مجمع البحرين ودخول الحوت للبحر الثاني
  • ما الدلالة الروحانية التي حملها اتخاذ الحوت سبيله إلى البحر في سورة الكهف؟
  • ما تأويل الصخرة في قوله تعالى في نفس السورة: ((إذ أوينا إلى الصخرة))؟

__

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (الكهف 62)

شرح الكلمات: 

حُوت: الحوت السمك، وقد غلَب في الكبير منه (الأقرب).

سَرَبًا: السَّرَبُ: جُحْرُ الوحشيِّ؛ الحفيرُ تحت الأرض؛ القناةُ يخرج منها الماءُ. والسَّرَب أيضًا مصدرُ سرِب يسرَب يقال سرِبت المزادةُ سَرَبًا: سالتْ وجرَتْ (الأقرب).

التفسير:

اعلم أنه قد ورد في كُتب علم التعبير عن الحوت: «ربما دلّت رؤيتُه على معبد الصالحين ومسجد المتعبدين» (تعطير الأنام: كلمة الحوت).

يتضح من هذه الآية والآيتين التاليتين أن علامة مجمع البحرين التي أُوتِيَها موسى هي غياب الحوت عند وصوله إلى المجمع. فالمراد من قوله تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا أن المقام الذي تخرج عنده معابدُ الصالحين ومساجد العابدين مِن أيدي هؤلاء هو مجمع البحرين.. أي المقام الذي تنتهي إليه السلسلة الموسوية وتبتدئ منه السلسلة المحمدية.

كم هو واضح وجليٌّ هذا المعنى، أعني عند ظهور نبيّ جديد يُنـزع الصلاح والعبادة الحقيقية من الأمة القديمة، وينتقلان إلى قوم النبيّ الجديد. ويشير هذا الكشف إلى هذا، حيث أخبر الله تعالى أنه بعد ظهور محمد رسول الله إنما تُقبَل العبادات من الأمة المحمدية وحدها، ولن تحظى عباداتُ بني إسرائيل ُأمَّةِ موسى بالقبول عند الله تعالى، وستندثر آثار العبادة الحقيقية والصلاح والورع في أفراد الأمة الموسوية.

فقوله تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا يعني أن الأمة الإسرائيلية الخالصة – أي قوم موسى – ستخلو من العبادة الحقيقية والتقوى الحقيقية قبل مجيء مجمع البحرين بزمن طويل، ولن تبقى العبادة والصلاح إلا في أمة يمكن أن تدعى قومًا لموسى ولفتاه معًا، أو بتعبير آخر: عند ظهور المسيح ستوجد العبادة الحقيقية في المسيحيين فحسب، بينما سيُحرَم منها باقي بني إسرائيل.

ولكن بما أن عيسى هو أحد أنبياء السلسلة الموسوية، فحُوته بالتالي هو حوت موسى، لذا فقولـه تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا تتضمن أيضًا الإشارةَ إلى أنه حتى النصارى- وهم الذين ينتمون إلى هذين النبيين معًا – سينسون حوتهم عند مجمع البحرين.. أي سيُحرمون هم الآخرون من العبادة الحقيقية والتقوى عند ذلك المقام.

تؤكد هذه الآية أيضًا كون هذا السفر كشفًا، لأن مجمع البحرين المادي ليس من الصعب معرفته عند المرور به، ولا يمكن أن يتجاوزه المارُّ دون أن ينتبه له، كما أن معرفته لا تحتاج إلى علامة من حوت أو غيره. فلا شك إذن أن مجمع البحرين هذا روحاني يُعرَف بالآثار والعلامات إذ لا يوجد له علامة مادية يُعرف بها، بل وإن الناس في ذلك الوقت يكونون معارضين ومكذبين، ولا يقبَلون أن مجمع البحرين قد أتى.. أي لا يقبَلون أن عهد النبيّ السابق قد انتهى وعهد النبيّ الجديد قد ابتدأ. إن العلامة التي يُعرَف بها هذا الأمر هي فقدان العبادة والصلاح في قوم النبيّ السابق. عندما يرى أولو الألباب هذا الفرق البيّن أعني حين يرون أن الله تعالى لا يقيم لعبادات القوم الأول وزنًا، ويقبل عبادات القوم الثاني ويستجيب أدعيتهم، يدركون أن مجمع البحرين قد جاء.

وقد أشير إلى هذا الموضوع بألفاظ واضحة في موضع آخر من القرآن المجيد حيث قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ.. (الفتح: 30).

لقد صرَّح الله تعالى هنا جليًّا أنه كان أخبر بواسطة موسى أن من آيات صدق محمد وجماعته أن آثار وجوههم ستدل على أن سجودهم وعباداتهم مقبولة لدى الله تعالى، ولكن عبادة خصومهم مرفوضة، ولا تبدو آثار فضله تعالى في وجوههم.

وبناء على هذه الآية أرى أن هذا السفر الروحاني لموسى كان مذكورًا في التوراة، ولكن اليهود كدأبهم محوا أثره لكونه ضربة قاضية عليهم. ولكن بقي ذكره في روايتهم السماعية، فنجده مسجَّلاً في كتبهم الأخرى بصورة مشوهة.

كما يتضح أيضًا من الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن السلسلة الموسوية كانت بمثابة حلقة للسلسلة المحمدية، لأن فقدان علامة مجمع البحرين في العالم الظاهري يدل على أن هذين البحرين كانا سيلتقيان بحيث لا يبدو للرائي أنهما بحران، بل يبدو البحر الثاني جزءًا من البحر الأول، وكأن ماء البحر الأول دخل في البحر الثاني بشكل لم يعودا معه بَحرين متقابلين حتى يُعرَف مجمع بينهما بعلامة معينة.

تؤكد هذه الآية أيضًا كون هذا السفر كشفًا، لأن مجمع البحرين المادي ليس من الصعب معرفته عند المرور به، ولا يمكن أن يتجاوزه المارُّ دون أن ينتبه له، كما أن معرفته لا تحتاج إلى علامة من حوت أو غيره. فلا شك إذن أن مجمع البحرين هذا روحاني يُعرَف بالآثار والعلامات إذ لا يوجد له علامة مادية يُعرف بها

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (الكهف 63)

شرح الكلمات:

غداءنا: الغداءُ طعامُ الغُدْوةِ (الأقرب).

نَصَبًا: النصبُ التعَبُ (المفردات).

التفسير:

اعلم أنه ليس من الضروري أن نؤول كل جزء من أجزاء الكشف، إذ قد يرى الإنسان في الكشف أمورًا تكمل مشاهده ولكنها ليست بحاجة لتأويل وتعبير. مثلاً إذا رأى المرء في الرؤيا منظر الموت، ورأى معه مكانًا ما، فلا يحتاج ذلك المكان إلى تعبير، إنما المنظر الذي يُستدل منه على موت أحد يقتضي التعبيرَ. ومع ذلك فإن تعبير مثل هذه الأماكن قد يساعد على فهم الموضوع، لذلك أريد أن أفسر الغداء المذكور هنا أيضًا حسب علم التعبير.

إن طلب الغداء في الرؤيا يدل على التعب والنصب حيث ورد: «مَن رأى أنه يطلب غداءً فإنه يتعَب» (تعطير الأنام: الغداء). فتعني الآية أنه لما يأتي مجمع البحرين أي يأتي زمنُ رسول الله .. فلا تنتفع منه أمة موسى وعيسى عليهما السلام – علمًا أن موسى وعيسى في هذا الكشف إنما يمثّلان أمتهما، إذ لم يجدا زمن محمد – بل ستستمر في كفرها ولا تبرح مسافرة، دون أن تقبل أن زمن دينها قد انتهى؛ ثم بعد سفر طويل تشعر بتعب شديد، وتقول في حيرة بالغة: لِمَ لم يظهر النبيّ الكامل الذي وُعدنا بظهوره؟ ثم بعد عنائها الطويل تقول في نفسها: ألسنا على خطأ؟ فلعل ذلك النبيّ يكون قد ظهر، ولكنا حُرمنا الإيمانَ به!؟

 فتأويل المنظر المذكور أنه بالرغم من أن الزمن الذي سيعمّ فيه الفساد والفجور بين الأمة المسيحية هو زمن ظهور محمد رسول الله ، إلا أن النصارى لن يدركوا ذلك إلا بعد زمن طويل، وبعد نَصَبِهم في السفر المضني… ويزداد هذا المفهوم جلاءً بقوله تعالى وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ .. أي سيقول المسيحيون في أنفسهم: ما حَرَمَنا من معرفة محمد إلا وساوس الشيطان وهواجسه، إذ ما دمنا قد رأينا أن عباداتنا لم تعد تؤتي ثمارها

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (الكهف 64)

شرح الكلمات:

الصخرةُ: الحجرُ العظيمُ الصُّلْبُ (الأقرب). وفي علم التعبير الصخرةُ «تدلّ على القبح من الفجور» (تعطير الأنام: كلمة الصخرة).. أي أنه إذا رأى أحد الصخرة في المنام فالمراد أن الرائي يُبتلى بأقبح الفسق والفجور.

التفسير:

ونظرًا إلى تأويل الصخرة فإن قوله إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ سيعني أننا لما ابتُلينا بالفسق والفجور.. والمراد أن الذين ينتسبون لكلا النبيين موسى وعيسى عليهما السلام – وهم النصارى – حين يقعون في هوة الفسق والفجور، فذاك هو زمان مجمع البحرين.. أي الزمن الذي سيظهر فيه محمد رسول الله ، لأن الأنبياء لا يرسَلون إلا عند تفشِّي الفسق والفجور بين الناس.

فتأويل المنظر المذكور أنه بالرغم من أن الزمن الذي سيعمّ فيه الفساد والفجور بين الأمة المسيحية هو زمن ظهور محمد رسول الله ، إلا أن النصارى لن يدركوا ذلك إلا بعد زمن طويل، وبعد نَصَبِهم في السفر المضني، وإخفاقهم في جهودهم؛ فيتأسفون على فوات الأوان.

ويزداد هذا المفهوم جلاءً بقوله تعالى وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ .. أي سيقول المسيحيون في أنفسهم: ما حَرَمَنا من معرفة محمد إلا وساوس الشيطان وهواجسه، إذ ما دمنا قد رأينا أن عباداتنا لم تعد تؤتي ثمارها، وأننا قد انغمسنا في الفسق والفجور، فلِمَ لم ندرك حينها أن مقام مجمع البحرين قد جاء، وأن الله تعالى قد خذَلنا، وأن عهد النبيّ الموعود قد بدأ؟ ذلك أن قوله واتَّخذ سبيلَه في البحر عَجَبًا إشارة إلى عجبهم من خَطَئهم، وأنه كيف خرَج الحوت من أيديهم ودخَل في البحر الثاني، أي كيف انتقلت ثمرات العبادة إلى المسلمين، وبقينا محرومين منها.

هذا المنظر أيضًا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا، وإلا لم تكن هناك حاجة لجعل الحوت الحقيقي علامة لمعرفة مجمع البحرين الظاهري. وإن قلنا أنهما كانا يمشيان ناظرَين إلى الحوت الظاهري، فلم يكن لنسيانهما إياه مجال. هل رأيتم في الدنيا مثلاً أن رجلاً يسافر في سيارة، ثم بعد قطع مسافة طويلة ينسى أنه يركب سيارة، ويبدأ السفر على الأقدام دون أن يدري، ثم يتذكر بعد برهة من الزمان أنه كان يسافر في سيارة؟! إذًا فما داما يمشيان ناظرَين إلى الحوت فلم يكن لهما أن يخطُوَا خطوة واحدة من دون النظر إليه، وبالتالي يستحيل أن ينسياه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك