تحليل بشارة الملاك للسيدة مريم
  • ما معنى تمثل الملاك رسولا للسيدة مريم؟
  • ما دلالة لفظ “لأهب”؟
  • كيف كان أسلوب ولادة المسيح إيذانا بانقطاع النبوة في بني إسرائيل؟

___

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (مريم 20)

 شرح الكلمات:

غلامًا: لقد سبق أن بيّنتُ أن الغلام يُطلَق على كل من الصغير والشاب والكهل. (راجِعْ شرح كلمات الآية رقم 8).

زكيًّا: الزكيّ من الزكاة، أي الصلاح، ورجلٌ زكيٌّ أي زاكٍ من قوم أتقياء أزكياء. (لسان العرب)

التفسير:

قال الملاك لمريم لا تخافي، إنما جئتك من عند الله تعالى لأمنحك ولدًا زكيًّا.

إن كلمة رسول تبطل مزاعم الذين يظنون أن الذي تمثل لمريم هو في الحقيقة زوجها أو زوج اختاره الله لها (روح المعاني). ذلك لأنه لا يقول إني جئت لأفعل بك شيئًا، بل يخبرها أني مجرد رسول من عند الله تعالى لأهب لك غلامًا زكيًّا.

قد يظنّ البعض أن قوله لأَهَبَ[، الذي فيه معنى العطاء، يعني أنه جاء لإقامة علاقة جنسية معها. ولكنه أيضًا ظن باطل، لأن من أساليب القرآن الكريم أنه يبين الأخبار القطعية اليقينية بكلمات يقينية كيلا يحوم حولها شك. فمثلا إذا نبّأ عن حدث سيقع في المستقبل ذكَره بصيغة الماضي وكأنه يقول اعتبِروا هذا الخبر كالحدث الذي قد وقع في الماضي. وهنا أيضًا قد أكد القرآن خبر ولادة الابن عندها بقوله لأهَب .. أي لأعطي أي كُوني على يقين بولادة الابن فكأني قد أعطيتكِ إياه. والجميع يعرف أن الله تعالى هو الذي يهب الولدَ لا الملاكُ. فثبت أن كلمة لأهَب إنما تفيد خبر ولادة الابن عندها، وليس إعطاءها الابن. إن النبأ الإلهي يكون خبر يقين، لذا فقد عُدَّ كشيء قد وُهب سلفًا، فقال جئتك بحسب وحي الله تعالى لأهب لك غلامًا زكيًّا .. أي جئتكِ لأخبرك بولادة ابن عندك، وثِقِي بقطعية هذا الكشف وكأنك قد أُعطيتِ المولود الموعود.

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (مريم 21)

 شرح الكلمات:

بَغِيًّا: البَغْيُ طلبُ تجاوُزِ الاقتصاد فيما يُتحرى. والبَغْيُ على حزبينِ: أحدهما محمود وهو تجاوُز العدل إلى الإحسان، والثاني مذموم وهو تجاوُز الحقّ إلى الباطل. وبغَت المرأةُ بِغاءً إذا فجَرت لتجاوُزها إلى ما ليس لها (انظر المفردات).

التفسير:

إن مريم أيضًا استغربت من البشارة مثل ما استغرب زكريا ببشارة ولادة الابن عنده فقالت أنَّى يكون لي غلامٌ[؟

لا شك أن الغلام يعني الكهل والشاب أيضًا، ولكنه يعني هنا الولد، لأن هذا من كلام مريم، وإن ولادة الولد عندها هو الأمر الذي جعلها تتحير. فقالت كيف ألد ولدًا ولم يمسَسْني بشرٌ ولستُ امرأة فاجرة؟

ولو أننا قلنا إنها استغربت بسبب ظاهر أحوالها، وقلنا إن مشاعرها في الرؤيا كانت كمشاعرها في الظاهر، فيكون المعنى أن ولادة الابن عندها كان أمرًا مستحيلاً في الظاهر فاستغربت من هذا الخبر خلال الرؤيا أيضًا. ذلك أن المنام نوعان: فأحيانًا يكون المشهد والكلام وحدهما تحت تأثير تأويل الرؤيا، أما الأحاسيس القلبية فلا تكون تحت تأثيره. ومثاله أن يرى المرء في المنام أن ابنه قد قُتل، وأنه فرحان بقتله، مع أنه لا يفرح بقتله في الظاهر، بل يبكي ويحزن؛ ففرحته على قتل ابنه يعني أن مشاعره أيضًا كانت تحت تأثير تأويل الرؤيا لأن تأويل قتله أنه سيكون صالحًا، وسيقف حياته لخدمة الدين، وإلا لبكى ولم يفرح. وأحيانًا يرى في المنام أن ابنه قُتل وأنه يبكي عليه، مع أنه كان ينبغي عليه أن يفرح بهذا المشهد، ولكن بكاءه في الرؤيا يدل على أن مشاعره لم تكن تحت تأثير تأويل الرؤيا، بل كانت تحت تأثير ظاهر الأحوال. إذن فمشاعر القلب أحيانًا تكون تحت تأثير تأويل الرؤيا وأحيانًا لا تكون كذلك.

ومثاله الآخر أن المرء يرى في المنام قصب السكر، فيفرح كثيرًا، في حين أن تعبير القصب الهمّ والغمّ؛ فسروره في المنام يدل على أنه لم يكن تحت تأثير تأويل الرؤيا، بل كان تحت تأثير ظاهر الأحوال، لأن المرء يفرح إذا وجد القصب، ففرح في المنام أيضًا. ولو رأى أنه بكى حينها فكان معناه أنه كان تحت تأثير تأويل منامه. إن هذه قضية معقدة ولا يفهمها إلا الذين وُهبوا علم تعبير الرؤيا.

فلو فهمنا من قولها هذا أنها قالته بتأثير ظاهر أحوالها لكان المراد أنها قالت هكذا لأن التفوه بمثل هذه الأمور أمر منكر غير مستحب، فكأنها قالت لـه: يا ويلتى، ماذا تقول؟ متى تلد النساء بدون الرجال؟

أما لو اعتبرنا قولها هذا خاضعًا لتأثير تأويل الرؤيا لكان المراد أنها قالت هذا في دهشة واستغراب: هل بالفعل سيعاملني الله تعالى بهذا اللطف والكرم؟

وباختصار، لقد ثبت من هذه الآية بكل جلاء أن السيدة مريم قد فهمت من ذلك أنها ستلد ولدًا بدون زواج وقبل الزواج، لأن قولها ولم يمسَسْني بشر يدل أنها قد فهمتْ من هذه الرؤيا أنها ستُرزق الولد بعد هذه الرؤيا وقبل الزواج، وإلا فلا معنى لأن تنفي مريم أية علاقة جنسية في الماضي.

ثم إن قولها ولم أكُ بغيًّا أيضًا يدعم هذا لمعنى حيث إنها تنفي به أي علاقات غير شرعية مع أحد في الماضي، بينما كان قولها ولم يمسَسْني بشرٌ كان نفيًا لعلاقة شرعية في الماضي؛ وليس في قولها أي ذكر للزواج أو عدمه في المستقبل. وهذا يدل أنها لم تنفِ ولادة الابن عندها في المستقبل لكونها منذورة في سبيل الله تعالى، وإنما نفت ولادة الابن عندها نظرًا إلى ماضيها الذي كان من المحال أن تُرزق فيه الولد. لو كان المستقبل في نظرها لقالت إن زواجي مستحيل فكيف أرزق الولد، أو لم تتعجب إطلاقًا من وعد الولد لأن احتمال زواجها كان أمرًا واردًا.

المنام نوعان: فأحيانًا يكون المشهد والكلام وحدهما تحت تأثير تأويل الرؤيا، أما الأحاسيس القلبية فلا تكون تحت تأثيره. ومثاله أن يرى المرء في المنام أن ابنه قد قُتل، وأنه فرحان بقتله، مع أنه لا يفرح بقتله في الظاهر، بل يبكي ويحزن؛ ففرحته على قتل ابنه يعني أن مشاعره أيضًا كانت تحت تأثير تأويل الرؤيا لأن تأويل قتله أنه سيكون صالحًا، وسيقف حياته لخدمة الدين، وإلا لبكى ولم يفرح. وأحيانًا يرى في المنام أن ابنه قُتل وأنه يبكي عليه، مع أنه كان ينبغي عليه أن يفرح بهذا المشهد، ولكن بكاءه في الرؤيا يدل على أن مشاعره لم تكن تحت تأثير تأويل الرؤيا، بل كانت تحت تأثير ظاهر الأحوال. إذن فمشاعر القلب أحيانًا تكون تحت تأثير تأويل الرؤيا وأحيانًا لا تكون كذلك.

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيّا (مريم 22)

 شرح الكلمات:

مقضيًّا: هناك كلمتان في العربية القضاء والقدر، ويظن الناس على العموم أن معناهما واحد، مع أن الأمر ليس كذلك. فقد قال صاحب المفردات: «القضاء فصلُ الأمر قولاً كان أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري؛ والقضاء من الله أخصُّ من القدر لأنه الفصلُ بينَ التقديرِ، فالقدرُ هو التقدير، والقضاءُ هو الفصلُ والقطعُ. وهذا كما قال أبو عبيدة لعُمر – رضي الله عنهما – لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أَتَفِرُّ مِن القضاء؟ قال: أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله؛ تنبيهًا أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌّ أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مَدفَعَ لـه». (المفردات)

وبيان ذلك أنه ورد في التاريخ أن سيدنا عمر لما ذهب إلى الشام استقبله جنودُ المسلمين وقائدُهم أبو عبيدة، وكان وباء الطاعون، الذي دُعي باسم عمواس، قد تفشى في بعض مناطق الشام. فجمَع الصحابةَ واستشارهم، وقال لهم: كان الطاعون يتفشى في الشام من قبل أيضًا، فماذا كان يفعل أهلها؟ قالوا: كانوا يبتعدون عن مكان الطاعون، إلى أن تخفّ وطأة هذا الوباء. وأشار الصحابة على عمر ألا يذهب إلى مكان الطاعون، فقرر العمل بذلك. فلما علِم بذلك أبو عبيدة الذي كان شديد التمسك بالظاهر، قال: أتفرّ من القضاء؟ فأجابه عمر رضي الله عنهما مشيرًا إلى عادة أهل الشام هذه وقال: أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله. بمعنى أن الله تعالى قد جعل قانونًا عامًّا وقانونًا خاصًّا، والقانون العام هو أن الذي يفر من مكان الطاعون إلى مكان نقي الهواء ينجو من هذا الوباء. فما دام الفرار من مكان الطاعون أيضًا من قوانين الله تعالى فإني لا أخالف أيًّا من قوانينه ، وإنما أفرّ من قضائه إلى قدره.. أي من قانونه الخاص إلى قانونه العام. فسيدنا عمر قد فرّق هنا بين القضاء والقدر، وقد قال صاحب المفردات إن ما يقصده سيدنا عمر هو «أن القدر ما لم يكن قضاءً فمرجوٌّ أن يدفعه الله». فكأنه أوضح بأنه لم يدخل بعد في منطقة الطاعون، ومن نواميس الله تعالى أن المرء إذا ابتعد من المنطقة المضروبة بوباء الطاعون نجا منه، وأنا أنتفع من هذا الناموس الإلهي.

 

التفسير:

ليس المراد من قوله تعالى هو عليَّ هيِّنٌ أن هذا الأمر صعب على الناس ولكنه سهل لي؛ ذلك لأن الأمر المشار إليه ليس صعبًا على الناس فحسب بل هو مستحيل تمامًا. إذن فليس هنا أي مقارنة بين قدرة الله وقدرة البشر، وإنما هذا إعلام من الله تعالى بأنه إذا أراد شيئًا فكل شيء هيّنٌ وسهلٌ عليه.

أما قوله تعالى ولِنجعَله آيةً للناس ورحمةً منا فاعلم أن اللام في ولِنجعَله للعاقبة، والمراد أننا فاعلون ذلك حتمًا، فيصبح هذا الولد آية ورحمة للناس من قِبلنا. أي أننا حين نخلقه من دون أب سيكون ذلك علامة على أننا على وشك أن ننقل النور الإبراهيمي من بني إسحاق إلى بني إسماعيل، ويكون هذا رحمة منا .

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كانت النبوة قد انقطعت عن بني إسرائيل من خلال المسيح، فكيف صار هو رحمة للناس.

وجواب ذلك (أولاً) أن قوله تعالى ورحمة منا إشارة إلى تعليم المسيح، حيث أخبر الله تعالى أن الخشونة والقسوة الموجودة في اليهود ستُزال بواسطة المسيح الذي سيدعو الناس إلى المحبة والرفق، ويعمل جاهدًا على نشر الرحمة، وهكذا سيكون ظهوره مدعاة رحمة للدنيا.

وثانيًا، أن نبي آخر الزمان ما كان ليولد إلا بانتقال النبوة من بني إسحاق إلى بني إسماعيل. فبما أن المسيح كان سببًا لظهور من هو رحمة للعالمين وجاء ليمهّد لنـزول تعليم الرحمة فقال الله تعالى إننا جعلناه رحمة منا .. أي جعلناه سببًا لتحقق تلك النبوءة العظيمة المتعلقة بظهور نبي آخر الزمان . وكأن المسيح كان مفتاحًا للباب الذي كان من المقدر أن تنـزل بانفتاحه رحمة عظيمة من الله تعالى.

ما أعظم هذا الكلام دليلاً على كمال القرآن! فبالرغم من أن المسيح سيدٌ للنصارى، إلا أن الإنجيل حين تحدث عن نبوءة ولادته لم يذكر أنه سيعمل على نشر المحبة بين الناس. ولكن القرآن الكريم حين ذكر نبوءة ولادته ذكر أيضًا أن الله تعالى كان قد أخبر مريم قبل ولادته أنه سينشر تعليم المحبة. إن هذا الأمر إذا كان يشكل برهانًا عظيمًا على صدق القرآن وكماله وعدله، فإنه أيضًا دليل على كون الإنجيل ناقصًا. إن أكبر مزايا المسيح تعليمه الداعي إلى الرحمة، ولكن الإنجيل لم يذكر ذلك، ولو تلميحًا، حين ذكر نبوءة ولادته، أما القرآن الكريم فسجل هذا الأمر. (يتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك