كمال التقوى.. الإنابة إلى الله و التفاني فيه
التاريخ: 2013-05-03

كمال التقوى.. الإنابة إلى الله و التفاني فيه

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • ما هي التقوى
  • كيفية الوصول إلى مستوى التقوى؟
  • التنشئة التقية منذ البدء
  • التقوى الحقيقية
  • المتقين والفاسقين (تعرض المؤمنين للمصائب الدنيوية)
  • إيثار الدين على الدنيا سبيل التقوى الأمثل
  • اليقين بوحدانية الله سبيل التقوى الكامل

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (الحشر: 19-20)

لقد وضع الله الشرط الأساسي للمؤمن أن يكون متقيا، فقد أنزل الله أوامر كثيرة في عدة آيات من القرآن الكريم وبأساليب مختلفة عن التقوى. ووصف العاملين بتلك الأوامر بالمتقين أو السائرين على دروب التقوى، وحذَّر غيرَ العاملين بها من عاقبتهم. فما هي التقوى إذن؟ إن تعريف التقوى أو ملخصه بكلمات موجزة في القرآن الكريم هو أن تؤدوا حقوق الله وتؤدوا حقوق مخلوقه أيضا لنيل رضاه مقدِّمين رضوان الله على كل شيء، ومؤمنين بأنه الأحد منبع ومصدر كل قدرة وطاقة. لقد بيَّن ذلك سيدُنا المسيح الموعود في أحد المواضع قائلا:

التقوى هي: رعاية عهود الإيمان وأمانات الله قدر المستطاع كالقوى والأعضاء في الظاهر: من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بما فيها العيون والآذان والأيدي والأقدام، وفي الباطن: القلب والقوى الأخرى والأخلاق، وأن يتم استخدامها في محل الضرورة بالضبط، ومنْعها عن المواضع غير الشرعية والتنبّه من هجماتها الخفية وأن تُراعى بالإضافة إلى ذلك حقوق العباد أيضا، فهذا هو الطريق الذي يرتبط به الجمال الروحاني كله.

فكما وجّه الله تعالى أنظار الناس إلى أن يهتمّوا بالحياة الأخروية بأنفسهم، كذلك وجّه أنظارهم إلى تربية أجيالهم القادمة وإلى التسابق في الحسنات والخيرات بدلا من التسابق في أمور دنيوية.

فهذا هو المعيار الذي علَّمَناه سيدنا المسيح الموعود وتوقَّعه منا. قبل بضعة أسابيع أيضا لفتّ انتباهكم إلى أداء حقوق الأمانات والعهود لأن أداءها مرتبط بالإيمان. وكنت تكلمت معكم انطلاقا من واجبات المسئولين، واليوم سوف أتوسع بهذا المضمون. في العصر الحاضر الأحمديون هم السعداء من المسلمين الذين لُفت انتباههم إلى إنشاء العلاقة بالله بهذه الدقة. فمِن منَّة سيدنا المسيح الموعود علينا أنه بيَّن لنا بالتفصيل الطرقَ إلى المدارج السامية التي بالسير عليها يمكن أن ينال المؤمن قرب الله . لا شك أن مستوى الحسنة والفراسة والفهم والعلم لكل إنسان مختلف عن غيره، فلا يمكن أن يكون موحدا لدى الجميع، لذا قد أُمر كل واحد بأن ينجز العهود والأمانات التي قطعها مع الله بحسب قدراته وكفاءاته، فإذا ظل كل مؤمن يسعى لنيل هذه الغاية ببذل المساعي فسوف يعدّ سالكا على مسالك التقوى. فقد أُمِر باستخدام صحيح لكل عضو من يدين ورجلين وأذنين وعينين. فالامتناع عن الأمور التي نهى الله عنها واجب، فهذه الأعضاء المادية ليست لأداء حق المخلوق فقط إذ لم نؤمَر بأداء حق المخلوق فقط، بمعنى أنه إذا لم نؤدّها فسوف نُسأَل عنها، بل هناك كثير من الأعمال التي ليست لها علاقة مباشرة بالمخلوق إذ لا يتضرر ولا ينتفع منها المخلوق. بل إذا أمعنا النظر وتعمقنا وجدنا أن الإنسان نفسه يتضرر بتلك الأعمال، فقد أُمِرنا بإنجاز بعض الأمور ونُهينا عن بعضها الآخر، فإذا اقترف الإنسان ما نهي عنه فهو بذلك يتجاوز الحدود التي حدَّدها الله وبذلك يخالف الحقوق التي حددها له . كما أنه إذا لم ينجز ما أمِر به فقد خرج من طاعة الله وارتكب المعصية. فالإنسان يبتعد عن التقوى بتجاوز حدود الله نتيجة ارتكاب ما نهى الله عنه أو الامتناعِ عن ما أمر الله به. وحيثما يبتعد عن التقوى يسقط في حضن الشيطان باستمرار. ولذلك قال سيدنا المسيح الموعود : ليس على المؤمن ألا يعصي الله فقط بل يجب أن ينتبه إلى هجمات الشيطان الخفية أيضا. يجب أن يكون التفاتُه دوما إلى هجمات الشيطان حتى لا يتعرض لها بسبب عدم الانتباه ولكي يحمي نفسه منها. ومعلوم أن أساليب الشيطان للهجوم متنوعة، فالكثير من مبتكرات العصر الحاضر تضر الإنسان، إذ هي تُستخدَم في أعمال تُعرِّضه لهجوم الشيطان وتُبعده عن طرق العبادة وتؤثر في الأخلاق سلبيا -بدلا من استخدامها في الأهداف النبيلة-. فالإنسان يعتقد في الظاهر أن هذه شئونه الشخصية فلا يُهم أحدا إذا كان يقامر أو يشاهد الأفلام السيئة على الانترنت أو في التلفاز ليلا متأخرا أو ينشغل في أعمال من هذا القبيل، ففي زعمه يجب أن لا تُهمَّ أحدًا تلك الأعمالُ والتصرفات، لأنها لا تضر أحدا مباشرة. لكن العمل السيئ الذي لا ينسجم مع رضوان الله ويعارض مشيئته هو يُبعده عن عبادة الله ويصرفه عن أداء حقوقه وحقوق العباد أيضا. فالخمور والانترنت والقمار والأفلام الخليعة ورفقة السوء في هذه البلاد إذا كانت تُفسد البيوت والعائلات من ناحية فمن ناحية أخرى هي تسيِّر الشباب والمراهقين على طريق السوء وبذلك تَصرفهم عن الله وتجعلهم آفة للمجتمع، فهؤلاء يشكِّلون مرضا مستديما.

يقول الله إن استخدامكم الصحيح لكل عضو منكم وفكرة بحسب مرضاة الله وفي محلها الصحيح سيزيدكم اتقاءً، أما إذا خالفتم ذلك فسوف يدفعكم إلى حضن الشيطان. فالذي يسقط في حضن الشيطان من المؤكد أن يكون من الخاسرين: ففي هذه الآيات التي سمعتم ترجمتها قد أمرنا الله بالتحلي بالتقوى بعد الإيمان. أي أيها المؤمنون تحلَّوا بالتقوى، ينبغي أن لا يكون مبلغ همّكم هذه الدنيا وملذاتُها وسهولاتُها ورفاهيتها، بل يجب أن تنظروا ما هي الأعمال التي أنجزتموها ابتغاء مرضاة الله؟ إنما الأعمال التي تحرزونها من أجل الفوز برضوان الله ستنفعكم في الآخرة، أما ملذات الدنيا وبريقها وسهولاتها ورفاهيتها فسوف تبقى في هذه الدنيا.

فاستعرضوا أوضاعكم على الدوام، لأن أصل الذنوب هو أن الإنسان يتغافل عن أعماله وينسى الله. فإذا كنتم تريدون أن ترثوا إنعامات الله في الحياة الخالدة في الآخرة فثمة حاجة ماسة للبحث عن سُبل رضوانه بالإيمان الكامل بالله، ثمة حاجة لمعرفة الغاية من خلْقكم. فالآية الأولى من الآيات التي تلوتها عليكم هي من الآيات التي تُقرأ بمناسبة عقد القران. فكما وجّه الله تعالى أنظار الناس إلى أن يهتمّوا بالحياة الأخروية بأنفسهم، كذلك وجّه أنظارهم إلى تربية أجيالهم القادمة وإلى التسابق في الحسنات والخيرات بدلا من التسابق في أمور دنيوية.

فإذا كان إيمانكم ضعيفًا وإضافة إلى ذلك لا تنتبهون إلى إصلاح أنفسكم فلا بد أن تسود حياتكم القلاقلُ وعدم الطمأنينة. ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل سيعدّ مثل هؤلاء الناس من الفاسقين. ومعنى الفاسق في هذا السياق هو مَن يعاهد على الالتزام بأحكام الشريعة ثم يخالف بعضها أو كلها.

الآية التي استهللتُ بها خطبتي من الآيات التي تُتلى بمناسبة النكاح، وبذلك لفت الله الانتباه إلى أنه إذا كان أولادهم صالحين سيسعون للحصول على رضا الله تعالى وبذلك يحسِّنون دنياهم وعقباهم، وكذلك إن أعمالهم الصالحة وأدعيتهم في حق الوالدين ستكون سببا لرفع درجاتهم في العالم الآخر. فيقول الله تعالى بأن عليكم أن تتذكروا جيدا بمناسبة الزيجات أن راحة الدنيا وملذاتها ومتعتها آنية وفانية. والزواج والعلاقات الدنيوية كلها تمثّل ملذات مؤقتة، إن المتعة الحقيقية تكمن في نيل رضا الله تعالى الذي يحظى به المؤمن في هذه الدنيا ويأكل ثمارها الطيبة في الآخرة أيضا. فقد حذَّر اللهُ تعالى المؤمنين مرة بعد أخرى وبأساليب مختلفة ألا ينسوا الله وأن يعتصموا بالتقوى ويكسبوا أعمالا تحسِّن دنياهم وعقباهم أيضا. وليسعوا لنيل رضا الله تعالى في هذه الدنيا والآخرة أيضا، وليعلموا أن الله بما يعملون خبير، ولا يخفى عنه أعمال الإنسان صغيرة كانت أو كبيرة، بل يُكتب كل عمل من أعماله. لذا يجب على الإنسان أن يكون حذرا جدا في كل خطوة يخطوها وفي كل عمل يكسبه في هذا العالم. لا يكفي الإيمان وحده أو مجرّد الادّعاء بالإيمان بل لا بد من البحث عن سبل التقوى والسلوك عليها.

ذات مرة قال المسيح الموعود في مجلس:

الحياة الحقيقية في الإسلام تقتضي موتا مُرّا. ولكن الذي يقبله يحيا في نهاية المطاف. لقد ورد في الحديث الشريف أن الإنسان يحسب رغبات الدنيا وملذاتها جنةً بينما هي جحيم في الحقيقة. السعيد يقبل المعاناة في سبيل الله وهي التي تمثّل الجنة في الحقيقة. لا شك أن الدنيا فانية، لقد وُلد كل إنسان ليموت، ويأتيه الوقت في نهاية المطاف حين يفارقه الأصدقاء والمعارف والأقارب كلهم. عندها تظهر كل أنواع السعادة والملذات غير المشروعة بصورة أنواع المرارة. لا يحظى الإنسان بالراحة والبحبوحة الحقيقية إلا بالتقوى. والاعتصام بالتقوى إنما هو بمنـزلة تناول كأس السم. (أي هو صعب جدا) إن الله تعالى يهيئ للمتقي كافة أسباب الراحة والسكينة. (أي عندما يتقي الإنسان يهيئ له كل نوع من الراحة) فيقول: من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. فالسر الحقيقي للحصول على الراحة هو التقوى، ولكن لا يجوز أن تضعوا شروطا للحصول على التقوى، بل عليكم أن تعتصموا بالتقوى لتنالوا كل ما تسألون. إن الله رحيم وكريم، فاتقوه سيعطيكم كل ما تسألونه.

أي يجب ألا يضع المرء شروطا أني سأكسب الحسنات إذا أعطاني الله كذا وكذا. بل عليكم أن تكسبوا الحسنات واتقوا الله، واسعوا لنيل قرب الله، عندها تتولد مع الله صلة فيعطيكم كل ما تسألون.

أي يمكن للإنسان أن يحظى بالإنعامات كلها نتيجة سلوكه مسلك التقوى، ولكن علينا أن نحاسب أنفسنا دائما وفي كل حين وننتبه إلى أننا عاهدنا بإيثار الدين على الدنيا، وبالبيعة على يد المسيح الموعود عاهدنا بالسلوك على مسالك التقوى لذا يجب أن يكون هناك انسجام كامل بين قولنا وفعلنا.

يقول المسيح الموعود : إن مرحلة التقوى صعبة جدا ولا يمكن أن يجتازها إلا من يمشي على طرق مرضاة الله، ويعمل ما يبتغيه الله تعالى دون أن يتبع رغباته الشخصية. وإذا أراد أحد الحصول عليها بالتكلف لن ينجح. (أي التقوى ليست بشيء يُنال بالتصنع، هذا مستحيل) بل يُنال بفضل الله فقط. ويحظى بها الإنسان إذا استمر في الدعاء والمجاهدة معا لأن الله تعالى أكّد على الدعاء والسعي أيضا. ثم يقول : لا يمكن لأحد أن يتطهر ما لم يطهره الله. فعندما تخر روحه على عتبات الله بالتذلل والتواضع عندها يقبل الله دعاءه ويصبح المرء تقيا أيضا ويكون قادرا على أن يفهم دين رسول الله . (فيجب أن تتواضعوا وتتمسكنوا، ولهذا الغرض أيضا هناك حاجة إلى فضل الله تعالى، وهذا الهدف يُنال نتيجة فضل الله تعالى فقط. وعندما يحظى الإنسان بالتقوى عندها فقط يقدر على فهم دين رسول الله وحقيقة الإسلام)

والذي يدّعي الاعتصام بالدين بغير ذلك ويقوم بالعبادات وكانت عبادته تقليدا محضا وأفكارا بحتة إذ يقوم بها تقليدا لآبائه فقط. (أي يتبع ما يقوله آباؤه وأجداده، وإلا فيحسب نفسه مسلما لأنه وُلد في بيت المسلمين ويحسب نفسه أحمديا لأنه وُلد في بيت الأحمديين، ويعمل كل شيء كتقليد فقط. بل الحق أن الأصل هو التقوى، والتقوى تُنال بالسعي والعمل والتواضع والمسكنة والدعاء)

يتابع المسيح الموعود ويقول: إنه يعمل كل شيء تقليدا لآبائه فقط دون أن تكون فيه الحقيقة والروحانية، ولا تنشأ فيه الروحانية قط. ثم يقول : اتقوا الله لأن البركات الإلهية تنـزل نتيجة التقوى. والمتقي يُنقذ من البلايا الدنيوية.

لا شك أننا نرى أفضال الله تعالى نازلة على الجماعة من حيث الجماعة ونرى الجماعة تتقدم أيضا ونلاحظ معاملة الله الخاصة معها، ونشاهد كيف ينقذها الله من براثن الأعداء في ظروف معادية للغاية أيضا. وهناك عدد لا بأس به من أفراد الجماعة الذين يسلكون مسالك التقوى ويتحرون رضا الله تعالى. ولكن ينبغي على الجميع أن يصل – بعد عقد عهد البيعة على يد المسيح الموعود – إلى مستوى رفيع من التقوى وينال قرب الله تعالى كما يليق بالمسلم الحقيقي، وكما كان المسيح الموعود يتوقعه منا. فما هو ذلك المستوى يا تُرى؟ المستوى المطلوب هو أن نذكر الله تعالى دائما. يقول الله تعالى إنكم إذا نسيتموه فلن تضروه شيئا لأن نسيانكم اللهَ لا يضره قط، وإنما تضرون أنفسكم نتيجة هذه الغفلة. والحق أنه لا ينسى اللهَ إلا ضعاف الإيمان أو الذين لا إيمان لهم أو الذين ينسون أنهم سيمثلون أمام الله يوما، وبالتالي يكتسبون أعمالا تؤدي بهم إلى انحطاط حالتهم الأخلاقية والروحانية، فيقدِّمون الدنيا على الدين، بدلا من أن يقدموا الدين على الدنيا. ولكن ما هي المعاملة التي سيتلقاها الناس الماديون مثلهم في الآخرة، هذا ما يعلمه الله وحده. ولكن ما نعلمه هو أنهم يفسدون راحتهم وطمأنينتهم القلبية في هذه الدنيا أيضا بسبب انهماكهم في مشاغل دنيوية فقط. لقد رأينا الكثيرين الذين إذا أصيبوا بخسارة مالية أو دنيوية فإنهم يحزنون عليها لدرجة يمرضون فلا يصلحون بعد ذلك لأي شيء. فيقول الله تعالى بأنكم تدّعون الإيمان ولا تسعون للالتزام بسبل التقوى، تدعون الإيمان ولا تنتبهون إلى أداء حقوق الله تعالى وحقوق عباده، مما يدل على أن إيمانكم بالله تعالى ليس كاملا. فإذا كان إيمانكم ضعيفًا وإضافة إلى ذلك لا تنتبهون إلى إصلاح أنفسكم فلا بد أن تسود حياتكم القلاقلُ وعدم الطمأنينة. ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل سيعدّ مثل هؤلاء الناس من الفاسقين. ومعنى الفاسق في هذا السياق هو مَن يعاهد بالالتزام بأحكام الشريعة ثم يخالف بعضها أو كلها. وإذا أمعنا النظر في المواضع الأخرى من القرآن الكريم أي في تلك الآيات التي وردت كلمة الفاسق فيها نرى أن معناها الكفر بالنعم الإلهية والخروج عن إطار الطاعة. وعليه فمن يكفر بنعمة الله تعالى فسيعدّ من العاصين الذين يخرجون عن إطار الطاعة، ويُعدّ من الفاسقين والمنحرفين الفاسدين.

الأوثان ليست فقط تلك التي تُصنع من ذهبٍ أو فضة أو نحاس أو حجارة وتُعبد بصورة ظاهرية، بل إنّ كلّ شيء، وكلّ قول، وكلّ عمل يُعطَى أهميةً لا تليق إلاّ بالله عز وجل وحده، لهو وثن عند الله تعالى….

لقد عاهدنا ببيعتنا للمسيح الموعود أننا سنوثر الدين على الدنيا أيًا كانت الظروف، وأننا لن ننسى أحكام الله تعالى أبدًا. وهذه منة الله تعالى على كل أحمدي أنه قد أعطاه نصيبًا من تلك النعمة التي أنزلها في صورة المسيح الموعود من أجل مواصلة مهمة النبي ولتجديد الإسلام. إن النبوة لأعظم نعمة من بين النعم كلها ولكننا نرى في المسلمين الازدواجية والفصام تجاهها بحيث يدعون الله تعالى لنيلها ثم يكفرون بها أيضا. ونحن سعداء إذ منّ الله تعالى علينا فوفقنا لقبول هذه النعمة التي كانت مقدّرة أن تعطى بواسطة اتّباع النبي ، وهكذا دخلنا في عداد الحائزين على نصيب مِن هذه النعمة. ولكن ينبغي أن نتذكر أنه لا يسعنا نيل حظّ من هذه النعمة ولا يمكن لنا أداء شكر الله تعالى عليها ما لم نعمل وفق أوامر المسيح الموعود وما لم نسعَ جاهدين لتحقيق آماله فينا، وبدون ذلك سنُعدّ من الذين ينسون الله تعالى ويغرقون في متاهات غفلتهم، فينالون سخط الله تعالى وغضبه. يجب ألا يغيب عن البال أنه قد بُعثَ المسيح الموعود خادمًا للنبي من أجل إقامة التوحيد وإثبات وجود الله البارئ؛ فلن تُقام التقوى الحقيقية إلا إذا كان اليقين كاملا بوحدانية الله تعالى، وكان رضا الله تعالى هو المطلوب الحقيقي للمؤمن ومقصوده، وتفانى الإنسان في وحدانية الله تعالى. وبعد كل هذه الأمور تتولد التقوى الحقيقية في الإنسان.

يقول المسيح الموعود :

“التوحيد ليس مجرّد أن تقول “لا إله إلاّ الله” بلسانك في حين أنّك تُخفي آلاف الأوثان في قلبك. بل كلّ من يعظّم عمله أو مكره أو خدعته أو خططه بالقدر الذي يعظّم به الله تعالى؛ أو يعتمد على شخص آخر بالقدر الذي كان ينبغي فيه التوكل على الله وحده؛ أو أنه يعظم نفسه بالقدر الذي يجب أن يعظم به الله وحده، فهو في جميع هذه الحالات عابد للأوثان عند الله تعالى، لأن الأوثان ليست فقط تلك التي تُصنع من ذهبٍ أو فضة أو نحاس أو حجارة وتُعبد بصورة ظاهرية، بل إنّ كلّ شيء، وكلّ قول، وكلّ عمل يُعطَى أهميةً لا تليق إلاّ بالله عز وجل وحده، لهو وثن عند الله تعالى…. تَذَكّروا أنّ وحدانية الله التي يريد الله منّا الإيمان بها، والتي يتوقف عليها الخلاص والنجاة إنّما هي الإيمان بأنّ الله منزّه في ذاته عن كلّ شريك، سواء كان وثنًا أو بشرًا أو شمسًا أو قمرًا، أو نفس الإنسان وذاته، أو مَكْرَه أو خداعه؛ وكذلك ينبغي للإنسان ألاّ يَعُدّ أحدًا قادرًا مثل الله، وألاّ يعُدّ أحدًا رازقًا غير الله، وألاّ يحسب أحدًا قادرا على أن يعزّه أو أن يذلّه، وألاّ يعدّ أحدًا ناصرًا أو معينا؛ كما أن عليه أن يخلص حبَّه وعبادته وخضوعه وآماله وخوفه لله وحده.” (فهذا هو المعنى الحقيقي للتوحيد أن يؤمن العبد بالله تعالى معزًّا ومذلاًّ حقيقيًا، فإن الله تعالى وحده يهب العزة ولكن إذا فسدت أعمال الإنسان فإنه يخزيه ويذله أيضا. ثم قال حضرته بأن التوحيد ألا يحسب الإنسان أحدًا ناصرًا ومعينًا حقيقيًا غير الله تعالى، ويخلص العبادة والتذلل له. يخضع البعض أمام الناس الآخرين ولكن هذا أمر غير لائق، والمطلوب هو أن يكون تواضعكم وتذللكم لله تعالى، وينبغي أن تعقدوا الآمال به وحده ولا تخافوا إلا هو. ثم قال حضرته:) “ولا يمكن أن تكتمل وحدانية الله من غير الخصائص الثلاث التالية:

أولا، توحيد ذات الباري – أعني أن نعدَّ الأشياء الموجودة كلّها كالمعدوم بالمقارنة مع الله تعالى، وأن نعدها هالكة الذات وباطلة الحقيقة. (أي أن كل شيء هالك، ولاحقيقة له)

ثانيًا، توحيد صفات الباري- أعني عدم الإقرار بالربوبية والألوهية إلا لذات الله، (أي أن الله تعالى هو وحده الرب وهو الجدير بأن يُعبد) وأنّ الآخرين -الذين يبدون في الظاهر رازقين ومحسنين- كلّهم ليسوا إلا جزءًا من النظام الإلهي الذي وضعه اللهُ وصنعه بيده تعالى. (أي مِن الناس أيضا مَن يفيد في الظاهر أو ينفع الآخرين منافع دنيوية، وقد جعلهم الله تعالى ذريعة لإفادة الآخرين، فإنهم يفيدون ويصبحون ذريعة للربوبية في نطاق ضيق، وليس كل هؤلاء إلا جزء من نظام وضعه الله تعالى بيده. فينبغي الإيمان بأن الله تعالى قد جعلهم ذريعة لإفادة الآخرين، ولا يملكون قدرة ذاتية على العطاء والإفادة، بل جُعلوا ذريعة لنفع الآخرين.)

ثالثًا، توحيد الحب والإخلاص والصفاء – أعني ألاّ نجعل أحدًا شريكًا لله في حبّنا وعبادتنا له والتفاني فيه – عز وجل.”

أي أن يتفانى العبد في توحيد الله تعالى وعبوديته. فلا يقتصر الأمر على عدم إشراكه بالله تعالى وعدم إبدائه الحب والصدق والإخلاص لأحد غيره بل ينبغي أن يتفانى في الله تعالى ويمحو نفسه في ذاته تعالى.

فمن توفرت فيه هذه الأمور دخل في الذين يؤدون حق الله تعالى ويلتزمون بسبل التقوى. لقد قال المسيح الموعود عن كمال التقوى:

إن كمال تقوى الإنسان وذروتها أن ينمحي وجوده. ثم قال: وحدانية الله الحقيقية هي أن يبلغ الإنسان هذا الكمال. أي إذا محا الإنسان نفسه وتفانى في ذات الله تعالى فإنه يبلغ مرتبة الكمال في التقوى، وإن مثل هذا الإنسان يؤمن بالتوحيد الحقيقي، ومن يصل إلى هذه الدرجة فإنه المؤمن الحقيقي بالتوحيد الإلهي. فإن إيثار الله تعالى على كل شيء هو التقوى بعينه وهو الثبات على التوحيد أيضا. وفقنا الله تعالى لنيل هذه الدرجة. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك