في واحة الفيوض الرمضانية
التاريخ: 2013-07-19

في واحة الفيوض الرمضانية

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • رمضان والقرآن
  • التضحية الواجبة وأسوة الرسول
  • تذكيرات شهر رمضان
  • مقومات تحقق الصبر والدعاء
  • القرآن مفتاح النجاة والرقي

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة: 186)

إن شهر رمضان يأتي في حياة المسلم مرات كثيرة، والمسلم العامل يعرف أيضا أن القرآن الكريم بدأ ينـزل في رمضان، كما يعرف المسلم العامل والملّم بالعلوم أن جبريل كان يدارس النبي في رمضان القرآنَ الكريم الذي كان قد نزل إلى ذلك الحين، إلا في العام الأخير من حياته حيث كان قد تم نزول القرآن الكريم وكان قد تلقَّى البشرى من الله

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: 4)،

ففي هذا العام الأخير قال النبي بحسب رواية عائشة رضي الله عنها إن جبريل قرأ معه القرآن الكريم مرتين. فللقرآن الكريم علاقة متميزة برمضان، فحين يأتي رمضان كل عام يلفت أنظارنا إلى أن هذا هو الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، فكأن رمضان يأتي -بالإضافة إلى منح فيوضه وبركاته- ليذكِّرنا أن القرآن الكريم نزل في هذا الشهر. اليوم سوف أتكلم عن الجزء الأول من الآية التي تلوتها عليكم لا عن الجزء الأخير. فرمضان يذكِّرنا أن هذا الكتاب العظيم يتضمن الهدى والإرشاد للناس، وهو يذكِّرنا أن بواسطته كُشف الفرق بين الحق والباطل عن طريق الآيات البينات، ويذكِّرنا أيضا بأهمية الصيام وبالكيفية التي ينبغي أن نصوم بها، كما يذكرنا أيضا أن تعليم القرآن الكريم جامع وكامل.

إن أهمية ما يذكرنا به رمضان من علاقة وثيقة بينه وبين القرآن حين نبحث عن أحكام القرآن الكريم ببذل المساعي في هذا الشهر، فرمضان يذكرنا ويلفت أنظارنا إلى أن نطبق أحكام القرآن الكريم على حياتنا بعد اكتشافها ونجعلها جزءا لا يتجزأ من حياتنا ….

لكن التذكير بكل هذه الأمور لا يفيد إلا إذا كنا نعي روح هذا التذكير. وإلا فرمضان يأتي كل عام وسيظل يأتي، وكلما يأتي يذكِّر بالعلاقة المميزة بينه وبين القرآن الكريم وسنظل نفرح بالاستماع إلى هذه الأهمية، ولكن لن ينفعنا هذا التذكير إلا إذا طبقنا هذه الأهمية على أعمالنا. فلن يتحقق هذا الهدف إلا إذا أمسكنا القرآن الكريم فور الاستماع إلى آية

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

واهتممنا بقراءته أكثر فأكثر، فلن يتحقق الهدف من تذكير رمضان هذا إلا حين نسعى جاهدين لإدراك مطالب القرآن الكريم وتدبُّرها في هذه الأيام، لكي تنكشف علينا حقيقة “هدى للناس”.

إن أهمية ما يذكرنا به رمضان من علاقة وثيقة بينه وبين القرآن حين نبحث عن أحكام القرآن الكريم ببذل المساعي في هذا الشهر، فرمضان يذكِّرنا بأن نتحرى أحكام القرآن الكريم، رمضان يذكرنا ويلفت أنظارنا إلى أن نطبق أحكام القرآن الكريم على حياتنا بعد اكتشافها ونجعلها جزءا لا يتجزأ من حياتنا، رمضان يذكِّرنا في ضوء تعليم القرآن الكريم أن نبذل الجهود أكثر من ذي قبل لتأدية حق الله، وهو لا يتم إلا بأداء حق عبادته، وهذا الحق لا يؤدَّى إلا بأداء الصلاة بانتظام وفي مواعيدها وبكامل الشروط، وأدائها ابتغاءَ مرضاة الله ثم بالتركيز على النوافل والذكر الإلهي. فاسعوا لأداء هذا الحق لكي تقتربوا إلى الله أي لتنالوا قربه I، لكي تزيلوا البعد بين الله وعبده. رمضان يذكِّرنا بالاعتصام بالحبل الذي أحدُ طرفيه بيد الله وأدلى به إلى الأرض لمن يتحرى قربه من عباده، فمن أمسك به وصل إلى الله. رمضان يذكِّرنا بقول الله “فإني قريب” فنالوا الفيض من هذا القرب برفع معايير عبادتكم. رمضان يذكرنا ببذْل المساعي لأداء حقوق العباد أكثر من ذي قبل، فاسعوا لأداء جميع الحقوق الواردة في القرآن الكريم للعباد. لقد لفت الله انتباهنا بشدة إلى أداء حقوق الأغيار أيضا، أما اهتمام المسلمين بأداء حق بعضهم البعض فالتركيز عليه شديد فقد وُصِفوا بأنهم رحماء بينهم ، لكن الملاحظ أن البعض ينسون حقوق بعضهم بل ينسون حقوق أقاربهم الذين تربطهم بهم علاقة دموية. أحيانا تصلني الرسائل من بعض البنات أن معاملة الوالدين مع الأبناء تختلف عنها مع البنات ولا سيما عندما يقسمون العقار، إذ إنهم يحرمون البنات أحيانا ويعطونه الأبناء. ولأجل إثبات مصداقية موقفهم يسألون البنات: هل لديكنّ مانع من تسليمنا العقار للابن؟ فتكتب إليَّ بعض من هؤلاء البنات أننا نقول استحياءً: لا ضير، ولا اعتراض لدينا على ذلك. وبذلك يزعم آباؤهن أنهم قد حققوا مقتضى العدل والإنصاف. ولكن هذا ليس عدلا بل هو ظلم ومخالفة صريحة لأمر الله تعالى.

ما يحيّرني هو أن هناك آباء في الزمن الراهن أيضا يرتكبون هذا الظلم، ومن ناحية أخرى يسرني أيضا أن هناك بنات في العصر نفسه يضحين من أجل سعادة آبائهن. ولكن يجب على الآباء أن يتذكروا أنه إذا كانت هذه التضحية التي تقدمها البنات أو الأبناء ليست مصحوبة بسعادة قلبية فإنها تجعل الآباء آثمين. فأقول لأمثال هؤلاء الآباء الظالمين أن يخافوا الله، وكذلك يجب على مثل هؤلاء الإخوة الذين يتجاوزون الحدود في الطمع والجشع ويسيطرون على العقارات بالضغط على الآباء ويحرمون أخواتهم أن يتذكروا أنهم يملأون بطونهم نارا. فعليهم أن يخافوا الله تعالى ويصلحوا أنفسهم. على أية حال، رأيت بيان هذا التفصيل ضروريا فبينته. والآن أعود إلى صلب الموضوع وأبين ما هي الأمور التي يجب علينا الانتباه إليها في شهر رمضان الفضيل. فعندما يحل رمضان فإنما يحلّ ليذكِّرنا أن على كل مسلم أن يخلق في نفسه روح التضحية في ضوء تعليم القرآن الكريم، وأن يسعى جاهدا للوفاء بعهده الذي قطعه مع الله تعالى للتضحية بنفسه وماله ووقته وشرفه لحماية خلافة الجماعة الإسلامية الأحمدية، ويجب أن يحاسب نفسه إلى أيّ مدى يفي بعهده هذا وإلى أيّ مدى توجد في نفسه عاطفة للوفاء بهذا العهد، وما هي الأوامر التي وردت في القرآن الكريم عن هذه التضحية؟ وما هي أحكام القرآن الكريم عن التضحية من أجل الآخرين.

يأتي رمضان ليلفت أنظارنا، كم كان سيدنا ومولانا محمد المصطفى يتألم لإنقاذ العالم من الدمار وغضب الله تعالى، وكم دعا النبي في حضرة الله تعالى بالتضرع والإلحاح لهذا الغرض، وكيف ينبغي علينا أن نؤدي هذا الحق؟ ويدخل رمضان المبارك ليذكّرنا أن المهمة التي وكّل الله تعالى بها سيدَنا رسول الله في غار حراء ثم أمره بأن يخرج منه وينجزها هي نشر تعليم القرآن الكريم بأدعية مليئة بالألم والتضرع. فعلينا أن نفكر كيف يمكننا أن ننجز هذه المهمة بحسب أسوة النبي وأمره، وكيف يمكننا أن نعمل بتعليم القرآن الكريم الذي طُلب منا فيه أن ننشر رسالة الله ووحدانيته في العالم باستمرار، وأن ننشر دعوة “هدى للناس” بوجه عام. فشهر رمضان الفضيل يذكّرنا أنكم إذا جعلتم وقائع عزلة النبي في غار حراء نصب أعينكم عندها فقط تفهمون حقيقة تقديم الدين على الدنيا. كذلك يحل هذا الشهر ليذكرنا أنه إذا كنتم تدّعون حب النبي فعليكم أن تسعوا جاهدين للتأسي بكل جانب من جوانب من أسوته . فيأتي هذا الشهر الفضيل ليذكرنا أن نتحرى كيف حاز أصحاب النبي لقب “رضي الله عنهم ورضوا عنه”، لأن الصحابة رضي الله عنهم أيضا أسوة لنا. فيذكِّرنا هذا الشهر بأن نسعى للوصول إلى زمن رسول الله . مما لا شك فيه أننا لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الزمن ماديا ولكن تعليم القرآن الكريم موجود فينا بصورته الأصلية ويسهِّل علينا طرق الوصول إلى ذلك الزمن. يأتي هذا الشهر ليذكِّرنا بأن نخبر العالم أن تعليم القرآن الكريم وحده يضمن إقامة الأمن في العالم على وجه الحقيقة، وأن نخبر العالم كله أن الأسوة الكاملة لإقامة الأمن في العالم إنما هي أسوة رسول الله وحده. ويأتي هذا الشهر ليذكّرنا أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يتحدث عن كل أمر من أوامر الله بالدليل، لذا نحن بحاجة ماسة للتأمل في القرآن الكريم ودراسة تفسيره، وبحاجة إلى الانضمام إلى الذين يقول الله تعالى عنهم في القرآن الكريم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، أي يؤدون حق التلاوة ويؤدون حق التدبر فيه، ثم يؤدون حق العمل أيضا بما قرأوا أو سمعوا أو تدبروا فيه. وإذا كنا لا نؤدي هذه الحقوق فيصبح ادعاؤنا الإسلام مجرد ادعاء فارغ، ونكون من الذين زادوا قلق الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين كانوا سيولدون في الزمن الأخير، وكان من المقدر أن لا يؤدوا حق تلاوة القرآن والعمل به، والذين تنبأ عنهم القرآن كالآتي:

: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .

إذًا إذا كان هذا الشهر الفضيل يبشرنا ببشارات كثيرة، فإنه يلقي علينا مسئوليات كثيرة، ويحذرنا ويذكرنا بأن نفحص أنفسنا باستمرار، فنرى مدى عملِنا بتعاليم القرآن الكريم، ومدى سعينا لإزالة قلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فلن ينفعكم رمضان ولا القرآن شيئًا. لقد بين الله تعالى في القرآن نوعية الأناس والمؤمنين الذين يريد منا أن نكون أمثالهم، وقد قدَّم في القرآن آلاف الأوامر من أجل ذلك، ثم في هذا العصر قد نبّهنا بواسطة المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام إلى إصلاح أنفسنا، وحثّنا على تطبيق تعاليم القرآن الجميلة على أنفسنا.

لقد لفَتُّ أنظاركم بإيجاز إلى بعض ما يوجهنا إليه رمضان والقرآن الكريم من الأحكام التي تبلغ المئات كما قلت، وعلينا البحث عنها وصياغة حياتنا على ضوئها. ولكن هذا لن يتأتى إلا بفضل الله تعالى، فلكي يشملنا بفضله لا بد لنا من الدعاء. وبهذه الفرصة أود توجيه أنظاركم إلى أمرين فقط من مئات الأحكام التي أمرنا الله بها في القرآن، إذ عدّهما من ميزات المؤمن. أذكر هذين الأمرين خاصة لأنهما ضروريان لسلامة علاقاتنا وسلام مجتمعنا، إضافة إلى ما فيهما من نفع حقيقي شأن أحكام الله الأخرى التي إذا عملنا بها قرّبتْنا إلى الله تعالى. وأول هذين الأمرين هو التواضع والانكسار. والحق أنهما حل لكثير من المشاكل. إن من أبرز الخصائص التي وصف الله بها عباده الذين هم مسلمون حقا، والذين يعبدونه حقا، والذين يريدون فضله ورحمته، هو التواضع، حيث قال الله تعالى

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (الفرقان: 64)،

وقال أيضا

: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا (لقمان: 19)،

وقال تعالى

: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (النساء: 37)،

أي أن الله تعالى لا يحب كل متباه ومتفاخر. والإنسان إذا لم يحظَ بحب الله تعالى لم يُقبل منه أي عمل، ولم يشمله عونُه تعالى. ومن ذا الذي يدعي أنه مؤمن بالله تعالى ثم يقول إني لا أبالي إذا كان الله تعالى يحبني أم لا. بالتأكيد لا يفعل ذلك أي عاقل وأي مسلم. ومع ذلك نرى على صعيد الواقع يوميا أن الكبر هو وراء كثير من المشاكل والخصومات. إن الذي ليس عنده كبر، وليس عنده العناد الناتج من الكبر تسير معاملاته على ما يرام. إن الكبر هو الذي يدفع إلى العناد الذي يصعّب الأمور والمعاملات بدلاً من تسهيلها وتيسيرها. إن كثيرا من الخصومات التي ترفع أمامي أجد أن معظمها لا تنتهي بسبب كبر وأنانية وعناد بعض الأطراف. فإذا كان الإنسان يرى نفسه بحاجة إلى حب الله تعالى، ويعدّ نفسه مسلما -عندما أقول مسلمًا فأعني به المسلم الأحمدي قبل غيره- فلا بد له من تجنُّب هذه العيوب.

فشهر رمضان الفضيل يذكّرنا أنكم إذا جعلتم وقائع عزلة النبي في غار حراء نصب أعينكم عندها فقط تفهمون حقيقة تقديم الدين على الدنيا. كذلك يحل هذا الشهر ليذكرنا أنه إذا كنتم تدّعون حب النبي فعليكم أن تسعوا جاهدين للتأسي بكل جانب من جوانب من أسوته .

اعلموا أن الفيوض الرمضانية إنما ينالها المرء إذا كان عاملاً بتعاليم القرآن الكريم، وأن صيام رمضان إنما ينفع المرء إذا كان يعمل بتعاليم القرآن الكريم، لذا فالذين تطول خصوماتهم لمجرد الكبر والعناد والأنانية – علمًا أن الخصومات إنما تنشأ بسبب الكبر والأنانية- فعليهم أن يتواضعوا في رمضان ويمدّوا أيديهم للصلح، ويسعوا لكي يدخلوا في عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، ليحظوا بحب الله تعالى، وهم الذين يحرصون دومًا على رضا الله عنهم ولو تضرروا ماديا.

والأمر الثاني الذي أود توجيه أنظاركم إليه أيضًا ذو صلة بالأمر الأول، ألا وهو الصبر. قال الله تعـالى

: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (البقرة: 46)،

أي اطلبوا العون من الله بالصبر والدعاء. فمن ذا الذي لا يحتاج إلى عون الله تعالى كل حين وآن؟ لا ينال الإنسان هذا العون إلا بالصبر والدعاء. يقول الله تعالى أنه لا يقدر على أداء حق الصبر والدعاء إلا المتواضعون لقوله تعالى:

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة: 46)

أي يصعب تحقق هذا الأمر إلا لمن كان خاشعًا متواضعًا، فهنا جُمع بين الصبر والدعاء ثم جُعلا ذريعة لنيل عون الله تعالى. أي يُنال عون الله تعالى بالتركيز على الدعوات وبالالتزام بالصبر، ولا يتحلى بهذه الميزة إلا المتواضعون، ولا يتسم بميزة التواضع إلا العاملون بأحكام الله تعالى والعابدون له. فإذا تواضع العبد في كل مستويات حياته، وأدّى جميع الحقوق التي بينها الله تعالى ملتزمًا بالدعاء والاصطبار وخرّ على باب الله تعالى وهو في غاية التذلل والخضوع فسينال عون الله تعالى. وإذا استعنتم بالله تعالى فيما يتعلق بحقوق العباد التي ذكرها الله تعالى وتحليتم برحابة الصدر فسترثون أفضال الله تعالى. فلا بد من التواضع الكبير لجذب أفضال الله تعالى الكامنة في العبادات وفي جميع أمور الحياة بشتى مستوياتها. إذا تحقق فيكم هذا الأمر فإن الله تعالى بعده سينقذكم من الخسائر الدنيوية، وينصركم على الأعداء أيضا، ويزيدكم روحانية، ونتيجة لذلك ستتسم علاقاتكم الاجتماعية بالحُسن والجمال، ويوفق العبد لنيل رضى الله تعالى، وهو ما يبتغيه المؤمن وينبغي أن تكون هذه غاية الجميع.

إن كثيرا من الخصومات التي ترفع أمامي أجد أن معظمها لا تنتهي بسبب كبر وأنانية وعناد بعض الأطراف. فإذا كان الإنسان يرى نفسه بحاجة إلى حب الله تعالى، ويعدّ نفسه مسلما -عندما أقول مسلمًا فأعني به المسلم الأحمدي قبل غيره- فلا بد له من تجنُّب هذه العيوب.

فعلينا في رمضان هذا أن نحاسب أنفسنا على ضوء الأحكام والنواهي التي ذكرتها لكم آنفًا لندرك إلى أي مدى خطّطنا في هذا الشهر لإحداث تغيير في أنفسنا بحسب تعليم الله تعالى، وإلى أي مدى تقدّمنا نحو تحقيق هذا الهدف، وإلا فإن رمضان يأتي كل سنة وسيظل الأمر كذلك في المستقبل أيضا، وسنسمع – ما حيينا – كل سنة من خلال مرورنا بهذا الشهر البحوث العلمية المتعلقة بنـزول القرآن في هذا الشهر الفضيل، في حين أن الله تعالى ينبهنا بقوله: هدى للناس إلى أن لا نحصر أنفسنا في الكلمات الظاهرة بحيث نظل منشغلين في البحوث العلمية ونفكر في المراد من نزول القرآن في هذا الشهر، وفي مفاهيم هذه الكلمات! بل ينبغي أن نتعمق في هذه التعاليم ونبحث عن درر الهداية من أجل تحسين دنيانا وعقبانا.

يقول المسيح الموعود :

“اعلموا أن القرآن الكريم مصدر للبركات الحقيقية وذريعة حقّة للنجاة. ومن خطأ هؤلاء الناس أنهم لا يعملون بالقرآن الكريم. ومن هؤلاء الذين لا يعملون بحسب تعاليمه حزبٌ لا يؤمن بالقرآن ولا يحسبه كلام الله تعالى، وبالتالي إنهم بعيدون جدًّا عنه. أما إذا لم يعمل به من يؤمنون بأنه كلام الله تعالى، وأنه وصفة شافية للحصول على النجاة فهو أمر يبعث على التعجب والأسف الشديدين. منهم من لم يقرأ القرآن مرة واحدة في حياته. ومثلُ هؤلاء المتغافلين عن كلام الله تعالى وغير المبالين به كمَثَلِ شخص يعلم علمَ اليقين أن ثمة عينًا صافية عذبة وباردة، ماؤها شفاء وترياق لكثير من الأمراض، ولكن ما أشقاه وما أجهله إذا كان لا يتوجه إلى هذه العين مع علمه ذاك، وعلى عطشه وإصابته بأمراض كثيرة! كان ينبغي له أن يضع فاه على هذا الينبوع ويرتوي بمياهه العذبة الشافية. ولكنه مع علمه فإنه بعيدٌ عنه كمن لا يعرف عنه شيئا، ويظلّ بعيدا حتى يأتيه الموت وينهي أجله. لا شك أن في حالة هذا الشخص عبرة كبيرة وعِظة. هذه هي حالة المسلمين اليوم. إنهم يعلمون يقينا أن مفتاح الرقي والنجاح كلِّه هو القرآن الكريم الذي يجب أن يعملوا به، مع ذلك لا يولونه أدنى اهتـمام.قال حضرته: ينبغي للمسلمين، بل هو ضروري لهم أن يعدّوا هذا الينبوع نعمة عظيمة الشأن وأن يقدروها قدرها. وقدرها أن يعملوا بهذه التعاليم، ثم لينظروا كيف يُبعد الله تعالى عنهم مصائبهم ومشاكلهم. ليت المسلمين يفكرون ويتدبرون في أن الله تعالى قد جعل لهم سبيل خير فليستفيدوا بسلوكه.”

ليت قادة العالم الإسلامي وشعبه يستمعون إلى قول مهدي هذا الزمان ويعملون بتعاليم القرآن الكريم هذه حتى تنتهي تلقائيا أعمال الفتنة والفساد التي يذهب ضحيتها مئات المسلمين يوميا بحيث يضرب بعض المسلمين الآن رقاب بعض. ندعو الله تعالى أن يهب المسلمين العقل ويوفقهم للعمل بتعاليم القرآن الكريم. ولكن المسيح الموعود وجّه النصح إلينا أيضا حيث قال: “اقرأوا القرآن بتدبر ففيه كل شيء من بيان الحسنات والسيئات والأنباء المستقبلية. إنه يقدم دينا ليس لأحد أن يعترض عليه لأن الإنسان يجني من بركاته وثمراته الطازجة كل حين. إن الإنجيل لم يبين الدين بصورة كاملة. من الممكن أن يكون تعليمه مناسبا لذلك الزمن فحسب، ولكنه لا يصلح للأبد ولجميع الحالات. وهذه المفخرة من نصيب القرآن وحده أن الله قد بين فيه علاجا لكل مرض، ونمّى جميع القوى، وبين طرقًا لتجنب السيئات. لذا فثابروا على تلاوة القرآن الكريم، وادعوا الله دائما، واجعلوا تصرفاتكم تحت تعليم القرآن الكريم.”

فهذه النصيحة موجهة لنا أيضا لأنه لا بد لنا من العمل بالقرآن الكريم وتنفيذ تعاليمه والسعي للخضوع لها في جميع أمور حياتنا، وذلك لكي تتحسن دنيانا وعقبانا. وفَّقَنا الله تعالى لجعل تعليم هذا الكتاب العظيم جزءًا من حياتنا فنتمكن من نيل رضى الله تعالى، ونزداد في رمضان هذا معرفةً بالله تعالى وقربًا له أكثر من ذي قبل. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك