رسالة الحج في الإسلام
  • الحضارة الإسلامية ونطاقها العام
  • بعض من أقوال المسيح الموعود عن الحج
  • العبد والرياء وفتن الدنيا
  • رحلة الفداء والتضحية
  • الغاية الإلهية من بناء الكعبة

__

إنّ كلمة حضارة، كما يبدو من المعنى الاصطلاحـي، تعود إلى التمدّن والتحضر البشري المتطوّر على مدى العصور وإلى قيام الساعة.والحضارة لها الجناحان منطلقان في فضائي الروح والجسد، هذان الجناحان اللذان أطلقهما الإسلام في فضاء الحرية الدينية ضمن دائرة “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك”، وعلى ضوء هذا المفهوم فإن الدعوة الإسلامية لا تدعو إلى الحجر والحظر على العقل والتفكير حتى تتحقق الحكمة الإلهية من وجود الإنسان على هذه الأرض، ليختار ضمن حرية الاختيار ما يحقق غاية وجوده المؤقت فوق هذا الكوكب للعبور إلى الوجود الدائم بعد الرحيل عن هذا العالم. ولتدعيم هذا الاختيار لم يتركه الخالق رهن العقل المحض والفلسفة والخيال والخرافات فكانت الرحمة الإلهية الواسعة، التي تحلّت في الرسل والأنبياء والرسالات السماوية لكل الأمم والشعوب. حتى لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل، وحتى لا يكون الاختيار صدى للتفكير العقلي البشري الذي يجعل الحظَ الأوفر للأذكياء فقط ويكون الأغبياء بعيدين عن طريق الهداية والفلاح في نهاية المطاف، وهذا المفهوم المنطقي يحقّق العدالة المطلقة في التعامل مع كل شرائح المجتمع، حيث جعل الخالق المطلق غريزة الخير وغريزة الشر في كاتالوج فطري فيه إلهامات الخير والشر، ولكل نوع من هذه الإلهامات الفطرية مملكة خيرها محروس بجنود الله الأوفياء ملائكة السماء الذين كلفهم بتحقيق هذه المهمة، وبالمقابل جعل لمملكة الشر جنودها من الأبالسة والشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم ما يوحون من الإغراءات للخلود إلى الأرض والركض اللاهث خلف الأهواء والشهوات. ولو تأملنا في رسالة الإسلام العظيمة لأدركنا أنها تخاطب الروح والجسد بما يتلاءم ويتناغم مع لغة الروح والجسد حتى يكون الدخول إلى الجنة مرهوناً بالتسامي والتضحية في سبيل الغيب المطلق سبحانه وتعالى، وحتى يكون الدخول في عالم العذاب مرهوناً باتباع الهوى الذي يستسلم صاحبه جهلاً أو غفلةً أو غروراً واستكباراً إلى الحد الذي يجعله يظن أنه بغروره واستكباره لا ينقصه من صفات الألوهية أي شيء، وهناك على مر التاريخ من ادّعى الألوهية ومارس هذا الاعتقاد الخطير على معظم رعيته وأتباعه وبما أننا بصدد الحديث عن ركن من أركان الإسلام الحنيف وهو الحج فعلينا أن ننحني احتراماً للحضارة الإسلامية التي أعطت للوقت قيمة ومكانة لم تتوفر له في كل الديانات والفلسفات على مر التاريخ، فكل مناسكه وشعائره محكومة بمنطق الوقت بكل أبعاده وتداعياته حيث يحاسب أول ما يحاسب عن عمره فيما أفناه وعن ماله فيما أبلاه. وللأسف الشديد أن معظم المسلمين وخاصة في هذا الزمن الجاهلي المخيف أصبح الوقت في حياتهم يقع خارج سلم الأولويات والاهتمام مما جعلهم في ذيل الشعوب تطوراً وتقدماً، بينما استفادت الشعوب الأخرى من حضارة الإسلام كموروث إنساني عظيم ما جعلها تخترق الآفاق وتكتشف الأسرار التي أودعها الله في هذا الوجود لخدمة الإنسان ضمن دائرة القانون الإلهي وهو قانون العلة والمعلول. فالله سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد بمعنى أنه ليس علّةً لمعلول له، ولم يولد بمعنى لم يكن معلولاً لعّلة سبقته في الوجود والإيجاد زماناً ومكاناً،ولكنه خالق الوجود مع قوانينه وموجوداته ضمن قانون الخلق من العدم بما في ذلك قانون العلة والمعلول فهو ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى عما يصفون. والجماعة الإسلامية الأحمدية بفضل الله عزوجل، وفضل مبعوثه الموعود ميرزا غلام أحمد استطاعت أن تفك طلاسم الخرافات والأشباح في ذاكرة الشعوب لتعيد العقول إلى أحضان المنطق والمعقول والمقبول دون شطحات خيالية خرافية لا تسمن ولا تغنى من جوع، وعندما نعود إلى ما كتبه في أركان الإسلام الحنيف يستوقفنا مهابة واحترما لهذا الدين المتدفق بالرحمة والحكمة والمنـطق وحول الحج ومـفهومه عند المسـيح الموعود نقرأ ما يلي من كتاب”مواهب الرحمن ص56″

“ونعتقد بأن الصلاة والصوم والزكاة والحج من فرائض الله الجليل، فمن تركها متعمدًا غير معتذر عند الله فقد ضلّ سواء السبيل.” ومن خطب الاجتماع السنوي عام 1906 للميلاد قال: “وهناك نوع آخر من العبادة وهو الحج، ولكن يجب ألاّ يكون الحج حجّاً ظاهرياً فقط، بأن يأخذ الإنسان ما جمع من حلال وحرام من المال، ويتجه إلى بيت الله الحرام بالباخرة أو غيرها، ويردّد بلسانه فقط ما يردد الناس هناك، ثم يرجع ويفتخر بأن الحاج فلان كلا، فليس الغرض الذي من أجله وضع الله الحج أن يحصل هكذا، والحق أنه من آخر مراحل العبادة والسلوك أن ينقطع الإنسان عن نفسه، ويعشق ربّه، ويغرق في بحر حبه، فالمحب الصادق يضحي بقلبه ومهجته في سبيل حبيبه والطواف ببيت الله الحرام رمز لهذه التضحية وهذا الفداء، وكما أنّ هناك بيتاً لله تعالى على الأرض، فكذلك هناك بيت لله في السماء، وما لم يطف به الإنسان لم يصح طوافه. ونختار ما كتبه المسيح الموعود في سفينة نوح، الخزائن الروحانية مجلد19ص15، حول هذا الموضوع حيث كتب يقول :”فيا جميع أولئك الذين تحسبون أنفسكم جماعتي لن تعَدُّوا جماعتي في السماء، إلا حين تسلكون سبل التقوى بالحق، لذلك فأقيموا صلواتكم الخمس بالخشوع وحضور القلب كأنكم ترون الله، وأتموا صيامكم لله بالصدق،وكل من وجبت عليه الزكاة فليؤدها ومن فرض عليه الحج ولا مانع له فليحج”.

فعلى ضوء ما يقدم ندرك أنّ الإسلام يأبى تظاهر المسلم بالشعائر والمناسك بدافع الرياء والجاه المادي الزائل، ولكنه يسعى دائما لترويض نفسه في ميدان الروح والمبادئ، حتى يكون أهلاً لحبِّ الله والمؤمنين، وأهلاً للعيش بمعية الأنبياء والتابعين في جنة الفردوس في ظل الرضوان الإلهي الغامر الذي لا يمكن لأي خيال أن يتصور ذلك النعيم الذي أعده الله لعباده المتقين حيث لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت و لا خطر على قلب بشر، فلا تدري نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. وإن هذه الدرجة من السمو والتسامي والانسجام مع الخالق والكون والنفس لا يتأتى بالتمني، ولكنه يتحقق بالتطهير الذاتي في كل لحظة فالجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالأهواء والشهوات فليست الجنة سلعة رخيصة لمن هب ودب، ولكنها أغلى السلع بعد رضوان الله . فلنتأمل في هذه الدنيا قاعة الفحص والامتحان والفتنة، وإن الآية الكريمة الأولى في سورة العنكبوت تؤكد هذا المعنى قال تعالى : أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون طبعاً لا فلا بد من اجتياز الفحوص والابتلاءات لتحصيل الدرجة التي يتمناها كل مؤمن. ويحضرني في هذه اللحظة أعظم رحلة في تاريخ الفداء والتضحية حباً في الله تلك الرحلة العظيمة التي قطعها أبو الأنبياء وزوجه هاجر وابنه إسماعيل بنزيف الروح والجسد على مدارج الروح العليا. فطوبى لأبي الأنبياء هذا الموحد العظيم الذي حقق الله دعوته بمجيء خاتم الأنبياء والمرسلين من نسل إسماعيل عليهم السلام،ليقود العالم إلى آخر لحظة في هذا الوجود البشري على ظهر هذه الأرض. وحين نسعى إلى الحج وبالحج، إنما نعيد قراءة هذه الرحلة بالروح والجسد والخشوع والدعاء والتضرع علّ الله يقبلنا في الذين أنعم عليهم من الأنبياء الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وفي “الملفوظات ج8 ص 74” كتب المسيح الموعود يقول: “الكعبة المشرفة، هي بلا شك مهبط التجليات والأنوار والبركات الربانية، وهي بلا مراء، ذات شأن عظيم، لقد تحدَّثت الأسفار القديمة عن عظمتها وقداستها،ولكن هذه التجليات والأنوار والبركات لا تدركها الأبصار الظاهرية وإنما ترى بعين روحانية. ولو كانت تلك العين في الإنسان مبصرة، لعرف ما هي تلك البركات التي تتنزل عند الكعبة. وحول الحجر الأسود في الكعبة المشرفة كتب:”وضع حجر الكعبة (الحجر الأسود) رمزاً لأمر روحاني ولو شاء الله ما بنى الكعبة، ولا وضع فيها الحجر الأسود ولكن من سنّة الله الجارية أنه يجعل إزاء الأمور الروحانية رموزاً مادية تمثلها، وتكون شاهداً ودليلاً على تلك الأمور الروحانية، وقد شيدت الكعبة بحسب هذه السنة الربانية. الحق أن الإنسان مخلوق لعبادة الله ، والعبادة نوعان :الأول :التذلل والتواضع والثاني: الحب والفداء. ولإظهار التذلل والتواضع أمرنا الله بالصلاة، حيث يشترك الجسد مع الروح في التعبير عن التذلل والتواضع، ويكون كل عضو من أعضاء الجسد البشري في حالة من الخشوع والخضوع البدني. وبالنسبة للحب والفداء، حيث يؤثر الجسد في الروح، وتؤثر الروح في الجسد. فكما أن روح المحب تطوف حول المحبوب كل حين، وتضع القبلات عند عتبة داره، كذلك جعلت الكعبة المشرفة رمزاً مادياً للمحبين الصادقين، وكأن الله تعالى يقول لهم: أنظروا، هذا البيت بيتي، وهذا الحجر الأسود حجر عتبتي. ولقد أراد الله تعالى بذلك أن يتمكن الإنسان من التعبير عن مشاعر حبه الجيّاشه تعبيراً مادياً، فالحجاج يطوفون بهذا البيت طوافاً جسمانيا، بهيئة تشبه هيئة من أصابهم الجنون من فرط اشتياقهم ومحبتهم لله تعالى، فيتركون الزينة ويحلقون الرؤوس، ويطوفون ببيت الله في هيئة المجذوبين الوالهين، ويقبلون هذا الحجر على أنه عتبة بيت الله تعالى. هذا الوله الجسماني يولد حبا ولوعة روحانية فالجسم يطوف بالبيت ويقبل حجر العتبة، بينما تطوف الروح حول الحبيب الحقيقي، وتطبع القبلات على عتبته وليس في ذلك أيُّ أثر للشرك بالله تعالى. إذ أن الصديق يقبِّل رسالة صديقه الحميم عندما يتسلمها. فالمسلم لا يعبد الكعبة المشرفة، ولا يستغيث بالحجر الأسود، وإنما يتخذه رمزا مادياً أقامه الله تعالى. وكما أننا نسجد على الأرض، ولا يعتبر هذا السجود لأجلها، كذلك نقبل الحجر الأسود، ولا يكون هذا التقبيل من أجله وإنما هو حجر لا ينفع ولا يضر، ولكنا نقبله لأنه من ذلك الحبيب الذي جعله رمزاً لعتبة بيته سبحانه وتعالى. (جشمه معرفة (ينبوع المعرفة )الخزائن الروحانية مجلد 23 ص99-101)

فالمسلم لا يعبد الكعبة المشرفة، ولا يستغيث بالحجر الأسود، وإنما يتخذه رمزاُ مادياً أقامه الله تعالى. وكما أننا نسجد على الأرض، ولا يعتبر هذا السجود لأجلها، كذلك نقبل الحجر الأسود، ولا يكون هذا التقبيل من أجله وإنما هو حجر لا ينفع ولا يضر، ولكنا نقبله لأنه من ذلك الحبيب الذي جعله رمزاً لعتبة بيته سبحانه وتعالى. (المسيح الموعود)

وجدير بالذكر أننا كجماعة إسلامية أحمدية تعلمنا من مسيحنا الموعود أن ننظر للوجود بعين البصيرة والفؤاد لا بعين البصر التي قد تخدع صاحبها وهو ينظر إلى الحياة في ظاهرها ولا يحاول أن ينظر ما وراء السطور وهذه النظرة الظاهرية قادت معظم المسلمين على مر التاريخ إلى الوقوع في فخ الخرافات التي جعلتهم يتفرقون إلى ثلاث وسبعين فرقة تنجو واحدة وتهلك الفرق الأخرى. فمن هي الفرقة الناجية؟ هذا السؤال الهام يجدر بنا أن نجيب عليه حتى لا نكون في الفرق الضالة بل نكون في الفرقة الناجية بإذن الله، وإن كل الدلالات والإشارات تؤكد أن الجماعة الإسلامية الأحمدية هي الفرقة المطهرة. فليست القضية قضية أهواء شخصية بل هي قضية البحث عن الحقيقة الإيمانية التي تستدعي بذل الجهد والتضحية بكل شيء للوصول إليها. وهذا ما يفعله وفعله الأحمديون منذ تأسيس هذه الجماعة المباركة بوحي من الله إلى مبعوث آخر الزمان المسيح الموعود ظل الحبيب المصطفى صلوات الله وسلاحه عليه وآله. هذا النبي الكريم الذي بشر بالتصريح والتلميح إلى هذا المبعوث من بداية البعثة النبوية الشريفة .وإن من يتلهف للوصول إلى الحقيقة ما عليه إلا المبادرة إلى الوضوء وإقامة صلاة الاستخارة، وحاش لله أن يخذل هذا الإنسان ويتركه رهن الحيرة والضلال والضياع وإنني كواحد من أتباع هذه الجماعة المباركة منذ عام تقريبا لمست بالصلاة مستخيراً أن هذه الجماعة على الحق، وإن عالم المنام فتحه الله على وجداني وبصيرتي فرأيت الآيات والدلالات على صدق هذا المبعوث الإلهي. وحتى لا نخرج عن موضوع المقال رسالة الحج أقول: إنّ رمزية هذه الرحلة المباركة تكمن في إماتة الشهوات والنـزوات في النفس البشرية حتى يعيش ولادة أخرى من شرنقة الطين والتراب والأهواء، إلى بستان الحب الإلهي خاضعين لله بدافع الحب والإيمان والوفاء والانتماء لدين الإسلام الحنيف. فالروح في مفهوم الجماعة الإسلامية الأحمدية هي محور المشاعر الإيمانية وليس الجسد والجاه والمال والمنصب والبنون وزخارف الحياة المادية الزائلة كالسراب حتما عاجلاً أو آجلاً. وإن من يقرأ ما كتبه المسيح الموعود شعراً ونثراً يسعى ولو حبواً على الثلج للمبايعة قبل فوات الأوان عند الرحيل عن هذه الحياة العابرة إلى الحياة الخالدة، والإقامة الدائمة بإقامة الله لها في الآخرة. وكل الشعائر الدينية الإسلامية تسعى لغاية سامية نبيلة وهي حالة الرضا في الدنيا والآخرة ومن المحال أن يتحقق هذا الرضا بدون رضا الله ، وإن رضا الله سبحانه وتعالى لا يتحقق بالتمني وبإنكار مبعوثه في هذا الزمن الذي أعلن عن صدقه ودفعنا للتفكير في الأدلة التي ساقها، وإن من يطلع على السيرة الذاتية لهذا المبعوث وما تركه من الكتب الشعرية والنثرية لا بد أن يقتنع بصدقه إن كان يملك الحد الأدنى من الذكاء إذا كان حسن الظن، وصادق النية في معرفة الحق والحقيقة، وإن رسالة الحج بالمفهوم الأحمدي المحمدي الإسلامي الصحيح تقود الإنسان إلى فيوضات النور الرباني الذي يملأ القلب والروح والجسد والواجدان نشوة لو أدركها الملوك لحاربونا عليها بالسيوف وإنني أخي القارئ بايعت وأنا على أعتاب السبعين من العمر راجيا من الله أن يقبل بيعتي ويغفر غفلتي عبر هذا العمر قبل البيعة المباركة فهو الرحمن الرحيم وهو الغفار الكريم، والكريم إذا قدر عفا فأسأله تعالى أن يقبل توبتي ويهديـنا جميعاً لما يحب ويـرضى. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك