الوحي.. قوة خارقة وكنز لا يفنى
  • علاقة سورة الحجر بسورة ابراهيم بأنه ذكر بالسورتين بأن الأنبياء سوف يغلبون ببركة الوحي وليس بقواهم المادية.
  • لقد تحدثت سورة الحجر عن القوة الكامنة في الوحي وفي كلام الله تعالى وكيف لن يقدر أحد التغلب على هذه القوة.
  • الويل لمن يسخر من  وحي  الله تعالى المنزل على أنبيائه.
  • القرآن الكريم جاء بوصفه كتابا وجاء بوصفه قرآناً أيضا وفي كلمة القرآن دلالة على حفظه بالذاكرة وفي كلمة كتاب دلالة على حفظه بصورة كتاب وهذا ما حدث بالفعل.
  • استهزأ الناس  بالوحي كثيراً لكن نرى بالنهاية انتصار الأنبياء بالوحي الذي أنزل عليهم وستبقى هذه السنة بالأرض دائماً.

__

مكية وهي مع البسملة مائة آية في ستة ركوعات

ورد في تفسير البحر المحيط أن “هذه السورة مكية بلا خلاف”.

ومن غرائب القدر أن الله تعالى قد جعل العلماء يُجمِعون على اعتبار هذه السورة مكية بلا خلاف. فلقد ورد فيها من القضايا والمسائل ما لا تنكشف عظمته كما ينبغي إلا إذا كانت السورة مكية.

علاقة سورة الحجر بسورة إبراهيم تكمن في أن السورة السابقة قد نوّهت بأن الأنبياء السابقين لم يغلبوا بالأسباب المادية وإنما ببركة الوحي الذي نزل عليهم من الله تعالى، وبأن أمر محمد أيضًا سيتمّ بهذه الطريقة. وتتحدث هذه السورة عن القوة الكامنة في كلام الله تعالى حيث يخبرنا أن الوحي قوة خارقة بحيث لا شيءَ يستطيع الوقوف في وجهها. إن الافتراء على الله ليس بالأمر الهيّن، ومن المستحيل أن ينجو المفتري من عقابه . فثبت أن القرآن حق، وأنه قد نزل مصحوبًا بالبينات الدالة على صدقه.

لقد أكد الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام عظيم لا مثيل لـه، حتى إن المعارضين كثيرًا ما يتمنون وسيتمنون بكل حسرة عند رؤية محاسنه: ليت لديهم مثل هذا الكلام العظيم! ولكنهم لا يستطيعون قبوله بسبب مصالحهم الشخصية، ولا يدركون أن مثل هذا التهاون يحرم صاحبَه من قبول الحق إلى الأبد ويعرّضه للعذاب. أما وقد أنزل الله هذا الوحي فلا يمكن أن يمّحي ويندثر، بل لا بد أن يبقى ويدوم، لأن الله تعالى بنفسه تولّى حفظه وحمايته. فمن لم يقبله فلن يضر إلا نفسه.

وتتحدث هذه السورة عن القوة الكامنة في كلام الله تعالى حيث يخبرنا أن الوحي قوة خارقة بحيث لا شيءَ يستطيع الوقوف في وجهها. إن الافتراء على الله ليس بالأمر الهيّن، ومن المستحيل أن ينجو المفتري من عقابه .

كان الناس ولا يزالون يسخرون من أنبيائهم بسبب ما نزل عليهم من الوحي، ولكنهم لا يفكرون أن الافتراء على الله ليس بالأمر الهيِّن، لأن الله تعالى هو الذي يتولى الدفاع عن ذاته، فلا يدَع أحدًا يفتري عليه، وهو الذي يخص الوحيَ الحق بمزايا معينة، ويهيئ الأسباب لقبوله وانتشاره، ويرفع الذين يقبلونه ويصدقونه من الحالة الدنيا إلى أسمى درجات الكمال.

وكما أن الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين كان بمثابة الكنـز الذي انتصروا به على العالم ..كذلك سيحدث الآن أيضًا. فإذا كان المعارضون يستهينون بهذه الكنوز فدَعْهم يا محمد وشأنَهم، فسوف يعاقَبون على ذلك، فلا تتوانَ في توزيع تلك الكنوز على المؤمنين، ولا تَمَلَّ من إنذار من يرفضها، وارفعْ أكفّ الضراعة والابتهال إلى ربك دائما، فهذا هو الأمر الذي سيمهّد لتبليغ رسالة الله ونشرها.

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الر تِلْكَ آيَـاتُ الْكِتَـابِ وَقُـرْآنٍ مُبِـيـنٍ (2)

 شرح الكلمـات:

آيات: مفردها آية وهي: العلامةُ والدليل؛ ويقال لكل كلامٍ من القرآن منفصلٍ بفصل لفظي آية (تاج العروس).

أرى أن الجمل القرآنية سُمّيت آيات للحكمة نفسها، ليدرك الناس أن مضامين القرآن مرتبة ترتيبًا كاملاً، وكل جملة منه دليل على صدق ما ورد في الجملة السابقة من معانٍ، وأنه بدون مراعاة هذا الترتيب لن يدرك أحد المعارف القرآنية بشكل جيد. وقد سُمّيت بالآيات كذلك لأن كل جملة قرآنية آيةٌ من آيات الله تعالى. يزعم النصارى أن القرآن لا يدّعي أنه معجزة، مع أن القرآن قد سمّى كل جملة منه آيةً أي معجزة، مشيرًا إلى أنه يحتوي على معجزات كثيرة، بل إنه بنفسه معجزة عظمى.

الكتاب: مصدرُ كتَب يكتب. يقال: كتَب الكتيبةَ: جمَعها. وكتب السقاءَ: خرَزه (تاج العروس).. أي سدّ فمَه بخيطَينِ من جلد. وبهذا المعنى يسمّى الكتاب كتابًا لأنه تُجمع فيه مسائل مختلفة، ولأنه يُصنع بتجميع الأوراق بخيط وغيره. والكتابُ: “ما يُكتب فيه من مجموعة أوراق فارغة؛ ما كُتب؛ الفرضُ؛ الحُكمُ؛ القدرُ؛ والكتاب الرسالةُ المكتوبة” (أقرب الموارد).

مبين: أبان الشيءُ: اتضح، وأبان فلان الشيءَ: أوضحه (أقرب الموارد)

لقد وردت كلمة (مبين) في سورة يوسف بمعنى الموضِّح، وأما هنا فبمعنى الواضح. وقد جاءت كلمة (قرآنٍ) هنا بالتنوين تفخيمًا لشأنه.

وكما أن الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين كان بمثابة الكنـز الذي انتصروا به على العالم ..كذلك سيحدث الآن أيضًا. فإذا كان المعارضون يستهينون بهذه الكنوز فدَعْهم يا محمد وشأنَهم، فسوف يعاقَبون على ذلك، فلا تتوانَ في توزيع تلك الكنوز على المؤمنين، ولا تَمَلَّ من إنذار من يرفضها…..

التفسـير:

لقد تحدث المفسرون فيما إذا كان هناك فرق بين (الكتاب) و(قرآن مبين)، لأن (و) العاطفة ترد عمومًا لبيان المغايرة بين شيئين.

الحق أنهم وقعوا في هذا النقاش عبثًا حيث أخذوا (الكتاب) بمعنى مجموعة الأوراق المكتوبة، مع أن الله تعالى قد قصد بذكر كلمة (الكتاب) إزاء (قرآن) الإشارةَ إلى معنى خاص وهو أنه سوف يقوم بحماية القرآن الكريم كتابةً وتحفيظًا.. أي أنه سوف يُكتَب ويدوَّن، وسوف يُقرَأ بكثرة. وكأنه تعالى قد أكد في مستهلّ السورة نفسَ النبأ الذي ذكره بعد قليل في قوله إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا لـه لحافظون ، حيث جاء بكلمتي (الكتاب) و(قرآن) كَصفتَينِ للقرآن لا كَاسْمَينِ، مثل كلمة “محمد” التي تُستخدم عَلَمًا في بعض الأحيان، وصفةً في أحيان أخرى. تنبّأ بـ (الكتاب) بأنه سوف يتم تدوينه وكتابته، وأخبر بـ (قرآن) أنه سوف يُقرَأ بكثرة.

والواقع أنه ليس هناك أي كتاب سماوي يتسم بهاتين الصفتين معًا غير القرآن الكريم. لا شك أن التوراة والإنجيل يُقرَءان بكثرة، ولكن لا أحد من الناس يحفظهما عن ظهر قلب. وأما “الفيدا” كتابُ الهندوس فإن لغته غير مفهومة إلا لقلة قليلة جدّاً، دَعك أن يحفظه أحد عن ظهر قلب. إن عدد الهندوس في الهند يبلغ في هذه الأيام حوالي 250 مليون شخص، وقد بَلَغَنا أنه يوجد بينهم أربعة أشخاص فقط قادرين على ترجمة “الفيدا” وتوضيح غموضه. ونفس الحال بالنسبة للزَّنْدأَفِسْتا. إن القرآن الكريم هو الوحي الوحيد الذي يُقرأ في صورة كتاب، ويُحفظ عن ظهر قلب أيضًا، وهناك الملايين الذين ينتفعون منه بكلا الطريقين.

هناك ملاحظة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن القرآن قد وُصف بهاتين الصفتين (الكتاب والقرآن) معًا في آيتين: في الآية المذكورة هنا، وفي الآية الثانية من سورة النمل، ولكن هناك فرق واضح، وهو أنه في هذه الآية قدِّمت كلمة (الكتاب) على كلمة (القرآن)، بينما حصل العكس في سورة النمل.

أرى أن سبب هذا الفرق هو التأكيد على أمر معين في كلّ من الموضعين. فكان الهدف في هذه السورة إبرازَ كون هذا الوحي (قرآنًا) أكثر من كونه (كتابًا)، فلذلك قدّم صفة (الكتاب) على صفة (القرآن)، لأنهم أحيانًا يذكرون الأدنى قبل الأعلى بيانًا للدرجة. أما في سورة النمل فكان القصد هنالك إبراز صفة الكتابة لذلك أخَّر هناك كلمة (الكتاب) وقدَّم كلمة (القرآن).

وثمة أمر آخر يجب التنبه إليه وهو أن الله تعالى لم يقل هنا “الكتاب المبين”، بل قال قرآن مبين ، بينما ذكر العكسَ في سورة النمل إذ قال تلك آيات القرآنِ وكتابٍ مبينٍ .

وقد يظن البعض ممن لا حظَّ له من أسرار القرآن أن هذا الأسلوب راجع للسجع والقافية. وهذا ظن باطل، ذلك أنه إذا كان الله تعالى قد استخدم هناك كلمة (قرآن) للسجع فلماذا قدّمها على كلمة (الكتاب) خلافًا لما فعل هنا في سورة الحجر؟ فهذا يدل أن هناك حكمة في تغيير الأسلوب والكلمات.

وليكن معلومًا أيضًا أن كلمة (مبين) لم ترد في هذين المكانين فقط، بل إنها قد وردت في عدة مواضع أخرى وعقب كلمات أخرى أيضًا، وإليكم بيان ذلك:

جاءت كلمة “مبين” صفةً للقرآن في موضعين هما: هذه الآية من سورة الحجر والآية 70 من سورة ياسين.

ووردت صفةً للكتاب في 12 موضعًا وهي: المائدة: 16، الأنعام: 60، يونس: 62، هود: 7، يوسف: 2، الشعراء: 3، النمل: 2 و76، القصص:3، سبأ: 4، الزخرف: 3 والدخان: 3. مما يعني أنه لا دخل للسجع هنا، بل إن الكلمات قد تغيرت لحكمة ما.

وقد اتضح مما سبق أن هناك مكانين فقط وردت فيهما كلمتا (الكتاب، والقرآن) معًا مقرونتين بصفة (مبين). فلا شك أن هذين الموضعين يتطلبان منا التدبر حتى نفهم الحكمةَ ونعلم سبب ورود كلمة (مبين) صفةً للكتاب في موضع وللقرآن في موضع آخر؟

علمًا أن سورتي الحجر والنمل تختلفان في الموضوع، فالأولى منهما تذكر الأحداث التي وقعت للأنبياء الذين لم يكن في زمنهم للكتابة رواج، بل كان الناس يعتمدون على الذاكرة للثقافة والمعرفة، مثل آدم وإبراهيم ولوط وأصحاب الأيكة وقوم صالح عليهم السلام. لقد بُعث آدم في الفترة الأولى حينما لم يكن للناس دراية بفن الكتابة الذي لم يكن قد اختُرع بعد. وكان إبراهيم ولوط من القبائل العربية وكان مولدهما العراق، ولم يكن للكتابة عندهم رواج أيضًا. وأصحاب الأيكة كانوا قبيلة عربية كما كان قوم صالح، ولم يكن لديهم جميعا اهتمام كبير بالكتابة. فثبت من هذه الأمثلة أن سورة الحجر تخاطب عمومًا أولئك الأقوام الذين لم يهتموا بفن الكتابة كثيرا، والذين كان من المقدر أن ينتفعوا من معارف القرآن بالذاكرة أكثر من الكتابة؛ لذلك قال الله هنا قرآن مبين ليخبر أن هذا الوحي سينفع هؤلاء بصفته (قرآنًا) أي ما يُقرأ كثيرًا؛ إلا أنه تعالى أضاف إلى ذلك كلمة (الكتاب) أيضًا تأكيدا لحمايته لهذا الوحي.

وأما في سورة النمل فقال كتاب مبين ، لأنه قد ركّز فيها على ذكر أحداث موسى وداود عليهما السلام وهمـا من بني إسرائيـل الذيـن كـان اعتمـادهم على الكتـابة أكثَـرَ منه على الذاكـرة

(The Illustrated Bible Dictionary, Part 3 Under; ‘Writing’ P. 1657-1658)

وكان من المقدر أن يستفيد أتباع هؤلاء الرسل مما نزل على محمد بصفته (كتابًا) أكثر منه (قرآنًا)، ولذلك جاء التأكيد في سورة النمل على كون هذا الوحي (كتابًا) أكثر منه (قرآنًا)، فقدَّم كلمة الكتاب مضيفًا إليه صفة (مبين) فقال كتاب مبين .

خلاصة القول إن هذا الوحي مبين سواء من ناحية كونه (قرآنًا) أو (كتابًا)، وبما أنه نزل للعالم كله فسوف تنتفع منه الأمم كلها، سواء تلك التي تعتمد في علومها على القراءة والحفظ عن ظهر قلب أو التي تعتمد على الكتابة.

وكما سبق أن بيّنتُ فإن كلمة مبين قد وردت في المصحف الشريف صفةً للقرآن مرتين فقط، بينما جاءت صفةً للكتاب 12 مرة، مما يشير إلى أن هذا الوحي سيكون أكثرَ تأثيرًا بصفته (كتابًا)، بمعنى أن معظم الناس سوف ينتفعون منه لأنهم سيجدونه مكتوبا، ولذلك فإنه سوف ينتشر بكثرة بين الأمم التي تحفظ العلوم والمعارف عن طريق الكتابة.

كما أنني أرى في تكرار كلمة كتاب مبين بهذه الكثرة إشارةً ربانية للمسلمين بأن المنتفعين بالكتابة يكونون أكثرَ عددًا من المنتفعين بالذاكرة فقط، فعليهم أن يهتموا بنشر التعليم فيما بينهم حتى لا يُحرم أهل الإسلام مما في القرآن الكريم من منافع وبركات.

كما أنني أرى في تكرار كلمة كتاب مبين بهذه الكثرة إشارةً ربانية للمسلمين بأن المنتفعين بالكتابة يكونون أكثرَ عددًا من المنتفعين بالذاكرة فقط، فعليهم أن يهتموا بنشر التعليم فيما بينهم حتى لا يُحرم أهل الإسلام مما في القرآن الكريم من منافع وبركات.

لما كانت هذه السورة تتناول موضوع حفظ تعاليم الإسلام فقد وصف الله هذا الوحي هنا بصفتي (الكتاب) و(القرآن) تأكيدًا لحمايته. ذلك أنه من المستحيل حماية أي تعليم حماية كاملة ما لم يتم ضبطه بالكتابة والحفظ معًا، إذ قد تخون الذاكرة وقد يسهو الكاتب، ولكنهما إذا اجتمعا أزال الواحد خطأ الآخر، فلا يبقى هناك احتمال للخطأ. ولقد تيسرت للقرآن الكريم الحماية بنوعيها، فإنه (كتاب)، إذ تم ضبطه أولا بأول بصورة كتابية في حياة النبي ، كما أنه (قرآن).. بمعنى أنه لم يزل ملايين الناس – منذ بداية نـزوله إلى يـومنا هذا – يحفظـونه عن ظهر قلب ويقومون بتلاوتـه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك