لا إكراه في الدين

* يؤكد القرآن الكريم أنه لم يكن هنالك نبي إلا ونادى بحربة الرأي، وأنه على عكس ذلك منع مكذبو الرسل حرية الرأي بالجبر والإكراه.

* لم يجز الأنبياء منذ البداية استعمال القوة والإكراه في الدين، ولم يعاقبوا أحَدا على الإرتداد منه.

* لو كان لأحد حق في ممارسة الإكراه في الدين لكان لله خالق كل شيء ومؤسس سائل الأديان. ولكنه تعالى لم يمارس الإكراه في الدين بل منح الإنسان حرية تامة في اختيار دينه ومذهبه.

* ما دام الله لا يمارس الإكراه في الدين، فكيف يحق للمخلوق أن بتجاوز سنة ربه ويتملك من السلطة أكثر منه؟

بقلم الأستاذ المرحوم محمد حلمي محمد الشافعي

إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي أعلن الحرية التامة في الدين، وبألفاظ واضحة غير مبهمة، بدون قيد أو شرط، ونفي نفيا تاما ما كان يدعيه الإلحاديون من أن الدين قد انتشر بالجبر والإكراه، حيث قال الله تعالى:

“لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”. (البقرة: 257).

أي أنه لا يجوز في الدين أي نوع من الجبر والإكراه، بل كل إنسان حُرّ مُخيّر، فلا يُجبر أحدًا على الدخول في الدين ولا يُكرِهُ على عدم الخروج منه. فإعلان (لا إكراه في الدين) يعني صراحة عدم جواز الجبر والإكراه فيه ويبيِّن أيضا قاعدة فطرية ويبيِّن أبدية لا تبديل لها وهي أن ممارسة الجبر في الدين لن تفيد شيئا، حيث لا يمكن أبدًا تغيير دين أحد بالجبر والإكراه، لذلك فمحاولة تغيير دين أحد باقوة هي عبث محض، ولا ينجم عنها سوى الظلم والعدوان.

فهذه الآية إذا تُبرّئ جميع الأديان من أي جبر أو إكراه، لأن كلمة (الدين) تعمّ سائر الأديان، فهي لا تختص بالإسلام وحده، وبذلك تنفي الإكراه في جميع الأديان السماوية.

وقد يدّعي أصحاب الأديان الأخرى بأنه لا إكراه في الدين لديهم أيضا، ولكن السؤال هنا، هل أعلنت كتبهم الدينية عن ذلك إعلانا واضحا أم لا؟ فمن ناحية المبدأ لا بد وأن تكون هنالك تعاليم مماثلة لهذه التي جاء ذكرها في القرآن، في جميع الأديان السماوية، أما كونه تعليما ناقصا غير كامل، بدائيا أو محرّفا من قِبَل أهله حسب أهوائهم وأغراضهم فهذا موضوع آخر.

وأما ما يتعلق بالقرآن الكريم فإنه قد أعلن عن وجود هذا المبدأ، وبرّأ الأديان السابقة من التهمة القائلة بأنها نُشرت بالجبر والإكراه. وبالإضافة إلى ذلك امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة بأنه ذكر الأنياء السابقين واحدا تلو الآخر مع بيان تعاليمهم وعدَّهم حَمَلَةَ لِواء الحرية التامة في الدين، وبين أن أعداءهم، على عكس ذلك، كانوا يُجيزون الإكراه في الدين.

لقد ذكر القرآن في هذا الصدد تاريخا مفصلا للإديان السابقة، وبيَّن فيه بوضوح أنه منذ أن بدأ الله تعالى بعث أنبيائه عليهم السلام لهداية الناس. والجدال مستمر بين فريقين مختصمين: فريق رسل الله الكرام الذين دعوا أقوامهم إلى الهدى في ضوء الوحي الإلهي، أعلنوا، أنكم أحرار مخيّرون في قبول هذه الرسالة الإلهية أو رفضها، فنحن لسنا مأمورين بفرض هذه الرسالة عليكم بالجبر الإكراه، كما لسنا مقتنعين بأسلوب القهر والإجبار، فكيف نزغمكم على قبول مذهبنا بهذه الوسيلة؟ وعلى العكس من فريق الأعداء الذين يعلنون في كل زمان ومكان وبدون استثناء بأنهم يؤمنون بوسيلة الإكراه في الدين، وبالفعل ههدوا الأنبياء قائلين: سنريكم كيف نمنعكم من نشر دعوتكم بالجبر والقهر فإن لم تنتهوا عن سعيكم لتغيير  ديننا فلسوف نعذبكم عذابا شديدا، وسنعاقب كل من يرتد من قومنا عن دينه بحيث يكون عبرة لمن يعتبر. فالقرآن يرى أن كل نبي صادق بلا استثناء قد نادى بحرية الدين، وأن كل مكذّب لهم قد نادى بمنع دعوتهم  بالجبر والإكراه. وعلى سبيل المثال يذكر القرآن الكريم قصة قوم شعيب عليه والسلام حيث هددوه:

“لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ. (الأعراف: 89)،

أي هل تستطيعون أن تغيروا ديننا رغم كوننا غير مقتنعين بمعتقداتكم، بل إن قلوبنا تكرهها أشد الكراهية وتستنكرها كل الإستنكار. فأنّى لكم أن تقدروا على تغيير ديينا جبرًا وإكراها. ثم بأي حق، والحال هكذا تُرغموننا على الرجوع إلى دينكم؟

إن جملة “أولوْ كُنَّا كارِهِينَ” مع قِصَرها تحتوي على رد حكيم ومفحم لأعداء شعيب عليه السلام، فالواضح أنه إذا كرهت القلوب دينًا ما، فإن التهديد بالطرد من البلاد في صورة عدم العودة إلى الدين السابق يمكن أن يجعل الناس منافقين، ولكنه لن يبدّل عقائدهم، ولن يرجعهم الجبر إلى دينهم السابق بأي صورة من الصور. فهنالك وسيلة واحدة لرجوعهم إلى دين آبائهم وهي إزالة ذلك السبب الذي أدّى بهم إلى ترك ذلك الدين وخَلَق في أنفسهم كراهية شديدة تجاهه. فيجب أن يُزال هذا السبب بالدليل والمنطق، وإلا فما دامت الكراهية متأصلة في القلوب، لن يكون للجبر سلطان على أرض النظريات.

وهكذا يستمر القرآن الكريم في سرد أحداث جرت مع العديد من الأنياء عليهم السلام، مع ذكر أسمائهم، كل هذه الأحداث تدور على نفس المنوال. فقد ذكر نوحا وإبراهيم ولوطا وهودًا وصالحا، عليهم السلام، وذكر بكل صراحة أن جميع هؤلاء الأنبياء الكرام المبعوثين في أزمان مختلفة لم يقولوا قط بجواز الإكراه في الدين، وإنما أصبحوا عُضرةً للإكراه من قِبَل أعدائهم الذين أذوهم أذى شديدا. ولكنهم رغم كل هذه المصائب قد داوموا على التمسك بمبادئهم، وأصروا على عدم إكراه أي أحد في مسألة الدين أبدا، ولو حاول أحد من الظالمين الأشقياء أن يبدّل دين غيره بالظلم والعدوان، فلا بد أن يتصدّى له من يتمسكون بالمبادئ السامية، باذلين كل تضحية حتى يخيبوا مساعيه الرذيلة ويحبطوا آماله الخبيثة. إن عدد الأنبياء الذين وردت أسماؤهم في القرآن الكريم وذَكَرَ جهادهم العظيم من أجل الحرية التامة في الدين عدد ضئيل جدا، إلا أن القرآن يبين أنه قد خَلَا من رُسل الله عز وجل ما لا يحصيهم العدُّ، فكان من الضروري أن يذكرهم القرآن الكريم من حيث الجماعة، ليتبين جليا أنه منذ أن بعث الله أنبياءه، لم يُجِز أحدٌ منهم الإكراه في الدين قط، ولا سَمَحَ لأحد بأن يعاقب غيره على الإرتداد.. “والآية التالية تلفت الأنظار إلى هذا المعنى:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ” (إبراهيم: 14)

فجميع الأنبياء سواء ذكر القرآن أسماءهم أو لا، قد هددهم أعداءهم دائما قائلين بأنكم إن لم تتوبوا عن الإرتداد ولم ترجعوا إلى ديننا فلا بد أن نخرجكم من بلادنا. وعندئذ شدّ الله أزر أنبياءه وبشرهم قائلا بأنه على الرغم من أنكم ضعفاء لا تلكون حيلة ضد هؤلاء الأعداء الأقوياء، إلا أننا نبشركم أنه لا بد وأن نهلك هؤلاء الظالمين.

هذا وإن الآيات التي تناولناها حتى الآن إنما تذكرنا أن التهديد الذي وجهه الأعداء كان تهديد النّفي من البلاد، غير أنه لم يكن هو العقوبة الوحيدة التي اقترحوها، فإن أعداء إبراهيم عليه السلام، اقترحوا له عقوبة الموت بسبب ارتداده عن دينهم، بل زادوا عليه، فقالوا هلُمَّ نُهلِكْه بعقوبة بالغة الإيذاء، حيث قالوا:

“حرِّقوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ” (الأنبياء: 69)

أما فرعون فيذكر القرآن الكريم أنه اخترع كذلك أساليب أخرى لعقاب المرتدين عن دينه، حيث هدد الذين اعتنقوا دين موسى عليه السلام قائلا:

“فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ” (طه: 72).

فنظرية العدل القرآنية تتجلى في كل النواحي وبصورة مدهشة. فمن ناحية دحض القرآن تصرو جواز الإكراه الدين، ثم برّأ سائر الأنبياء عليهم السلام من كل التهم، ونفي عن كل واحد منهم تهمة الإكراه في الدين خاصة، وهكذا جاء بالعدل والإنصاف في حقهم. فقدم أولا تعليما أساسيا ضد الإكراه في الدين، وثانيا جعل تاريخ الأديان كلها شاهدًا على ذلك، ثم أقام البرهان على عدم جواز الإكراه في الدين قائلا بأنه لو كان لأحد حق في ممارسة الإكراه في الدين لكان ذلك الحق لله تعالى عز وجل خالق سائر المخلوقات ومؤسس جميع الأديان. ولكنه جل جلاله لم يمارس الإكراه في الدين، بل أعطى الإنسان حرية تامة في اختيار دينه ومذهبه، حيث قال:

“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (يونس: 100).

فلو أراد الله تعالى تنفيذ إرادته في شأن هدى الناس لآمن من في الأرض كلهم جميعا، فما دام الله تعالى لا يُجبر أحَدًا على الهدى، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.

إذن فما دام الله تعالى لا يمارس الإكراه في الدين، فكيف يحق لرسله أو لغيرهم أن يتجاوزوا سُنّة ربهم ويتملكوا من السُّلطَة أكثر من ربهم، فيصبحوا مسيطرين على الناس رقباء على دينهم؟ وحيث إن القرآن الكريم يصرح بأن مؤسس الإسلام سيدنا محمد المصطفى هو أفضل الأنبياء وشريعته هي آخر الشرائع وأكملها، فلذلك كان من المنطق أنه لو كان لأحد بعد الله حق في أن يكون مسيطرا على دين العباد لكان لسيدنا الأنبياء ، وما كان مستبعدا من القائلين بالجبر في الدين أن يبرروا موقفهم قائلين أن الله تعالى قد أجاز للرسول – وهو أفضل الأنبياء- استعمال العنف والإكراه في مسألة العقيدة والدين. ولكن القرآن جاء ليزيل هذا الإحتمال من عقول الناس إلى الأبد، حيث خاطب الرسول قائلا:

“فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ” (الغاشية: 22-27).

أي يا محمد إنما أنت ناصح أمين وما بعثناك إلا للنصيحة والوعظ، فاستمر في وعظك. وتذكّر أيها الواعظ أننا لم نجعلك مسيطرًا ورقيبا على الناس، وإن أنكر أحدٌ الحق وأعرض عنه فأمره إلى الله، فهو الذي يتولى عذابه، ولسوف يعذبه عذابا كبيرا. فأنت يا محمد ليس لك سوى الوعظ والتذكير، لأنك مرسل لهذا الغرض فقط. وأما المنكرون فلا بد لهم من العودة إلينا فعندئذ يتولى الله بنفسه حسابهم.

هذا هو تعليم القرآن العام في العدل، وكما أسلفت يدعي بعض أهل الأديان الأخرى أنهم لا يجيزون الإكراه في الدين، فإذا كان أحد من أتباع أي دين لا يزال يقول بجواز الإكراه في الدين فإننا نستطيع أن نقول بلا تردد إنه كذّاب.لأن الله الكريم قد أوضح لنا أنه لا يوجد من بين أنبياء الله الصادقين في أي زمان ومكان من مارس الإكراه في الدين، أو سمح لأحد بذلك.

فمن فضل القرآن الكريم على الأديان الأخرى أنه برّأها من جميع الممارسات الجائرة والقاسية التي قد يتهمها البعض بالقيام بها في الدين. فجميع الممارسات الجائرة التي قامت باسم الدين، أيا كان المسؤول عنها، وأيا كان نوعها، لا يمكن أن تُنْسَبَ إلى أي دين من عند الله، بل هي إما أن تكون نابعة من سلوك ذلك المسؤول المنحرف، أو أن علماء السوء هم المسؤولون عن ذلك، الدين حرّفوا تعاليم دينهم تحقيقا لشهواتهم النفسية ظلما وعدوانا، أو أوّلوها بتأويلات واهية لا أساس لها من الصحة.

وخلاصة القول إن القرآن الكريم قد أظهر لنا جميع الأديان بصورة جميلة وواضحة، وقدّم لنا جميع الرسل والأنبياء بصفتهم حاملي لواء الحرية، حرية الضمير والدين، وعلى عكسهم تماما قام المعادون بكبت حرية العقيدة وبمحاربة الذين يتخذون دينا آخر غير دينهم وبإكراههم للرجوع إلى ما كرَهَتْ أنفسهم من عقائد، على عكس ما صرّح به القرآن الكريم تماما أنه “لا إكراه في الدين”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك