القرآن الكريم والكشف عن هوية ذي القرنين
  • من هو ذو القرنين يا ترى؟
  • هل يحمل سرد قصته نبوءات مستقبلية حقا؟
  • كيف تحققت هذه النبوءات؟

___

والآن أثبت لكم أن كورش  ملِكِ فارسَ  كان يدعي تلقِّي الرؤى الصادقة من الله تعالى.

نجد في المرجع المذكور أدناه أنه خرج ذات مرة في مهمة عسكرية، فرأى في المنام أن «داريوس» – الذي كان ابن أخيه – لـه جناحان أحدهما منبسط على أوروبا والآخر على آسيا. وفي الصباح أرسل كورش إلى أبي داريوس الذي كان يرافقه في السفر، وقال لـه: يبدو أن ابنك يدبر المؤامرة ضدي. والدليل على ذلك أني رأيت البارحة في المنام كذا وكذا. ومن سنة الله معي أنه تعالى، لشدة حبه إياي، يخبرني سلفًا عن كل حادث لـه تأثير عميق في ذاتي (Historian’s History Of The World vol. 2 p. 594- 595))

لا شك أن رؤياه كانت صادقة، وإن كان قد أخطأ في تفسيرها حيث فهِم منها أن داريوس يكيد له كيدًا، بينما كان لها في الحقيقة تفسير آخر ظهر في موعده بكل جلاء. ذلك أنه لما مات كورش اعتلى ابنُه العرشَ، فقتَله بعض الناس. فأخذ داريوس معه بعض رجال العائلة الملكية وقتَل الشخصَ الذي اغتصب المُلكَ. فاتفقوا على اختيار داريوس ملِكًا عليهم. فقام داريوس بغزو قسم كبير من أوروبا وآسيا، وهكذا وسّع رقعة المملكة الفارسية كثيرًا (المرجع السابق ص 600-609).

كما يتضح من الكتاب المقدس أيضًا أن كورش كان يتلقى الإلهام الإلهي حيث يقول عزرا النبي ما نصه: «وفي السنة الأولى لكُورش ملِكِ فارسَ عند تمام كلام الربِّ بفمِ إرميا نَبَّهَ الربُّ روحَ كورش ملِكَ فارسَ، فأطلقَ نداءً في كل مملكته وبالكتابة أيضًا قائلاً: هكذا قال كورشُ ملكُ فارس: جميعُ ممالك الأرض دفَعها لي الربُّ إلهُ السماء، وهو أوصاني أن أبنيَ لـه بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَن منكم مِن كل شعبه لِيَكُنْ إلهُه معه ويَصعَدْ إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبنيَ بيتَ الربِّ إلهِ إسرائيل» (عزرا 1: 1 -3).

وهذا يعني أن الله تعالى اصطفاه، وآتاه الحكم والبلاد، ثم أمره بإلهام منه ببناء البيت المقدس في أورشليم وإطلاقِ سراح اليهود من بلاد السبي.

والعلامة الثانية التي ذكرها القرآن الكريم لذي القرنين هي أن فتوحاته بدأت أوّلاً إلى المغرب حيث ما برِح يفتح مُلكًا بعد ملك ويمضي قُدُمًا حتى وصل حيث وجَد الشمسَ تغرُب في عين حَمِئةٍ.. أي كان لونُ مائها أسودَ، والمراد منها البحر الأسود الذي اسمه بالإنجليزية (Black sea).

وهذا ما حصل بالضبط مع كورش. فلما مكّنه الله تعالى في الأرض تحالفَ ضده ملوكُ البلاد الغربية وحملوا على مُلكه، وكانت هذه بداية فتوحاته خارج ملكه إلى الجانب الغربي حتى فتَح بابل ونينوى والمستعمرات اليونانية الواقعة في شمال آسيا الصغرى حتى بحر مَرمَرة، وهكذا وصَل كورش إلى العين التي كانت في الجانب الغربي من ملكه، والتي كان ماؤها أسود اللون. والثابت تاريخيًّا أنه فتَح هذه المناطقَ كلها.

(Historian’s History Of The World: The History of Persia Vol. 2 p. 607-609

والموسوعة اليهودية مجلد4 ص 403 كلمة Cyrus)

والعلامة الثالثة التي يبينها القرآن الكريم هي أن ذا القرنين توجَّهَ إلى الشرق بعد فتح ممالك الغرب. ويؤكد التاريخ أيضًا أن كورش بعد فتح البلاد الغربية قام بغزو البلاد الشرقية حتى وصلت حدود دولته إلى أفغانستان وبُخارى وسمرقند.

(Historian’s History Of The World: The History of Persia Vol. 2 p. 593)

والعلامة الرابعة المذكورة في القرآن هي أن ذا القرنين توجَّهَ بعد ذلك إلى بعض المناطق المتوسطة، وبنى هناك سدًّا للحيلولة دون حملات يأجوج ومأجوج.

والثابت من التاريخ أن كورش حاربَ يأجوج ومأجوج، ليحمي بعض ولايات مملكته من حملاتهم. ولاستيعاب هذا الأمر لا بد أن نعرف أوّلاً: ما هي القبائل التي أُطلق عليها اسم يأجوج ومأجوج؟

إن التوراة تساعدنا في معرفة هذه القبائل حيث ورد فيها وحيُ الله تعالى إلى حزقيال النبي: «يا ابنَ آدم اجعَلْ وجهَك على جُوجٍ أرضِ ماجوجَ رئيسِ رُوشٍ ماشِكَ وتُوبالَ، وتَنبَّأْ عليه» (حزقيال 38: 2).

هذا يوضح أن التوراة – وهي أول مصدر عَرَّفَنا عن يأجوج ومأجوج- تطلق على سكّان مناطق الشمال اسمَ يأجوج ومأجوج، وتخبر أن مسكنهم روش (روسيا) وماشك (موسكو) وتوبال (توباسك)؛ وهي كلها مناطق شمالية.

كما يتضح من كتاب حزقيال النبي أن ملِكًا من فارس سيقاوم شعوبَ يأجوج الذين يكون معهم فارسُ وكورش وفوط (حزقيال 38: 5). وهذا يعني أن يأجوج كانوا مسيطرين على بعض المناطق الفارسية حين الإدلاء بهذا النبأ؟

تعالوا الآن لنرى ماذا تقول الكتب التاريخية في يأجوج ومأجوج؟ يقول يوسيفوس، وهو من المؤرخين القدامى، إن يأجوج ومأجوج اسم لقبائل سيدين Scythians”.

ونجد التوراة تصدّق ما قاله يوسيفوس حيث ذكرتْ بين أسماء بني يافث اسم جومر وماجوج ومادي (تكوين 10: 2).

علمًا أن جومر اسم يطلق على الكِيمَرِيّين (Cimmerian) الذين كانوا يسكنون في الجانب الشرقي لآسيا الصغرى، وأما مادي فهو اسم لأهل ميديا. ويقول جيروم إن مسكن مأجوج هو بجبل قوقاز وراء البحر الأخضر (بحر قزوين). وهذه البقعة أيضًا واقعة في الشمال التي يسكن فيها سيدين. (الموسوعة اليهودية مجلد 6 ص 19)

والشق الثاني للعلامة الرابعة الواردة في القرآن الكريم أن ذا القرنين بنى جدارًا يصدّ حملات يأجوج ومأجوج. تعالوا نبحث الآن: هل وُجد في هذه البقعة من الأرض جدارٌ؟

والجواب أنه في نفس المكان الذي يخبر عنه المؤرخ “هيرودوتس” أنه كان طريقًا لحملات سيدين وُجد جدارٌ يُعرَف بين الناس بجدار دربند . وعندي أنه سمِّي في الأغلب باسم دربند لأن سيدين كانوا مُنعوا من الغارات بذلك الجدار. ونقرأ في دائرة المعارف البريطانية عن دربند أنه كان فيها جدارٌ بلغ ارتفاعه عند بنائه 29 ذراعًا وعرضُه 10 أذرع، وكانت فيه أبواب حديدية وأبراج للرصد والحراسة. كان يمتد من بحر قزوين إلى جبال قوقاز على طول خمسين ميلاً. بناه الإسكندر، ورمّمه قبادُ الملِكُ الساساني. (الموسوعة البريطانية مجلد 8 ص 64 كلمة Derbend)

تؤكد هذه الأحداث بكل جلاء أنه ما كان بوسع الإسكندر، والحال هذه، أن يجد وقتًا كافيًا لبناء مثل هذا الجدار الطويل. ويبدو أن قول بعض المفسرين المسلمين أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني (الكشاف، والقرطبي) جعَل الكُتّابَ المسيحيين ينخدعون، فظنوا أن الإسكندر هو الذي بنى هذا الجدار.

ولقد تبيّن من هذه الشهادات أنه كان في هذا المقام جدار، ولكني لم أعثر بعد على شهادة تاريخية تدل على أن كورش الملك هو الذي بنى هذا الجدار. بيد أني أرى من غير المعقول أن يكون الإسكندر هو باني هذا الجدار. ذلك أن الإسكندر، كما يظهر من التاريخ، هزَم داريوس آخرَ مرة في صيف سنة 330 قبل الميلاد حيث وقع داريوس صريعًا (الموسوعة البريطانية مجلد 1 ص 568-569 كلمة Alexander The Great)، ومع ذلك لم يتمكن الإسكندر من الاستيلاء على بلاد فارس كلها، إذ كانت جيوش الولايات الفارسية العديدة جاهزة لمقاومته، لذلك كان عليه أن يتقدم إلى الأمام من دون توقف، وفي أثناء تقدمه حصلت الثورة فيما ترك وراءه من الممالك، فاضطر للعودة. وبعد أن أخمد نار الثورة تقدّمَ الإسكندر إلى كابول حيث بدأت جنوده تتمرد عليه. وفي رأي المؤرخين أنه تقدم إلى الهند في شتاء سنة 329 قبل الميلاد. ولقد قام بهذا السفر بسرعة جعلت المؤرخين يشكّون حتى في سفره هذا. وعلى كل حال إنه لمن الثابت المحقق أن الإسكندر لم يتوقف في طريقه، بل لم يزل يحارب ويتقدم إلى أن توجهَ إلى الهند، ورجع منها بطريق البحر في السفن، ووصل إلى إيران في سنة 324 قبل الميلاد. ومكث هناك مدة قليلة اضطر فيها مرة أخرى لإخماد نار التمرد في جيوشه، ثم توجّهَ عائدًا إلى وطنه، وتُوفِّي وهو في الطريق في 13 يونيو عام 323 قبل الميلاد. (الموسوعة البريطانية مجلد 1 ص 549 كلمة Alexander The Great)

تؤكد هذه الأحداث بكل جلاء أنه ما كان بوسع الإسكندر، والحال هذه، أن يجد وقتًا كافيًا لبناء مثل هذا الجدار الطويل. ويبدو أن قول بعض المفسرين المسلمين أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني (الكشاف، والقرطبي) جعَل الكُتّابَ المسيحيين ينخدعون، فظنوا أن الإسكندر هو الذي بنى هذا الجدار.

ولكن مجرد الإثبات بأن الإسكندر لم يبن هذا السد ليس بكاف، بل يحتاج الأمر إلى شهادة تؤكد – ولو على الأغلب لا على سبيل اليقين – أن كورش الملِكَ هو الذي بنى هذا الجدار.

وبما أنني لم أجد بعد شهادة من التاريخ تثبت على وجه اليقين أن كورش بنى هذا السد فلذلك لم يبق أمامنا طريق آخر غير القياس. فاستنتجت قياسًا ببعض الوقائع التاريخية بأن كورش كان بانيَ الجدار. وفيما يلي أدلتي:

1- يظهر من التاريخ أن داريوس – الذي اعتلى العرش بعد ابن كورش والذي رأى عنه كورش في الرؤيا أن حكومته ستكون في المشرق والمغرب – كان قد ذهب إلى أوروبا مرورًا باليونان ليهاجم سيدين (Historian’s History Of The World vol. 2 p. 610). ومن غير المعقول تمامًا أن يذهب داريوس إلى أوروبا عن طريق اليونان للهجوم على سيدين مع أنهم كانوا قاطنين في جواره في الشمال! هناك تفسير واحد – كما يقضي القياس – لذهابه إلى أوروبا لهذا الغرض، وهو أن طريق دربند كان مسدودًا لأن كورش كان قد أقام هناك الجدار، والهجوم على سيدين بجيش كبير من خلال أبواب الجدار الضيقة لم يكن خاليًا من الخطر، أما هدم الجدار فكان أكثر خطورة، لذلك لم يجد داريوس بدًّا لكسر قوة سيدين إلا الهجوم عليهم من قِبل أوروبا حيث كان الجدار يقف سدًّا منيعًا أمام سيدين من جهة، بينما كان يزحف داريوس عليهم بجحافله من جهة أخرى.

2- إذا لم يكن الجدار موجودًا في دربند قبل داريوس فمن المستحيل أن نتصور عن مَلِكِ عاقلٍ مثلِه أن يدور لمسافة ألف ميل تقريبًا للهجوم على سيدين تاركًا ملكه مكشوفًا للأعداء، إذ كان في هذه الخطوة خطر أن يخرج سيدين من جواره ويشنّوا الغارة على بلده بحيث ما كان بوسعه أن يحمي ملكه، أو يتلقى أيةَ مساعدة من أهله عند الضرورة. فذهابه إلى أوروبا للهجوم على سيدين مطمئنًا يدل دلالة واضحة على وجود السد في دربند قبل حملته، مما جعل باله مطمئنًا بأنه لا يمكن لسيدين أن يحملوا على مُلكه من تلك الجهة لكون السد يقف حائلاً منيعًا بينهم وبين مُلكه.

وبعد، فأرى أنني قد أثبتُّ على وجه اليقين توافُرَ الأمور الأربعة المذكورة في القرآن عن ذي القرنين بحق كورش الملِكِ، اللهم إلا أمر بناء الجدار الذي قلتُ عنه قياسًا بوقائع ذلك الزمان – التي لم يصلنا منها إلا القليل – أن كورش الملك هو باني ذلك الجدار بالقرب من دربند، ولا سيما حين نرى أن التاريخ يشهد أن يأجوج ومأجوج كانوا حاكمين على ملكه قبل اعتلائه العرش، وكانوا يشنّون غاراتهم من حين لآخر على فارس وعلى مملكته الواسعة، وأن حملات سيدين من جهة دربند كانت انتهت بعد زمن كورش. (World vol. 2 p. 589 Historian’s History Of The)

والموسوعة البريطانية مجلد 1 ص 549 كلمة Alexander The Great)

فالخلاصة أنه يبدو أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم ما هو إلا كورش الملك. وبعد إثبات هذا الأمر أقوم بتفسير الآيات القرآنية كلاً على حدة.  (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك