أحمد أن الدعامات الخشبية التي تحمل السقف قد تـنكسر فيسقط السقف. وكان بالغرفة عدة أشخاص نائمين أيضا، فأيقظهم وحثهم على مغادرة الغرفة، ولكن النوم كان يغلبهم فلم يلتفتوا إلى تحذيره.. وقالوا إن الصوت غالبا ما كان ينبعث من أحد الفئران التي تقرض الخشب.. وعادوا جميعا إلى النوم. وبعد برهة عاد الصوت ثانية فأيقظ مرزا غلام أحمد أقرانه النائمين وحثهم على مغادرة الغرفة، ولكنهم لم ينصاعوا لنصيحته. ثم عاد الصوت مرة أخرى.. وفي تلك المرة أصر على أن يخرج الجميع من الغرفة. وفعلا خرجوا جميعا واحدا تلو الآخر بينما بقي في الغرفة ليطمئن على خروج جميع أقرانه، ثم كان هو آخر من خرج من الغرفة. وما كاد يخطو خارجا منها حتى هوى السقف ساقطا، وأخذ معه أرض الغرفة التي كانت سقفا للغرفة أسفل منها. وبذلك نجا الجميع من خطر محقق.

توفيت والدة مرزا غلام أحمد في عام 1868م، فأرسل إليه والده يخبره بالفجيعة، ويطلب منه أن يستقيل من منصبه ويعود إلى قاديان. وفي التوّ أطاع توجيهات والده وسافر إلى قاديان. وقد لخص انطباعاته عن فترة إقامته في سيالكوت ما تعريبه:

“حينما كنت تحت رعاية والدي قضيت بضع سنوات.. رغما عني.. في وظيفة في الحكومة البريطانية، ولكن بما أن ابتعادي عن والدي كان شاقا عليه كثيرا لذلك امتثالا لأمره، الذي كان عين رغبتي أيضا، استقلت من الوظيفة غير المنسجمة مع طبعي وحضرت لخدمة والدي. وقد جعلتني هذه التجربة أدرك أن كثيرا من أصحاب الوظائف يعيشون حياة غير مستقيمة، والقليل منهم يحافظ بشكل كامل على الواجبات الدينية من قبيل الصوم والصلاة، والنادر منهم من كان ينأى بنفسه عن المحرمات التي يتعرضون لها على سبيل الابتلاء. وكنت أتحير من رؤيتهم إذ وجدت أن الرغبات القلبية لدى معظمهم كانت مقتصرة على جمع المال بطرق مشروعة أو غير مشروعة، كما وجدت جل مساعيهم في الليل والنهار لإحراز التقدم الدنيوي فحسب في الحياة القصيرة. ولم أجد سوى القلة النادرة من بين الموظفين الذين كانوا يذكرون عظمة الله تعالى فيُرَوّضون أنفسهم على الأخلاق الفاضلة من الحلم والكرم والعفة والتواضع والانكسار ومؤاساة الخلق والطهارة الباطنية وأكل الحلال وصدق المقال والورع. بل وجدت الكثيرين منهم إخوان الشيطان في التعالي والعجرفة والانحراف الخلقي، والإهمال تجاه الدين، والاتصاف بأنواع الأخلاق الرذيلة. وحيث إن حكمة الله اقتضت أن أتعرَّف على مختلف أنواع البشرية.. لذلك فقد قدرَّ الله لي أن أكون في معية جميع تلك الأنواع من الناس.. غير أنني قضيت تلك الأيام كلها في ألم وشعور بالكراهية لحياة الإثم والفساد.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج 13 ص184-186 الحاشية)

كذلك كتب مرزا غلام أحمد عن حياته بعد عودته من سيالكوت إلى قاديان فذكر ما يلي:

“عندما رجعت إلى والدي المحترم أشغلني بالأمور المتعلقة بالأراضي، ولكن الجزء الأكبر من وقتي كنت أقضيه في تدبر القرآن الكريم والاطلاع على التفاسير والأحاديث النبوية. وكنت كثيرا ما أقرأ بعض الأجزاء من هذه الكتب لوالدي أيضا الذي كان دائما يبدو مكتئبا بسبب فشل جهوده (في استرجاع أي جزء من ميراثه)، فقد أنفق سبعين ألف روبية على القضايا وإجراءات المحاكم ولكن كان مآله الفشل، وذلك لأننا فقدنا قرى آبائنا منذ زمن بعيد، وكان استرجاعها وهما وخيالا. وبسبب ذلك الفشل كان والدي يبدو غارقا في دوامة حزن عميق، وبسبب رؤيتي إياه على تلك الحال كنت أتمكن من إحداث تغيير طيب في نفسي. إن الحياة المريرة التي كان يحياها والدي.. علمتني أن أقَدِّر قيمة الحياة الطيبة النقية الخالية من شوائب الدنيا. لقد كان والدي لا يزال يمتلك بعض القرى، وكان يتقاضى مرتبا سنويا من الحكومة البريطانية ومعاش التقاعد أيضا، ولكن كل ذلك ما كان يساوي شيئا بالمقارنة مع ما كان ينعم به فيما مضى، ولذلك كان دائما يبدو مكتئبا ومحزونا.. وكثيرا ما كان يقول إنه لو جاهد في سبيل الدين بالقدر الذي جاهد به في سبيل الدنيا الدنية.. لصار من الأقطاب وأولياء الله تعالى…..

وفي أخريات أيام حياته كان يغلبه التحسر على أنه سوف يقابل خالقه وهو خالي الوفاض، وكثيرا ما كان يتأسف ويقول إنه أضاع حياته جريا وراء أمور الدنيا التي لا طائل وراءها. وفي إحدى المناسبات.. أخبرنا أنه قد رأى رسول الله في رؤيا وهو يتقدم إلى منْزل والدي في مقام عظيم وكأنه ملك قدير، فتقدم والدي نحوه ليرحب به. وحين اقترب منه.. جال في فكره أن يقدم له هدية، فوضع يده في جيبه ولكنه لم يجد فيه سوى روبية واحدة، ولما أمعن النظر فيها تبين أنها عملة مزيفة، ولما أدرك ذلك فاضت عيناه بالدموع واستيقظ من النوم.

ثم فسر والدي بنفسه تلك الرؤيا بأن حب الله تعالى وحب رسوله إذا كان مشوبا بحب الدنيا فإنه يصير مثل العملة المزيفة. وكان يقول إن الفترة الأخيرة من حياة أبيه أيضا قد قضيت أيضا في المصائب والأحزان… وقد تضاعف حزن والدي وبؤسه أضعافا مضاعفة حين كبر سنّه، ونظرا إلى ذلك فقد بنى والدي قبل ستة أشهر مسجدا في وسط القرية، الذي هو المسجد الجامع هناك.. وأوصى أن يُدفن في ركن من المسجد حتى يسمع ذكر الله على الدوام، لعل ذلك يكون سببا لأن يغفر الله له.

وعندما اكتمل بناء المسجد من جميع النواحي… توفي والدي إثر تعرضه لمرض الدوسنتاريا دام بضعة أيام، ودُفن في ركن من المسجد كان قد حدده بنفسه. اللهم ارحمه وأدخله الجنة، آمين. لقد كان والدي يبلغ من العمر ثمانين أو خمسة وثمانين عاما. وإن حسراته على حياته التي أضاعها جريا وراء الدنيا ما زالت تؤثر في قلبي تأثيرا أليما، وأدركت أن كل من يبتغي الدنيا لا بد وأن يحمل معه مثل هذه الحسرات، فليفهم ذلك من كان من المتفهمين.” (كتاب البرية، الخزائن الروحانية ج13 ص 187-192 الحاشية)

وعلى إثر عودته إلى قاديان.. حدثت واقعة يتبيَّن منها مدى تمسكه بالحق واستقامة فكره وسمو إدراكه، وأنه ما كان ليجامل أحدا إذا أدّت تلك المجاملة لأن يخالف ما يراه حقا وصوابا.. إذ عاد المولوي محمد حسين البطالوي إلى بلدته بطالا بعد أن انتهى من دراسته الدينية في دلهي.. وقد حصل على الشهادة العلمية التي تؤهله لحمل لقب المولوي. وكان ينتمي إلى فرقة أهل الحديث، وهي فرقة من الفرق الإسلامية التي تتعارض في آرائها مع الغالبية العظمى من سكان بلدة بطالا الذين كانوا ينتمون إلى الفرقة الحنفية. وقد أرسل أهل البلدة واحدا منهم، يطلبون من مرزا غلام أحمد أن يحضر إلى بطالا، وسوف يقومون بترتيب مناظرة بينه وبين المولوي محمد حسين البطالوي، يناقشان فيها نقاط الخلاف بين أهل الحديث والحنفية. ووافق .. وسافر إلى بطالا.. وذهب إلى المسجد حيث كانت الترتيبات قد أعِدَّت للمناظرة العلنية. وبدأ المولوي محمد حسين المناظرة بأن ذكر العقائد التي يؤمن بها بصفته من أهل الحديث. فلما سمع مرزا غلام أحمد العبارات التي ذكرها المولوي.. أعلن أنه لا يجد فيها شيئا يختلف أو يتعارض مع العقائد الإسلامية، وعلى ذلك فلا مجال هناك للجدال أو المناظرة.

وقد تسبب ذلك في ضجيج ولغط كبير.. وفسّر جماعة أهل الحديث ذلك الموقف بأنهم انتصروا على الحنفية.. بينما شعر أهل البلدة من الحنفيين أنهم قد خُذلوا وأهينوا وأصابتهم مذلة شديدة. وهكذا صار محط حنق كل من الفريقين.. ولكنه لم يكترث بموقف أي من الجانبين.. فإن الحق عنده وصدق الرأي لم يكن ليتأثر برضى أو سخط أصدقائه أو خصومه.. وكان على أتم استعداد أن يتحمل كل مهانة وازدراء بوجه متألق وصدر منشرح، ما دام ذلك من أجل أن يعلو الحق ويظهر. وفي تلك الليلة.. شرَّفه الله تبارك وتعالى بوحيه، وأثلج صدره فأخبره سبحانه أنه راض عن مسلكه الذي تمسَّك به في المناظرة.. وأخبره أيضا أنه سوف يباركه كثيرا حتى إن الملوك سوف يتباركون بثيابه. وقد شاهد في رؤيا بعض أولئك الملوك وكانوا ستة أو سبعة يمتطون صهوة جيادهم.

وحينما كان يمثل والده في المحاكم من حين لآخر.. لم يكن ليهتم بالحكم الذي يصدر في القضية قدر اهتمامه وحرصه على أن يتمسك بالحق في كل الظروف، وأن يكون مسلكه متسما بالأدب والاحترام تجاه كل من يتعامل معهم.. مع العمل الدائم والمجاهدة المستمرة لكي يحقق هدفه الأسمى، وهو أن ينمّي ويقوّي صلته بالله تعالى.

ومن حين لآخر كان يضطر للسفر إلى بطالا وكورداسبور ودِلهَوْزي وأمْرتسَر ولاهور فيما يتعلق بإجراءات تلك القضايا. وفي كثير من الأحيان كان يضطر للسفر سيرا على الأقدام، أو استخدام عربات متهالكة تجرها الثيران.. فلم تكن السيارات قد اخترعت بعد. كانت دلهوزي في منطقة جبلية مرتفعة.. تعلو بما يقرب من سبعة آلاف قدم عن سطح البحر، وتبلغ المسافة بين قاديان ودلهوزي ما يقرب من مائة ميل أي أكثر من مائة وستين كيلومترا، ولم تكن وسائل المواصلات متوفرة في أكثر الأحايين، فكان يضطر إلى قطع بعض تلك المسافات سيرا على الأقدام. وكلما اقتضت الظروف أن يذهب إلى دلهوزي كان يستمتع بمناظر الطبيعة الجبلية التي يعبرها.. وكانت تلك المناظر الخلابة تجعله دائم التفكير في قدرة الخالق وعظمته وفضله الكبير على مخلوقاته.

كان تمسكه بقول الصدق، وحرصه على الحق، من الأمور التي اشتهرت عنه، حتى إنه حدث في العديد من القضايا التي كان يمثل فيها والده.. أن الطرف الآخر في الدعوى طلب من القاضي أن يستمع إلى شهادة مرزا غلام أحمد عن بعض الحقائق في القضية المرفوعة.. فكان القاضي يستدعيه فعلا للشهادة.. وحينئذ يذكر الحقائق كما يعرفها دون مواراة أو إخفاء لأي حق من حقوق الخصوم.. الأمر الذي كان يؤدي في بعض الأحيان أن يخسر والده القضية. وفي إحدى تلك المرات غضب والده أشد الغضب، وأنبه تأنيبا عنيفا حتى إنه طلب منه مغادرة البيت، فذهب إلى بطالا وأقام فيها ما يقرب من شهرين، إلى أن دعاه والده مرة أخرى إلى قاديان. وقد ذكر تلك الأمور في بعض كتاباته ونذكر منها نبذة أو نبذتين على سبيل المثال:

“كان ابني سلطان أحمد قد رفع قضية على أحد الهندوس مدعيا أنه قد بنى بناء على أرض نملكها.. وطالب بإزالة البناء. وكان الادعاء يتضمن أمرا مخالفا للحقيقة وكان من شأنه أن يؤدي إلى إبطال القضية، وفي هذه الحالة كان لا بد أن تلحق الخسارة في الحرمان من الملك بسلطان أحمد وبي أنا أيضا. فاغتنم المدّعَى عليه الفرصة وذكر اسمي كشاهد في القضية.. فذهبت لذلك إلى بطاله…. أخبرني هنالك المحامي الذي وكَّله ابني سلطان أحمد أن القضية على وشك أن يُنادى عليها.. وسألني عما أنوي أن أذكره في شهادتي.. فأخبرته بأني سوف أدلي بما هو الحق والصدق. فقال: لا داعي في هذه الحالة أن تحضر الجلسة، بل أذهب أنا وأسحب القضية. وهكذا فبسبب مراعاة الصدق فحسب قد أفسدت القضية بنفسي، وآثرت الصدق على الخسارة المالية ابتغاء لمرضاة الله.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص299-300)

كذلك حدث أن رفع أخوه.. مرزا غلام قادر.. قضية على واحد من الهندوس من سكان قاديان لإزالة بناء أقامه المدّعَى عليه الهندوسي على قطعة أرض مجاورة لمسكنه، ولكنها كانت تقع ضمن أملاك أخيه المدعِي.. مرزا غلام قادر. ودفع المدعَى عليه بأن البناء قد تم تشييده منذ زمن طويل بحيث صارت الأرض التي أقيم عليها البناء من حقه بحكم التقادم. وطلب المدعَى عليه الهندوسي شهادة مرزا غلام أحمد رغم علمه بأنه شقيق الخصم. وقد أيد في شهادته ما ذكره المدعَى عليه من حكم التقادم، وترتب على تلك الشهادة أن رفضت المحكمة الدعوى وخسر أخوه القضية، مما أدى إلى غضب الأخ وحنقه الشديد على أخيه، ولكن مرزا غلام أحمد أخبره أنه لم يكن ليتوقع منه أن يكتم الشهادة أو يخفي الحق ليرضيه ويغضب الله تعالى.

وحدث مرة أن ذهب إلى بطالا ليرفع قضية مُوَكلا عن والده، وبينما كان ينتظر موعد نظر القضية.. حان الوقت لأداء صلاة الظهر.. فذهب إلى مكان خال بالقرب من دار المحكمة وأدى الصلاة. وأثناء انشغاله بالصلاة نودي على القضية، وانتهز الخصم الفرصة وطلب من القاضي أن يحكم برفض الدعوى لتغيب صاحب الدعوى عن حضور الجلسة، ولكن القاضي رفض مطلبه. وبعد دراسة أوراق القضية وسؤال المدعَى عليه.. حكم القاضي لصالح المدعِي. وفي هذه الأثناء عاد مرزا غلام أحمد إلى المحكمة فأخبره الحاجب أن القضية قد نودي عليها وتم النظر فيها أثناء غيابه. فدخل قاعة المحكمة مهرولا وهو يظن أن الدعوى قد رُفِضت بسبب غيابه.. وأخذ يشرح للقاضي أنه كان موجودا ولكنه في تلك اللحظة التي نودي فيها على القضية كان يؤدي صلاة الظهر. فابتسم القاضي وأخبره بأنه قد حكم في القضية لصالحه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك