في عالم التفسير
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ  (البقرة :31)

وقد اعترض البعض على قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ كالآتي:

1: لقد استشار الله الملائكة، فهل هو بحاجة إلى استشارتهم؟

2: قد اعترض الملائكة على قرار الله تعالى وقالوا: إن الإنسان سيفسد في الأرض، فلماذا تخلُقه؟ فهل يمكن أن يعترض الملائكة على قرار الله؟

3: لقد وقع ما قال الملائكة؛ أي أن بني آدم قد أفسدوا في الأرض فعلاً، مما جعل قرار الله تعالى عرضةً للاعتراض.

وقبل الرد على هذه الأسئلة أرى لزامًا أن أبين أنّ الفعل “قال” في قوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة…) لا يعني بالضرورة أن الله تعالى عقد اجتماعًا مع الملائكة وتحدث معهم، فقالوا ما قالوا! بل كما بيّنا عند شرح الكلمات أن “قال” لا يُطلق على النطق باللسان فقط، بل يُطلق على ما يختلج في القلب من أفكار أيضا، فقد ورد: “يقال للمتصوَّر في النفس قبل الإبراز باللفظ قولٌ، فيقال: في نفسي قول لم أُظهره”. وقد ورد في القرآن الكريم أيضا: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ (المجادلة 9)، أي أن المنافقين يفكّرون بأنه لو كان محمدٌ رسولَ الله حقًّا فلماذا لا يعذّبنا الله بما نقول ضده؟

كذلك يراد من القول الاعتقاد، حيث ورد في المفردات: “فلان يقول بقول أبي حنيفة”، أي بعقيدته.

كما يطلق القول للدلالة على الأمر الواقع، أي يُسند فعل القول إلى شيء لا يقدر على الكلام، ويكون المراد أنه يتكلم بلسان حاله، كقول العرب: امتلأ الحوض وقال قَطْني، أي امتلأ الحوض وقال كفاني من الماء فلا تملأني أكثرَ. وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصلت 12)، أي ثم توجّه الله إلى السماء والأرض وهما في مرحلة دخانية مِن خلقهما وقال لهما أطيعا أوامري طواعيةً أو جبرًا، فقالتا: نطيعك طواعية. فقول الله لهما بمعنى تسخيرهما، أي أن الله تعالى قد خلق الأرض والسماء بحيث إن أجزاءً منهما تطيع الله تعالى طواعيةً، وأجزاء أخرى منها (بعض الناس مثلا) تطيعه جبرا. فجواب السماء والأرض هنا إنما هو قولٌ بلسان حالهما، وليس أنهما تكلّمتا ونطقتا فعلاً. وقولهما أَتَيْنَا طَائِعِينَ يعني أنهما خاضعتان لسنن الله كليةً.

وقد يكون السبب وراء قولهما أَتَيْنَا طَائِعِينَ أن المخلوقات التي لا تطيع القوانين الإلهية طواعيةً ورضًا هي أقلّ عددًا من التي تطيعه تعالى برضا وطواعية. أو أن سبب ذلك أن جواب الفئة الأخرى من المخلوقات حُذف لكونه مفهومًا من السياق. ومن أساليب اللغة العربية التي قد كثر استعمالها في القرآن الكريم أيضا حذف ما يدل عليه السياق تلقائيا، كقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (النحل 82)، أي جعل الله قمصانا أو ثيابا تحميكم من الحرّ، وقد حُذف هنا ذكر وقايتها من البرد لكونه مفهومًا ضمنيًا.

وتُستعمَل في العربية كلماتٌ أخرى سوى القول للتعبير بلسان الحال عن وقوع أمر، فمثلا قال الله تعالى في القرآن الكريم فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ (الكهف 78)، أي فوجد موسى وصاحبُه في القرية جدارًا موشكًا على السقوط، فقام موسى بإصلاحه. وقد قيل هنا إن الجدار كان “يريد” أن ينقضّ، والمراد أن حالة الجدار كانت تدل على أنه وشيك السقوط.

وقد قال الإمام أبو المنصور الثعالبي: “مِن سنن العرب أن تعبّر عن الجماد بفعل الإنسان، كما قال الراجز: امتلأ الحوض وقال قَطْني”. (فقه اللغة ص 541)

خلاصة الكلام أن القول وغيره من الكلمات المستعملة للإنسان تُستعمل أيضًا لغير ذوي الأرواح للدلالة على حالها، والمراد أنها تقول كذا بلسان حالها.

لقد قصدتُّ من هذا التمهيد أن أبيّن أن الحوار الوارد في هذه الآية وما بعدها لا يكون بالضرورة قد وقع هكذا، بل قد يكون المراد أنّ جواب كلّ شيء بلسان حاله، يمكن التعبير عنه بهذه الكلمات الواردة في القرآن الكريم، فإن الملائكة أجابوا بعَملهم، وأجاب إبليس بحاله، وأجابت الأشياء بلسان حالها، وليس أنها نطقت بهذه الكلمات فعلاً. وفي لغتنا (الأردية) أيضا تعبير مماثل يقول: “أمعائي تردد: قُلْ هو الله”، والمراد: أن بطني يخبر بلسانه حاله عن شدة الجوع، ويقول إن الله وحده المستعان على كل مصيبة.

بعد هذا التمهيد أقول إن ما ورد في هذه الآية فهو إما كلام بلسان الحال، أو ليس كلامًا بلسان الحال -وأميل شخصيا إلى أن ما ورد هنا عن الملائكة فليس كلامًا بلسان حالهم، بل كان حوارًا بينهم وبين الله بالإلهام والوحي- وإذا كان الأمر هكذا فإن ما قاله الله تعالى للملائكة لم يكن استشارة، إنما كان إخبارًا لهم بقراره تعالى؛ والكلمات القرآنية تدل على ما أقول؛ إذ ليست هناك كلمة يتبين منها أن الله تعالى سأل الملائكةَ شيئا، بل تبين الكلمات بجلاء أنه تعالى أخبر الملائكة وقال إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً . وليت شعري؛ من أين استنتج المعترضون أن الله تعالى استشار الملائكة! لا شك أن الله تعالى سمح لهم بالسؤال، وقد سبق أن بينتُ أن الله تعالى قد أخبرهم بقراره هذا لكي يبدأ كلٌّ واحد منهم في نطاق عمله في تأييد آدم. ومَن عُهد إليه شيءٌ لا بد له أن يفهم عمله جيدا، فمن هذا الباب قالوا: إلهي، أتخلق مخلوقًا يفسد ويسفك الدماء؟ وقد دفعهم إلى هذا السؤال مفهوم كلمة الخليفة، إذ معناه مَن يقيم نظامًا ويُنعِم على الأخيار ويعاقب الأشرار. والظاهر أن كل سؤال لا يكون بالضرورة اعتراضًا، بل يوجَّه بعض الأسئلة من أجل الزيادة في العلم. نرى كل يوم أنّ المسؤول إذا أمر الموظفين بشيء سألوه بعض الأسئلة لإدراك واجبهم، وهذه الأسئلة لا تسمى اعتراضا.

الغريب أن الملائكة يقولون فورَ سؤالهم تأدبًا وتعظيما وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، ومع ذلك يعُدّ المعترضون المتعصبين سؤال الملائكة اعتراضا. من قال لله تعالى فور السؤال: إنك منزه عن كل عيب وجامع لكل كمال، فكيف يُعَدّ سؤاله اعتراضا؟ لقد بين الملائكةُ بقولهم هذا أن سؤالهم إنما هو من باب الاستزادة في العلم وليس اعتراضا على حكمة الله تعالى.

بيد أن قول الملائكة هذا يمكن أن يُعَدّ اعتراضا من وجهة نظر أخرى، ذلك أن آدم كما كان نائب الله، كذلك كان بين البشر أفراد آخرون كانوا نوابَ الملائكة، بمعنى أنهم كانوا أمثالَ الملائكة وظلالهم – إذ لو كان آدم وحده المتطور الوحيد عقليًّا ولم يكن مثل هؤلاء الأفراد موجودين بين البشر، لصار نزول الشرع على آدم عبثًا- وكان من المحتمل أن ينشأ هذا الاعتراض في قلوب هؤلاء الأفراد فيقولون: ما دمنا نعبد الله حسب فهمنا وعقلنا فما الداعي لإنسانٍ آتٍ بالشرع؟ فقد تكون مثل هذه الفكرة قد انتابت مثل هؤلاء البشر، وعليه فلا حرج في اعتبار هذا القول اعتراضًا من قِبلهم.

والأمر الواقع أن الله تعالى كلما بعث نبيًّا ساورت مثلُ هذه الأفكار قلوبَ المتقين في الظاهر، فمن كان صاحب تقوى حقًا أدرك أنه مخطئ وتدارك خطأه وآمن بإمام الزمان، أما الذي لا تكون تقواه كاملةً فيصاب بالعَثار ويخرج من صفّ الملائكة إلى صف الأبالسة. وهذه ظاهرة تُشاهَد عند بعثة كل نبيّ؛ يخبر التاريخ أنه كان في زمن النبي شخصٌ اسمه زيد، وكان يدّعي أنه على ملة إبراهيم، وكان يلقي الخطب بين العرب ضد الشرك والوثنية قبل بعثة النبي . وذات مرة حضر طعامًا مع النبي ، فرفض الأكل معه بحجة أنه لا يأكل مع المشركين، فقال له النبي : إني لم أشرك قط. وعندما أعلن النبي دعوى النبوة لم يؤمن به وقال: لو كان الله تعالى سيجعل نبيا لَكنت أنا الأولى بذلك، إذ حاربتُ الشرك. (البخاري، كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو بن نُفيل، وسيرة ابن هشام ج1). فهذا الشخص كان بمنزلة ملاك بين العرب قبل بعثة النبي ، ولكنه لم يرض بطاعته ، واعتبر بعثتَه عبثًا، فحُرم الإيمانَ. فأمثال هذا يوجدون في عصر كل نبي؛ فإنهم يكونون كأظلالٍ للملائكة، ولكنهم ينضمّون إلى صفّ إبليس بالاعتراض على بعثة نبيّهم.

أما الاعتراض الثالث بأن قول الملائكة قد تحقق بينما لم يتحقق ما أراده الله تعالى، فهو أيضا دليلٌ على قلة فهم المعترض. فمتى قال الله تعالى أن البشر لن يقع بينهم فسادٌ وسفك دماء؟ بل الحق أن هذا الأمر متضمَّن في كلمة (خليفة). كل ما قاله الله تعالى هو أنه مما لا شك فيه أن خلافة آدم تعني أن أعمال البشر ستصبح تابعة للشريعة، وبالتالي ستُسمّى بعض أفعالهم فسادا وسفك دماء، ومع ذلك سيحقق خلقُ آدم غايةً لا يقدر على تحقيقها مخلوق آخر. ذلك أن الله تعالى لم يفنّد هنا ما قاله الملائكة بأنّ خلْق الإنسان سيؤدي إلى فساد وسفك دماء، وإنما اكتفى الله تعالى بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، أي أن الغاية التي سيحققها النظام الذي سنقيمه على يد آدم هي غايةٌ بالغةُ الأهمية، بحيث لا يمكن غضّ النظر عنها، وإن كانت ستؤدي إلى فساد وسفك دماء أيضا. لو أن المعترض تدبّرَ في كلمات الآية لوجد أن الله تعالى لم يقل هنا للملائكة أن ما تدّعون معرفته باطل، بل قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، أي أن الله تعالى لم يرفض ما قاله الملائكة، بل أشار إلى أمور إضافيّة تؤكد ضرورة خلق الإنسان مع صحة مخاوف الملائكة. فثبت أن ما أعلنه الله تعالى قد تحقق فعلاً، فوجد الملائكةُ الجوابَ على سؤالهم.

وهناك تساؤل حول قوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وهو: هل كان هذا القول يتعلق بآدم، أم بالبشر الذين كان سيتعامل معهم، أم بنسله التالي؟

والجواب أن هذا الأمر ذو صلة بالجميع، فهو يخصّ آدم من حيث إنه كان أوّلَ نبيّ، وعلى يده جُعل البشر تابعين للشريعة، والواضح أن المسؤول عن إدارة نظام يضطر من أجل إرساء حرمة النظام لأن يسجن بعض الناس حينًا، ويقتل القَتَلةَ حينًا، ويأخذ الضرائب منهم جبرًا في بعض الأحيان، وتبدو هذه الأمور فسادًا في بادئ الأمر، ومَن لم يدرك فوائد النظام يصاب بالحيرة ويقول: كيف يجوز أخذُ مال الآخرين جبرا، وكيف يَصح إلقاءُ الحُر في السجن، وكيف يحلّ قتل إنسان؟ مع أنها أمور لا بد منها للدولة، فإنها لا تقدر على إرساء الأمن والاستقرار إلا بأخذ الضرائب وسجن المجرمين وقتل القاتلين، ويستحيل بدون ذلك أن يظهر للناس ما في النظام من مصالح وفوائد هي أفضل بكثير من الحرية الفردية. إذن، فاستغرب الملائكة لدى سماع الإعلان الرباني عن إقامة النظام أول مرة فقالوا: سوف يقام الآن شخص يحقّ له سجنُ الناس وقتلُهم وأخذُ جزء من أموالهم طوعًا وكرهًا، فسألوا الله تعالى استزادةً لعلمهم: كيف يكون هذا النظام أفضل وأكثر نفعًا؟ فأجابهم الله تعالى: لا تستطيعون استيعاب هذا الأمر الآن، ولكن عند اكتمال هذا النظام سوف ترون أنه سوف يؤدي إلى ظهور أفراد عظام لم يُخلقَوا من قبل، وسينفعون البشرية نفعًا لم يسبق له مثيل.

ويمكن أن يكون قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ إشارةً إلى مَن عاصر آدم من البشر وكذلك إلى الجيل القادم أيضا، ذلك أن الشريعة هي التي تعدّ الإنسان آثما، فالأسد يفترس الإنسان وغيرَه من الكائنات، وكذلك الحية تلدغ الإنسان وغيره من الكائنات، ومع ذلك لا يُعَدّان من المفسدين في الأرض، إذ لا عقل لهما، وليسا بمكلَّفينِ بالشرع، ولكنْ إقامة آدم خليفةً كان يعني أن عقل البشر قد تطور تطورًا يجعلهم مكلَّفين بالشريعة، فأمرهم الله على يد آدم ألا يقتل إنسانٌ إنسانا آخر من الآن فصاعدا، وإذا قُتل أحد فلا يقتلنّ أقاربُه قاتلَه، بل عليهم الرجوع إلى نظام الدولة لأخذ ثأرهم، فمن قتَل بعد ذلك أحدًا عُدّ مفسدًا وسافكَ دم. أما قبل إقامة نظام الشرع هذا ما كان أحد يُعَدُّ بسبب تصرّفٍ كهذا مفسدا ولا قاتلا مجرما، إذ لم يكن مكلَّفا بالشرع. فثبت من هنا أن ما استنتجه الملائكة مِن جعلِ آدم خليفةً كان استنتاجًا صحيحا، أي أن البشر لم يكونوا قبل ذلك مسؤولين عن تصرفاتهم لعدم تكليفهم بالشرع، ولكنهم أصبحوا الآن مسؤولين عنها، فسوف يُعَدّون مفسدين وسفاكي دماء إذا لم يُخضعوا غرائزهم الطبيعية للقانون، ومن أجل ذلك سأل الملائكة ربَّهم: هل يكلَّف البشر الآن باتّباع المشيئة الإلهية مثلنا، وتُجَعل غرائزهم الحيوانية الطبعية تابعة لقانون الشريعة؟ وكان استدلال الملائكة هذا صحيحا تماما، لأن هذا ما كان سيحصل في الواقع، لأن البشر الذين كانوا قبل بعثة آدم يعيشون مثلَ الحيوانات الأخرى؛ سيصلون بعد بعثته درجة الملائكة بالعمل بقوانين شريعته بعد سماعها منه، وكانوا سيُعَدّون مفسدين وقَتَلَةً يستوجبون العقاب إذا ما خالفوها.

ومن اللطائف العجيبة أن الإنجيل أيضا قد قدّم هذه الفكرة، ولكنها فكرة ناقصة سبّبت عثارًا شديدًا للمسيحيين، فقد ورد: }فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ، عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ{. (رِسَالَةُ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ 5: 13). كذلك ورد }لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا، إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ{ (رِسَالَةُ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ 4: 15). وهي الفكرة نفسها التي قدّمتْها الملائكة، ولكنهم بسبب تقواهم لم يستنتجوا من هذا الإعلان الرباني أن خلْق مثل هذا الإنسان لا بد أن يحول دون الرقيّ الإنساني حتمًا، إنما اكتفوا بالسؤال استزادةً للعلم. أما المسيحيون فظنوا من عند أنفسهم أن الشريعة لم تكن إلا من أجل العقاب فقط وقد أُلغيت بظهور المسيح. مع أن الإثم سمٌّ، وليس سببُ سُمِّيّتِه أن الله اعتبره إثما، بل الحق أنه سمّ بحد ذاته، ولذلك سمّاه الله إثما، والواضح أن التحذير من السمّ لا يزيده سمّيّةً، بل يساعد الذين يرغبون في تجنُّبه وأضراره.

الطفل لا يؤاخَذ على تصرفاته السيئة ليس لعدم سوئها، وإنما لأنه لا يدرك ما هي السيئة، ولكنه عندما يصبح قادرا على التمييز، فمن واجبنا أن نعلّمه ما يفعل وما لا يفعل، ومِن واجبه أن يعمل بحسب هذا العلم، وإنّ تنبيهنا له إلى هذه الأمور لا يسمّى ظلمًا، بل هو إحسانٌ وحسنُ تربية. كذلك عندما صار البشر قادرين على التمييز، علّمهم الله تعالى ما هو صالح وما هو غير صالح لهم، وهذا لم يكن قهرًا ولا غضبًا، بل إحسانًا ورحمة. لا شك أن الإنسان لم يُسَمَّ مفسدًا ولا سافكَ دمٍ إلا بعد هذا العلم والاستعداد، ولكن لو لم يحذّره الله تعالى من السيئات بعد أن صار أهلاً لتجنُّبها، لكان ذلك ظُلمًا بلا شك.

باختصار، كان الملائكة يريدون أن يعرفوا بسؤالهم هذا هل تتغير حالة البشر بعد نزول الشرع، وهل سيُعَدّون الآن مجرمين نتيجة أعمالٍ لم يكونوا يُعَدّون بسببها مجرمين من قبل؟ وكان تفكير الملائكة هذا صحيحًا تماما، ولكن ليس لأن الله تعالى كان سيجعل البشر مجرمين جبرًا بسبب بعض أعمالهم، بل لأن عقولهم كانت قد تطورت واكتملت، وكانت السيئات ستترك تأثيرا سيئا على قلوبهم، فأراد الله تعالى أن يجعل آدم خليفةً له ويُنزل عليه وحيَه، لكي يطّلع البشرُ على ما حدث فيهم من تطورات جديدة، ولكي يعرفوا مكانتهم، فيسعوا للغاية التي صاروا متأهلين لتحقيقها.

والجدير بالذكر أيضًا أن ما قاله الله تعالى لدى جعل آدم خليفةً كان صحيحا أيضا، وما قاله الملائكة كان أيضا صحيحا، إنما الاختلاف هو في زاوية النظر فحسب. لقد قال الله ما قال نظرا إلى أولئك الصلحاء الذين سيخرجون مِن نسل آدم، وأيضا نظرا إلى ميزات النظام الذي سيقوم في الدنيا على يد آدم وأظلاله، أما الملائكة فقالوا ما قالوا بالنظر إلى الأشرار الذين كانوا سيُعَدّون مجرمين ويستحقّون العقاب الإلهي بعد اكتمال العقل البشري. كان الله تعالى يرى في خلق آدم التجلي المحمدي، بينما كان الملائكة يخافون من ظهور أمثال أبي جهل نتيجة خلق آدم. لا شك أن ما استنتجه الملائكة من إقامة الخلافة كان صحيحا، ولكن خوفهم من أن يصبح هذا النظام لعنةً للعالم كان خطأً منهم؛ ذلك لأن ميزة أي نظام تُقدَّر بنتائجه الطيبة، لا برؤية تقصير بعض المقصرين في طاعته، ولو تُرك أمرٌ جيد مخافة الأخطار القادمة، فلا سبيل للرقيّ، وإن كل عملٍ عظيمٍ محفوفٌ بالأهوال والأخطار، فمثلا إن الحرب التي يخوض غمارَها الناسُ دفاعا عن الوطن يُقتَل ويُجرَح فيها الآلاف، بل الملايين، وإن الطلبة يرهِقون أنفسهم طلبًا للعلم، ولكن لا أحد يتخلى عن الدفاع عن الوطن، ولا عن تعلُّم العلم خوفا من هذه الأخطار والأهوال. فمع أن قيام الخلافة كان سيعرِّض طائفة من البشر للعقوبة ويعُدَّهم مفسدين وسفّاكي دماء، إلا أنه كان من المقدر أن تصبح طائفةٌ أخرى مِن أحبّاء الله تعالى، وتتبوأ مكانةً أرفع من مكانة الملائكة، وكانت هذه الطائفة الناجحة هي السبب وراء إقامة هذا النظام للبشر، لا يسع أحدًا بالنظرِ إلى هذه الطائفة الناجحة القولُ أن هذا النظام قد فشل، بل الحق أن كل فرد من هذه الطائفة كان حَريًّا بأن يقام من أجله هذا النظام، ومن أجل ذلك قد قال الله تعالى في بعض عباده الكُمَّل: “لولاك ما خلقت الدنيا” (ابن عساكر). هذا حديث قدسيٌ ورد في حق الرسول ، كما قد تلقى طائفةٌ من الصلحاء الكمل إلهاماتٍ مماثلة له، فوجود هؤلاء الكمّل بين البشر لدليل على أن المشيئة الإلهية كانت عين الصواب والحكمة، وأن لا قيمة لمخاوف الملائكة إزاءها.

أما قول الملائكة: ونحن نُسبِّحُ بحمدك ونقدِّسُ لك فيُبطل الظن بأن قولهم كان اعتراضًا على إرادة الله تعالى، بل المراد أنهم قالوا نحن الحامدون والمقدِّسون لك يا رب، ولم نسألْك من باب الاعتراض، بل لفهم حقيقة الأمر.

ويمكن أن يكون لهذه الجملة معنى آخر وهو: حيث إن الخليفة ظلٌّ لله تعالى، فقد عبّر الملائكةُ بقولهم هذا عن خشيتهم بأنهم ربما قصّروا في تسبيح الله وتحميده وتقديسه، فمسّت الحاجة إلى خلق كائنٍ يكون ظلًا لله تعالى. لو كان هذا هو المراد من كلام الملائكة، فأيضا لا يُعَدّ قولهم اعتراضًا، بل هو تعبيرٌ لطيفٌ عن خشية الله اللائقة بالمقربين لديه تعالى.

ويمكن أن يكون قول الملائكة ونحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ بمعنى أن سؤالنا ليس إلا من أجل زيادة العلم، وإلا فإننا نريد ما تريده أنت، فأنت المنزَّه عن كل عيب، والجامع لكل كمال. إننا نوقن بأن إرادتك لا بد تكون فيها حكمة بالغة، ولكننا نريد أن نفهم تلك الحكمة لكي نؤدي واجباتنا على أحسن وجه.

فقول الله تعالى: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ردٌّ مجمل على سؤال الملائكة، حيث أخبرهم الله تعالى أنه مما لا شك فيه أن بعض البشر يمكن أن يتردَّوا من مكانتهم الحالية بعد نزول الشرع لكونهم آثمين مغضوبًا عليهم، ومع ذلك فإن لنزول الشرع منافعَ عظيمة لا تدركونها الآن، وسوف تعرفونها عند ظهورها.

هذا الجواب المجمل كان كافيًا لإقناع المقربين أمثال الملائكة، إذ كانوا يعرفون عظمة الله عز وجل. فلما قال لهم الله تعالى إن في ذلك مصالح عظيمة لا تعلمونها ولكني أعلمها، أيقنوا بأن هذا واقع حتمًا، ومع ذلك كان الله تعالى قد قدر كشف هذا الأمر للأجيال القادمة من خلال الوحي، فردّ على الملائكة ردًّا مفصّلًا كما ورد في الآيات التالية.

وهناك أمر آخر جدير بالتذكر، وهو أن ما يميّز القرآن الكريم عن الكتب السماوية الأخرى أنه يذكر التسبيح مع التحميد والتقديس لله تعالى. والتسبيح يعني التنـزيه عن العيوب فقط، والظاهر أن ذكر الصفات الإلهية التنزيهية فقط لا يكفي صاحبَ الفكر السامي والعقل الكامل، بل لا بد له من بيان الصفات الحقيقية الإيجابية إلى جانب الصفات التنزيهية. فمثلا إذا قلنا أن ذلك الشيء ليس هكذا وهكذا، فلا شك أننا نقرّبه إلى العقل الإنساني، ولكن لا تنكشف عليه حقيقته انكشافًا تاماً، كذلك لو قلنا إن الله تعالى ليس مادةً، ولا يجوع ولا يظمأ، ولا يموت ولا ينام، ولا هو عرضةً لغيرها من الرغبات الطبيعية، فلا شك أن السامع يُدرك من ذلك أن الله تعالى مختلف عن الأشياء المادية إلى حد ما، ولكن هذا الوصف لا يبيّن عظمة الله كما ينبغي، ولا يبرز حقيقة تفرُّدِه.

وفي العصور الأولى لم يكن العقل الإنساني قد بلغ كمال النشوء بعدُ، فركّزت الديانات البدائية على صفتي التنزيه والتسبيح لله تعالى، وظلّ جانب بيان الحمد والتقديس ناقصا جدًا. خذوا الديانة الهندوسية مثلًا، فقد حاولتْ وصف الله تعالى بالصفات السلبية التنزيهية، وركّزتْ على قولها إنه تعالى لا يُرى، ولا يسعه مكان، وليس أمامه شيء ولا خلفه شيء، وليست له أهواء ولا رغبات، وغير ذلك من الصفات السلبية.

أما الديانة البوذية فلا يوجد في كتبها تعليم معين عن الله تعالى، غير أنها ترسم الإنسان الكامل الذي هو تمثُّلٌ مادي لله تعالى كالآتي: لا يتولد في قلبه رغبة، بل هو حرٌّ من كل الأهواء. مع أن التحرر من الأهواء صفة تنزيهية سلبية فقط، وليس فيه ما يدل على الكمال.

أما الديانة اليهودية فقد ذكرت صفات الله الإيجابية إلى حد ما، ولكن ليس بقدر ما ذكرها القرآن الكريم. إن ما ورد في القرآن الكريم من صفات الله التحميدية والتقديسية من حيث الكمية والكيفية، يتضاءل أمامه كليةً ما ورد منها في الكتاب المقدس. إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ركز على صفات الله التحميدية بالإضافة إلى صفاته التسبيحية، وإنه كتاب لا يُعرّف الله تعالى للناس بصفاته السلبية التنزيهية، بل يركّز على صفاته التحميدية والتقديسية تركيزًا خاصًا. لقد ركز القرآن على صفات الله السلبية قليلًا جدًا، فمثلًا قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى 12)، وقال: لَا يَمُوتُ (الفرقان 59)، وقال: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (الإِخلَاص 4)، وقال: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ (الأَنعام 15)، وقال: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (البقرة 256).

والحق أن كل هذه الصفات، ما عدا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، لم تُذكَر لبيان عظمة الله تعالى، وإنما جاءت ردًّا على العقائد الوثنية. كان المسيحيون وأمثالهم من المشركين ينسبون إلى بعض البشر صفات الله تعالى، فردّ الله عليهم بأن آلهتكم الباطلة هؤلاء كانوا يأكلون الطعام، ووُلدوا من بطون أمهاتهم، وتزوجوا وأنجبوا، وكانوا عرضة للنوم والنعاس نتيجة الإرهاق، ولكن الله تعالى منزه عن هذه الأمور كلها. فثبت من هنا أن هذه الصفات السلبية لم يذكرها القرآن الكريم للتعريف بالله تعالى بقدر ما ذكرها تفنيدًا لألوهية الآلهة الباطلة.

أما قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فهو أيضا ليس وصفًا سلبيًا خالصًا، أي لم يُرد الله به القولَ أن من لا يكون مثل الآخرين يكون إلهًا، بل قد أراد الله بذكر هذه الصفة أن يبين أن الصفات الإيجابية التي ذكرها لتقريب ذاته تعالى إلى الأفهام، يجب ألا ينخدع بها أحد، فيظن أن تلك الصفات تُماثِل في حقيقتها صفاتِ الإنسان، وإنما ذكرها الله تعالى تقريبًا لصفاته إلى العقل البشري فحسب، وإلا فصفات الله تعالى مختلفة عن صفات البشر تماما. فمثلًا قد ذكر القرآن الكريم أن الله يتكلم، فيجب أن لا يُفهم من ذلك أن لله لسانًا، ولَهَاةً، وحنجرةً، وشفاهًا وأسنانًا يُخرج بها الصوت. كلا، إنما المراد من كلام الله تعالى أنه يوصل رسالته إلى الإنسان بإلقاء كلمات أو أفكار في قلبه. وهكذا يكون سمع الله ورؤيته أيضا، إذ لا يعني ذلك أن لله أذنًا أو عينًا، إنما المراد أنه تعالى يعلم رغبات خلقه وصراخهم وأحوالهم. فثبت أن قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا يدلّ على صفاته السلبية بقدر ما يؤكد ويشرح صفاته الحقيقية الإيجابية.

باختصار، إن قول الملائكة: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ إشارةٌ إلى أن ذوي العرفان الكامل من عباد الله تعالى لا يرونه بصفاته السلبية، بل يتشرفون بعرفانه بواسطة صفاته الحقيقية الإيجابية.

كما أنه إشارة إلى أن القرآن الذي يؤكد على وجود الصفات الإلهية الإيجابية الحقيقية سيكون سببًا لخلق مظاهر ملائكية من الناس، يركّزون على التحميد والتقديس بالإضافة إلى التسبيح، وأنهم سيقرّبون وجود البارئ إلى العباد من خلال صفاته الإيجابية المتعلقة بالتجلي الإلهي، ولن يقتصر اهتمامهم على ذكر ومناقشة صفاته السلبية التي تجعله تعالى كما لو أنه مختفٍ متوارٍ ومنقطعٌ عن عباده سبحانه تعالى.

والواقع أن التعلق الكامل بالله عز وجل لا يـتأتى إلا بالتفكير في صفاته الإيجابية والانتفاع بها، والذي يقوم بتسبيح الله فقط فكأنما يقرّ بأن الله عظيمٌ سامٍ فحسب؛ أما الذي يسبّح بحمد الله تعالى فإنه يؤكد أنه إله حيّ فعّال، وينتفع بصفاته تعالى وينفع بها الآخرين أيضًا.

وهناك أمرٌ لطيفٌ جديرٌ بالتذكر هنا، وهو أن الفعل سَبِّحْ قد ورد في القرآن الكريم في سبعة عشر موضعا، وفي ثمانية منها ورد بعده قول الله تعالى بحمد ربك أو بحمده ، وذلك في سور الحجر، النصر، غافر، ق، الطور، السجدة. أما المواضع التسعة التي ورد فيها الفعل سبِّحْ بدون ذكر الحمد فهي كالتالي: قال الله تعالى في سورة طه وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (طه 131)، والفعل سَبِّحْ الوارد هنا في آخر الآية إنما هو تكرارٌ للموضوع السابق الوارد في بدايتها، وهو ما نقصده، والأمرُ بتحميد الله مشمول في الأمر بالتسبيح المذكور في آخر الآية.

أما الموضعان الثاني والثالث اللذان ورد فيهما الفعل سبِّحْ بدون الحمد، فهما في سورتي “ق” و”الطور”، والحمد مع التسبيح مشمول في الموضعين لنفس السبب المذكور آنفًا.

والآية الرابعة التي ورد فيها الفعل سَبِّحْ بدون الحمد، هي في سورة الإنسان التي قال الله تعالى فيها: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (الإِنْسان 26-27). لقد أمر الله تعالى هنا بالتسبيح بعد ذكر اسم الرب في السجود الذي نقول فيه “سبحان ربي الأعلى”، إذن فهنا أيضا لم نؤمر بالتسبيح وحده بل بالتسبيح مع التحميد، لأن صفة “الرب” ليست صفة تنزيهية، بل هي إيجابية، وعندما يقول أحد إن ربي الأعلى بريء من كل عيب ونقصان، فلا يحمده بأنه منزه من العيب، بل يحمده بأنه الرب الأعلى، وهذا ليس تسبيحًا فقط بل هو تسبيح وتحميد معًا.

والآيتان السادسة والسابعة هما في سورتي الواقعة والحاقة، حيث ورد قول الله تعالى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ في سورة الواقعة مرتين، ومرة في سورة الحاقة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ، ورغم أن لفظ الحمد لم يرد في هذه الأماكن الثلاثة، إلا أننا أُمرنا بتسبيح الله باسم ربنا العظيم، أي أن نقول “سبحان ربي العظيم”، وهو ما يردده المسلمون في الركوع في الصلاة، وهذا المفهوم يتضمن الحمد أيضا وليس التسبيح فقط.

والآية الثامنة هي قول الله تعالى لزكريا في سورة آل عمران وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (آل عمران 42)، وهنا أيضًا جاء الأمر بالتسبيح مع ذكر الرب، وهذا ليس تسبيحًا فقط بل يتضمن معنى الحمد أيضًا.

والآية التاسعة هي قول الله تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (مريم 12)، وهنا ورد التسبيح بدون الحمد، ولكنه ليس بأمر إلهي، بل هو ما أمر به زكريا الناسَ، وربما تُرك ذكر الحمد هنا اختصارًا، لأن أمر الله تعالى بالتسبيح في كل المواضع الأخرى يشمل التحميد أيضًا، رغم أن لفظ الرب مذكور في الآية التي سبقتها مباشرةً، فأمر الله بالتحميد بعد ذكر اسم الرب أيضًا.

باختصار قد خاطب الله المسلمين في القرآن الكريم في خمس عشرة آية، وكان الأمر في كل مكان بالتسبيح مع التحميد، وفي ذلك إشارة للمسلمين ألا يركّزوا على صفات الله التنزيهية السلبية وحدها، لأن ذكرها فقط لا يساعد على الانتفاع من صفات الله تعالى، بل يجب ذكر الحمد مع التسبيح للانتفاع من الصفات الإلهية الدالة على إيصال الخير للآخرين.

ورد في الحديث أن رسول الله قال: {كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ}(صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور). ومفهوم هذا الحديث أيضًا أن الذي يذكر صفات الله الإيجابية يسعى للاتصاف بها ويتصبّغ بصبغتها بحسب نطاقه ووسعه، فيستحق أعظم الجوائز من عند الله تعالى.

خلاصة الكلام أن الله عز وجل قد علّم أمة الإسلام بإيراد قول الملائكة هذا درسًا عظيما وقال: لا تكتفوا بذكر الله تعالى بالصفات السلبية فقط، بل اذكروا الله تعالى بصفاته الإيجابية أيضًا، كي تستفيدوا منها وتكونوا جوابًا عَمليًا وبرهانًا فعليًا على تساؤل الملائكة: بأننا نقوم بتسبيحك وتحميدك فما الحاجة إلى خلق نظام البشر، لأنكم أيها المسلمون بتسبيحكم وتحميدكم هذا ستقدمون برهانًا عَمليًا على ضرورة خلق البشر، وتكونون شهادة حاسمة على كمال حكمة الله تعالى.

بعض مفاهيم هذه الآية على ضوء آيات أخرى

أبين الآن بعض مفاهيم هذه الآية على ضوء آيات أخرى من القرآن الكريم:

أولا: أتحدث عن آدم : إن آدم هو الحلقة الأولى من سلسلة النظام الإنساني، وهو مَن بدأ الله تعالى به في إنزال الوحي للناس حسبما ورد في القرآن الكريم.

وأود أن أوضح في البداية أن آدم المذكور هنا ليس أول إنسان بدأ الله به خلق البشر، كما ليس صحيحا أن الله تعالى خلق إنسانًا أي آدم دفعةً واحدة، ثم خلق زوجتَه مِن ضلعه، ثم خلق منهما الجنس البشري. هذه الفكرة لا يصدّقها القرآن الكريم أبدًا، بل هي من الكتاب المقدس وغيره من الكتب، ونُسبت إلى الإسلام خطأً.

قد وردت قصة آدم في الكتاب المقدس كالآتي:

{وقال الله: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ… وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ… وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ»… فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ»{. (التكوين، الإصحاح 1 و2).

وذكر الهندوس حقيقةَ خلق الجنس البشري كالآتي:

ورد في كتاب “رِيغْ فيدا”:

“مَن الذي يعلم يقينًا، ومَن ذا الذي يستطيع أن يبين مِن أين جاء هذا الكون وكيف خُلق؟ لأن الآلهة جاءوا بعد ذلك، فمَن ذا الذي يقدر على القول مِن أين ظهر الكون؟ ومِن أين أتت هذه المخلوقات؟ أيتها الحبيبة، السماء، هل أنا أعلم ذلك -وأنا مدير هذا الكون- أم لا أعلم.” (رِيغ فيدا، باب 10 فقرة 129)

بعد أن ذكر كتاب “رِيغ فيدا” أن لا أحد يعلم ببداية الكون، شرح بنفسه خلْق الكون وخلْق الجنس البشري حيث ورد فيه:

“مِن هذه العبادة التي قام بها الجميع بإلقاء السمن على النار، خُلِقَ اللبنُ الرائبُ والسمنُ وتلك الحيواناتُ التي تعيش بالهواء وتعيش في البراري والعمران. مِن هذه العبادة التي قام بها الجميع بإلقاء السمن على النار خُلِقَ (رِيغْ فيدا) و(أوزانُ بحورِ سام  فيدا) و(يَجُر فيدا).

عندما قُسم الكائن الأعظم، فكيف عُنِيَ به، ومِن أي أجزائه جُعل فمه، ومن أي أجزائه صارت سواعده وأفخاذه وأقدامه؟ ما هو فمه؟ وما هي سواعده؟ وما هي أفخاذه؟ وما هي أقدامه؟

البرهمن

(**** الحاشية: تقسم الديانة الهندوسية أتباعَها على أربع طبقات: 1 – البراهمة: وهم الذين خلَقهم الإله “براهما” من فمه: منهم المعلّم والكاهن والقاضي، وإليهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.

2 – الخشتري: وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدّمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.

3 – الوَيش: وهم الذين خلقهم الإله من فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية.

4 – الشُودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم يشكّلون طبقة المنبوذين، وعملُهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة الشريفة ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة. (المترجم)

خُلق مِن فمه، والخشتري مِن ساعده، والشودر من قدمه، والقمرُ من قلبه، والشمس من عينه، والإنْدَرُ من فمه، والهواءُ من النار والكتاب”. (ريغ فيدا، باب 10 فقرة 90).

وهناك كتاب هندوسيٌ هامٌّ اسمه (بَراهدارَنيك أوبانيشاد)، وهو يحظى بمكانة كبيرة عند الفرقتينِ الهندوسيتين “سناتن دهرم” و”الآريا”، وقد جاء فيه شرح بيان “الفيدا” المذكور أعلاه كالآتي:

“لم يجد (أي الإلهُ) الراحةَ وهو وحيد، ولذلك لا أحد في الدنيا يجد الراحة وهو وحيد، فأراد (أي الإلهُ) أن يكون له رفيق، فتضخّمَ حتى صار بحجم رجلٍ وامرأةٍ معًا، ثم شطَر (الإله أو الروح) جسمَه الضخم شطرين، فصار أحدها رجلًا والآخر امرأةً، ثم وُلد منهما باقي البشر.”

ثم جاء تفصيل خلق المخلوقات الأخرى كالآتي:

“رأت المرأة أن الإله خلَقها من جسمه ثم باشرَها، فاختفتْ في مكان حزنًا وصارت بقرةً، فصار الرجُلُ ثورًا وباشرَ البقرة، ومِن هنا خُلق نسل البقر. وهكذا ظلت المرأة تتشكل بأشكال الحيوانات الأخرى خجلًا، وظل الإله يتشكل بالحيوان الذكر من الجنس الذي تشكلت به ويباشرها، وهكذا وُلدت كل الحيوانات والطيور وغيرها.” (براهدارنيك أوبانيشاد، باب1 برهمن 4 فقرات1 إلى 4)

أما الكتاب الهندوسي (منوسمرتي) فلا يذكر خلق الحيوانات، ولكنه يسلّم بطريقة الخلق هذه. (منوسمرتي، باب 1 فقرة 32)

وورد في مصدر هندوسي آخر: “أحبَّ الراعي (أي الإلهُ) أن يكون له مخلوق، فقام بالمجاهدة والعبادة، ثم خلَق زوجين، المادةَ والروحَ، لكي يخلقا لي باجتماعهما مخلوقاتٍ شتى.” (بَرشَن أوبانيشاد، باب 1 فقرة 3 و4)

وورد في مصدر هندوسي آخر:

“لا شك أنه لم يكن في البداية إلا الإله وحده، ولم يكن هناك ما يغمض العينين، ففكّر أن يخلق أجرامَ الكون، فخلَق السماوات والأرض… فعندها رأى أن هذه هي الناس، ففكّر أن يخلق من يعيشون فيها، فأخرج الرجُلَ من المياه وخلَقه، ثم أحماه إحماءً، وعندما حَمِيَ انشقّ فمُه كما تنشق البيضة وظهر من فمه الكلام، ومن الكلام النارُ، وافتتح المنخران وخرج منهما النَفَس، وخرج منه الهواءُ، وانفتحت العينان وخُلق فيهما البصرُ، وخُلقت منه الشمسُ، وانفتحت الأذنان وخُلقت منهما قوّةُ السمع، ومِن قوة السمع ظهر الجلدُ من أطراف الجسم، ومنه خُلق الشعر الذي خُلقت منه النباتات والعقاقير، وانفتح القلب وخُلقت منه القوةُ الفكرية، وخُلق من الفؤاد القمرُ، وانفتحت السُّرة فخُلقت منها القوةُ الهاضمة، التي خُلق منها الموت، وانفتح العضوُ الخاص، فخرجت منه البذرةُ، ومن البذرة خُلِقَ الماء.” (آئيتري أوبانيشاد، باب 1 فقرة 1).

وورد في مصدر هندوسي آخر:

“قال برهما: لقد قسمتُ نفسي جزئين بعدما حثّني على ذلك “شَنْكَرُ” المحيطُ بالقلوب. يا مُني، لقد صرتُ ذا صورتين، فصار نصفي امرأةً ونصفي الآخر رجلاً. وخُلق من الرجل والمرأة زوجان متصفان بكل الصفات، وخُلق منهما “منو” ابنُ محبِّ الخير نافعِ الخلق خالقِ الكون، وامرأةٌ عابدة صاحبة الجمال الحقيقي وسُمِّيَتْ “شتروبا”، ثم تزوجت “شتروبا” الجميلةُ مِن “منو”، وباجتماعهما بدأ الجنس البشري.” (شِوْ بُران رُدّر، كتاب 1 باب 1 فقرة 16)

وبغض النظر عما ورد في هذه العبارات من تفاصيل، فإنه يتضح منها حتمًا أن الديانة الهندوسية ترى أن زوجين خُلق في البداية بانشطار الإله “إيشور” شطرينِ عند البعض، أو بانقسام الإله “براهما” عند الآخرين، ومنه انتشر الجنس البشري.

أنا أعترف أن هذه العبارات مليئة بالاستعارات، حيث ورد فيها أمور عن خلق الإنسان بلغة المجاز، وقد يكون الكتّاب المتأخرون ألحقوا بها زيادات بناءً على عقولهم المتقاصرة عن فهم الوحي الإلهي الابتدائي، ومع ذلك لا يسعنا إنكار أنه يوجد هناك تشابهٌ بين مختلف القصص الواردة في هذه الكتب الهندوسية، فهي تتفق في خطوطها العامة. إني لا أريد هنا إلقاء نظرة ناقدة على هذه البيانات إذ ليس مكانها في تفسير القرآن الكريم، وإنما أركز على بيان أن مختلف الكتب الهندوسية الموثوق بها متفقة على أن الجنس البشري بدأ بزوجين خُلقا من وجود الله أو من وجود الآلهة.

وتوجد في الأديان القديمة السابقة للعصر التاريخي مثل الديانة البابلية روايات يتضح منها أن الإنسان خُلق من الآلهة. فمثلا تكشف البحوث التي قاموا بها عن الديانة البابلية أن أهل بابل كانوا يعتقدون أن الإنسان خُلق من الآلهة. يتضح من الآثار البابلية القديمة أن البابليين كانوا يعتقدون أنه كان هناك في البداية إلهانِ فقط: “أَبْسو” و”ثيامة”، وكان أبسو إلهَ المياه العذبة، وكانت ثيامة إلهةَ المياه المالحة، وبامتزاج المياه المالحة هذه خُلقت آلهةُ السماوات والأرض الذين تمردوا على أبسو وثيامة، وقرّروا خلق كون منظم. وفي هذه الحرب انهزم الإله “إي آ” وإله السماوات “آنو” ولاذا بالفرار، ولكن ابن “إي آ” وكان يدعى “مردوك” خرَج لمحاربة “كنغو” زوجِ “ثيامة” والذي كان قائد جنودها، ثم بعد ذلك حارب ثيامة نفسَها، وأخيرًا هزم آلهة الظلمة كلَّهم وربَطهم بالكواكب، وجعل جسد ثيامة جزءين، وخلق بأحدهما السماء وبالآخر سِجْنًا لأبسو، وخلق الإنسان من دم كنغو زوجِ ثيامة.

وقام “دارون” من بين علماء وفلاسفة العصر الحديث، بتقديم النظرية القائلة بنشأة جرثومة الحياة على الأرض، التي أخذت تنشأ وتنمو بعد عدد من التطورات المتتابعة عبر زمن طويل إلى أن وصلت إلى طور الحيوانات المتنوعة، وأخيرا وصلت إلى نوع أشبه ما يكون بالقرد، ومن هذا النوع الحيواني تطور وجود الإنسان. فطبقًا لهذه النظرية، كان خلق الإنسان الحلقة الأخيرة من نشوء بذرة الحياة، ولم يخرج إلى الحياة دفعة واحدة.

ويرى بعض الفلاسفة الألمان والفرنسيين المعاصرين أن وجود الله هو الذي نشأ وتطور إلى وجود الإنسان، أو بعبارة أخرى: إن الناموس الأزلي هو الذي تحول إلى صورة الإنسان عبر تطورات عديدة، وأن الإنسان آخر حلقة من هذا التطور المطرد. وكأن هؤلاء حاولوا صياغة المعتقدات الهندوسية والبابلية القديمة في قالب العلوم الطبيعية.

أما القرآن الكريم فقد اتبع لكشف أسرار خلق الكون أسلوبا بديعًا ومختلفًا عن سائر هذه الآراء والنظريات. يتبين من القرآن الكريم أن سنة الارتقاء والتطور جارية في العالمينِ الروحاني والمادي دون مراء، وأن العالم المادي قد بلغ أوج كماله عبر تطورات ارتقائية طويلة، وكذلك الحال بالنسبة للعالم الروحاني، غير أن القرآن الكريم لا يسلّم بأن الإنسان كان آخر حلقة من سلسلة الارتقاء والتطور في الحيوانات المختلفة، بل يقول إن التطور الإنساني مستقل بنفسه ومنفصل عن غيره من أشكال التطورات، وأنه ليس مجرد نتاج حادث وقع في تطور الحيوانات الأخرى صدفةً. ويتبين هذا التعليم القرآني في قول الله على لسان نوح : مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏* ‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (نوح:14 – 19).

يتضح من هذه الآيات ما يلي:

  1. تدل كلمة أطوارا على أن خلق الإنسان قطع قبل اكتماله مراحل وحدودا وأشكالا عديدة، لأن الطور في العربية يعني التقدير والهيئة والحال (الأقرب). فالمراد من أطوارا أن خلق الإنسان مرّ بمراحل عديدة وتطور في هيئات مختلفة. فنظرًا إلى معنى التقدير يعني أن قدرات الإنسان في كل مرحلة من مراحل خلقه كانت مميزة ومختلفة عما كانت عليه قبلها. ونظرًا إلى معنى الهيئة والحال فالمراد أن أشكاله وصوره في كل مرحلة من مراحل خلقه كانت مختلفة عما كانت عليه من قبل.
  2. أنه كانت هناك مرحلة من مراحل خلق الإنسان سبقتْ خلق السماوات والأرض، ذلك أن الله تعالى قد قسم خلق الإنسان هنا قسمين: أحدهما كان قبل خلق السماوات والأرض، والآخر كان بعد خلقهما. وهذا يعني أن هناك مرحلة من مراحل خلق الإنسان قد بدأت حين لم تكن السماوات والأرض بشكلها الحالي، مما يعني أن جرثومة الحياة الإنسانية كانت موجودة بشكل ما حتى عندما كانت السماوات والأرض في صورة دخان ولم تتَكتّل أو تأخذ صورة أجرام بعد.
  3. أن المادة الدخانية التي تكوّن منها الكون عندما تكتّلت وتشكّلت على هيئة أجرام السماوات والأرض، بدأت مرحلة جديدة من خلق الإنسان، فبرز وجوده من بطن الأرض ضعيفا وغير قادر على التحرك شأن النبات الضعيف الذي لا يتحرك ويستمدّ غذاءه من رطوبتها، ثم أخذ يتحول شيئا فشيئا إلى صورة كائن مستقل متحرك.
  4. أن ما يجري على الإنسان بعد موته لدليل على صدق ما يقرره القرآن بهذا الشأن، فالجسد يتحول إلى تراب، الأمر الذي يشهد على أن بدء الخلق الإنساني كان من التراب، وإلا لما تحول بعد الموت ترابًا. فتحوُّل أجزائه بعد الموت إلى تراب دليلٌ على أصله الذي خُلق منه. لكن موت الإنسان وتحوّله إلى تراب لا يعني أن جميع أجزائه تفنى وتفقد الحياة، بل قد قدّر الله تعالى أن حالته المتطورة التي نالها بعد خلقه من التراب تظل باقية مستقلة، وسيعيدها الله ويُظهرها في وقت من الأوقات، وسينال حياة جديدة يحاسَب فيها على أعماله.

ومجمل القول إن خلق الإنسان بحسب القرآن الكريم لم يكن دفعة واحدة ولا في مرحلة واحدة، بل إنه تعالى أسس بنيان خلق الإنسان منذ أن بدأ خلق نظام الكون، ثم أنبته من الأرض نباتًا وطوّره وأعطاه الصورة الإنسانية ووهب له العقل والشعور بالتدريج عبرَ عصور وأزمان.

ويذكر القرآن الكريم حالة أخرى للإنسان سابقة للمذكورة آنفًا، وهي التي لم يوجد فيها حتى ولا جرثومته البدائية أو ذراته الأولى، فيقول: أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (مريم:68). أي أَلا يفكر الإنسان أنه لم يكن له أي وجود قبل الوجود الذي منحناه قبل مرحلته الحيوانية، أي لم تكن هناك تلك الجرثومة الحياتية التي تطور منها الإنسان على مراحل وأخذ صورته هذه. لقد بين الله هنا أنه تعالى ليس مُركِّبًا لشىتى أجزاء المادة فحسب، بل هو خالقها أيضًا، وقد كان هناك زمان لم يكن فيه للمادة وجود، ثم خلقها الله تعالى وطورها حتى خلق منها الإنسان أطوارًا كما ذُكر آنفًا في سورة نوح.

لقد شرح الله تعالى مرحلتيْ خلقِ الإنسان المذكورتين في سورة نوح أكثر في الآيات التالية:

  • وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ (فاطر:12)، أي قد جاء على الإنسان زمان حين كانت جرثومة حياته خليطة بالتراب.
  • الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (السجدة:8)، أي أن الله هو الذي زود كل شيء خلَقه بقوى وقدرات عالية وملائمة، وبدأ خلق الإنسان من تراب مُزج بالماء، أي أنه تعالى مزج التراب الذي كانت فيه جرثومة حياة الإنسان بالماء ليهيء أسباب نموّ هذه الجرثومة الإنسانية. وقال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء:31)، لقد تبين من هذه الآية علاقة الماء بالحياة ونموها. فذكرُ خلق الإنسان من الطين بعد المرحلة الترابية يتضمن الإشارة إلى أن مرحلة نمو جرثومة الحياة الإنسانية بدأت بعد امتزاج الماء بالتراب، وحصول قوة النشوء والنمو فيها.

والدليل على أن مرحلة الطين هنا لا تعني مرحلة النطفة أن الله تعالى قال في سورة السجدة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (السجدة:8)، ثم أعقبه بقوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (السجدة:9)، أي أن الإنسان لما تطور من المرحلة الطينية بدأ نسله من ماءٍ مهين أي النطفة. لقد تبين من هنا أن المرحلة التي بدأ فيها الإنسان في النشوء والنماء هي غير المرحلة التي بدأ خلْقُه فيها من النطفة. إن المرحلة الطينية كانت سابقة لمرحلة ولادة الإنسان من نطفة. بعد اكتمال المرحلة الطينية بدأت مرحلة أخرى من تطور الخلق الإنساني، وهي الولادة من نطفة، وانتهت مرحلة الخلق المفرد.

كما يتضح من هذه الآية أيضًا أن الإنسان عند القرآن الكريم لم يتطور من حيوانات أخرى، بل إن الجرثومة الإنسانية قد خُلقت منذ البداية مستقلة بذاتها لتكون بصورة الإنسان، لأن الله تعالى يقول هنا إنه بعد أن صار بشرًا سويًا بدأ خَلْق ذريته من نطفة، وهذا يعني أنه كان قد أصبح بشرًا عندما بدأ نسله يولد من نطفة. بينما التسليم بنظرية “دارون” عن خلق الإنسان يستلزم القول بأن الإنسان قبل أن يبلغ مبلغ البشر كان يتناسل من نطفة في صورة حيوانات أخرى.

ترسم لنا آية أخرى حالةَ الإنسان قبل مرحلة حياته الحيوانية هذه كالآتي: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُوراً (الإنسان:2)، أي لا شك أنه قد أتت على الإنسان مرحلة لم يكن فيها شيئًا مذكورًا، أي أنه كان إنسانًا ولكنه لم يكن قد نشأت فيه بعد القدرة الفكرية، ولم يكن البشر مطلعين على أحوال بعضهم البعض، ولم يكن يذْكر بعضهم بعضًا، ذلك لأن ذكر الآخر ومعرفته يتعلق بالدماغ، ولكن الله تعالى يخبر هنا أن البشر لم يكن بعضهم يعرف البعض في تلك المرحلة لعدم نماء أدمغتهم بعدُ، أي أن الإنسان لم يكن قد صار حيوانًا عندها، غير أنه كان مزودًا بالقوة الكامنة للتطور وبلوغ الكمال.

ثم تقول الآية التالية من سورة الإنسان: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ (الإنسان:3)، أي أننا بدّلناه بعد ذلك كائنا ذا حياة، وبدأ يتناسل من نطفة أمشاج. والأمشاج جمع المشج أي المختلط (أقرب الموارد)، فالنطفة الأمشاج تعني: الخليطة من قوى متنوعة. وكونُ نطفة الإنسان أمشاجًا يميزها عن نطفة سائر الحيوانات؛ أعني أن نُطَف الحيوانات الأخرى ليست بأمشاج، أي أنها ليست خليطة من قوى مختلفة، ومن أجل ذلك لا تكون سائر الحيوانات قادرة على اختيار طرق مختلفة، أما البشر الذين قد خُلقوا من نطفة أمشاج فقواهم وأمزجتهم مختلفة ومتنوعة، وهم قادرون على اختيار الطرق المختلفة. ولأن الحيوانات الأخرى مخلوقة من نطفة غير أمشاج فهي تتبع الطرق التي يتبعها آباؤها. فالقِرد مثلاً عنده اليوم أيضًا نفس القوى التي كانت عنده قبل آلاف السنين، وكذلك الأسد عنده نفس القوى الدماغية التي كانت عنده قبل آلاف السنين، ولكن ذرية الإنسان المخلوق من نطفة أمشاج قادرة على الاختلاف عن آبائها في أفعالها وقواها، ومستمرة في التقدم في العلوم والفنون. وكأن قوله تعالى نطفة أمشاج إشارةٌ إلى كون الإنسان حيوانا ناطقًا، حيث أخبر الله تعالى أن نطفة الإنسان منذ أن أخذ القالبَ الحيواني كانت مختلفة عن نطف سائر الحيوانات، أي أنه كان مزوّدًا بكفاءة الرقي والتقدم بلا حدود.

إن هذه الآية أيضًا دليل بيّنٌ على أن خلق الإنسان كان منذ بدايته مختلفًا ومنفصلًا ومستقلاً عن خلق الحيوانات الأخرى، لأنه منذ بداية خلْقه بالتناسل كان يُخلَق من نطفة أمشاج، أما الحيوانات الأخرى فكانت تتناسل من نطفة غير أمشاج.

ومع أن الإنسان خُلق منذ البداية من نطفة أمشاج، غير أنه كان في البداية مزودًا بخصائص نطفة الأمشاج بالقوة فقط لا بالفعل، إذ ظهرت هذه الخصائص بالفعل تدريجيًا بعد تطوره، حيث قال الله تعالى بعد ذلك: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيراً (الإنسان:3)، أي بعد خلْق الإنسان من نطفة أمشاج جاءت عليه مرحلةٌ صار فيها إنسانًا بالفعل بعد أن كان إنسانًا بالقوة، حيث أصبح سميعًا بصيرًا.

والسميع والبصير ليس معناهما السامع والباصر فقط، بل معناهما كثير السمع وكثير البصر، وهما ميزتان تختصان بالإنسان دون سائر الحيوانات. الحيوان يسمع ويبصر، ولكنه ليس سميعًا ولا بصيرًا، لأن سمعه وبصره ناقصان، وإنما يسمى السميع والبصير مَن بلغ سمعه وبصره درجة الكمال، فمثلا وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين في قوله إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (النساء 59). وقد سُمي الإنسان في القرآن الكريم سميعًا بصيرًا لأنه يسمع صوت الله ويرى مشاهد قدرة الله، ومن أجل ذلك قد سمّى القرآن الكريم قومًا ينكرون سماع كلام الله ويُعرضون عن رؤية آيات قدرة الله عُمْيًا وصُمًّا حيث قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (هود: 24-25). فثبت أن القرآن الكريم لا يعدّ سميعًا وبصيرًا إلا الفريق الذي يسمع كلام الله ويرى آيات قدرته تعالى.

وعليه فقول الله تعالى فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يعني أن الإنسان قد أتتْ عليه مرحلة ظهور خصائص النطفة الأمشاج فيه بالفعل، التي كان مزودًا بها بالقوة. وهذا هو التغير الذي كان آدم أوّلَ مظهرٍ كاملٍ له. فثبت أن هذه الآيات لا تعني النفيَ المطلقَ لوجود البشر قبل آدم، بل تعني أن الجنس البشري كان موجودًا قبله، لأنهم كانوا قد خُلقوا من نطفة أمشاجٍ، ولكن لم يكن أحد منهم متّصِفًا بهاتين الصفتين قبل آدم ، أي أن قواهم لم تكن قد تطورت تطوُّرًا يؤهِّلهم لسماع كلام الله تعالى ورؤية آيات قدرته، فلذلك لم ينزل إليهم الوحي السماوي، ولم يُظهر الله لهم آياته الخاصة بالشرع، ولكن لما تطور الإنسان أكثر حتى صار سَمِيعًا بَصِيرًا ظهر آدم الذي كان أولَ مظهر كامل للسمع والبصر، فاصطفاه الله تعالى لكلامه وشرفه بوحيه، وبدأت مرحلة الرقي الروحاني، وكأن الإنسان صار مستحِقًّا لتلك الجنة التي خُلق من أجلها. لا شك أن البشر قبل آدم كانوا مزودين بالكفاءات الإنسانية بالقوة، ولكنهم لم يكونوا أهلًا لإظهارها بالفعل، ولم يكن إدراكهم العقلي مميزًا عن الحيوانات الأخرى كثيرا، ولذلك لم يكلَّفوا بالشرع عندها.

لقد تبين مما سبق من الآيات أن خلق البشر، كما يقدّمه القرآن الكريم، لم يكن دفعة واحدة، ولم يبدأ بخلق آدم ، بل كان آدم أول مظهر لحالة الكمال البشري التي استحق بها أن يُدعى إنسانًا حقًّا جديرًا بحمل الشريعة. وعليه جاز القول أن آدم كان أبا البشر من الناحية الروحية، إذ كان بدايةً للعالم الروحاني، وأولَ إنسان تشرف بالوحي الإلهي، ولكنه ليس بالضرورة أبًا لهؤلاء البشر كلهم من الناحية الجسمانية، بل من الممكن أن يوجد حينذاك بعض البشر الآخرين من نسل أناس آخرين موجودين في زمن آدم، فمنهم من آمن بآدم ومنهم من لم يؤمن به في زمنه، ولكنهم ظلوا يؤمنون به فيما بعد بالتدريج.

أما الآن فأبين أننا لا نجد في قصة آدم المذكورة في القرآن الكريم أيَّ إشارة إلى أن النوع الإنساني بدأ بآدم ، أو أنه لم يكن في زمنه غيرُه من البشر.

لقد سرد القرآن الكريم قصة آدم بذكر اسمه في الآيات التالية:

أوّلُها الآيةُ قيد التفسير: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… . والظاهر من كلماتها أنها لا تتحدث أبدًا عن خلْق البشر، وإنما تقول اذكروا عندما قال ربكم للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. وهذه الكلمات نفسها تؤكد وجود قوم آخرين مع آدم من جنسه، فليس الحديث هنا عن خلق آدم وإنما عن اصطفاء خليفة من البشر، والواضح أن اصطفاء خليفة لا يعني أبدًا أنه لم يكن قبل آدم أي بشر، وإنما يعني فقط أنه لم يكن بين البشر خليفة الله عندها. لقد سمى الله داود خليفةً في القرآن الكريم بقوله تعالى يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (ص 27)، والظاهر من هذه الآية أنما المراد من جعل داود خليفةً أن يحكم الناس بالعدل، ويجعل عقولهم تابعةً لهدْي الوحي الإلهي. وهذا هو المراد نفسه من الإعلان الرباني عن جعل آدم خليفةً. لم يكن المراد من هذا أنه تعالى خلق آدم آنذاك، وإنما معناه أنه عند بلوغ آدم النضجَ الروحاني أعلن الله تعالى أنه جعله مهبط وحيه. وتأكيدًا للأمر نفسه قال الله تعالى في الآية التالية: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (البقرة 32) أي أن الله تعالى بعد أن أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة أنزل وحيه على آدم وعلّمه الأسماء كلها. سوف ألقي الضوء على معنى تعليم الأسماء كلها لدى تفسير الآية التالية، أما الآن فأريد التنبيه إلى أن الآية قيد التفسير تبين أن آدم كان موجودًا لدى الإعلان الرباني عن جعلِ خليفةٍ في الأرض، لأن الله تعالى لم يقل أنه خلق آدم بعد هذا الإعلان، بل قال إنه أنزل وحيه على آدم بعد ذلك، مما يبين جليًّا أن آدم قد خُلق قبل ذلك.

أما الآية الثانية التي تتحدث عن آدم فهي قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ (الأعراف:12)، أي أننا خلقناكم، ثم زودناكم بأفضل القوى والكفاءات، ثم قلنا للملائكة أطيعوا آدم.

لقد فسّرت قوله تعالى صَوَّرْنَاكُم بأننا زودناكم بأفضل القوى والكفاءات، وهذا المعنى يتفق مع اللغة، إذ كتب صاحب المفردات: “الصورة… ضربانِ؛ أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة، بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان، كصورة الإنسان والفرس والحمار بالمعاينة، والثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختُصّ الإنسان بها من العقل والرويّة والمعاني التي خُص بها شيءٌ بشيءٍ”. لقد تبين من هنا أن الصورة تطلَق في العربية على الشكل الظاهري وعلى الشكل المعنوي أيضًا، أي على القوى والكفاءات، وبهذا المعنى نفسه قد قال الله تعالى ثم صورناكم ، أي زودناكم بأفضل القوى والكفاءات.

ثم بعد ذلك قال الله تعالى ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، وهذا يوضح بجلاء أن الله تعالى لم يأمر الملائكة بطاعة آدم بعد خلق الإنسان فورًا، إنما أمَرهم بذلك بعد أن بلغ الإنسان كمالَ كفاءاته الروحانية تدريجيًا.

كما تؤكد الآية المذكورة آنفًا وجودَ كثير من البشر قبل أن يأمر الله الملائكة بالسجود لآدم، أو بتعبير آخر قبل أن يجعل الله آدم مُطاعًا أو خليفةً، ذلك أن الله تعالى لم يقل هنا أننا بعد خلق آدم وإعطائه الصورةَ الروحانية أمرْنا الملائكة بالسجود له، بل استخدم هنا صيغة الجمع للمخاطب وقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم ، ثم بعد ذلك قال ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ . فكلمات خلقناكم وصورناكم تدل صراحة أن آدم لم يكن أول البشر، بل كان كثير من البشر موجودين في عصره وكانوا قد أُعطوا الصور الروحانية، وكان آدم أكملَهم، فاختاره الله تعالى من بينهم للخلافة وأمَر الملائكة بطاعته.

والآية الثالثة التي تذكر آدم هي قول الله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (طه: 116)، أي أننا قد آتينا آدم أيضًا من قبل تعليمات معينة غير أنه نسي ذات مرة، ولكنا رأينا أنه لم يفعل ذلك قصدا وإرادة.

وهذه الآية أيضا لا تذكر مطلقًا أن آدم خُلق قبل سائر البشر كلهم، وإنما تذكر أن الله تعالى وهب لآدم أيضا النبوة.

بالإضافة إلى هذه الآيات، قد ورد ذكر آدم في موضعين في سورة آل عمران، وفي الموضع الأول (الآية رقم 35) ذكر الله مكانة آدم واصطفاءه له، أما في الموضع الثاني (الآية رقم 61) فذكر الله تعالى المشابهة بين آدم والمسيح عليهما السلام، ولا ذكر في الموضعين أبدًا أن الله تعالى جعل آدم أول البشر.

هذا، وقد ورد ذكر سجود الملائكة في آيات أخرى أيضًا بدون ذكر اسم آدم، ويستدل البعض من هذه الآيات أن آدم كان أول البشر، ولكن لا تدل هذه الآيات على ما ذهبوا إليه. وفيما يلي هذه الآيات:

قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر 27-30).

وقال الله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* (ص:72-73).

قد يقع البعض في شبهة بقراءة هاتين الآيتين فيقول قد أمر الله تعالى هنا الملائكة بالسجود بذكر خلق البشر، بينما أمر في آيات أخرى الملائكةَ بالسجود لآدم بعد نفخ الروح فيه، فهذا يعني أن المراد من البشر هنا هو آدم، وعليه فآدم هو أول البشر.

ولكنّ هاتين الآيتين لا تذكران خلق آدم، وإنما تذكران خلق بشرٍ فقط، وليس هناك أي مانع من أن نفسر هاتين الآيتين بأن يكون الله تعالى قد أخبر الملائكة عند بداية خلقه للبشر بأن هذا البشر سيكون في المستقبل مؤهلًا لتلقي الوحي، ثم عندما حان استخلاف آدم أخبر الله الملائكة بمشيئته هذه للمرة الثانية وقال لهم لقد حان وقت ما أخبرتكم به. فالأمر الذي قد أشار الله إليه في المرة الأولى بقوله فإذا سويته قد أشار إليه للمرة الثانية بقوله: إني جاعل في الأرض خليفة ، ليخبر الملائكة أنه قد تمّتْ الآن تسوية الإنسان وصار مؤهلا لتلقي الوحي، فاستعدّوا لمهمة إنزال الوحي عليه واسهروا على تأييده.

وهناك آية أخرى تؤيد هذا المعنى وهي: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُون (السجدة: 8-10)

تبين هذه الآية ترتيب خلق الإنسان كالآتي:

  1. خلْق الإنسان أولاً من طين،
  2. ثم استمرار نسله من نطفة،
  3. ثم اكتمال قواه الإنسانية،
  4. ثم نزول الوحي الإلهي عليه.

ويكشف هذا الترتيب جليًا أن الوحي الإلهي إنما نزل على الإنسان الذي بدأ خلقه من نطفة، وليس على الإنسان البدائي الذي خُلق من طين، لأن الله تعالى يقول هنا إن الإنسان خُلق أولًا من طين، ثم بعد ذلك بدأ نسله من نطفة، ثم اكتملت قواه الإنسانية، ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي الإلهي. فثبت أن آدم الذي تشرف بكلام الله تعالى كان من ذرية الناس الذين خُلقوا من نطفة، ولم يكن من البشر الأوائل الذين خُلقوا في المرحلة الطينية البدائية السابقة لمرحلة الخلق الإنساني من نطفة. لأن هذه الآية صريحة في بيان أن كلام الله تعالى نزل على أحد من البشر الذين خُلقوا من نطفة، والإنسان المخلوق من نطفة حتمًا له أبوانِ، ومن كان له أبوان لا يمكن أن يُسمى أول إنسان.

فخلاصة القول إنما المراد من الآيتين المذكورتين من سورتي “الحجر” و”ص” أن الإنسان البدائي المذكور فيهما ليس بآدم بل كان أحدًا من آبائه، وأن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لم يكن من أجل ذلك الإنسان البدائي جدا، وإنما كان من أجل ذلك الإنسان الكامل الذي كان سيتشرف بكلام الله أول مرة بعد تطور العقل البشري.

وثمة آيات أخرى تدلّ على أن آدم لم يكن أول إنسان ظهر في الوجود، بل كان في عصره كثير من الناس الآخرين. فقد قال الله تعالى في الآيات التالية للآية قيد التفسير من سورة البقرة وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ . ولو فسرنا الزوج هنا بمعنى الرفيق والصاحب، وهو صحيح لغةً، لثبت أن بني نوع آدم أيضًا كانوا موجودين في عصره. ولو فسرنا الزوج بمعنى الزوجة فأيضًا يكون المراد أن الرجل والمرأة كانا مخلوقين عندها، إذ لا يوجد هنا لفظ يدل على أن الله تعالى خلَق في تلك المناسبة زوجة لآدم، بل قال الله تعالى له: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وهذا يعني أن المرأة كانت موجودة سلفًا ولم تُخلق في ذلك الوقت. لو لم تكن المرأة موجودة حينها وخلَقها الله في ذلك الحين تماما، لوجب ذكر ذلك أيضًا، ولكن القرآن الكريم يقدم وجود المرأة كحقيقة ثابتة، وأمر آدم أن يسكن هو وزوجته في الجنة كما يُؤمر اليوم الرجل بأمرٍ ما بشأن زوجته.

وقد ورد هذا الأمر الرباني لآدم في سورة الأعراف أيضا (الآية20)، ولكن لا ذكر هنالك لخلق زوجته عندها أيضًا.

وورد ذكر زوجة آدم في سورة طه أيضًا كالآتي: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ (طه 118). وقد ذكرت المرأة هنا أيضا ذكرًا عاديًا وليس ذكرًا إعجازيًا، ولا ذكر هناك أنها خُلقت في ذلك الوقت تحديدًا.

كذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية قيد التفسير من سورة البقرة: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة:37). والخطاب هنا للجماعة، فثبت أنه كان هناك مع آدم وزوجته أناس آخرون في ذلك الوقت.

وإن قيل أن صيغة الجمع استخدمت هنا لأن الشيطان كان معهما، فهذا أيضا لا يبطل استدلالنا من هذه الآية، لأننا لو اعتبرنا الشيطان مشمولًا في هذا الأمر الإلهي فلا بد من أن نعتبر أن هذا الشيطان كان من جنس البشر، إذ تخبر هذه الآية أن الــمُخرَجين من الجنة مع آدم سوف يعيشون كلهم معًا على الأرض وسيتعاملون فيما بينهم. فلو اعتُبر الأمر الإلهي موجهًا إلى الشيطان أيضا، لعُدَّ هذا الشيطان من جنس البشر، وهكذا أيضا لا يكون آدم أول البشر. أما لو قيل أن الشيطان لم يكن مشمولًا في هذا الأمر الإلهي فلا بد من الاعتراف بوجود أناس آخرين مع آدم وزوجته، لأن الأمر بالخروج هنا موجه إلى أكثر من اثنين، وهو دليل على وجود جماعة من البشر في ذلك الوقت.

وعندي أن الشيطان مشمولٌ في هذا الأمر الإلهي، وأن الشيطان الذي غرّ آدم كان أحد البشر الذين لم يؤمنوا به في ذلك الوقت ولم يستعدوا للانقياد لشريعته.

ثم بعد ذلك قال الله تعالى في الآية التالية: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة 39). وهذا أيضًا يبين أنه كان مع آدم أفراد آخرون كثيرون في ذلك الوقت، لأن الخطاب هنا أيضًا بصيغة الجمع. بل الثابت من هنا أنه كانت هناك جماعة سوى آدم، إذ قال الله تعالى هنا اهبطوا أيها الجماعة من هنا جميعًا، فإن أتاكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والظاهر أن هذا الخطاب ليس موجهًا إلى آدم لأنه كان نبيَّ عصره، إنما هو موجه إلى رفاقه الذين كانوا جماعة عند القرآن الكريم.

والكلمات نفسها قد وردت في سورة الأعراف أيضًا.

لعل البعض يقول هنا: قد وردت في سورة طه صيغة التثنية قال اهبطا منها (الآية 124)، ويبدو من هذا أن أمر الخروج كان موجهًا إلى آدم وزوجته فقط، ولم يكن معهما إنسان آخر.

والجواب: لا شك في ورود صيغة التثنية في سورة طه: اهبطا ، ولكن قد قال الله تعالى بعدها: جميعًا ، أي اخرجا أنتما جميعًا، حيث الآية الكاملة هي: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (طه:124). والواضح أن الخطاب هنا ليس موجهًا إلى آدم وزوجته، بل هو موجه إلى جماعة آدم وجماعة الشيطان. لو كان المراد آدم وزوجته فقط لما قيل جميعا ، فلفظ جميعا لا يراد به فردان، بل فريقان. فهذه الآية لا تعارض استدلالي بل تؤيده.

ثم زاد الله تعالى هذا الأمر إيضاحًا باستخدام صيغة الجمع بشأن الهدى أيضا حيث قال فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى .

ثم في سورة الحجر ورد أن الشيطان لما رفض طاعة آدم عند اصطفائه خليفةً وزجره الله تعالى قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (الحجر 40-41). لقد اتضح من هاتين الآيتين أيضًا أن الشيطان كان يجد ضده جماعة من البشر في ذلك الوقت.

وقد يقال هنا أن الشيطان كان يعني بصيغة الجمع هنا أولاد آدم، ولكني أقول إن أولاد آدم يأتون في المحل الثاني، إذ كان الشيطان يريد إغواء آدم ورفاقه في مقامهم الأول، وما دام الشيطان يذكر جماعة من الناس، فثبت أنه كانت هناك جماعة من البشر.

ولعل أحدًا يعترض على ما سبق من الشرح قائلًا: هذا يعني أن الشيطان كان من جنس البشر، مع أن الله تعالى يقول في القرآن الكريم لإبليس: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف:13)، وكذلك ورد عن إبليس: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (الكهف:51)، أما الجن فقد قال الله فيهم وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (الرحمن:16). فما دام الإنسان خُلق من الطين، والجن خلقوا من النار، فكيف يكونان من جنس واحد؟

والجواب الأول أن القرآن الكريم قد فرق بين إبليس والشيطان، فحيثما ذكر الامتناعَ عن السجود لآدم نسبه إلى إبليس، وحيثما ذَكر محاولةَ إغواء آدم أسندها إلى الشيطان، فمثلاً قال الله تعالى في الآية قيد التفسير: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ (البقرة:35-37).

وقال تعالى في سورة الأعراف عن السجود لآدم: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (الأعراف:12)، وبينما قال تعالى عن الوسوسة: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ (الأعراف:21).

وفي سورة طه قال الله تعالى في سياق السجود: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (طه:117)، بينما قال تعالى في شأن الوسوسة: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ (طه:121).

واختلاف الاسمين في كل هذه الآيات في كل مرة لا يخلو من حكمة، والقرآن الحكيم يراعي الحكمة في كل كلمة من كلماته، فمن المستحيل أن يكون هذا الاختلاف في استخدام اسمين مختلفين عند الفعلينِ بدون حكمة، فلزم أن يكون الممتنع عن السجود لآدم غير الذي حاول إغواءه، ولذلك سُمّي الأول إبليس، والثاني الشيطان.

فمن أصر على هذا الاعتراض فيمكن الرد عليه بأن المخلوق من النار هو إبليس وليس الشيطان (أما ما هو السبب وراء استخدام الاسمين المختلفين عندي فسوف أذكره لدى تفسير هذه الآيات في مكانها).

أما الجواب الثاني والحقيقي فهو أن القول بخلق الجان من النار لا يعني أبدًا أن إبليس أو الجن قد خُلقوا فعلاً من النار المادية، وإنما هذا أسلوب للتعبير والمراد أن إبليس كان مطبوعًا على طبيعة نارية من التمرد والعصيان. وقد ورد مثل هذا التعبير في مواضع أخرى في القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (الأنبياء:38)، فهذا لا يعني أن العَجَل مادّةٌ خُلق منها الإنسان، إنما المراد أنه ذو طبع عجول، ويريد أن يرى نتيجة كل شيء عاجلاً. ومنها قول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ (الروم:55)، فليس المراد أن الضعف مادة خُلق منها الإنسان، إنما المراد أن في جبلّة الإنسان ضعفًا ولا يستطيع أن يهيء بنفسه سبيل الهدى، بل هو بحاجة إلى أن يُنزل الله له الهدى.

وعليه، فالمراد من خلق الجن وإبليس من النار أنهم كانوا ذوي طبائع نارية، بمعنى أن الإنسان قبل خضوعه لحكومة التمدن والتحضر كان ناري الطبع، وكان صعبًا عليه طاعة الآخرين، ولكنه لما تطور بالتدريج مال إلى طبعه الطيني الحقيقي وتعلَّم الانقياد والطاعة. وأما قول إبليس خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فيعني به أن آدم عقليته عقلية العبيد، أي يمكن أن يطيع الآخرين أما أنا فطبعي ناري، ولا أستطيع طاعة غيري، فأنا خير منه. فإن ادعاء إبليس وأعوانه كان أمرًا طبيعيا إذ كانوا يعدّون حريتهم المزعومة أفضل من الطاعة، ويرون أن طاعة النظام عيب. واليوم أيضا يوجد أظلال لإبليس حيث يظنون خطأً أن طاعة الآخرين ذل وهوان، وأصحاب الميول الفوضوية الداعية إلى إلغاء الحكومة هم من هذا القبيل.

لقد ورد تعبير الطبع الناري في آية أخرى أيضا حيث قال الله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (المسد 2)، فأبو لهب هنا ليس اسمًا لأحد ، بل هو لقبٌ وصفةٌ لأحد أعداء الإسلام، وليس المراد أنه كان يولّد النار، بل المعنى أنه كان ذا طبع ناري، وكان يحترق حسدًا وكمدًا من الرسول ، وكان بسبب عدائه يصبح نارًا متجسدة.

وأما ما ورد في الآيات السابقة أن الجن كانوا يعيشون في العالم قبل خلق البشر من صلصال، فسوف أتناول شرحه في الآيات التالية إن شاء الله، وقد ذكرت شيئًا منه لدى تفسير قول الله تعالى في سورة الحجر وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر 27)، فليرجع إليه من أراد، فقد طُبع تفسيرها.

لقد تبين مما كتبناه حتى الآن في تفسير الآيات قيد التفسير من سورة البقرة، وكذلك من الآيات الأخرى، أن القرآن الكريم يعلّم ما يلي:

  1. أن خلق آدم لم يتم دفعة واحدة، بل إن الجزئيات الدقيقة تطورت في نشوئها، ومرت بمراحل عديدة مختلفة إلى أن تحولت للصورة الإنسانية.
  2. أن الإنسان منذ البداية خُلق إنسانًا، وليس كما زعم الفلاسفة، نتاج مصادفة خلال تطور بعض الحيوانات.
  3. أن الإنسان الأول الذي تلقى وحي الله تعالى أول مرة كان من سلالة الإنسان المخلوق من نطفة، أي لم يتلقّ الوحيَ السماويّ أوّلُ فرد من الجنس البشري الذي نال الصورة الحيوانية، بل إن أوّل مَن حازَ هذا المقام الجليل كان من البشر الذين كانوا من سلالة هذا الفرد الحاصل على الصورة الحيوانية، وهذا المتشرف بالوحي أولَ مرة سمّاه القرآن الكريم آدمَ.
  4. أنه كان في زمن آدم هذا كثيرٌ من بني جنسه، ومن أجل تنظيم هؤلاء القوم وهدايتهم اختار الله تعالى آدم خليفة، وأنّ هؤلاء كانوا يقيمون مع آدم في الجنة الأرضية التي أُسكنَ فيها، وأنهم أُخرجوا منها أيضًا معه.
Share via
تابعونا على الفايس بوك