الإسراء والمعراج (الحلقة الأولى)

الإسراء والمعراج (الحلقة الأولى)

محمد حلمي الشافعي

كاتب

يتحدَّث العلماء كثيرًا عن الإسراء والمعراج، ولكن بما لا يُسمن ولا يُغني من جوع القرَّاء الذين يتعطَّشون إلى معرفة ماهيتهما ومغزاهما، وما أدلّ على ذلك ما نُشر في صفحات جريدة «الأهرام» المصرية بقلم الدكتورة الشهيرة بنت الشاطئ، نضعه بين يديك، أيها القارئ الكريم، ونضع أيضًا ما بيَّنته جماعتنا من حقائق ومعارف عن الإسراء والمعراج – والحكم بين يديك. (المحرر)

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (الإسراء: 2).

تتحدَّث هذه الآية الكريمة -بإجماع الآراء- عن موضوع الإسراء المحمديّ العظيم. ولكن مسألة الإسراء في حدِّ ذاتها تعتبر إحدى المعضلات التي اختلف المفسرون القُدامى والمحدثون حولها. وذلك لكثرة الأحاديث والروايات وتضارب الآراء حولها.

ولقد جرت عادة غالب المسلمين أن يجمعوا بين واقعة إسراء الرسول وواقعة عروجه . فيحتفلون بذكراهما في وقتٍ واحد باسم “ذكرى الإسراء والمعراج”.. اعتمادًا على بعض روايات جمعت بينهما. والحقيقة تحتاج إلى تدبُّر حتى تنكشف للعقول.

حادثان منفصلان

إنّ موضوع العروج مذكورٌ في القرآن الكريم في موضوع آخر غير هذه السورة ومستقل عن الإسراء تمامًا. وذلك في سورة النجم حيث يقول :

إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى

تُشير هذه الآيات إلى عروج المصطفى ويُستخلص منها ما يلي:

  • أنّ النبي كان قاب قوسين أو أدنى.
  • أوحى الله له هناك.
  • رؤية الرسول لله وآياته الكبرى.
  • وصوله إلى سدرة المنتهى.
  • رؤية الجنة عندها.
  • غطّى السدرة شيءٌ ما.

فإذا تأملنا الأحاديث المتعلقة بالمعراج نجدها تتحدَّث عن كل هذه الأمور.. فمثلاً:

  • في روايةٍ عن أبي سعيد الخُدري قال النبي : “فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى”.
  • وفي رواية عن أبي هريرة “أنّه لما بلغ عند سدرة المنتهى فكلَّمه الله تعالى عند ذلك”. وعن أنس بن مالك “ثم إنّي رُفِعتُ إلى سدرة المنتهى فقال الله لي: يا محمد..” (الخصائص الكبرى).
  • عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي لما ذكر سدرة المنتهى قلت: ماذا رأيت هنالك يا رسول الله؟ قال: “رأيت هنالك ما رأيت”. وذَكَرَت كان يعني الله (خصائص ابن مردويه).

وعن ابن عباس قال في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى أنّه رأى ربه بفؤاده مرتين.

أما رؤيته للآيات الربّانيّة في المعراج فلا خلاف فيه. فلا داعي لذكره.

  • في حديث أبي هريرة السابق قال “ثم انتهى إلى سدرة المنتهى”. ولا سبيل إلى إنكاره إذ رواه عنه ستة من الحفَّاظ هم: ابن جرير، ابن أبي حاتم، ابن مردويه، البزار، أبو يعلى، البيهقي، ابن عساكر. عن أبي سعيد الخُدري الذي يذكر فيه وصوله إلى سدرة المنتهى بعد رفعه إلى السماء والتقائه بالأنبياء. وعن مالك بن صعصعة في مسند ابن حنبل والبخاري ومسلم وابن جرير في حديث المعراج “ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى”.
  • في حديث أبي سعيد الخُدري. “ثم إنّي رُفعتُ إلى الجنة” (ابن جرير).
  • في حديث أبي هريرة عن المعراج “فغشيها نور الخلّاق عزّ وجلّ” (خصائص ابنت مردويه).

وعن أنس: “فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيّرت: فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها” (صحيح مسلم).

من كل ذلك يتضح على الوجه القطعي أن آيات سورة النجم نزلت في أحداث المعراج وحده وليس لها دخل بالإسراء أو غيره من الأحداث.

كما أنّ آية الإسراء لم تتناول شيئًا مما وقع في المعراج. بمعنى أن سورة الإسراء تحدَّثت عن موضوع الإسراء وحده. وسورة النجم تناولت موضوع المعراج وحده.

زمن نزول سورة النجم

متى نزلت سورة النجم؟ التحقيق يدلُّ على أنها نزلت حوالي السنة الخامسة من البعثة المحمديّة الشريفة. أو قبلها بقليل. يتفق كل المؤرخين على أن النبي أمر بعض أصحابه في هذه السنة بالهجرة إلى بلاد الحبشة بعد أن اشتدَّ إيذاء الكفار مكة لهم. حيث يجدون الأمان عند ملكٍ لا يُظلم عنده أحد. فهاجروا إليه في شهر رجب في السنة الخامسة. وكان فيهم سيدنا عثمان وزوجه رقيّة بنت المصطفى (الزرقاني). وفشل وفد قريش المكوَّن من عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة في تحريض النجاشي ملك الحبشة على طردهم.

وفي مقابلة مع جماعة كفار قريش قرأ الرسول سورة النجم. ولما وصل إلى موضع السجدة عند قوله تعالى:

أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ..

سجد النبي وسجد معه الجميع بما فيهم من حضر من كفار قريش.. ذلك من جلال الموقف ورهبة الآيات. فشاع أنّ زعماء قريش قد اسلموا. وذلك مكرًا وخديعةً لاستدراج المهاجرين للعودة من الحبشة. فلما عاد هؤلاء وجدوا أنَّ الخبر كاذب. وقد علَّل كفار مكّة سجودَهم مع الرسول بفريةٍ باطلة.. إذ زعموا أنّه تلا بعد قوله: و«مَنَاةَ الثالثةَ الأخرى». كلامًا يمدح فيه آلهتهم. وقد وقع للأسف الشديد في هذا الفخ بعض المؤرخين فزعموا أنّ الشيطان -معاذ الله- ألقى على لسان المصطفى عباراتٍ عن الأصنام تقول: تلك الغرانيقُ العُلى. وإنّ شفاعتهُنَّ لَتُرْتَجى. وهو قولٌ فاضح الكذب: ولا مجال لدحضه هنا.

وإذن من هذه الواقعة الشهيرة الواردة في أكثر كتب التاريخ والحديث.. يتضح أنّ سورة النجم التي تتناول موضوع (المعراج) قد قرأها الرسول في السنة الخامسة. أي أنّها نزلت عندئذٍ أو قبلها بقليل.. أي قبل شوال من السنة الخامسة التي عاد فيها مهاجرو الحبشة.

وجديرٌ بالذكر أن بعض الأحاديث تبيّن أنّ عروج الرسول حدث أكثر من مرة. ففرضيّة الصلاة الواردة في بعض أحاديث المعراج قد حدثت في الفترة الأولى من البعثة المحمديّة الشريفة.. أي في أوائل السنة الثانية أو منتصفها. كما أنّ آية النجم وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى تُشير إلى أنّ المصطفى رأى ربه أكثر من مرة.

زمن الإسراء

نعود بعد ذلك إلى واقعة الإسراء. يقول المؤرخون أنّها وقعت في أواخر الفترة المكيّة على أقوالٍ منها: أنّها حدثت في السنة الثانية عشرة بعد البعثة (المستشرق وليم) أو ربيع من السنة الحادية عشرة (الزرقاني) أو في ربيع قبل الهجرة بسنة (ابن مردويه عن ابن عمر والبيهقي وابن سعد عن أم سلمة) و (الخصائص الكبرى).

كما أنّ هناك شهادة السيدة عاتكة بنت أبي طالب أنّ الرسول كان يبيتُ عندها ليلة الإسراء وأنّها أول من روى له المصطفى رؤياه. وقد روى عدد من الصحابة ما يؤيّد ذلك.

لقد ذهب الرسول عند السيدة عاتكة بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة.. وكل ذلك كان بعد السنة العاشرة من البعثة. أي أنّ الإسراء كان في السنة الحادية أو الثانية عشرة.

فاصل زمني بين الإسراء والمعراج

إذن هناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عن خمس سنوات. وقد يصل إلى سبع سنوات. وأنّ المعراج هو الذي وقع أولاً وفيه فرضيّة الصلاة. ورؤية الله تعالى. والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة. وأنه ذُكر في سورة النجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء.

الإسراء وقع قُبيل الهجرة وقد ورد في سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للمعراج. فهل يُعقل أن يجتمعا في رحلةٍ واحدة؟ ولو كان بينهما ارتباط.. فهل يجوز ذكر أحدهما في سورة دون إشارة تبيّن الرابطةَ بينهما؟

ثم نظرةٌ إلى حديث أم هانئ الذي رواه محمد ابن إسحاق. والذي جاء في سيرة ابن هشام. وقد رواه عنها سبعة من المحدثين بطريق عدد من الأسانيد المختلفة التي كلها تدور حول رحلة الإسراء. ويتبيّن أنّه لم يَرِدْ فيه أيُّ ذكرٍ للمعراج. وإذا كانت السيدة أم هانئ هي أول من سمع الخبر من الرسول .. فهل يمكن أن يحكي لها الرسول جزءًا من رحلته ويُغفل أو يُخفي عنها الجزء الأكبر والأهم؟

قالت: ما أُسريَ برسول الله إلا وهو في بيتي – نائمٌ عندي تلك الليلة. فصلَّى العشاء الآخرة. ثم نام ونمنا. فلمّا كان قُبيل الفجر أهَبّنا رسول الله . فلما صلَّى الصبح وصلينا معه قال: “يا أُمّ هانئ: لقد صليّتُ معكم العِشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي. ثم جئتُ بيت المقدِس فصلّيتُ فيه. ثم صلّيتُ الغداء معكم الآن كما ترين. ثم قام ليخرج. فأخذتُ بطرفِ ردائه فتكشف عن بطنه -كأنّه قبطيّة مطويّة- فقلت له: يا نبيَّ الله. لا تُحدِّث بهذا الناس فيكذِّبوك ويؤذوك. قال: (والله لَأُحدِّثنَّهم).. إلخ الحديث وهنا لم يَرِدْ أيُّ ذكرٍ على لسان المصطفى ولا على لسان أم هانئ عن وقائع المعراج. أليس هذا دليلاً على أنّ العروج كان في مناسبةٍ أخرى؟! وهل من المعقول أن ينسى الرسول أو تنسى أم هانئ هذه الواقعة العظيمة؟ اللهم لا.. وإنّما شتَّان ما بين الواقعتين.

وعندما سمع أهل مكة حكاية الإسراء من الرسول ، ماذا حدث؟ تقول السيدة عائشة: لما عرَف الناس خبر إسراء النبي ذهبوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنّه قد جاء هذه الليلة إلى بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنّكم تكذبون عليه؟

فقالوا: بلى! ها هو ذاك في المسجد يُحدِّث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق. فما يُعجبكم من ذلك؟ فوالله إنّه ليُخبرني أنّ الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار فأُصدِّقه. فهذا أبعد مما تعجبون منه! (سيرة ابن هشام)

أليس في هذا الحديث ما يدلُّ على أنّ العروج إلى السماء لم يَرِدْ في تلك المناسبة على لسان الرسول وأنّ القوم لم يتحدَّثوا عنه وهو الأعجب والأبعد حسب قول أبي بكر الصدِّيق. وهو الأدعى إلى التكذيب والسخرية من جانب الكفار!

واستدلال أبي بكر كان عن الخبر يأتي من السماء. فإذن موضوع العروج النبوي إلى السماء لم يكن ورادًا عندئذٍ.. وإلا لكان استدلال أبي بكر غير مناسب للمقام.

فقد تبيّن بجلاء أنّ الإسراء شيء والمعراج شيء آخر ولم يجتمعا في رحلةٍ واحدة بل ولا في سنةٍ واحدة، وإنمّا يفصلهما عدد من السنوات يبلغ ستًا أو سبعًا..

سبب الخلط بين الحادثين

قد يتساءل البعض: لماذا إذن جَمعَ بينهما بعض الرواة؟ مع أنّ القرآن الكريم لم يجمعهما في سورةٍ واحدة ولو بمجرّد الإشارة أو التلميح؟

الجواب على ذلك: لقد اختلط الأمر على بعض الرواة والمفسرين القدامى فأدخلوا روايات أحَدِهما مع الآخر وظنُّوا أنّهما مرحلتان من رحلةٍ واحدة للأسباب الآتية:

  • وقعت حادثتا العروج والإسراء في الليل. ولما كان الإسراء يُطلق على السير في الليل أطلق بعض الصحابة والرواة والمحدِّثين كلمة الإسراء للرحلتين. وصار الناس لا يفرِّقون بين هذا وذاك بما جعل الرواة يخلطون بينهما. وظنُّوا أنّ النبي عُرِجَ به إلى السماء من بيت المقدِس في نفس الليلة.. ولنتأمل الرواية التالية مثالاً لذلك:

روى ابن حنبل في مسنده عن مالك بن صعصعة أنّ النبي حدَّثهم عن ليلة (أُسريَ به) قال: بينما أنا في الحطيم -وربما قال في الحجر- مضطجِعًا إذ أتاني آتٍ فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة.. فأتاني فشقَّ ما بين هذه وهذه -يعني من نحره إلى أسفل بطنه- فاستخرج قلبي. فَأُتِيتُ بِطستٍ مِنْ ذهب مملؤةً إيمانًا وحكمة. فغسل قلبي ثم حُشيَ ثم أُعيدَ. ثم أُتيتُ بدابةٍ دون البغل وفوق الحمار يقع خطوه عند أقصى طرفه. فَحُمِلتُ عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا….الحديث.

ترى الراوي يذكر عبارة (أُسريَ بي) مع أنه لا يتحدَّث عن رحلة الإسراء المعروفة إلى بيت المقدس، وإنما يحكي رحلة العروج السماوي. ولقد بدأت هذه الرحلة حسب الرواية من مكة وليس من بيت المقدِس، ومن جوار الحرم وليس من بيت السيدة أم هانئ.

وروى البخاري وابن جرير أنّ النبي عُرِجَ به ليلة الإسراء إلى السماء الدنيا. وبذلك يثبت جليًّا أنّهم يذكرون كلمة الإسراء في الرحلتين. وهذا ما جعل بعض الرواة يسهون ويجمعون بين الرحلتين وأحداثهما.

  • اعتقد بعض الرواة أن الرحلتين شيء واحد بسبب وجوه المشابهة بين بعض الأحداث فيهما، ومنها .. سفر الليل، ركوب البُراق، لقاء الأنبياء، أداء الصلاة، رؤية الجنة والنار، صُحبة جبريل.. فهي كلها أمور مشتركة بين الرحلتين ساعدت على وقوع بعض الرواة في خلط أجزاء عن العروج مع أجزاء من رواية عن الإسراء، ولم يستطيعوا الاحتفاظ بأصول أحاديث كل منهما على حدة.

ولو أننا تصفّحنا الروايات التي تجمع بين الأمرين وتقول بعروج النبي من بيت المقدس بعد إسرائه ولقائه الأنبياء وصلاته معهم.. ظهر لنا أنها اختلطت في بعضها واضطربت اضطرابًا شديدًا، فمثلاً يقول الرواة أنّ المصطفى لقيَ الأنبياء ومنهم آدم وموسى وعيسى، وصلّى بهم في بيت المقدس وبعد فترةٍ وجيزة صعد إلى السماء ولقيهم، ولكنه لم يتعرَّف عليهم وأخذ يسأل جبريل: من هذا؟ فيجيبه جبريل. وهذا أمرٌ لا يسيغه الوجدان ولا يتقبّله العقل. فكيف يغيب عن ذهنه وينسى وجوه أشخاص من أمثال هؤلاء الأنبياء العظام، قابلهم وصلّى بهم منذ فترةٍ قصيرة؟ وهذ، وإن كان دليلاً واضحًا على خلط الرواة بين الأحداث المتشابهة فهو أيضًا دليل على الفارق الزمني بين المعراج والإسراء. إنّ المصطفى رأى الأنبياء أولاً في عروجه ولم يكن يعرف حليتهم فسأل عنهم، لكن لم يَرِد سؤاله عنهم عند لقائه بهم في رحلة الإسراء…

وخلاصة القول إنّ ما سُقناه من شهادات وأدلة نقليّة وعقليّة من داخل الروايات وخارجها لفيه الكفاية للدلالة على أنّ العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلة الإسراء. وكل منها مستقل وقائم بذاته.

تفاصيل عن المعراج

والآن نتناول موضوع المعراج بشيءٍ من التفصيل…

إنّ واقعة المعراج لم تكن انتقالاً جسديًا من الأرض إلى ما وراء عالم الأفلاك والمجرات -إن كان له في تصوُّرنا وراء- ولم تكن انتقالاً روحيًا بمعنى أن الروح الشريفة غادرت الجسد وانتقلت إلى هذا المجال.. لانّ الأرواح لا تُفارق أجسادها ما دام المرء .. ولم تكن حلمًا يمرُّ برأس نائمٍ يغطُّ في فراشه. وإنّما هي من قبيل الوحي الإلهي الذي يكلّم به المولى تبارك وتعالى من يصطفيه من عباده ..إنّه الكشف .. والكشف أو الرؤيا .. تحدث للإنسان المصطفى وهو في حالةِ اليقظة الكاملة .. يرى الشيء ويعي أحداث الكشف .. وحده في خلوةٍ بعيدًا عن الناس. أو أمام الناس ولا يدرون بما يجري معه. أو أمام الناس ومعهم ويشتركون معه.

أنواع الكشف

الكشف.. أو الرؤيا. أو الوحي كلها أسماء لنفس التجربة. إنّها درجات تختلف كثافةً ولطفًا حسب درجة الموحى إليه. وهي بالنسبة للرسول أعلى درجات الكشف بحيث لا يُدانيه فيها مخلوق آخر من الأنبياء وغير الأنبياء.. وتجدر الإشارة هنا إلى ما ورد في بعض الروايات “تنام عينه ولا ينام قلبه” (البخاري وأبو داوود)

ومن الكشوف التي اشترك فيها الحاضرون مع الرسول ما روته كتب الحديث عن الغريب الذي أتى الرسول وهو بين جمعٍ من صحابته. وجلس إليه يسأله عن الإسلام والإيمان ويصدِّقه بعد كل إجابة. وعَجِبَ الصحابة من أمره. يسأله ويصدِّقه. فلما انصرف أخبرهم المصطفى إنّه جبريل أتى ليعلِّمهم أمر دينهم.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول في حضور صحابته ولكنهم لم يشاهدوها معه. ما حدث يوم غزوة الخندق. عندما حاول بعض الصحابة من جند المسلمين كسر صخرةٍ تعترض طريق الخندق. وقد حضر الرسول يشجِّعهم، وتطايرت الشرارات من المعول، وكبَّرَ الرسول وكبَّر معه صحبه الكرام. وبعد أن زالت الصخرة أخبرهم المصطفى أنّه مع لمعان الشرر أضاءت له قصور ملوك اليمن وكسرى وقيصر.

ومن الكشوف التي وقعت للرسول في خلوته بينه وبين ربّه عزّ وعلا.. رؤيا المعراج ورؤيا الإسراء ورؤيا دخول المسجد الحرام ورؤيا مصارع رؤوس الكفر يوم بدر.

فكل هذه الرؤى من أنواع الوحي الإلهي.. أو الكلام الربّاني.. الذي يختلف في شكله عن وحيه القرآن .. لأنّ الأخير له صورةٌ لفظيّة محددة.. تولّى المولى تبارك وتعالى حفظها، أما الوحي الكشفي فهو يتسم بقدر من الرمزيّة، يزيد أو ينقص حسب حالة صاحب الكشف، ويحتاج إلى تأويل وتفسير بقدر ما فيه من مجاز.

فرؤيا الرجل الغريب الذي جاء ليسأل الرسول وحيٌ تعليمي، ويتضمَّن قدرًا من الرمزيّة تُفيد أنّ المصطفى إنّما يتلقّى العلم الروحاني من الله تعالى وأنّه صادقٌ فيما يقول، حافظٌ ذاكر لكل ما نزل عليه. هذا بالإضافة إلى ما تحمله من معاني التعليم والتأييد والتصديق. وقد تمّت في حضور الناس.

ورؤيا يوم الخندق كانت تحمل أنباء غيبيّة عُظمى، شاهدها الرسول وأخبر بها الحاضرين .. في وقتٍ عصيب .. تحدَّى فيه النبي كل الأخطار المتوقّعة. وقدَّم البشرى لجنود الإسلام .. ينفخ في أرواحهم قبسًا من أنوار الطمأنينة والثقة واليقين بمستقبل الإسلام المشرق في ظروف تدعو إلى الخوف بل إلى اليأس. ولقد تحقّقت رؤياه أصدق ما يكون التحقُّق.. وأضاءت أنوار الإسلام كل تلك البقاع التي رأى شرر المعول يضيؤها. وهكذا تحوَّل الرمز إلى حقيقة. وكان تأويل الرؤيا واضحًا عندما سمعوها من فمه الشريف. وكان واقعها صادقًا مع ما سمعوه منه. وشهد الكثيرون منهم بعد سنوات قلائل. وهناك العديد من الرؤى أو الكشوف. التي هي بحق من أعظم المعجزات التي جرت على يديه .. تُثبت أمام العالَم صدقه في نبوّته ورسالته وعلاقته بربّ هذا الكون الذي يُدبّر أموره ويدير أحداثه.. سبحانه وتعالى.. وواقعة المعراج وواقعة الإسراء من هذا القبيل، تحمل من أخبار الغيب -الذي استأثر الله بعلمه- ما كان مقدَّرًا له أن يتحقّق. ويعلن أمام العالَم كلّه.. يشهدونه بأعينهم وحواسهم، ويعيشونه حقيقة وواقعًا. أنّ محمد قد جاء من الله ، وتحدَّث باسم الله . وصدق فيما قال عن الله . وبذلك يزداد الذين آمنوا إيمانًا. ويعذر الذين تعاموا أو عَموا عن الحق. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك