مراحل خلق السماوات والأرض
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. (يونس:40)

شرح الكلمات:

الرب: ربُّ كل شيء: مالكُه؛ مستحقُّه أو صاحبه. ربَّ الشيءَ: جمعه؛ ملكه؛ رَبَّ القومَ: ساسهم وكان فوقهم. رَبَّ النعمةَ: زادها. ربَّ الأمرَ: أصلحه وأتمه. ربَّ الدُّهنَ: طيبَّه وأجاده. رَبَّ الصبيَّ: ربّاه حتى أدرك. (الأقرب)

الله: اسمُ بارئ الوجود (الأقرب)

خَلَقَ: خَلَقَ الأديمَ: قدَّره قبل أن يقطعه. خلق الشيءَ: أوجده وأبدعه على غير مثال سبق. خلق الإفكَ: افتراه. خلق الكلامَ وغيره: صنعه. خلق الشيءَ: ملَّسه وليَّنه.

خلق العودَ: سوَّاه. (الأقرب)

السماوات: السماءُ: كلُّ ما علاك فأظلك؛ سقفُ كل شيءٍ وكل بيتٍ؛ رواقُ البيت؛ ظهرُ الفرس؛ السحابُ؛ المطرُ؛ المطرةُ الجيدة؛ العشبُ.(الأقرب)

الأرض: الكرة الأرضية؛ كلُّ ما سفل(الأقرب)

أيام: اليوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ الوقتُ مطلقًا. (الأقرب)

استوى: اعتدل؛ واستوى الطعام: نضج. استوى العود من اعوجاج: استقام. استوى الرجل: انتهى شبابه وبلغ أَشُدَّه أو أربعين سنة واستقام أمره. استوى على ظهر دابة: استقر. استوى عليه: استولى وظهر. استوى له وإليه: قصده (الأقرب)

عرش: عَرَشَ عرشًا: بَنَى بناءً من خشب. عرش البيتَ: بناه. وعَرَشَ الكرمَ: رفع دواليه على الخشب. العرشُ: سريرُ الملك؛ العزُ؛ قوامُ الأمر؛ ركنُ الشيء؛ وعرشُ البيت: سقفه؛ الخيمةُ؛ البيتُ الذي يُستظل به؛ شبهُ بيتٍ من جريدٍ يُجعل فوقه الثُّمام. (الأقرب)

يدبِّر: دبَّر الأمرَ: نظر في عاقبته وتفكر؛ اعتنى به؛ رتبه ونظمه. دبَّر الوالي أقطاعَه: أحسن سياستها. دبَّر الحديث: نقله عن غيره. دبَّر على هلاكه: احتال عليه وسعى فيه (الأقرب)

الأمر: أَمَرَه: طَلَبَ منه إنشاءَ شيء أو فعله. الأمرُ: طلبُ إحداثِ شيء (الأقرب)

إذن: أذِنَ بالشيءِ: عَلِمَ به. وأذنَ له في الشيء: أباحه له.(الأقرب)

اعبدوا: عَبَدَ له عبادةً وعبوديةً: تألّهَ له. عَبَدَ اللهَ: طاع له وخضع وذل وخدم شرائع دينه ووحّده (الأقرب)

تذكّرون: تذكَّر الشيءَ: فطن به بعد ما نسيه (الأقرب) وتذكَّرَ: قَبِلَ النصح (التاج)

التفسير:

من أساليب القرآن أنه إذا نشأ سؤال حول معنى آية ما فإنه يتناول الرد عليه في الآية أو في الآيات التالية، وفي كثير من الأحيان يكون هذا الرد بدون الإشارة إلى السؤال، وهكذا ينشئ القرآن نوعًا من الترابط ما بين أفكار القارئ والمعاني القرآنية، فيشعر القارئ أن القرآن يرد تلقائيًا على كل ما ينشأ في ذهنه من تساؤلات أولاً بأول. والذين يجهلون هذا الأسلوب القرآنيّ يسارعون في مثل هذه المواقف إلى الطعن فيه قائلين بأنه لا ترابط بين آياته ولا ترتيب فيه، مع أن الخلل في الحقيقة واقعٌ في تفكيرهم هم. وهذه الآية أيضًا تتضمن الرد على تساؤل ينشأ من مضمون الآية السابقة.

لقد حملت الآية السابقة بشارةً للمسلمين أنهم سينعمون بالفوز والغلبة، وذلك في وقت كانوا مهدَّدين فيه بأمنهم وأمانهم في عقر دارهم، وهم صامدون حيال أهل مكة جميعًا. فكان بديهيًا أن ينشأ التساؤل كيف يمكن أن يزدهروا في مثل هذه الظروف غير المواتية؟ فلا ريب أن جميع هذه الوعود والبشارات بالنصر والازدهار خداع باطل. وقد ثار هذا التساؤل فعلاً في أذهان الكفار، ولهذا سمّوا النبي ساحرًا: أي الذي يأتي بكلام معسولٍ خِداعًا للناس. فردّ الله تعالى في هذه الآية على تساؤلهم وقال: ليس ضروريًا أن تكون أسباب النجاح دائمًا بادية للعيان منذ أول يوم. إن العالم الروحاني مماثل للعالم المادي، ومما لاشك فيه ولا ريب أن خلق السماوات والأرض تمّ بيد الله . فلو كان ضروريًا لمعرفة صدق الدعوة الإلهية أن تظهر أسباب تحققها فورًا وبصورة كاملة للزم أن يكون خلق السماوات والأرض قد تم في الحال. ولكنَّ الأمر ليس كذلك، وإنما قد خلقها الله على ست مراحل، وكل مرحلة منها كانت تساوي ملايين السنين، كما يكشف لنا ذلك علم طبقات الأرض(The Heavens) (ص 49). فكما أن اكتمال خلقها بذرات دقيقة غير مرئية وعلى فترة طويلة جدًا لا يمكن أن يُعَدَّ دليلاً على أن الله ليس بخالقها، كذلك هو الأمر بالنسبة للإسلام، فإن أسباب انتصار الإسلام إذا لم تبدُ جليةً منذ البداية فلا يعني ذلك أن انتصاره الكامل أمر مشكوك فيه، أو أنه ليس من عند الله . فإن الخَلقَ الإلهيَّ يتم دائمًا بأسباب تبقى خافية عن أعين الناس.

وكلمة يدبِّر الأمرَ أيضًا تكشف أن قول الله تعالى كُنْ فيكون لا يعني أنه يكمل مشاريعه فورًا وفي لمح البصر دون أن يستغرق اكتمالها مدة زمنية. كلا، بل إن أعماله تتم أيضًا بالتدبير.. بمعنى أنه يأتي بالنتائج المرجُوّة بتدبير دقيق خفي لأن “التدبير” يعني إحداث تغيير في الأسباب بحيث تأتي النتائج الطبيعية على ما يرام.

وأشار بقوله (ما مِن شفيع إلا بإذنه) إلى أن الشخص الواصل بالله تعالى لا يقوم ولا ينبعث بنفسه لإصلاح الناس، ولا يمكن لأحد أن يحوز على هذه الدرجة بنفسه، بل الله هو الذي يبعث الأنبياء عند الحاجة. فكيف يمكن إذن ألا يبعث الله أحدًا لهداية الناس في هذا العصر المُظلم، ويترك عباده في متاهات لا يهتدون؟

هناك أمور في هذه الآية تحتاج إلى مزيد من الشرح، وإليكم تفصيلها:

أولاً: قوله تعالى فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . لا يعني “اليوم” هنا اليوم الشّمسي المعروف. فيرى مجاهد وابن حنبل وابن عباس وزيد بن الأرقم أن هذا اليوم يساوي ألف يوم عادي (ابن كثير وروح المعاني، سورة الأعراف). فإنهم يرون أن خلقها تم في ستة آلاف سنة. واستدلالهم هذا مبنيّ على قول الله وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (الحج:48).

وكما سبق أن بيّنت أن “اليوم” يعني الوقت مطلقًا، وهذا هو المعنى المراد به هنا. ذلك أن ظاهرة الليل والنهار إنما تحدث بدوران الأرض حول الشمس، بينما هذه الآية تتحدث عن زمن خلقهما، فما كان الليل والنهار موجودين عندئذ أصلاً، لذلك ليس المراد من “اليوم” هنا إلا الوقت، لا اليوم المعروف المتكون من ليل ونهار. فاستدلال هؤلاء العلماء صحيح في حدّ ذاته، ولكن تحديدهم كلمة “اليوم” في مدة ألف سنة ليس بصحيح. ذلك أن القرآن الكريم يخبرنا أيضا: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (المعارج:5) أي أن اليوم عند الله يساوي خمسين ألف سنة أيضًا. وهكذا تصبح فترة خلق الكون 300 ألف سنة. إنه لا يتحتّم على الله أن يحدد لنا طول كل نوع من أيامه، فقد يكون بعضُ أيامه مساويًا لملايين السنين كما قد يساوي بعضها ألفًا أو خمسين ألف سنة. والعلم الحديث يخبرنا أيضًا أن خلق السماوات والأرض استغرق ملايين السنين. وهذا ما يؤكده أيضًا كشفٌ رآه حضرة محيي الدين بن العربي رحمه الله (الفتوحات المكية، باب رقم 390).

وكلمة (ثم) الواردة في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ لم تأت لبيان ترتيب الأحداث، وإنما هي بمعنى (واو) البيانية جاءت شرحًا لما ذكر من قبل. ذلك أن المذكور بعدها، وهو السماء، كانت قد خُلقت قبل جعل الرواسي وتقدير الأقوات في الأرض.

فالحق أننا لا نقدر حتى الآن على تحديد هذه الفترة تمامًا، وكل ما نستطيع قوله هو إن بعض التطورات الكونية استغرق ألف سنة، وبعضها استغرق خمسين ألف سنة، وبعضها استغرق فترة أطول من هذه أيضًا.

وأرى لزامًا هنا ذكر حديث نبوي فيه بعض التفصيل عن عملية خلق الكون. “عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله بيدي، فقال: خَلَقَ الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل” (مسلم صفات المنافقين ، ومسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 327). لقد ورد هذا الحديث في النّسائي أيضًا، ولكن برواية رواة آخرين (كتاب الجمعة). ولكن البخاري وبعض المحققين الآخرين يرون أنه ليس مرفوعًا، وإنما رواه أبو هريرة عن كعب الأحبار (ابن كثير).

وقد صدّق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ووثّق أمر ولادة آدم بعد العصر من يوم الجمعة، وقام بناءً على ذلك باستدلال هام (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية ج 16 ص 247).

وقد ذكرت التوراة خلق العالم كالآتي: كانت روح الله ترف وتهتز على وجه المياه، وقال الله ليكُن نور فكان نور. ثم فصل الله بين النور والظلمة، فكان هذا يومًا واحدًا. ثم خلق الله الفضاء فوق ما بين المياه وسمّاه سماءً، وهذا كان يومًا ثانيًا. ثم تجمعّت المياه وظهرت اليابسة فصارت أرضًا، وصارت المياه المتجمعة بحارًا، ثم أنبت الله عشبًا وبقلاً، وهذا كان يومًا ثالثًا. ثم خلق الشمس والقمر والنجوم، وهذا كان يومًا رابعًا، ثم خلق الزواحف والطيور، وهذا كان يومًا خامسًا. ثم خلق البهائم والدواب والحشرات والوحوش، وفي الأخير خلق الله الإنسان على صورته وكان هذا يومًا سادسًا (التكوين:1).

وقد شــرح الله الـ سِتَّةِ أَيَّامٍ بقوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ^ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ^ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ^ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( فُصّلتْ 10-13).

والمراد من قوله تعالى سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ هو أن ردّنا هذا بسيط سهل بحيث يمكن أن يفهمه أي شخص عادي كما ويطمئن إلَيهِ علماء طبقات الأرض.

والمراد من قوله تعالى وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا أنه تعالى أودع كلَّ سماء طاقاتٍ وأسبابًا تحقق الغاية من خلقها.

وكلمة (ثم) الواردة في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ لم تأت لبيان ترتيب الأحداث، وإنما هي بمعنى (واو) البيانية جاءت شرحًا لما ذكر من قبل. ذلك أن المذكور بعدها، وهو السماء، كانت قد خُلقت قبل جعل الرواسي وتقدير الأقوات في الأرض.

لقد اعترض البعض قائلين بأن هذه الآية من سورة (فُصّلت) تذكر أن خلق السماوات والأرض استغرق ثمانية أيام لا ستة: خلق الأرض في يومين، وجعل الرواسي والكنوز والأغذية فيها في أربعة أيام، وخلق السماوات السبع في يومين، والمجموع ثمانية. (تفسير الرازي).

وقد رد عليهم المفسرون بقولهم بأن أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ليست أيامًا إضافية أخرى، وإنما هي أربعة بما فيها يومان تم فيهما خلق الأرض، والمراد إن خلق الأرض كان في يومين، وجعل الرواسي والأقوات فيها في يومين، ومجموعها أربعة أيام (الرازي).

هذا الرد من قِبل المفسرين وإن كان صحيحًا بالنظر إلى قواعد اللغة العربية، ولكنه لا يستقيم وفقًا لمعاني الآية كما ذكرت آنفًا، فإنها لا تتحدث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وإنما تتحدث عن ستٍ من مدارج الخلق ومراحله حيث ذكرت أن الأرض خُلقت في يومين أي مرحلتين، ثم في أربعة أيام أي في مراحل أربع زوِّدت بالكفاءات والقدرات اللازمة لحياة الإنسان وبقائه ورقيه فيها. وإن الآية لا تنفي أبدًا خلق أي شيء آخر بجانب خلق الأرض وكفاءاتها في هذه الفترة الزمنية الطويلة. فخلق السماء في يومين لا يعني أنها خلقت في وقت ما بعد المراحل الست الأولى، بل المراد من ذلك هو أن خلقها على صورة كاملة استغرق مرحلتين ولكنهما لم تكونا منفصلتين عن المراحل الست، وإنما خُلقت في نفس الفترة التي خُلقت فيها الأرض. فالمجموع إذن ست فترات لا ثمانٍ. وإن علم طبقات الأرض أيضًا يؤكد على أن خلق الكون كلّه تم في فترة واحدة (The Heavens). فكانت الأرض والأجرام السماوية كلها تقطع معًا مراحل استكمالها في فترة واحدة، ولا يصح القول إن الأرض خُلقت أولاً ثم جاء دور خلق الأجرام الفلكية أو أنه قد حدث العكس. كلا، بل إن الأمر هو على نحو ما يؤكده القرآن الكريم. إذ إنّه لم يذكر أي فترة منفصلة زُوِّدت فيها الأجرام السماوية بقدراتها وكفاءاتها.

أما السؤال: كم طالت هذه “الأيام” فأقول في هذا الصدد: إن الله تعالى لم يحدد طولها، لذلك لا نحددهُ نحن، بل إن كل ما نستطيع أن نفعله هو التخمين بناءً على ما ذكره علماء طبقات الأرض من معلومات إن كانت ذات طابع يقيني، أو أن يُري الله أحدًا من عباده كشفًا من الكشوف فيأتي بقول سديد بناء على كشف الله سبحانه، وإلا فلا بد لنا من التسليم بأن خلق السماوات والأرض تم في مرحلتين عظيمتين وأن أمر طولهما في علم الله تعالى.

والحقيقة أن علماء طبقات الأرض والأفلاك يعبّرون عن كل تطور عظيم الشأن بمصطلح   Period أي “الفترة” (قاموس أوكسفورد الحديث، كلمة Period)، وما يراد “بالفترة” عندهم هو نفسُ ما أراده القرآن بكلمة “يوم”.

يتبين من هذه الآية وغيرها أنه قد جرت السُنَّة الإلهية في خلق الكون أن كل شيء فيه يكتمل بالمرحلة السابعة. يتم خلقه في ست مراحل ويكتمل في المرحلة السابعة.

لقد قال الله هنا -مشيرًا إلى دعوة النبي – إن هذا العالم الروحاني أيضًا سيكتمل في سبع مراحل. وهذا بالضبط ما قد حدث. ففي المرحلة الأولى من إعلان نبوته كانت حالته أشبه بدخان ليس حوله إلا ظلام وضباب، وبدا وكأن بعثته سوف تضر بالعالم بدلاً من أن تنفعه، وسوف تزيده فرقة وحروبًا، وكل دعاويه كانت كالدخان حيث لم يبدُ فيها الثبات.

ثم جاءت المرحلة الثانية حينما بدأ هذا الدخان يتقلص وينكمش، وآمن به البعض، وأدرك الناس حقيقة وعظمة دعوته.

ثم جاءت المرحلة الثالثة وأخذت التغيرات تعصف في المجتمع، فكما أن الزلازل تحصل في باطن الأرض كذلك كانت الحال في مجتمعه: هيجان وفوران. واستمرت هذه الزلازل والمحن طويلا.

ثم تلتها فترة رابعة ظهرت فيها جبال الإسلام الرواسي.. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين. فهذه الزلازل هي التي أظهرت هؤلاء الجبال الإسلاميين، ولولاها لما ظهرت مواهبهم وما حازوا تلك الدرجات العلى.

ثم كانت الفترة الخامسة. وكمـا أن الأرض اكتسبت قابليةً لإنبات الخضرة والنبات في مرحلة من مراحل التطور، كذلك اكتسبت التعاليم المحمدية في هذه الفترة خضرة ونضارة، وأحس الناس برونقها وبهائها، وبدأت تنتشر في شتى بقاع الأرض.

ثم جاءت الفترة السادسة. وكما أن الأرض صارت فيما بعد صالحة لولادة ذوات الحياة عليها، كذلك اكتسب الإسلام في هذه الفترة حيوية وقوة، وتمكن المسلمون من الدفاع عن أنفسهم وردّ هجمات الأعداء.

وفي الأخير جاءت الفترة السابعة: أي مرحلة التكميل. فكما أن الإنسان خُلق في آخر مراحل الخلق على الأرض وبدأ يتحكم في العالم كله، كذلك منح الله للإسلام في هذه الفترة الأخيرة قوة وغلبة وأخذت شريعته تطبَّق وحُكمه يستتب.

وأشار بقوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ إلى مماثلة أُخرى؛ فكما أن الله تعالى استقر على العرش بعد خلق الكون كذلك رجع الله إلى مقام تنـزيهي بعد إقامة الإسلام.. بمعنى أنه تعالى قد أناط الرُّقي الروحاني بكل أنواعه بإتباع الإسلام وحده، تمامًا كما بدأت الأمور بعد ما خلق الله الكون تتم آليًا بحسب السنن الطبيعية دون أن يُحدث الله فيها أي تغيير مباشر إلا في ظروف غير عادية.

وثانيًا: قوله تعالى مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ وكلمة الشفيع مشتقة من الشَفع. يقال: شَفَعَ يشفع شفعًا العددَ والصلاة: صيَّره شَفعًا.. أي أضاف إلى الواحد ثانيًا، وأضاف إلى الركعة أخرى، يقال: كان وترًا فشَفعه بآخر.. أي قَرَنه به. وناقةٌ شافعٌ: في بطنها ولدٌ آخر يتبعها. (الأقرب)

فالشفع إذن لا يعني ضم الشيء إلى شيء آخر وإن كان مخالفًا ومغايرًا له، وإنما يعني ضم الشيء إلى مثله ومن جنسه. فلا يجوز مثلاً أن يضم أحدٌ الفرسَ إلى الناقة فيقول: شفعتُ الناقةَ بالفرس. فإذا أخذنا هذا المعنى بعين الاعتبار تنحل مسألة الشفاعة، ويتأكد خطأ الذين يطعنون فيها قائلين: بأن الاعتقاد بشفاعة الرسول لأمته يشجع الناس على ارتكاب الإثم وعلى التهاون في عمل الصالحات. كلا، فإن الشافع أو الشفيع إنما يعني الذي يضم إلى نفسه مَن هو مثله ومن جنسه. فلا تعني الشفاعة أبدًا ضم الآثمين إلى الصالحين، بل إنها تعني أن من ينصبه الله شفيعًا سوف يجعل من الآثمين صالحين ثم يضمهم إلى جماعات الصلحاء السابقين الكاملين. هذا المعنى ينطبق في هذا العالم.

وفي الأخير جاءت الفترة السابعة: أي مرحلة التكميل. فكما أن الإنسان خُلق في آخر مراحل الخلق على الأرض وبدأ يتحكم في العالم كله، كذلك منح الله للإسلام في هذه الفترة الأخيرة قوة وغلبة وأخذت شريعته تطبَّق وحُكمه يستتب.

أما المعنى الثاني فهو متعلق بعالم الآخرة. ففي يوم الحكم الإلهي النهائي عند الآخرة سيكون أناس من الأمة صلحاء إلى حد كبير ولكنهم موصومون بتقصيرات بسيطة تحول دون التحاقهم بالصلحاء الكاملين، ولكن رحمة الله سوف تقرر التغاضي عن تقصيراتهم هذه وإلحاقهم بزمرة الصلحاء الكُمَّل لما بذلوه من جهود صادقة مخلصة لاكتمال روحانيتهم، وعندها يتقدم نبيّ الأمة بإذن الله ، ليشفع لهم عند الله بأن يتفضل عليهم ويتغاضى عن تقصيراتهم البسيطة، ويدخلهم في عداد الصلحاء.

ولنتذكر جيدًا أن الشفاعة مشروطة بإذن إلهي، كما أنه لن يحظى بنعمة هذا الإذن الإلهي إلا من كان مع الصلحاء بقلبه، ومن سعى جاهدًا ليكون منهم، ولكن رغم ذلك لم تنفك بعض العيوب عالقة بـه. فمثل هذا الإنسان لا يمـكن أن تشجعه مثل هذه الشفاعة على ارتكاب الذنوب، بل ستحثُّه أكثر في أن ينال درجة الصلاح الكامل. فلا يجوز إذن – والحال هذه – أن يطعن أحد في مثل هذه الشفاعة.

ثالثًا: قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . لقد اختلفوا في العرش الإلهي، فيرى بعضهم أنه عرش مادي مخلوق، ويقول البعض: لا علم لنا بحقيقته، وكفانا الإيمان به فحسب. (روح المعاني)

ولقد كتب سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بحثًا مستفيضًا لطيفًا حول العرش، وقال إنه في الحقيقة اسمٌ للصفات الإلهية التنـزيهية (أي التي ينفرد بها الله وحده)، التي هي صفات أزلية أبدية لا تتبدل، وتنكشف من خلال الصفات الإلهية التشبيهية (أي التي لها شبهٌ وانعكاس في أخلاق الإنسان إلى حدٍ ما)، وهذه الأخيرة هي التي تسمّى حاملةً للعرش، بدليل قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (الحاقة:18).. أي سوف يحمل العرش الإلهي يوم القيامة ثمانية أركان. أي أن الصفات الإلهية التنـزيهية سوف تتجلى عندئذ عن طريق صفات تشبيهيّة ثمانٍ كما تتجلى الآن في الدنيا بأربعٍ، وهذه الأربع هي: ربّ العالمين، الرحمن، الرحيم ومالك يوم الدين. ‎(ينبوع المعرفة، الخزائن الروحانية ج 23ص98إلى 277)

وبما أن الصفات الإلهية تنكشف لنا بواسطة الملائكة فلذلك استخدم الضمير هُم بدلاً من ها فقال فوقهم . وكما أن الملوك يعبرون عن جلالتهم وعظمتهم بالجلوس على العرش، فكذلك تجلت عظمته الحقيقية في كونه صاحب العرش، أي باتصافه بصفات تنـزيهيّة لا يشاركه ولا يشابهه فيها الخلق أدنى مشاركة أو مشابهة أبدًا.

يظن البعض أن العرش شيء مخلوق ماديّ، وذلك لفَهمهم الخاطئ لآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (غافر:8)، ودليلهم أن العرش مادام محمولاً فلا بدَّ أن يكون شيئًا مخلوقًا ماديًا.

والحق أن استدلالهم غير سليم، لأن “الحمل” لا يراد به دائمًا حمل الشيء المادي، بل يُستخدم أيضًا لبيان حقيقة الشيء، كقول الله : إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (الأحزاب:73).

والمراد بالأمانة هنا الشريعة، ويعني قوله تعالى ظَلُومًا جَهُولاً أنه كثير الظلم لنفسه وغير مبالٍ بالعواقب. وحملُه الأمانةَ إنما يعني أن يعمل بالشريعة، لِيُظهر بذلك محاسنها للناس. وهكذا فإن حمل العرش يعني هنا بيان حقيقة العرش. ذلك لأنه ليس بوسع الإنسان إدراك الصفات الإلهية التنـزيهية، اللهم إلا بواسطة الصفات التشبيهية. وهكذا تصبح هذه الأخيرة حاملةً للأولى وتساعد على إدراكها. فنحن نعلم مثلاً أن الله جامع لكل المحاسن، ولكن لم يحصل لنا هذا العلم والإدراك إلا من خلال صفاته التي لها علاقة بالإنسان.. ككونه ربًا، ورحمانًا، ورحيمًا ومالك يوم الدين، فكلها صفات إلهية، ولكنها صفات متشابهة، إذ يتصف الإنسان أيضًا بأخلاق مشابهة لها وإن كان ذلك في نطاق محدود جدًا، كما أن تجليات هذه الصفات الإلهية المتشابهة تكون مؤقتة، لأنها صفات يتجلى بها الله على المخلوق الفاني. ومع ذلك فلولاها لما تيسّر لنا في الحقيقة أي إدراك ولو ضئيل بكون الله جامعًا للصفات الحسنة وكامل المحاسن.

وهناك آية أخرى يقدّمها البعض دليلاً على زعمهم أن العرش مخلوق مادي، وهي قوله قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ^ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (المؤمنون:88). يقولون: رب العرش يعني خالقه، فالعرش إذًا مخلوق مادي.

ولنعلم أن ربَّ الشيء لا يعني خالقه فحسب، بل يعني صاحبه أيضًا، كما يقولون: رب المال أي صاحبُه. فرب العرش يعني صاحبه.

فكلمة وَرَبُّ الْعَرْشِ تعني أن لله صفات تنـزيهية كما أن له صفات تشبيهية، وقــد أشار إلى التشبيهـية منها بذكر خلق السماوات والأرض، كما أشار إلى التنـزيهية منها باستوائه على العرش.

أما لماذا استخدم “رب العرش” بدلاً من “ذو العرش” أو صاحبه؟ فلنعلم أن في ذلك حكمةً أيضًا. إذ يظن بعض الجهال من الفلاسفة أن الله علّةٌ للعلل فقط، وأن صفاته إنما تصدر بصورة اضطرارية تلقائية، دون أية إرادة منه . فرد الله على هؤلاء بإضافةِ صفاته (أي عرشه) إلى صفته “الرب” الدالة على التصرف والسلطان، ليُبّين أن صفاته لا تصدر أبدًا صدورًا اضطراريًا، وإنما تتجلى كيفما تريد لها إرادته المطلقة ومشيئته الحكيمة. فالحق إن هذا الأسلوب القرآني قد جاء دحضًا لاعتراضٍ خطيرٍ، وبيانًا للنظرية الإسلامية في هذا الصدد.

والآية الثالثة التي يستدلون بها على كون العرش مخلوقًا ماديًا، قولُه تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (هود:8) يقولون: بما أن العرش على الماء المادي فلا بد أن يكون عرشًا ماديًا مخلوقًا. والحق أن الماء هنـا ليس ماديـًا، إذ لم يكن له وجود قبل خلـق السماوات والأرض، وإنما كان جزءًا منها وقد خُلق بعدها. ولو أنهم قالوا بأن العرش وُضع بشكل مادي على الماء المادي بعد خـلق السماوات والأرض، فهذا أيضًا لن يستقيم، لأننا لا نرى أي عرش موضوع على الماء بل لا نجد آثارًا أو علامات لذلك. إن الله حكيم وقول الحكيم لا يخلو من حكمة. فأي جدوى وحكمة من ذكر شيء لا يَمُتّ إلينا بصلة، ولا علاقة لنا به. فمثل هذا العرش المزعوم لا يكشف لنا العظمة الإلهية لأن الله جعلنا في معزل عن إدراك حقيقته. فلا الماء هنا مادي إذًا ولا العرش مادي. وإنما الحق أنه -في لغة الوحي والدين- يعبَّر بالماء عن كلام الله . فالآية تعني أن العرش الإلهي موضوع على الكلام الإلهي، بمعنى أن العظمة الإلهية أكبر وأسمى من أن يُدركها العقل الإنساني، إلا أنه يستطيع إدراكها إلى حدٍ ما عندما تأخذ صفات الله التنـزيهية -من خلال كلامه ووحيه – طابعَ المماثلة والتشابه. ومن أجل ذلك أردف ذلك بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ . والعلاقة بين الوحي والصفات الإلهية التشبيهيّة وبين أعمال الإنسان لواضحة بينة، ولكن من ذا الذي بإمكانه أن يزعم أن عرشا ماديا غير مرئي موضوعا على الماء المادي يلعب أي دور في كون أعمالنا حسنة أو سيئة، أو يزعم أن مثل هذا البيان يعود علينا بأي نفع.

ثم إنه لزعم يرفضه العقل والمنطق السّليم أيضا، إذ إنه لمما يتعارض مع العقل تماما أن الله تعالى بعد أن خلق السماوات والأرض احتاج إلى عرش مادي! كلا، بل إن الإله الذي قدر منذ الأزل على أن يحكم الكون دون أي عرش مادي كان بإمكانه أن يحكمه أيضا في المستقبل دون أي احتياج للعرش المادي.

ولو أنهم قالوا بأنه تعالى يتبوأ هذا العرش المادي إظهارًا لجلاله وجبروته وعظمته لقلنا: إنما يتم هذا الغرض إذا كان هناك شيء يستطيع الإنسان رؤيته، وما دام العرش المزعوم غير مرئي، ولا يُرى له أثر ولا معالم، فكيف يتحقق الهدف المنشود إذًا؟

ومما يدل على أن العرش هنا يعني الصفات الإلهية التنـزيهية قولُ الله تعالى لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون: 117) إذ يتبين من الآية أن للعرش الكريم علاقة خاصة بما يُثبت توحيد البارئ تعالى. وبديهيّ أن الدليل الحقيقي الحيوي على توحيد البارئ إنما يتمثل في صفاته التنـزيهية، ذلك أن صفات الله التشبيهيّه يشاركه ويشابهه فيها أيضا المخلوقُ ولو إلى حدٍ ما، ولذلك نجد ذوي العقول السّاذجة يعانون معاناةً شديدةً في فهم قضية توحيده سبحانه وتعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك