فلسفة الصيام في الإسلام

فلسفة الصيام في الإسلام

نبيل عساف

  • الصفات الإلهية والتنزيهية
  • الصيام في الإسلام
  • التسامي الروحي بالصيام
  • فرحة الصائم بالعيد

__

قبل الدخول في هذه المحطة الروحية الدافئة، يجدر بنا أن نشير إلى مقدمة لا بد منها تتعلق بالذات الإلهية وصفاتها الأزلية السرمدية، فقد قال رسول الله :” كان الله ولم يكن شيء”. هذا الحديث يدل دلالة قاطعة على أن الوجود المادي من ألفه إلى يائه كان عدماً ولم يكن هناك شيء، وبقدرة الخالق المطلقة وحكمته اللانهائية، ظهر هذا الوجود من العدم، وقد سئل سيدنا علي عن الله فقال بأقل الكلمات وأعظم الدلالات: “قبل كل شيء وبعد كل شيء وليس كمثله شيء”. والجدير بالذكر أن هناك صفات تنزيهية وصفات تمثيلية لم ولن تتعطل ولو عبر الحد الأدنى من الزمن، وإن الروايات التي تناهت إلى مسامعنا أن عدد الأنبياء الذين أرسلهم الله كقدوة ومشرعين بلغ حوالي مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، وهذا بلا شك يدل دلالة واضحة على أن الخالق تجلى بصفته الرحمانية والرحيمية والعدالة في التعامل مع المخلوقات وخاصة الإنسان “بجنِّه وإنسه”. هذا الإنسان الذي حمل الأمانة واستعد للحفاظ على حرية الاختيار كأمانة ليس سهلاً أو ممكناً لمخلوق آخر أن يتحمل هذه المسؤولية العظيمة. وعلى ضوء ذلك فإن كل أمة من الأمم خلا فيها نذير حتى تقوم الحجة على الإنسان وهو مسلح بنوازع الخير ونوازع الشر في فطرته منذ وجوده، حتى تتجلى الحكمة بجانب الرحمة والعدالة وبقية الصفات الإلهية التمثيلية، التي تنعكس على الشريحة الأولى في المجتمع البشري، وهي فئة الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد تجلت هذه الصفات التمثيلية في الإنسان الكامل صاحب الرسالة التشريعية العامة لكل البشر وهو الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وآله، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي حين سئلت عن خُلق الرسول الكريم فقالت على الفور: ” كان خلقه القرآن”. وبهذه الإجابة الرائعة جسدت أخلاق هذا النبي الكريم الذي حمل أمانة التبليغ بكل ما يملك من جهد، وواجه العذاب والتضحيات التي فاقت كل ما تعرض له الأنبياء مثله من الإيذاء، وبما أن رسالة الإسلام التشريعية هي آخر رسالة للبشرية إلى يوم القيامة فمن الطبيعي والمنطقي أن تتميز بنكهة خاصة تليق بهذا العطاء النوراني المتدفق بلا توقف إلى آخر لحظة في هذا الزمن الأرضي. وحين ندخل باحثين متحممين بعطر هذه الرسالة السامية النبيلة، سنشعر بالفيوضات الروحية المنعشة التي تحقق الغاية الأساسية من وجودنا على هذا الكوكب وهي عبادة الله بما يستحق من التكريم والتسبيح والطاعة، وفي هذا اللقاء المقروء، نتوقف عند شجرة الصيام النضرة التي تدفق ظلها وعبيرها الرمضاني المنعش على مر القرون، ومع أن الصيام فرض على كل الأمم عبر الزمان والمكان منذ آدم وإلى رسول البشرية جمعاء محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، حيث كان كل نبي بحكم الظروف الموضوعية لاختلاف الشعوب والأمم مكلفاً بهداية قومه ضمن تجلِّي الصفات التمثيلية لله التي تجعله قدوة حسنة لكل الذين يؤمنون به، ومن الطبيعي أن يكون للصيام المفروض على الأمة الإسلامية نكهة خاصة تتناسب مع خير أمةٍ أخرجت للناس. وقد اختلف الصيام عند الأمم الأخرى بحيث كان بعضها يصوم عن الكلام، وبعضها يصوم عن تناول بعض الأطعمة والبعض كان زمان الصيام عنده يختلف عن غيره من الشعوب، إلى أن جاء الإسلام العظيم ليحمل لنا ركناً عظيماً من أركان الإسلام، وهو صوم رمضان الكريم إضافة إلى صيام التطوع والكفارة الموجود في التشريع بالتفصيل الكامل، وهذا لم يتحقق في صيام الأمم السابقة، ولأنه دين يسر وتيسير فقد أعفى بعض الحالات البشرية من القيام بهذا الفرض، كالمريض والمسافر والمرأة خلال الأوقات المعروفة بالنسبة لحالة المرأة المعروفة، بل اعتبر صيام المعذور بمنزلة التحريم لا الكراهية فقط. وحين نعود إلى سيرة المسيح الموعود “ميرزا غلام أحمد” إمام هذا العصر والحجة على كل الناس، نلاحظ أن علاقته بالصيام كانت علاقة حميمة وصلت إلى حد الصيام التطوعي لمدة ثمانية أشهر بدافع الحب الراسخ لله ورسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله، وقد وصل هذا المبعوث الكريم إلى حد الإلهامات والكشوف الإيحاء المتدفق من الله ، وخلال فترة الصيام التطوعي وفي حالة الكشف، رأى رسولَ الله وسيدَنا علي والحسنَ والحسينَ وفاطمةَ الزهراء رضي الله عنهم جميعاً.

الصيام يؤدي إلى تجليات القلب، وربما تصل الكشوف الرمضانية إلى رؤية الله بعين البصيرة والفؤاد. لأن الأبصار محال أن تصل إلى هذه النعمة العظيمة.وكم هو رائع هذا المهرجان الرمضاني الحولي الذي يحشد المسلمين زماناً ومكاناً في محطة الحب الإلهي بفرح عظيم إلى حد العجز لأية أبجدية على ترجمته إلى حروف وكلمات.

وضمن هذا الكشف آتاه سيدنا علي تفسيره للقرآن الكريم، كما جاء في تدوينه لهذا الكشف. ولو تأملنا في تجاربنا الذاتية لوجدنا أن الصيام عن الطعام يجعل الإنسان قريباً من عالم الروح، لأن الروح في الواقع أهم من الجسد فعلينا أن نهتم بغذاء الروح أكثر من الجسد، وإن أهم مشكلة واجهت الإنسان عبر تعامله مع العقيدة أن اهتمامه أو اهتمام الأغلبية الضالة يتركز على غذاء الجسد إلى حد الإفراط في هذا المجال مما حرمه من القرب من الله الذي فرض الصيام ليكون الجناح النوراني الذي يحملنا إلى فضاء الرضا والنور والمحبة الإلهية الغامرة. والصيام في الدين الإسلامي يحقق حالة التقوى للصائم إيماناً واحتساباً وليس عادة وتقليداً كما هو الحال بالنسبة لأكثرية المسلمين، وللأسف الشديد. وبما أن القرآن الكريم أنزل في شهر رمضان المبارك فمن الجدير بالذكر أن نشير إلى هذا الشهر العظيم ببعض الإشارات لما له من أهمية خاصة، ففيه أنزل القرآن وفيه ليلة مباركة هي خير من ألف شهر وهي ليلة القدر، وفيه ثواب لا يعلمه إلا الله ، حيث قال في الحديث القدسي:”الصيام لي وأنا أجزي به”. فكم هو عظيم هذا الثواب الخاص من الخالق العظيم. وجدير بالذكر أن الصيام يؤدي إلى تجليات القلب، وربما تصل الكشوف الرمضانية إلى رؤية الله بعين البصيرة والفؤاد. لأن الأبصار محال أن تصل إلى هذه النعمة العظيمة. ومعنى هذا أن غاية الصيام الحقيقية ليست الامتناع عن الطعام والشراب، ولكن الغاية الأساسية هي التسامي والتضرع والتقرب من الله ، فهل هناك نعمة أكبر من نعمة القرب من الله، بجذب الرضا والمحبة لمن يمارس الصيام الحقيقي بدافع الإيمان الراسخ إلى حد اليقين؟ وكم هو رائع هذا المهرجان الرمضاني الحولي الذي يحشد المسلمين زماناً ومكاناً في محطة الحب الإلهي بفرح عظيم إلى حد العجز لأية أبجدية على ترجمته إلى حروف وكلمات. ويحضرني في هذه اللحظة ما قيل عن الصائم في هذا الشهر المبارك “للصائم فرحتان، فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء ربه”. وفي آخر هذا الشهر المبارك يشـرق علينا يوم عيد الفـطر بما فيه مـن بهجة وسـرور، ويـسعدني أن أنـهي هذه الرحلة الرمضـانية القصـيرة ببيت من الشعر يقول:

رمضان جاء فرتـل القرآنـا

واعكف لصومك واطلب الغفرانا

أجل أيها الأخ الكريم، إننا مدعوون في هذا الشهر وخاصة الأخوة الأحمديين إلى إعطاء هذا الشهر ما يستحقه من التكريم لأنه خير الضيوف في رحلة الأيام، يزور القلوب بالبشرى والأمل والرجاء بالمغفرة والدخول في جنات النعيم في الدارين دنيا وآخرة، والحمد لله رب العالمين على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وفي الختام أقول: اللهم اجعلنا من أهل جنتك في الدارين، وحقق للجماعة الأحمدية كل ما تصبو إليه من الحب والأمن والأمان لكل الشعوب والأمم تحت شعار:

“الحـب للجـميع ولا كراهـية لأحد”
Share via
تابعونا على الفايس بوك