"التقوى مخ الشريعة ولبها"
التاريخ: 2012-01-20

“التقوى مخ الشريعة ولبها”

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • لقد وصّى الخليفة الخامس نصره الله بضرورة فحص أخلاقنا ومراقبتها.
  • ووصانا أيضا بأن نتفكّر في القرآن الكريم ونتدبره.
  • لا يُعطى كنوز القرآن ويا يفهمها إلا من تخلى عن التكبّر وتفهمه بكل صدق.
  • الشجاع الحقيقي لا يُقاس بقوته العضلية بل بمدى قدرته على التحكم بأخلاقه وتغييرها.

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهـَوْنَ عَنِ الْمُنـْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (آل عمران 115-116)

لقد ورد في الآية الأولى التي تلوتها عليكم من سورة آل عمران أن من علامات المؤمنين أنهم يأمرون بالحسنات وينهون عن السيئات ويتسابقون في إصلاح الأنفس وإحراز الحسنات. وقد ورد في موضع آخر أيضا من السورة نفسها أن هذه الأمور وحدها فقط تجعل الإنسان من الصالحين، وهي علامة قوة الإيمان، وهي نفسها تمكِّن الإنسان من الفوز والفلاح، لأن الله لا يضيِّع أعمال المستجيبين لأوامره. فمن المؤكد أنه يكرم عاملي الحسنات وناشريها ومستبِقي الخيرات. إلا أنه قد بيَّن لنا في الآية الثانية التي تلوتها عليكم أنه عليم وعالم الغيب والشهادة، وأنه مطلع على النية وراء كل عمل نقوم به، فإذا أُنجزتْ هذه الأعمال بدافع التقوى فسوف يأخذنا في حضن رحمته. فمن منة الله العظمى علينا أنه بعث سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي وإمام الزمان في هذا الزمان الذي يسوده الفسادُ والفتن، ووفَّقَنا لأن نؤمن به ونتعهد معه بأننا سنرفع إيماننا – بالسير على الطريق الذي بيَّنه لنا – إلى النقطة التي حددها لنا في هذا العصر ونسعى لذلك. يقول سيدنا المسيح الموعود في ضوء تعاليم القرآن الكريم وسنة النبي : “إذا كان كفُّ اللسان عن قولٍ ضد مشيئة الله ضروريا فإن إنطاقه لبيان قول الحق أيضا ضروري بالقدر نفسه، (أي إذا كان منْع اللسان من السيئات ضروريا فإن استخدامه لقول الحق ضروري بالقدر نفسه.) فمن خصائص المؤمنين أنهم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لكن من واجب الإنسان – قبل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر – أن يُثبت بعمله أنه يملك هذه القدرة، (أي حين تتكلمون عن هذه الأمور فمن الواجب عليكم أن تثبتوا بأنكم متمسكون بالحسنات التي تدعون إليها) لأنه قبل أن يؤثِّر في الآخرين يجب أن يجعل حالته مؤثِّرة، (أي ينبغي أن يولِّد في أعماله قوةَ التأثير)، فلا تكفّوا اللسان عن الأمر بالمعروف والنهْي عن المنكر أبدا، إلا أن مراعاة الظروف أيضا ضرورية، وينبغي أن يتّسم أسلوب بيانكم باللين والسلاسة. وكذلك فإن التفوه بما ينافي التقوى إثم كبير.” (ملفوظات ج 1 ص 424)

ينبغي أن لا تفرحوا بمجرد الإيمان بإمام الزمان بل يجب أن تفحصوا وتراقبوا أحوالكم أكثر من ذي قبل، وإلا ستؤاخَذون وتُسأَلون كما قال سيدنا المسيح الموعود

إن مسئوليتنا بعد الإيمان بسيدنا المسيح الموعود قد تعاظمت للفوز بهذه المستويات، إذ ينبغي أن تكون أفعالنا وأقوالنا مدعاة لنشر الحسنات والنهي عن المنكرات وإلا لا تبقى أي قيمة لانضمامنا إلى جماعة المسيح الموعود ، بل على عكس ذلك يُخشى أن نتلقى غضب الله بعدم الوفاء بالعهد الذي عقدناه.

يقول سيدنا المسيح الموعود :

 “لقد قلت مرارا إن الإنسان كلما تقرّب ازدادت محاسبته. إن البعيدين لا يتعرضون للمؤاخذة، أما أنتم فتجدرون بالمؤاخذة الحتمية، وإذا كنتم لا تتفوقون على الآخرين في الإيمان فما الذي يميزكم عن غيركم.”  (ملفوظات ج 1 ص 44)

ينبغي أن لا تفرحوا بمجرد الإيمان بإمام الزمان بل يجب أن تفحصوا وتراقبوا أوضاعكم أكثر من ذي قبل، وإلا ستؤاخَذون وتُسأَلون كما قال سيدنا المسيح الموعود . فعلينا أن نهتم بإصلاح أنفسنا كثيرا، فتلقّي أحدكم العلوم الدينية لن ينجيه من المؤاخذة إذا لم تكن أعمالُه بحسب ذلك، كما أن تعيين أحدكم لخدمة الجماعة وتلقّيه منصبا لن يحميه من المؤاخذة إذا لم تكن أعمالُه موافقة لتعليم الله. إن انتماء أحد إلى عائلة معينة وخدمته للصالحين لن يعصمه من المؤاخذة إذا لم تكن أعمالُه بحسب ما علَّمَنا الله . فقد قال سيدنا المسيح الموعود بهذا الخصوص في موضع آخر بوضوح بأنكم لن ترثوا الإنعامات التي قُدرت للأتباع لمجرد البيعة. يقول : اعلموا أن الله لا يحب الذين ألبِستُهم فاخرة وأنيقة وهم أثرياء ويتناولون أطعمة شهية، وإنما أحباء الله من يؤْثرون الدين على الدنيا ويكونون لله وحده خالصة.

ثم يقول : من جملة وعوده قوله:

 وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..

 أي سأجْعل أتباعك فوق منكريك إلى يوم القيامة، فمن الحق أنه سيهب لأتباعي الغلبة على منكريَّ ومعارضيَّ، لكن ما يجدر بالانتباه والتدبر أن كل من يبايع على يدي لا يُصبح من أتباعي، فما دام لا يحقق في نفسه جميع مقومات الاتباع فلا يعدّ من المتَّبعين.

فعلينا أن نفكر جيدا بأن الله تعالى قد وصف المؤمنين قائلا:

  ……يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ،

ولكننا لا نستطيع أن نكون صورة حقيقية لما ورد في هذه الآية ولا نستطيع أن نكون مؤمنين حقيقيين ما لم نعمل بنصائح وأوامر الخادم الصادق للنبي  ، وما لم نحقق الآمال التي علّقها المسيح الموعود   بنا. لقد اقتبستُ اليوم بعضا من نصائح المسيح الموعود   لأقرأها عليكم وهي ضرورية جدا لتحسين حالتنا الدينية والروحانية، بل هي مهمة للتقدم الدنيوي أيضا. وكما قال المسيح الموعود   بأنه لا يمكن أن نُعَدّ أتباعَه الحقيقيين ما لم نعمل بأوامره   بكل انتباه واهتمام. المهمة العظمى التي كلِّف بها سيدنا المسيح الموعود   في هذا العصر تتمثل في تبليغ دعوة الإسلام إلى العالم كله. وهذه المهمة موكولة إلى أتباعه أيضا. فعلينا أن نجعل أنفسنا أسوة للآخرين لأداء هذا الواجب. وكما قال المسيح الموعود   من قبل، علينا أن نغيّر حالتنا ونجعلها قابلة للتأثير في الآخرين، وعندها فقط سيتأثر الناس بأقوالكم. يقول المسيح الموعود   موجِّها انتباهنا إلى أقوالنا وأفعالنا:

“إذا كان كلامنا أيضا مبنيا على القيل والقال والرياء فقط فماذا يميّزنا عن غيرنا وما هي أفضليتنا على الآخرين؟ عليكم أن تضربوا أمثلة عليا بعملكم. فليكن في عملكم لمعانٌ يقبله الآخرون، لأنه ما لم يكن فيه لمعان فلن يقبله أحد.”

فعلينا أن نخلق في نفوسنا لمعانَ صفاء النفس ظاهرا وباطنا، لكي نتمكن من الوفاء بعهد البيعة، ونتمكن من أداء حق البيعة له على وجه حقيقي. ثم يقول في موضع آخر: إذا اكتفينا بالكلام فقط فاعلموا أنه غير مُجدٍ إطلاقا، فالفتح يتطلب التقوى، فإذا أردتم الفتح فكونوا متقين.

فقد قال :

“إن الله يحب المتقي، فكونوا خائفين جميعا بتذكر عظمة الله، (أي ولِّدوا في قلوبكم حبَّ الله وخوفه وخشيته) وتذكروا أن الجميع عبادُ الله فلا تظلموا أحدا ولا تتكبروا عليه ولا تحتقروه. إذا كان شخص واحد رذيلا في الجماعة فهو يجعل الآخرين أيضا أراذل، وإذا كنتم ميَّالين إلى الحدّة (أي كنتم سريعي الغضب) فافحصوا قلوبكم من أي نبع صدرتْ هذه الحدةُ؟ (أي ما سبب الغضب) فالموقف حساس جدا. (ملفوظات ج 1 ص 9)

فالغضب أمر طبعي لكن ينبغي أن لا يستولي عليكم، بل يجب على المؤمن أن يكون غضبه لغرض الإصلاح.

كما قال في موضع آخر: اصنعوا المعروف مع الجميع، فللأقارب أيضا حقوق وينبغي أن تحسنوا إليهم أيضا، أما الأمور التي تنافي مشيئة الله فيجب التخلي عنها.

ثم لفت انتباهنا إلى ما تكمن فيه خشية الله، وما هي معاييرها، وكيف ينبغي أن يكون خوفُنا. يقول : “إن خوف الله يكمن في أن ينظر المرء لأي مدى يطابق فعلُه قولَه ، وإذا وجد فعلَه لا يتفق مع قوله فليعلم أنه سيواجه غضب الله، فمن كان قلبه نجسا فلا قيمة له مهما كان قولُه طيبا، بل سوف يثير غضب الله، فلتعلم جماعتي أنهم جاؤوني لأُنميهم كالبذر ليكونوا شجرةً مثمرة. فليتأمل كلُّ واحد في نفسه كيف باطنُه، وكيف حالته الداخلية؟ فإذا كان أفراد جماعتنا أيضا يقولون شيئا ويُخفون في قلوبهم شيئا آخر- لا سمح الله- فلن تكون العاقبة محمودة. فحين يرى الله جماعةً تدّعي كثيرا وقلوبها فارغةٌ فهو غني لا يعبأ بها. كانت نبوءة الفتح ببدر قد صدرت، وكان الفتح مأمولا بالتأكيد، لكن النبي مع ذلك كان يدعو باكيا بتضرّع، فقال له أبو بكر الصديق : إذا كان وعدُ الفتح مؤكدا فما الحاجة إلى كل هذا الإلحاح؟ فقال له النبي : إن الله غني وقد يكون الفتحُ مشروطا بشروط خفية.” (ملفوظات ج 1 ص 11)

فالنبي الذي كان الله قد وعده بالفتح وعدا مؤكدا، هو الآخر كان يقلق ويُكثر الابتهال والدعاء ويبكي بشدة حتى كان الرداء يسقط عن منكبيه، وكان يتضرع ظنا منه أنه قد تكون هناك شروط لا نفي بها. فإذا كان وعد فتحه مشروطا بشروط خفية فمن ذا غيرُه لا تكون معه شروطٌ؟ فلا أحد يعلم بما قدر وقضى، فثمة حاجة ماسة لتزكية النفوس.

يقول : “يُشترط على أهل التقوى أن يعيشوا بفقر ومسْكنة، فهو أحد فروع التقوى الذي به نستطيع مقاومة الغضب غير الشرعي. المحطة الأخيرة لكبار العارفين والصِّدّيقين هي كظم الغضب، (فاجتناب الغضب ضروري جدا) فالعُجب والتكبر يتولد من الغضب، كما يؤدي الغضب أحيانا إلى التكبر والغطرسة.. (أي أحيانا يغضب الإنسان بسبب الكبر والغطرسة، وأحيانا أخرى يتسبب الغضب في الكبر والغطرسة.) فالإنسان يغضب حين يفضِّل نفسه على غيره. أنا لا أريد أن يتفاضل أبناء جماعتي فيما بينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض باستخفاف، فالله يعلم من الأكبر منهم ومن هو أصغر، فهذا نوع من الاحتقار والازدراء ويُخشى أن ينمو هذا الاحتقار كالبذر ويتسبب في هلاكه (أي المتكبر). بعض الناس حين يقابلون الكبار يعظِّمونهم تعظيما كبيرا، لكن الكبير من يستمع إلى المسكين بتواضع ويواسيه ويحترم قوله ولا يجرحه بلسانه ولا يتكلم بما يصيبه بألم.

فقال تعالى أولا:

وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات: 12)

فيقول : “لا تُطلقوا  على الآخرين أسماء استفزازية لأن ذلك فعل الكفار والفجار. (أي هذا عمل الذين يعصون الله ويتبعون الشيطان) والذي يستفز غيره لن يموت ما لم يواجه الموقف نفسه. لا تحقروا إخوتكم. وما دمتم تنهلون الماء من نبع واحد فمن يدري مَن سينهل أكثر من غيره؟ لا ينال أحد الإكرام والعظمة بسبب القوانين السائدة في الدنيا، بل

  إن أكرمكم عند الله أتقاكم . (الملفوظات المجلد الأول ص36)  “

إن الفِراسة الصادقة لا تتسنى دون الرجوع إلى الله تعالى، لذلك قيل: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ. لا تتأتى الفراسة الحقة والفطنة الصادقة قط ما لم تتسن التقوى. إن كنتم تريدون أن تنالوا النجاح فأعمِلوا العقل وفكِّروا وتأملوا. ففي القرآن الكريم نصائح متكررة توجِّه إلى التفكير والتدبر. فتدبروا في الكتاب المكنون وكونوا عفيفي الطبع. عندما تتطهر قلوبكم وتستخدمون العقل السليم وتخطون على سبل التقوى عندها تنشأ باجتماع هذه الأشياء حالة يصعد بها من أعماق قلوبكم دعاء:

رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران 192)

عندها ستفهمون أن خلق الله ليس عبثا بل يدل على صدق الخالق الحقيقي ووجوده لكي تظهر للعيان العلوم والفنون المختلفة التي تؤيد الدين.” (الملفوظات المجلد الأول ص66)

(عندها يصعد من الأعماق أن ما خلقه الله ليس باطلا، وعندها يدعو المرءُ اللهَ تعالى أنْ أنقِذْنا من عذاب النار. فيقول بأنه عندما يصعد هذا الدعاء من الأعماق ستفهمون أن لكل شيء خلَقه الله تعالى هدفا. فمثلا لكل إنسان مكانته المعينة فلا بد من توقيره، بل لكل مخلوق من مخلوقات الله هدفٌ معينٌ لو حاولتم فهمه لأدركتم أن الله لم يخلق شيئا عبثا).

فيقول :

“لكي تظهر للعيان العلوم والفنون المختلفة التي تؤيد الدين”

أي عندما تظهر هذه الأشياء وتتطور عقولكم ستنكشف عليكم أسرار تلك العلوم التي تؤيد الدين وتدعمها. إذًا، ستنشأ فيكم روح الاستباق في الخيرات حين تسعون للحصول على علوم قرآنية وفهمها ومعرفتها جيدا. لذا هناك حاجة ماسة لقراءة القرآن الكريم بتدبر. إن كنتم تريدون أن تكونوا مؤمنين حقيقيين وتنضموا إلى الذين يدركون الحسنات الحقيقية فلا بد أن تزدادوا علما ومعرفة.

ثم يقول في مكان آخر: “إن كنتم تريدون أن تنالوا الفلاح في الدارين وتفتحوا قلوب الناس فيجب أن تطهِّروا أنفسكم وتستخدموا العقل وتعملوا بهدايات كلام الله، وتصلحوا أنفسكم وتضربوا لغيركم مثالا للأخلاق الفاضلة، عندها سوف تنجحون حتما. ولله در القائل: “من القلب إلى القلب دليل”، لذا يجب أن تخلقوا مثل هذه القلوب أولا.” أي إن كنتم تريدون أن تؤثِّروا في القلوب فعليكم أن تخلقوا في أنفسكم قوة العمل، لأن قوة القول واللسان وحدها لا تؤثر في القلوب دون العمل.

“هناك عشرات الآلاف من أصحاب القيل والقال باللسان ويُدعون مشايخ وعلماء ويعتلون المنابر ويعتبرون أنفسهم نائبين عن الرسول وورثة الأنبياء ويعظون الناس ويقولون: اجتنبوا الكبر والزهو والمنكرات. ولكن قيسوا أعمالَـهم وسلوكياتهم المشينة من مبدأ: هل يؤثّر كلامهم في قلوبكم؟.” (الملفوظات المجلد الأول ص67)

لا شك أن كلام هؤلاء المشايخ لن يؤثر في قلوب الذين آمنوا بالمسيح الموعود ، غير أن الذين لا يؤمنون بالمسيح الموعود وهم مثقفون إلى حد ما ويملكون شيئا من العقل والنباهة فلا يؤثر كلام المشايخ في قلوبهم أيضا. فلو سألتموهم عن المشايخ لاعترفوا بسوء طويتهم وبأنهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر ولا يُنتجون إلا الفساد والفتنة. إذًا، إذا كانت أقوالنا وأفعالنا سواسية لافتتحت علينا سبل تبليغ الدعوة ولتركَ كلامُنا تأثيرا أيضا في الآخرين. ثم يقول عن تحصيل العلوم الجديدة:

“المشايخ الذين يعارضون تحصيل العلوم الحديثة أراهم على خطأ، بل الحق أنهم يفعلون ذلك للتعتيم على خطئهم وضعفهم. لقد ترسّخ في أذهانهم أن بحوث العلوم الحديثة تؤدي إلى سوء الظن بالإسلام. وقد قرروا في نفوسهم أن العقل والعلوم شيئان مضادان للإسلام كليا. ولأنهم ليسوا قادرين على إظهار ضعف الفلسفة للعيان لذا يخترعون أقوالا كهذه بُغية سَتْر ضعفهم، ويقولون إن تعلّم العلوم الجديدة لا يجوز. والحق أن أرواحهم ترتعد من الفلسفة وتسجد أمام البحوث الحديثة. ولكن لم يُعطَوا الفلسفة الحقة التي تنشأ نتيجة الإلهام الإلهي. ولأنهم لا يستطيعون أن يردوا على الفلسفة الدنيوية لذا يرتعدون ويقولون ألا تتعلّموها ولا تنظروا إليها. لم يُعطَوا الفلسفة الحقة التي تنشأ نتيجة الإلهام الإلهي ويزخر بها القرآن الكريم، ولا يُعطَاها إلا الذين يطرحون أنفسهم أمام باب الله بمنتهى التذلل والفناء، ويُلقون بأنفسهم على عتباته ، ويخضعون أمامه وبه يستعينون. والذين تتخلى أذهانهم عن عفونة أفكار التكبُّر يعترفون بضعفهم ويقرّون بالعبودية متضرعين”. عندما تنشأ هذه الحالة تُعطَون العلم والعرفان. ثم يقول :

“هناك حاجة ماسة اليوم أن تتعلّموا العلوم الجديدة لخدمة الدين وإعلاء كلمة الإسلام، وأن تتعلموها بالجهد واسعوا فيها.” تقدموا في العلوم وادخلوا في شتى مجالات البحوث العلمية. في هذه الأيام أوجِّه الطلاب الأحمديين بوجه خاص إلى أن يتوجهوا إلى هذا المجال لأن ذلك أيضا وسيلة لتبليغ الدعوة ونشر الحسنات. عندما تكونون متحلين بالعلوم المعاصرة ستفتح عليكم أبواب أخرى كثيرة.

“لم يُعطَوا الفلسفة الحقة التي تنشأ نتيجة الإلهام الإلهي ويزخر بها القرآن الكريم، ولا يُعطَاها إلا الذين يطرحون أنفسهم أمام باب الله بمنتهى التذلل والفناء، ويُلقون بأنفسهم على عتباته ، ويخضعون أمامه وبه يستعينون. والذين تتخلى أذهانهم عن عفونة أفكار التكبُّر يعترفون بضعفهم ويقرّون بالعبودية متضرعين.  ”

فقال : “… عليكم أن تكسبوا العلوم الجديدة لخدمة الدين وإعلاء كلمة الإسلام، وأن تتعلموها بالجهد واسعوا فيها. ولكني جرَّبتُ أيضا وأريد أن أبيّن ذلك من باب التنبيه أن الذين عكفوا على هذه العلوم كليا وانهمكوا فيها لدرجة لم يجدوا فرصة لصحبة أهل الذكر، ولم يملكوا نور الله في أنفسهم فقد تعثّروا بوجه عام وابتعدوا عن الإسلام.” تعلّموا هذه العلوم دون تردد ولكن إلى جانب ذلك يجب أن تتعلموا علوم القرآن الكريم أيضا كي تبقوا على الصراط المستقيم، وكذلك كونوا على صلة مع الذين يملكون علم القرآن

“ثم قاموا بمحاولة فاشلة لجعل القرآن الكريم تابعا لتلك العلوم – بدلا من أن يجعلوها تابعة للقرآن الكريم – وبذلك كفلوا الخدمات الدينية والقومية بحسب زعمهم. واعلموا يقينا أنه لا يمكن لأحد أن يؤدي خدمة الدين إلا الذي يملك نورا سماويا”. (الملفوظات المجلد الأول ص68-69). وفي هذا العصر قد وجدنا هذا النور بواسطة المسيح الموعود ، لذا لا بد من قراءة كتبه لفهم القرآن الكريم والاطلاع على تفسيره. ثم يمكن أن تقارنوا بين العلوم الدينية والدنيوية ولن تجدوا العلوم الدنيوية غالبة بل الدين هو الذي يغلب دائما ويجعل العلوم الدنيوية تابعة له.

ثم يقول في تفسير: صابروا ورابطوا : “كما أن ربط الخيل على الحدود ضروري لمواجهة العدو حتى لا يتعدى الحدود كذلك كونوا مستعدين أنتم أيضا”. لا بد من الجيش لحراسة الحدود. الجيش الذي فيه الخيول كان يُعتبر قويا في غابر الأزمان، أما في العصر الراهن فقد اختُرعت أسلحة جديدة ولا بد من حيازتها إذا أُريدتْ حماية الحدود والبلاد

“ إن كنتم تريدون أن تنالوا النجاح فأعمِلوا العقل وفكِّروا وتأملوا. ففي القرآن الكريم نصائح متكررة توجِّه إلى التفكير والتدبر. فتدبروا في الكتاب المكنون وكونوا عفيفي الطبع.  ”

فقال : “كما أن ربط الخيل على الحدود ضروري لمواجهة العدو حتى لا يتعدى الحدود كذلك كونوا مستعدين لكيلا يتعدى العدوُ الحدود ويضر بالإسلام. لقد قلت من قبل أيضا بأنه إذا كنتم تريدون خدمة الإسلام ودعمه فاسلكوا بأنفسكم سبل التقوى أولا لتدخلوا الحصن الحصين لتأييد الله تعالى وتنالوا شرف الخدمة وحقها. ترون كيف ضعفت حالة المسلمين الخارجية إذ تنظر إليه الأمم الأخرى بالكراهية والتحقير.” هذا الوضع ملحوظ اليوم أيضا كما كان في زمن المسيح الموعود  بل تفاقم أكثر من ذي قبل، إذ يُنظَر إلى المسلمين بالتحقير وذلك بسبب تصرفاتهم غير اللائقة

“فإذا ضعفت وانحطّت قوتكم الباطنية والقلبية أيضا فاعلموا أن النهاية موشكة.” أنتم الذين تؤمنون بالمسيح الموعود في هذا العصر لو ضعفت وتدهورت حالتكم الباطنية والقلبية أيضا وانهمكتم في الأمور الدنيوية ونسيتم الدين فاعلموا أن النهاية موشكة.

“طهِّروا نفوسكم لدرجة تسري فيها القوة القدسية وتصير قوية مثل الخيول المربوطة على الحدود وتحرس الحدود. إن فضل الله تعالى يحالف المتقين والصادقين دائما. لا تجعلوا أخلاقكم وسلوككم تُلحق وصمة بالإسلام. وإن سمعة الإسلام تتشوه بسيّئ الأعمال وبمن لا يعمل بتعاليمه.. يشرب مسلمٌ خمرًا فيتقيأ هنا وهناك، وتكون عمامته حول عنقه ويتهادى في مصارف وسواقي المياة القذرة ويُضرَب من قبل الشرطة بالنعال، ويَضحك منه الهندوس والمسيحيون. فإنَّ فعله المخالِف للشرع هذا لا يعرضه فحسب للسخرية بل يصل تأثيره الخفي إلى الإسلام أيضا. أحْزن كثيرًا عند قراءة مثل هذه الأخبار والتقارير عن السجون. وعندما أرى أن المسلمين قد تعرضوا للعقاب والتوبيخ جراء أعمالهم السيئة، فإن قلبي يضطرب ويقلق لأن هؤلاء الذين لديهم الصراط المستقيم غدوا يسيئون بأعمالهم السيئة ليس إلى أنفسهم فقط بل يعرضون الإسلام أيضا للاستهزاء.”

وهذه الحالة سائدة اليوم أيضا إذ نرى أن المسلمين المسافرين إلى باكستان أو إلى الدول العربية عبر الطائرات – حيث تكون لهم حرية شرب الخمر – يتعاطون الخمر بلا وازع ورادع ويزعجون من يجلس معهم.

قال :

 “ينبغي أن تلتزموا بالأخلاق والأعمال التي لا تتيح للكفار فرصة الطعن فيكم إذ إن طعنَهم فيكم إنما هو الطعن في الإسلام.” (الملفوظات المجلد الأول ص77)

كذلك أخبرنا عمن هو الشجاع الحقيقي، وكيف ينبغي أن يكون المؤمن الأحمدي شجاعًا. قال :

“ليس مطلوبًا من الداخلين في جماعتنا أن يكونوا أقوياء بدنيًا وأبطالا، بل المطوب منهم أن يكونوا متحلين بالقدرة على تغيير الأخلاق. هذا أمر واقعي أنه ليس القوي الذي يزيح بقوته الجبلَ من مكانه، كلا، بل الشجاع الحقيقي هو من يقدر على تغيير الأخلاق. فتذكروا هذا الأمر دومًا وابذُلوا كلّ همتكم وقوتكم في تغيير الأخلاق لأنها هي القوة والشجاعة الحقيقيتَين.”

كذلك نصح بالالتزام بالمعتقدات الصحيحة والأعمال الصالحة فقال:

“ بالإضافة إلى ما سبق فهناك جزءان مهمان ينبغي للمخلص الصادق مراعاتهما أيضا، أحدهما: المعتقدات الصحيحة. ولقد منّ الله تعالى علينا بكمال فضله إذ أرانا صراط المعتقدات الصحيحة الكاملة عن طريق نبيه الكريم دون بذلنا أي جهد أو تحملنا أية مشقة. (أي أُعطِينا كل شيء جاهزًا، وتلقيناه دون بذل أي جهد). لقد حُرم كثير من العلماء إلى الآن من السبيل الذي أُرِيتموه. فاشكروا فضل الله تعالى ونعمته هذه. وشُكرُهُ أن تعملوا -بصدق القلب-الأعمال الصالحة التي تحتل المرتبة الثانية بعد المعتقدات الصحيحة. وادعوا الله تعالى مستمدين من الحالة العملية أن يثبتكم على المعتقدات الصحيحة، ويوفقكم للأعمال الصالحة على الدوام. أما الجزء المتعلق بالعبادات فيحتوي على الصوم والصلاة والزكاة وغيرها. تفكروا الآن في الصلاة مثلاً، فإنها قد جاءت إلى هذه الدنيا إلا أنها ليست من هذه الدنيا. لقد قال النبي : قرة عيني في الصلاة. (أي لا تتعلق الصلاة بأهل الدنيا، ولا يستطيع أداءَ حقِّها إلا الذي هو مؤمن حقيقي)…. ينبغي لجماعتنا أن تنظر إلى الآخرة. تذكروا ماذا كانت عاقبة قوم لوط وغيرهم من الأقوام. ينبغي أن يلوم المرء قلبَه ولا سيما إذا كان قاسيًا ويحاول أن يبعثه على الخشوع والخضوع. (أي إذا كان قلبكم قاسيًا فينبغي أن تبذلوا قصارى جهودكم لتلوموا أنفسكم وقلبكم حتى يلين فيتوجه إلى الله تعالى وإلى عبادته ويخضع لها). هذا ضروري لجماعتنا لأنها تتلقى المعرفة الطازجة. فلو ادعى أحد المعرفة ولا يعمل بها فليس ادعاؤه إلا قولا فارغا، لذلك ينبغي لجماعتنا ألا تغفل عن هذا الأمر مهما غفل عنه الآخرون، ولا تُخمِد حماسَ حبها حتى ولو رأتْ خمودَ حبِّ الآخرين. لا شك أن الإنسان يكتنف في قلبه آمالا وأماني كثيرة، ولكن لا يعلم أحد ماذا أخفت له يد الغيب من القضاء والقدر. لا تسير الحياة وفق الأماني والآمال، إذ إن عالم الأماني يختلف عن عالم القضاء والقدر الذي هو العالم الحق. اعلموا أن صحيفة أعمال الإنسان الصحيحة عند الله تعالى. وما أدرى الإنسان ما الذي كتب فيها؟ لذلك ينبغي له أن يوقظ قلبه مرة بعد أخرى لينتبه.” (الملفوظات ج1 ص 149-152)

كذلك قال : “يجب على جماعتنا أن تنتهج التقوى لأنها شيءٌ يُعَدُّ خلاصةً للشريعة الإسلامية. فلو أردنا التعبير عن الشريعة باختصار فبإمكاننا أن نعدّ التقوى مُخ الشريعة ولبَّها. هناك مدارج ومراتب كثيرة للتقوى، ولكن لو تخطى الإنسان المراحل البدائية بكل ثبات وإخلاص وهو طالبٌ صادقٌ فلا بد أن يرتقي إلى المدارج العليا أيضا بسبب إخلاصه وطلبه الصادق. يقول الله تعالى:

إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة 28)

أي أن الله تعالى لا يستجيب إلا دعوات المتقين. وكأن هذا وعدُ الله، ولا يخلف الله وعدَه كما قال:

إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (آل عمران 10)،

فلا بد من شرط التقوى لاستجابة الدعاء، وفي هذه الحالة أليس الأحمق والجاهل من يريد استجابة الدعاء عن طريق حياة الانحراف والغفلة؟ فعلى جماعتنا أن يبذل كل فرد منها قصارى جهوده للسلوك في سبل التقوى وذلك لكي ينال لذة استجابة الدعاء ومتعتها، ويزداد إيمانًا.” (الملفوظات ج1 ص 108-109)

ثم أسدى نصيحة أخرى فقال:

“لقد تلقيت هذا الإلهام مراتٍ كثيرة (ما معناه): “لو صرتم متقين، وسلكتم سبل التقوى الدقيقة لكان الله تعالى معكم.” إن ما يملأ قلبي ألمًا هو تفكيري في العمل الذي أقوم به حتى تلتزم جماعتنا بالتقوى والطهارة الحقيقية.

قال أيضا:

“إنني أُكثِر من الدعاء حتى يغلبني الضعف وتصل الحالة إلى الإغماء أو الموت أحيانًا.”

وقال أيضا:

“ما لم يكن أحد تقيًّا في نظر الله تعالى فلا يحالفه تأييده ونصرته.”

وقال أيضا:

“إن التقوى ملخص للصحف المقدسة ولتعاليم التوراة والإنجيل. إن كلمة واحدة من القرآن الكريم (أي التقوي) تُفصح عن رضى الله تعالى وكامل مرضاته.” (الملفوظات ج1 ص 303)

لقد أوصى مرة جماعته بالإكثار من دعاء: رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (البقرة 202)

قال : “إن التوبة ليست للإنسان شيئا إضافيا لا جدوى منه، ولا يقتصر ظهور تأثيرها على يوم القيامة بل تتحسن بها حالة الإنسان الدينية والدنيوية كلتااهما، وينال الراحة والسعادة الحقيقية في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (البقرة 202)

أي ربنا هب لنا أسباب الراحة والطمأنينة في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضا، ونجنا من عذاب النار. لاحظوا أن كلمة “رَبَّنَا” تتضمن إشارة دقيقة دالة على التوبة، إذ تقتضي كلمة “رَبَّنَا” أن الإنسان قد تبرّأ من جميع الأرباب التي كان قد اتخذها سابقا ورجع إلى هذا الرب. ولا يمكن أن تخرج هذه الكلمة من صميم الفؤاد بدون الحرقة والرقة الحقيقية. ففالرب هو من يتدرج بالإنسان من مرحلة إلى مرحلة أعلى حتى يصل به إلى الكمال، وهو من يربي الإنسان. الحقيقة أن الإنسان يكون قد اتخذ أربابًا كثيرة، فعندما يعتمد كليًّا على حِيَلِه وخُدَعِه فهي تكون أربابه. فلو تفاخر بعلمه أو قوته كان ذلك ربّه، ولو اعتزّ بحسنه أو ماله أو ثرواته فهي تكون ربه. خلاصة القول إن ألوفا من الأسباب المماثلة ملازمة للإنسان، ولا يمكنه معرفة الرب الحقيقي ما لم يتخل عن جميع تلك الأسباب ويتبرأ منها، ويطأطئ رأسه أمام الرب الحقيقي – الذي هو واحد ولا شريك له – ويخرّ على عتبة بابه مردّدًا كلمة “ربنا” بصوت ملؤه الألم والرقة. إنه يعترف بذنوبه أمام هذا الرب بكل حرقة وتفان ويتوب إليه ثم يخاطبه بقوله: “رَبَّنَا”، أي أنت وحدك الرب الحقيقي، فقد كنت مخطئا إذ ظللتُ تائها في أماكن أخرى، أما الآن فقد تخليتُ عن جميع الأصنام الكاذبة والآلهة الباطلة، وأقرّ بربوبيتك بصدق القلب وأرجع إلى بابك.

لا يمكن للإنسان أن يتخذ اللهَ ربًّا له دون اتباع هذه الطريقة. ولا يمكن للإنسان أن يعرف الرب الحقيقي ويقر بربوبيته ما لم يخلُ قلبه من جميع الأرباب الأخرى وعظمتها وتكريمها وتبجيلها. قد اتخذ بعض الناس الكذبَ ربًّا لهم، ويرون أنه لا يمكن لهم العيش بدونه، وبعضهم قد اتخذوا السرقة أو النهب أو الخداع ربًّا لهم ويعتقدون بأنه لا سبيل لهم للرزق بدون هذا السبيل، وهكذا فقد اتخذ هؤلاء تلك الأمور أربابا لهم. لاحظوا إذا كان ثمة سارق ولَديه جميع الأدوات اللازمة للنقب، والوقت وقت الليل المفيد لمطلبه، وليس هناك حارس نبهان، فلا يرى في هذه الحالة سبيلا إلا سبيل السرقة التي يتوقع أن يسترزق من خلالها. فإنه يتخذ أدواته ربًّا له. فمن يعتمد كليًّا على حِيَلِه ويتّكل عليها لا يرى حاجة للاستعانة بالله. إنما يحتاج إلى الدعاء من الله تعالى مَن يجد جميع الأبواب مسدودة أمامه إلا باب الله تعالى، وهو مَن يَخرج الدعاءُ من قلبه. خلاصة القول إن دعاء:

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا …إلخ

يقوم به مَن لا يعرف ربًّا سواه – عز وجل -، ويوقن أن جميع الأرباب الأخرى لا تساوي هذا الرب الحقيقي في شيء.

ليس المراد من النار في قوله تعالى وَقِنا عذابَ النارِ ، هي التي تكون يوم القيامة، بل إن الذي يعيش طويلاً في الدنيا يرى بأم عينه أن هناك أنواع النيران في الحياة الدنيا، إذ يدرك ذوو الخبرة أن ثمة صنوف النيران في العالم ، فشتى أنواع العذاب والخوف والفقر والفاقة والمرض والفشل والذلة والإدبار والمخاوف والآلام والأذى من قِبل الأولاد والأزواج والمشاكل الناشئة بين الأقارب عند المعاملات؛ كلُّها نار. لذا فالمؤمنون يدعون الله تعالى أن يقِيهم هذه النيران بكل أشكالها. يقولون ربنا ما دمنا قد تمسكنا بأهدابك فاحْمِنا من كل هذه الآفات التي تجعل حياة الإنسان مريرةً حتى تصبح كالنار.”

ثم يقول وهو يتحدث عن وعد الله مع الأحمديين الصادقين الذين قد تحدث عنهم قليلاً من قبل أيضًا:

“لقد قال الله تعالى في القرآن الكريم:

  وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

وهذا الوعد الجالب للسكينة قد قُطع مع ابن مريم الذي وُلد في الناصرة، ولكني أبشّركم أن الله تعالى قد خاطبني أنا أيضًا بهذه البشارة نفسها إذ جئتُ حاملاً اسمَ يسوع المسيح ابنَ مريم (يعني أن الله تعالى قد آتاني أنا الذي جئتُ مسيحًا موعودً البشارةَ نفسها) فيمكن أن تفكّروا الآن هل يمكن أن يُعَدّ مِن أتباعي الذين يريدون أن يرثوا بركات هذا الوعد العظيم والبشارة العظيمة قومٌ لا تزال نفوسهم في مرحلة النفس الأمّارة لعَيْشِهم عيشةَ الفسق والفجور؟ كلا، ثم كلا. إن الذين يقدرون وعد الله هذا حقَّ قدره ولا يعُدّون كلامي من قبيل القصص والأساطير، فليسمعوا ويعوا، فها إني أخاطبهم مرة أخرى وأقول لهم: إن علاقتهم معي ليست علاقة عادية، بل هي علاقة عظيمة جدًا، لأنها لا تخصني فقط، بل يصل تأثيرها إلى الله الذي ربطني بذلك الإنسان الكامل المصطفى الذي جاء إلى الدنيا بروح الحق والصدق، بل إني أقول لكم: لو كان تأثير هذه العلاقة منحصرًا في شخصي لما اكترثت ولما فكّرت وما قلقت مطلقًا، ولكن تأثيرها لا يخصني فقط، بل يصل إلى نبينا الكريم بل إلى الذات الإلهي نفسه. وما دام الأمر كذلك، فاسمعو وعوا، إذا كنتم تريدون أن تنالوا نصيبًا من هذه البشارة، وتتمنون أن تكونوا مصداقًا لها، وتتعطشون بصدقٍ لهذا الفوز العظيم أي أن تظلّوا غالبين على الكافرين، فإنما أقول لكم: لن تنالوا هذا الفوز ما لم تتجاوزوا مرحلة النفس اللوّامة إلى منارة النفس المطمئنة. لا أريد أن أزيد على قولي بأنكم قد ارتبطتم بشخص هو مأمور من الله تعالى، فاستمعوا إلى ما يقول بآذان القلوب، واسعوا جاهدين للعمل بها، لكي لا تكونوا من الذين يشترون العذاب الأبدي بسقوطهم في نجاسة الإنكار بعد الإقرار.”

“ليس القوي الذي يزيح بقوته الجبلَ من مكانه، كلا، بل الشجاع الحقيقي هو من يقدر على تغيير الأخلاق. فتذكروا هذا الأمر دومًا وابذُلوا كلّ همتكم وقوتكم في تغيير الأخلاق لأنها هي القوة والشجاعة الحقيقيتَين.”

هذه بعض الوصايا التي قد أوصى بها المسيح الموعود جماعتَه في مناسبات شتى. لقد كانوا ذوي حظ عظيم أولئك الذين نالوا فيوض صحبة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام مباشرة، وسمعوا هذه النصائح من فمه، وإننا أيضًا ذوو حظ عظيم إذ وصلتنا هذه النصائح، وعلينا أن نكون شاكرين لهؤلاء القوم الذين بلّغونا هذه الأقوال، لكي ندرك حقيقة عهد بيعتنا، ونكون من الذين يعملون الصالحات، وينشرون الخيرات مدركين روحها ومغزاها، ونكون من الذين يقومون بالأعمال الصالحة ويسعون دوما إلى المضيّ قُدُمًا فيها باستمرار. لقد هدانا المسيح الموعود إلى سبيل التقوى الحقيقية في هذا العصر، وآتانا فهم التقوى وإدراكها، فمِن واجب كلٍّ منا أن يكون عبدًا شكورًا لله تعالى بسَيْره في سبيل التقوى. وفّقنا الله لذلك.

Share via
تابعونا على الفايس بوك