نزول الوحي على الأنبياء بالتدريج سنة إلهية ثابتة
  • دلالة الترتيب الموضوعي للقرآن
  • قصور الشرك وحاله، وكمال الوحدانية وأمرها
  • هدف التنزيل التدريجي لأوامر الله
__
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)أَتَى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (2)

شرح الكلمات:

فلا تستعجِلوه: استعجله: طلَب عَجَلتَه ولم يصبر إلى وقته، ومنه يقال: مَرَّ فلان يستعجل أي يكلّف نفسَه العجلةَ. استعجل فلانًا: سبقه وتقدَّمَه (الأقرب).

سبحانه: سبحان الله: أي أُبرِّئ الله من كل السوء براءةً (الأقرب) يشركون: أشرك بالله: جعل له شريكًا (الأقرب)

التفسيـر:

لقد سبق أن أخبرتُ أن الله تعالى قد قال في آخر السورة السابقة أي الحِجر: وإن الساعة لآتية ، والآن قال: أتى أمر الله .. أي أن الساعة قد جاءت تقرع الأبواب. مع العلم أنه من أسلوب القرآن استخدام صيغة الماضي أحيانًا للتأكيد على وقوع الخبر أو على اقتراب موعده. و أمرُ الله يمكن أن يفسَّر هنا بمفهومين: الوعيد الذي تكرر ذكره في السور السالفة، أو الوعد المشار إليه في قوله تعالى: واخْفِضْ جناحَك للمؤمنين ؛ وكلا المعنيين ينطبق هنا في وقت واحد، حيث قيل للرسول : لقد حان هلاك الكفار، كما آن الأوان لأن تربّي أتباعَك بشكل كامل وفي حرية تامة.

وأما قوله تعالى فلا تستعجلوه فله أيضًا مفهومان: الأول: لا حاجة لكم، أيها الكفار، أن تستعجلوا العذاب الآن، فهو قد جاء يقرَع أبوابكم؛ والثاني: كنتم تقولون للمؤمنين: أين هو نظامكم الجديد الذي وُعدتم به، فها قد حان توطيد هذا النظام، فلا داعي لأن تستعجلوه.

إن قولـه أتى أمر الله يبيّن أن هذه السورة شرحٌ للنبأ الوارد في سورة الحِجر السابقة وتكملةٌ لموضوعها. ووجود هذه السورة في هذا المكان من المصحف يكشف أن تدوين السور القرآنية قد تم وفق مواضيعها لا بحسب طولها أو قصرها.. كما يزعم بعض الذين تنقصهم المعرفة الحقيقية. (Everymans Encyclopaedia V. 7 P. 524: Koran)

لقد نزلت سورة النحل في أواخر الفترة المكية من البعثة النبوية حين أخذ المسلمون في الهجرة من مكة نتيجة اضطهاد الكفار وعدوانهم عليهم، وقد تحدثت هذه السورة عن الهجرة بكلمات صريحة.

لقد اختلف المفسرون في تحديد هذه الهجرة: أهي تلك التي تمت إلى المدينة أم إلى الحبشة؟ فقال بعضهم إنها هجرة الحبشة. بينما قال الآخرون إنها هجرة المدينة التي بعث عندها النبيُّ عمرَ إلى المدينة. ويرى غيرهم أنها نفس الهجرة التي خرج فيها النبي قاصدًا المدينة.

وعندي إنها ليست هجرة الحبشة لأنها كانت قد بدأت قبل نزول هذه السورة بعدة سنوات، وأيضا لأن الهجرة إلى الحبشة لا يمكن أن تُعتبر مصداقًا لقوله تعالى أتى أمرُ الله ، لأنه تعالى لم يُظهر جلاله وقهره على الكفار عند تلك الهجرة. كما أن قوله تعالى أتى أمرُ الله يمثّل ردًّا على اعتراضات الكفار التي أثاروها طعنًا في سورة الحِجر، والتي أُثيرت معظمها بعد الهجرة إلى الحبشة. ولذلك كله أرى أن قولـه تعالى هذا نبأ عن هجرة النبي إلى المدينة عن قريب، أو إشارةٌ إلى خروج بعض الصحابة إليها إذ كان خروجهم أساسًا قويًّا لهجرة المدينة. وكأن قوله تعالى أتى أمر الله إيذان بأن تأثير الوحي المشار إليه في السورة السابقة سوف يظهر للعيان في فترة قريبة جدًّا.

وأما قولـه تعالى: سبحانه فالمراد منه أننا يا محمد كنا أمرناك في السورة الماضية: فسبَّحْ بحمد ربك .. أي دعِ النقاش العام وانهمِكْ في تسبيح الله وكشفِ سبوحيته على المؤمنين، فقد آن الأوان لظهور سبوحية الله في الدنيا.

ومما يشكل دليلاً آخر على وجود ترتيب وترابط في مضامين القرآن ومعارفه أن الله وعد في السورة السابقة: وإن الساعة لآتية ، ثم في هذه السورة أخبر باقتراب هذا الوعد فقال: أتى أمر الله . كما أنه تعالى أمر رسوله في آخر السورة السابقة: فسبِّح بحمد ربك ، وبشّره الآن في مستهل هذه السورة قائلاً: سبحانه .. بمعنى أن جهودك التي تبذلها لإظهار سبوحية الله لن تضيع، بل قد حان أن تظهر على يدك سبوحيتُه أي براءتُه من كل ما يثار ضد ذاته تعالى من مطاعن واعتراضات. وكأن قوله تعالى أتى أمر الله رد على الاعتراضات التي كانت ستثار ضد الله تعالى في حالة عدم تحقق قولـه إن الساعة لآتية ، وأما قولـه تعالى سبحانه فيمثّل دحضًا لما قد يثار ضد النبي من اعتراض في حالة عدم تيسُّر الظروف التي تتيح لـه حريةَ العمل بقوله تعالى فسبِّحْ بحمد ربك .

وأما قوله وتعالى عما يشركون فيعني أنه أسمى من أن تحول أعمالهم الوثنية دون نفاذ قضائه، لأن آلهتهم الباطلة لا تقدر على تغيير القرار الإلهي.هذه الآية تكشف جليًّا الفرقَ بين وحي الله الخالص وبين افتراء البشر. ذلك أن أهل الدنيا إذا كانوا ذوي قوة ومنعة هدّدوا دائمًا بأنهم سيأتون بخيلهم ورجلهم، أو إذا كانوا ضعفاء اشتكَوا من قلة الأعوان والأنصار وقالوا: ليس معنا أحد وإلا لفعلنا كذا وكذا. وهذا ما فعَله “البهاء” الذي ادعى الألوهية، وأرجع عدمَ نجاحه إلى كونه وحيدًا قليل الأعوان والأنصار. (المبين ص 286)

ولكن الله الحق يركّز دائمًا على كونه وحيدًا، ويسخَط على الذين يجعلون له شركاء يساعدونه، ويغضَب على الذين يزعمون أن له بنين أو بنات أو وزراء؛ مما يكشف على الدنيا قدرته حقًّا. فبينما تشكو الآلهة الباطلة من قلة الأعوان والأنصار.. يتخذ الإله الحق وحدانيتَه دليلاً على صدقه .

ووجود هذه السورة في هذا المكان من المصحف يكشف أن تدوين السور القرآنية قد تم وفق مواضيعها لا بحسب طولها أو قصرها.. كما يزعم بعض الذين تنقصهم المعرفة الحقيقية.

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (3)

شرح الكلمات:

الروح: راجِعْ شرح الكلمات للآية رقم 30 من سورة الحِجر.

التفسيـر:

الروح هنا تعني الكلام الذي ينفخ الحياة في أهل الدنيا. كما يسمى الأمر بالنبوة أيضًا روحًا. ويُطلَق الروح على وحي الأنبياء والمأمورين لأنه ينفخ الحياة في أهل الدنيا.

علمًا أن الوحي نوعان: نوع يخصّ من يتلقاه فقط، ولا يؤمر صاحبه بنشره بين الناس، وإن جاز له أن يخبر به الآخرين؛ ونوع آخر فيه منفعة الناس، ولذلك يُؤمر صاحبه بنشره بين القوم، بل يُعَدّ مجرماً إذا لم يقم بنشره فيهم؛ وهذا الوحي يتلقاه الأنبياء والرسل، وقد أشير في هذه الآية إلى هذا النوع من الوحي، والدليل عليه قوله تعالى أَنْ أَنذِروا .

وقد أشار بقوله تعالى مِن أمره إلى أمرين: أحدهما أن الملائكة لا يستطيعون إنزال الوحي بأنفسهم، وإنما يَنـزلون بأمر الله تعالى وينـزلون بكلامه الذي أراد أن يبعثهم به. وثانيهما: أن الوحي المقصود هنا ما يكون من أمر الله.. أي يكون مشتملاً على الأوامر والنواهي من عند الله، وهذا أيضًا يؤكد أن الحديث هنا يدور حول وحي النبوة الذي يتلقاه الأنبياء عليهم السلام.

الذين يعترضون على النبي بقولهم: إن نـزول القرآن شيئًا فشيئًا دليل على كونه من افتراء محمد، إذ كان يؤلفه من عنده بحسب الحاجة. والحق أن قولهم هذا دليل على جهلهم الشديد بسنة الله مع أنبيائه الجارية على مر العصور. إذ ليس بين الأنبياء أحد عرَض على الدنيا كتابه الكامل دفعة واحدة.

ثم إن قوله تعالى مِن أمره إشارة إلى قوله أتى أمر الله ، وكأنه قال: إن إتياننا بأمرنا هو من سنتنا المستمرة مع الأنبياء جميعًا، فإننا نرسل إلى كل منهم الملائكةَ بوحينا الذي يشتمل على أمرنا أي على قرارنا بهلاك الكفار وازدهار المؤمنين. فما من نبي إلا ويأتي بخبر هلاك قوم ورقي قوم آخرين.

كما أن قوله تعالى مِن أمره يؤكد ضرورة الإيمان بكل نبي، لأن وحي النبوة يحتوي على الأوامر الإلهية، فإنكار أي نبي ليس إنكارًا لـه فقط، بل هو إنكار لله الذي أنزل عليه ذلك الوحي.

وقد تكون مِن الواردة في قوله تعالى ينـزّل الملائكةَ بالروح مِن أمره بعضيةً، والمراد أننا لم ننـزل أحكامنا كلها في وقت واحد وعلى نبي واحد، بل أنـزلناها على أنبياء كثيرين في عصور مختلفة بحسب حاجاتها ومقتضياتها. فلا قيمة لاعتراض الكفار: ما الداعي لبعث محمد رغم مجيء كثير من الرسل من قبل؟ فكما حدث في الماضي أن مسّت الحاجة لبعث نبي رغم مجيء كثير من الأنبياء من قبل كذلك قد مسّت الحاجة لبعث محمد رغم الأنبياء السابقين.

أما العباد المذكورون في قوله تعالى على من يشاء من عباده فهم عباده الذين يعبدونه حقًّا، وليس كل واحد من البشر. وفيه تنبيه من الله إلى أن النبوة – رغم كونها هبة إلهية – لا يتشرف بها إلا الذين هم عباد الله حقًّا. وكأن هبة النبوة أيضًا مشروطة بشرط معين وهو أن يكون الإنسان عبدًا حقيقيًّا لله تعالى، وهي ليست من الهبات التي ينالها الناس بدون الوفاء بأي شرط.

وقولـه تعالى مِن عباده دليل عظيم على التوحيد، حيث وضّح أن النبوة لم توهب إلا لمن كان من زمرة عباد الله أي من الموحِّدين لـه. فإذا كان الشرك جائزًا فلم لم نجد بين الأنبياء نبيًّا واحدًا كان عبدا غير مخلص لله تعالى، أي يعبد مع الله آلهة أخرى؟ فمن أقوى البراهين على وحدانية الله أنه لم يأت أي نبي كان مشركًا، فلا ندري بماذا يبرر المشركون عقائدهم الوثنية!

كما أن قوله تعالى على من يشاء من عباده إيماءة إلى أنه لا يجعل أحدًا نبيًّا وفق رغبة الناس واختيارهم، بل يصطفيه بحسب رغبته ومشيئته هو . وما دام الأمر هكذا فلا بد أن يختلف الناس في أمره. فلا قيمة لقول الكفار: لماذا تتعارض أفكارُ النبي ومبادئه مع عقائد القوم ونظرياتهم؟ إن قولهم هذا ليس إلا دليلاً على جهلهم وغبائهم فحسب.

أما قوله تعالى ينـزّل الملائكةَ فاعلم أن من معاني التنـزيل إنزال الشيء بالتدريج ومرة بعد مرة.. وقد بين الله بذلك أن الوحي ينـزل على كل نبي بالتدريج دائمًا. وهكذا فإن هذه الآية تردّ على معارضي الإسلام – ولا سيما الكُتّاب النصارى – الذين يعترضون على النبي بقولهم: إن نـزول القرآن شيئًا فشيئًا دليل على كونه من افتراء محمد، إذ كان يؤلفه من عنده بحسب الحاجة. والحق أن قولهم هذا دليل على جهلهم الشديد بسنة الله مع أنبيائه الجارية على مر العصور. إذ ليس بين الأنبياء أحد عرَض على الدنيا كتابه الكامل دفعة واحدة. إن صحف موسى وأحداث عيسى عليهما السلام كلها تشكّل برهانًا ساطعًا على أن الأوامر والتعاليم التي أعطاها الله الدنيا بواسطة الأنبياء إنما أنزلها عليهم بالتدريج في فترة طويلة. فما يعترض به هؤلاء على نبينا محمد يَرِدُ نفسه على موسى وعيسى أيضًا. ولكن الحق أن اعتراضهم باطل تمامًا، لأن التعليم الإلهي.. الذي يكون مخالفًا للنظريات السائدة في العالم ويهدف القضاءَ عليها والترويجَ لعقائد جديدة.. يجب نزولـه بالتدريج في فترة طويلة، لكي يتمكن الناس من العمل به بسهولة ويسر، ولكي يترسخ في أذهانهم بشكل جيد. وإلى هذا المعنى أشار الله بقوله تعالى في مكان آخر: وقال الذين كفَروا لولا نُزِّلَ عليه القرآنُ جُملةً واحدةً كذلك لِنثبِّتَ به فُؤادَك ورَتَّلْناه ترتيلاً (الفرقان:33).. أي أن الغرض من إنزال القرآن تدريجيًّا أن نقوّي به قلبك.. أي أن تتمكن أنت وأتباعك من استيعاب القرآن بالعمل به جيدا، وأيضًا لكي تزدادوا إيمانًا بسماع الوحي الذي يذكّركم بما قد تحقق من أنبائه السابقة. وأي شك في أن الإشارة إلى الأنباء السابقة المتحققة يزيد المؤمنين القدامى والجدد إيمانًا مع إيمانهم، ولكن إذا اشتمل الوحي على الأنباء من دون الإشارة إلى تحقُّقها فلا يشفي غليل المؤمنين، وإنما يظلّون محتاجين إلى كتب أخرى.

وقولـه تعالى أَنْ أَنذِروا أنه لا إِلهَ إلا أنا فاتّقُونِ خلاصةٌ للتعاليم السماوية جمعاء. ذلك أنه مما لا شك فيه أن تعاليم الأنبياء تختلف في تفاصيلها، ولكنها كلها تتمحور حول محور واحد ألا وهو أن الله واحد؛ وهذا هو ملخص الدين ولبُّه. ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال، قال لي رسول الله : يا أبا هريرة، أَعلِنْ بين الناس: مَن شهِد أَنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ فله الجَنة. فكان أوّلَ مَن لقيتُ عمرُ، فأخَذني إلى رسول الله وقال: أبَعَثتَ يا رسول الله أبا هريرة ليُعلن بهذا بين الناس؟ قال: نَعَمْ. قال: فلا تَفعَلْ، فإني أَخْشَى أَنْ يتَّكِلَ الناسُ عليها، فخَلِّهم يعمَلون. قال رسول الله : فَخَلِّهم (انظر مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أنه من مات على التوحيد دخل الجنة).

الغرض من إنزال القرآن تدريجيًّا أن نقوّي به قلبك.. أي أن تتمكن أنت وأتباعك من استيعاب القرآن بالعمل به جيدا، وأيضًا لكي تزدادوا إيمانًا بسماع الوحي الذي يذكّركم بما قد تحقق من أنبائه السابقة.

وهذا لا يعني أنه لم ير هذا الإعلان ضروريًّا، إنما المراد أن الإعلان قد تم لمن كانوا قادرين على فهم مغزاه، وسوف يدركون أن (لا إله إلا الله) هو إعلان يشمل أحكامَ الشرع كلها، وأما الآخرون الذين سيخطئون فهمه فلا حاجة لإبلاغهم بهذا.

أما قولـه تعالى فاتّقونِ فأصلُه (فاتّقوني)، وهو افتعال مِن وقَى يقي وقاية؛ والمراد: عليكم أن تتخذوني أنا وسيلةً لحمايتكم؛ وليس أن تخافوني كما يخاف الناس من الأشياء الضارة؛ ذلك أن الله نفسه يحبّ العباد ويحثّهم على التقرب إليه سبحانه وتعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك