الأحمدية كما وجدتُها

الأحمدية كما وجدتُها

طاهر العربي

قال الله تعالى :

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين (العنْكبوت: 19)

وجاء في الحديث الشريف : “مَنْ سَكَتَ عَنْ الْحَقّ فَهُوَ شَيْطَان أَخْرَس” (صحيح مسلم).

لقد وجدتُ نفسي مضطرًا إلى نقل حقيقة لكل الأخوة المسلمين في العالم وعلى الخصوص العرب منهم كوني عربيَّ المولد ومترعرعًا بينهم. والحقيقة هذه اطلعتُ عليها ولا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها متذرعا بالظروف القاسية الدينية منها أو السياسية التي تحيط بي، وحتى لو سكتُ زمنا طويلاً أم قصيرا فالشمس لا بّد أن تشرق حتى يزول ذلك الظلام الوهمي المسعور من أرض الله الواسعة.

أتحدث إليكم أيها الإخوة بموضوعية لأني، كما قلت، كنتُ مضطرًا إلى نقل هذه الحقيقة التي واجهتها من خلال رحلة طويلة قمتُ بها وشملَت محطاتٍ عديدة وكانت بلاد باكستان هي محطتي الممتعة، فتعالوا معي إذن.

في مارس لعام 1988 وصلت لمدينة كراتشي، وهي أكبر المدن الباكستانية. فيبلغ تعداد سكانها قرابة 9 ملايين نسمة، وجميعهم من المسلمين بمختلف مذاهبهم، وهناك القليل من غير المسلمين. وكراتشي مدينة عريقة، وتاريخها حافل بالطيبات، وأهميتها الاستراتيجية جعلتها معروفة في العالم أجمع. وفي مينائها الضخم تلتقي البواخر التجارية القادمة من دول العالم المختلفة. وخلال الأيام التي مكثتُ فيها رأيت الكثير من الظواهر المتباينة اجتماعية كانت أو دينية أو حضارية، وكان يهمني كثيرا أن أطَّلع على هذه الظواهر وأسجلها في دفتري وأدرسها جيدا لأصِل إلى حقيقة العوامل التي وراء تلك الظواهر المتباينة. وعلى سبيل المثال، كنت أرى بعض الناس يرتدون ملابس بزيِّ موحَد يختلف عن لباس عامة الناس، وشعرت بأنه لا بد من وراء هذا من سبب عميق وكبير. فسألت عن هذه الظاهرة، فوجدتُ أن كل الذين يرتدون مثل هذا الزي هم (الشيعة الإماميون، البهرة). ولم يهدأ لي بال حتى التقيت بأحدهم وتحدثتُ معه فيما يتعلق بمذهبه وفرقته. وحدثني الكثير عنها، وأخيرا أعطاني كتابا بالعربية يتحدث عن تاريخ وسيرة الدعوة الفاطمية، والبهرة يطول بهم الحديث ولهم في التاريخ فصول.

“قاديانيون في الأفواه”

وفي أحد الأيام خرجتُ للنزهة في حديقة من حدائق كراتشي الكبيرة، وكان الوقت عصرًا. فرأيت فيها طاولة فارغة، فجلست عليها أتأمّل جمال الأشجار والطيور التي عليها، إذا بشاب يسلِّم عليَّ، ثم يجلس إلى جانبي. وكنت أرى في وجهه ملامح المسلم ومجرد إحساس. وكذلك هو بدأ يلتفت ويتأملني جيدا. فعرف أن ليس لي في هذه البلاد موضع قدم بسبب ردّي على سلامه بلهجة دعته أنني غريب. فلم يصبر وسألني بالإنجليزية:

ــــ عفوًا من أي بلاد أنت؟

ــــ من بلاد العرب.

ــــ  أهلاً وسهلا.

ـــ شكراً لك.

وبعد ذلك فاجأني باللغة العربية الفصحى. ففرحتُ كثيرًا، لأن السكوت كان قد خيّم عليَّ في حينها. فسألته عن كيفية معرفته اللغةَ العربية. فأجابني بأنه ما زال طالبًا في إحدى الجامعات الإسلامية في كراتشي يدرس فيها مختلف العلوم ومنها اللغة العربية، وأثنى عليها كثيرًا لأنها لغة محمد والقرآن الكريم.

وسألته عن هويته، فقال بأنه من بلاد البنغال، بنغلاديش، وهو من أهل السنة. ثم استمر حديثنا الطويل والشيق، وأطلعني فيه على أمور كثيرة من وجهة نظره هو. كان يحدثني عن المذاهب الإسلامية في باكستان، وفي آخر حديثه أخبرني بوجود جماعة تسمى (القاديانيون)

  • عفوًا، أَعِدْ!
  • القاديانيون.
  • لم أسمع بهم من قبل، وهل إنهم مسلمون؟
  • يدّعون بذلك ونحن نكفرهم.
  • لماذا؟
  • لأنهم حرّفوا القرآن أوّلا، وأنكروا نبوة محمد ثانيا، وهناك انحرافات أخرى خطيرة.
  • أستغفر الله، كيف يحق لهم ذلك. والله إنّها معضلة كبيرة، ومعاذ الله من شر هؤلاء.
  • نعم، يا أخي، كما أقول لك.

أخرجت من جَيبي قلمي وورقة وكتبت (القاديانيون)، حتى لا أنسى هذا الاسم. ثم أوكلتُ نفسي مهمة التحري والبحث عن هؤلاء الناس، وأحسست أنني ازددت غيظًا وحماسا للتعرف واللقاء بهم. وبعدها سألت البنغالي عن أماكن تواجدهم، فأخبرني بأنهم بكثرة ويسكنون في مختلف مناطق البلاد. وسألت كذلك: من أخبرك بأنهم حرّفوا القرآن وأنكروا نبوة محمد ؟

فقال: إمام جماعتنا في المسجد وهو يحدثنا عنهم أحيانا في خُطب الجمعة.

حان وقت صلاة المغرب ولم يبق لي إلا الخروج من الحديقة، فأنهيت اللقاء بكلمات شكرٍ وجهتها للصديق البنغالي لأنني استفدت منه بشيء جديد ما كنتُ مسلما غيورا، وأوّل حساباتي أن أضعهم في الميزان وآخرها أن أحذّر نفسي والمسلمين منهم.

وفي يوم آخر ذهبت إلى صديق لي كنت أعرفه قبل أيام وهو مدير جامعة إسلامية وإمام مسجد كبير في كراتشي وليس بيننا سوى الاحترام المتبادل. دخلت عليه في غرفته في الجامعة وسلّمت عليه وجلست بالقرب منه. وسألني عن صحتي وراحتي، فحمدتُ الله سبحانه. وبعد دقائق سألته عن جماعة القاديانيين على الوجه التالي:

  • عفوًا، أيها الأخ الطيب، جئتك اليوم فقط لتجيبني على سؤال مهم جدا بالنسبة لي.
  • تفضّل وكما تُحب.
  • بالأمس سمعتُ من رجل مسلم يقول بأنه توجد في باكستان جماعة تسمى (القاديانييون)، فمن هذه الجماعة؟
  • نظر إليّ بتعجب وتأمّل قليلاً وقال: من أخبرك بهؤلاء؟ ألاَ تدري أنهم كفّار ويحاربون الله ورسوله؟
  • كيف …؟
  • لأنهم ادّعوا ادعاءات تخالف ديننا، وعليك أن تبتعد عنهم ولا حاجة للحديث عنهم.
  • أرجوك أن تدلني على مكان عبادتهم إن استطعت.
  • تذمر قليلا وقال: دعْك عن هذا. فأعدت عليه رجائي، فكتب عنوانًا على ورقة صغيرة وقال: تفضّل. شكرته وأثنيتُ عليه، ثم خرجت وأنا مسرور جدًا، لأني عرفتُ القليل عن القاديانيين وخصوصا مكانًا لهم وفيه ولابد أن أعرف المزيد.

وفي يوم آخر اهتديت إلى ذلك المكان، وكان مسجدًا للعبادة. ليس هذا مهمًا عندي، لأن النصارى والهندوس والسيخ والبوذيين وغيرهم كلهم عندهم أماكن خاصة للعبادة، ولا بأس في ذلك، وأكن لهم احترامي. دخلت المسجد وكان كبيرًا جدًا ورائعاً وهندسته الإسلامية أضفت عليه الجمال والقُدسية. ونظرت جيدا فقرأت فوق المحراب كلمة الشهادة بخط جميل وكبير (لا إله إلا الله محمد رسول الله). بدأ الشك يراودُني وحسبتُ أنني متوهم، لأن المكان الذي أنا فيه ليس للكفرة والمحرّفين. وحاولت الخروج منه إلاّ أنّ وقت صلاة الظهر قد حان ولا يمكن لي الخروج بهذه اللحظة الحاسمة والمصلّون تجمعوا صفوفًا. وقفت مع المصلين أترقبهم كيف يصلون. فبدأت الصلاة بعد أن سمعت شخصًا كان واقفا خلف الإمام يردد تكبيرة الإحرام: (أشهد أن محمدًا رسولُ الله). وهنا تأكدّ لي مرة أخرى أنني متوهّم وليس هذا هو مكان القاديانيين. أكملت صلاتي، ولم أرَ هناك خِلاف ما أريد وصلاتهم هي صلاتي ولا فرق.

كان إلى جانبي شاب وسيم يُصلي، فارتأيت أن أسأله سؤالا واحدا. واقتربتُ منه وبكل هدوء سألته بعد أن أخرجتُ العنوان الموجود على الورقة:

  • عفوًا، أين يكون هذا المكان؟
  • ماذا تريد به، وسوف أساعدك عليه؟
  • أشكرك كثيرا، ولكن يجب أن أصلَ هذا المكان.
  • ابتسم الشاب الوسيم، وقال: أنت فيه الآن!!!
  • ماذا تقول، أنتم القاديانيون؟
  • نعم، نحن القاديانيون.

بقيت مذهولاً لوقت قصير وأرجعت نظري لأتأكد من الكتابة الموجودة فوق المحراب. وسألني الشاب باللغة الإنجليزية:

  • من أي بلاد أنت؟
  • من بلاد العرب.

فقال بالعربية .. أهلاً وسهلاً ومرحبًا. ونقلني إلى مكان آخر. فحمدت الله سبحانه بأني لم أتهجّم عليهم أوّل مرة وقد يكون عليّ خطر وشر. فسألني مرة أخرى أسئلة كثيرة عن بلادي ووضعي الاقتصادي والاجتماعي فيه ثم دراستي ووجودي في باكستان. أجبته بالتفصيل، وطلبت منه بعد ذلك أن يتحدث لي عن القاديانية. قال الشاب وقد اشمأز قليلاً من أسلوب الطرح عليه.

  • لا أتحدث معك الآن.
  • لماذا؟
  • لأن سؤالك وطلبك الأخير كانا على خطأ.
  • كيف؟
  • ستعرف عندما تقف بنفسك على الحقائق، ولا لوم عليك، لأنك لست من أهل البلاد، ولكن العواصف السوداء القادمة من أعدائنا لا بد وأن تزول، ويا أخي كل ما سمعته هو غير صحيح.

وهنا عرفت أنني أخطأت الفهم ويريد هو تصحيحه. طلبت منه اللقاء مرة أخرى، فقال: أي وقت تشاء. فكرتُ قليلاً وسألته عن مكان قيادتهم الدينية، فأجاب ربوة.

  • وأي ربوة؟
  • ترغب، وستجد هناك الأجوبة الوافية. اسألّ حالَ وصولك عن دار الضيافة وهي مكان لاستضافة الناس الوافدين عليها. وشرح لي بالتفصيل الطريق من كراتشي إلى ربوة، ولم يتركني حتى وعدته بالذهاب إليها.

فرجعت مسرورًا وخجلاً لأني عرفت أين هو التقصير الذي حصل مني معه والذي أزعجه قليلا. ثم فكرت بالبنغالي وصديق آخر، فهما وضعا لي صورةً تختلف عما رأيته الآن. كل هذا زادني حرصًا واندفاعًا لأذهب إلى مدينتهم، ربوه. وعرفت أنني سأواجه هناك أشياء لم أعرفها من قبل وهذا هو المطلوب، والباحث عن الحقيقة يتحمل تبعات بحثه.

فانطلقت لأبحث عن هؤلاء؛ ماذا سيصبحون غدًا وهم اليوم (قاديانييون).

ربوة .. تتحدث عن نفسها.

شددت يدي بعاجل الترحال وذهبتُ إلى محطة القطار لأشتري بطاقة السفر أصل بها إلى ربوة. تحرك القطار من محطة كراتشي قاصدًا مدينة راولبندي، لكنه يمر في طريقة بمدينة ربوة. وصلت إلى ربوة بعد أن استغرقت رحلتي 25 ساعة تقريبًا. نزلت في محطة قطار ربوة، وسألتُ شخصًا عن مركز المدينة. أشار بيده وقال: اذهب من هنا. فمشيت وأنا أمعن النظر في شوارعها، وكنت أحسبها مدينة كبيرة وفيها العمران وازدحام الناس والسيارات، ولكن لم أرَ سوى البساطة في كل شيء.

وسألت شخصًا آخر عن (دار الضيافة) فأخذني بيده بعدما عرفني غريبًا وهي لا تبعد عن محطة القطار إلا دقائق. رأيت فوق بابها الرئيسي كتابة بالعربية: دار الضيافة، وتحتها بالأردية، “لنكَر خانه” كان حارس في الباب. سلمتُ عليه فرّد سلامي بشيء عذب بعدما قال له رفيقي إنه عربي حيث قال: أهلاً و سهلاً. انصرف الرجل، ودخلتُ الدار، وتقدمت خطواتِ فيها لتواجهني الكلمات العذبة: أهلاً وسهلاً ومرحبًا. دخل في قلبي السرور وكأني في مكان من أماكن بلادي. وبعد خطوات أخرى أقبلتُ على قاعة الاستقبال، فرأيت مكتوبًا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى بابها آية من القرآن الكريم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الموظف الذي كان جالسًا فيها هو الذي أجرى اللازم لي، لأن مهمّته استقبال الضيوف الوافدين من خارج ربوة باكستانيين أو أجانب كانوا، أو مسلمين أو غير مسلمين.

خصص لي غرفة ذات سريرين وكان برقم 3. والآن حان وقتُ صلاة الظهر، فصليتُ. وبعدها دخل عليَّ الخادم المخصّص لخدمة الضيوف ومعه وجبة غداء. تغديت وأنا في غاية من التعب بسبب معاناة الطريق. فلجأت إلى سريري ونمتُ حتى صلاة العصر، وبعد ذلك شربتُ الشاي وأخذتُ كتابا أتصفحه، هربًا من الوقت الضائع، ولأنه ليس عندي برنامج لحد الآن.

لم يمضِ نصفُ ساعة حتى طرق بابَ الغرفة بهدوء شخصٌ ما كنتُ أعرفُه. سلَّم عليَّ وجلس بجانبي، وبدأ يرحّب ترحابا جميلاً، وقال أهلا بك في مدينتك ربوة.

شكراً لك وأرجو الله أن يوفقنا وإياكم لما فيه الصلاح. تحدثنا عن أمور عامة كثيرة حتى سألته عن دار الضيافة هذه، وطلبتُ منه أن يعطيني معلومات عنها، فأجاب: حسنًا، إذن يجب أن نخرج من هنا لأطلعك على التفاصيل. فقلت: البناية وأشياء أخرى فيها. تفضّل. خرجنا سويّا إلى ساحة الدار وحدثني وقال: كان الوحي ينزل على مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا غلام أحمد قادياني ويبلّغه ما يريده الله تعالى منه، ومن بين ما تلقاه من الوحي هذه الكلمات، وأشار بيده إلى مخطوط على الحائط بأحرف كبيرة جدا وبالعربية : “وسِّع مكانَك .. يأتون من كلّ فج عميق” واستمر في حديثه: لقد أنشأ حضرته أوّل دار للضيافة في قاديان، بأمر من الله تعالى حسبما ورد في هذا الوحي. وكانت الدار الأولى من الطين. الناس أخذوا يتوافدون عليه من جميع الأقطار. ولما رأى الضرورة في توسيعها عمد ببركة الله إلى إنشاء دار أكبر وأفضل من الأولى. وبالتدريج أصبحت تلك الدار البسيطة دورًا في مختلف مناطق العالم. وهذه دار الضيافة تعتبر هي الدار المركزية في ربوة. وعندنا الآن دور أخرى واسعة وجيدة جدًا لأعداد كبيرة ولو مئات الألوف من الزوار الوافدين علينا من باكستان وخارجها.

ثم تجولنا في الدار ورأيت بعيني الاستعدادت التامة لاستضافة الزائرين، حيث تتوفر كافة اللوازم الضرورية، واطلعت كذلك على جوانب أخرى منها. وهناك جناح آخر وكادرها المخصص يعمل ليل نهار. وكل هذه الخدمات تقدم مجانا ولوجه الله تعالى لتوفير الراحة للزائرين.

بعد ذلك رجعت إلى غرفتي، وصليّت صلاة المغرب فيها. وبعد مدّة جاء الخادم وهو يحمل وجبة العشاء، فتعشّيتُ، وجلستُ على الكرسي لأتذكّر العبارات التي كان يُطلقها البنغالي وصديقي الآخر لأقارنها بما رأيته إلى ذلك الحين.

بعد صلاة العشاء دخل عليَّ شخصان لا أعرفهما، وسلّما عليَّ سلامًا جميلاً، وكان معهما الصديق الذي رافقني في دار الضيافة عصرًا. فقدَّمهما لي وقال: إنّهما يدرسان في الجامعة الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة) في ربوة. رحَّبت بهم كثيرًا. وسألوني عن طبيعة زيارتي لربوة تلك المدينة النائية بالنسبة لي. فأجبتهم وأخبرتهم عن القصة التي دارت بيني وبين البنغالي وأنّه هو الذي أطلعني على وجود جماعة تسمَّى القاديانية، ولم يسبق أن سمعتُ بها، وعلى هذا الأساس جئت فقط لأطّلع بالتفصيل على هذه الجماعة، ولسوف أنقل بأمانه وصدق عبر أية وسيلة إعلام كل ما أراه فيكم وأسمعه منكم، حتى يعرف الناس في بلادي أو غيرها الأخبار التي يستحقّها الإخوة القاديانيون ليس إلا.

كنت أتحدَّث إليهم وكثيرًا ما أُكرِّر في حديثي اسم القاديانيّة والقاديانيين، وكنت أرى الابتسامة تُشرق منهم بلطف، حتى أكملتُ ما في جُعبتي، ولكنني شعرتُ خلالها ببعض الإحراج.. لِمَ الابتسامة هذه؟ أجابني بكل هدوء وبساطة وقال: عفوًا، يا أخي، إن كنت تسأل عن القاديانيين فلسنا هؤلاء، ولو كنتَ تصرُّ على هذه التسمية فإنّك ضللتَ الطريق، لأنَّ القاديانيين هم في قاديان، في بلاد الهند، ونحن مسلمون أحمديون. خجلتُ كثيرًا وتأمّلتُ قليلاً لأُعيد ذاكرتي. ماذا تقول؟

نعم يا أخي.. هكذا أقول، فليس الذنب ذنبك ولا حرج عليك بل أعلم أنَّ أعدائنا حاولوا بشتّى الوسائل الخبيثة أن يكيلوا علينا الشبهات حتى اسم جماعتنا الحقيقي لم يسلم منهم، محاولةً لوضعنا في مصبّ إقليمي أو عشائري، في حين أن مؤسِّس جماعتنا “مرزا غلام أحمد” كان ينتهج منهجًا عالميًا وهو الإسلام. انظُرْ الفرق بين اسم الشُبهة واسمنا الحقيقي. فلأنَّ مؤسِّس جماعتنا وُلِدَ فيها فسمُّونا قاديانيين! وخلال هذه الأيام ستطّلع أكثر لتعرف شخصية مؤسِّس جماعتنا الحقيقية وكيف أنّه كان من أكبر الزعماء المسلمين في عصره. إنَّ قاديان كانت وما زالت تضمُّ الكثير من المسلمين وغير المسلمين مثل الهندوس والسيخ وكلّهم قاديانيون، أمثال لاله ملاوامل القادياني، وهو هندوسي وكان طبيبًا معروفًا في قاديان، وكَرْنخش السنغ القادياني وهو سيخي كذلك كان طبيب عقاقير في قاديان. وهذان الشخصان عاصرا حضرة مؤسِّس الجماعة. فهل من المعقول أن يُعدَّا من جماعتنا المسلمة الأحمدية وهما على دينهما لأنّهما قاديانيان؟ كلا وألف كلا. كلنا نعرف أنَّ في بلاد العرب يُلقِّبون الشخص أحيانًا باسم الأرض التي يسكنها، مثلاً في بلاد اليمن يقولون: فلان اليمني وهو مسلم، ويمكن أن يكون جاره يهوديًا ويُنادونه بنفس اللقب (اليمني). وكذلك النجدي والبغدادي وغيرها أو في بلاد فارس مثلاً في (يزد) دائمًا تجد المسلم الذي جاره زردشتي، والإثنان لقبهما اليزدي. فما معنى ذلك؟ هل المسلم أصبح زردشتيًا أم الزردشتي أصبح مسلمًا. فالدين هو الذي يميّز ويجعل الفرق، فكيف بالإسلام؟

وأما الاسم الثاني هو الأحمدية وهو اسمنا الحقيقي الذي يحتفظ به جميع المسلمين الأحمديين. فقد اختاره مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية في بداية دعوته. فأعداؤنا حاربونا بشتّى الطرق ابتداءً بتكذيب الدعوة الإسلامية الأحمدية الحقّة وانتهاء بكيل الشُبهات عليها ومنها قولهم القاديانية والقاديانيون بدل الأحمدية والأحمديون.

كنتُ أراه يتحدَّث بحماس ولديه الرغبة في أن يُطلعني على كثير من الحقائق بقلبٍ دامٍ وحزين. فهدأ قليلاً وصارت لديَّ الفرصة لأساله:

  • عفوًا ماذا تعني بالأحمدية، وما هي الظروف الموضوعية التي دعت حضرة مؤسِّس الجماعة أن يُعلن دعوته؟
  • الأحمدية هي اسم لجماعة إسلامية تكوّنت من أفراد قليلين أول أيام الدعوة. وهؤلاء الأفراد اعتصموا جميعًا بحبل الله ووضعوا أمامهم برنامجًا من خلاله يُحيون الإسلام. وسُمّيت هذه الجماعة بالأحمدية على غرار اسم مؤسِّسها حضرة مرزا غلام أحمد. أما الظروف التي دعت إلى تأسيس هذه الجماعة فأولهما غيبية، فكان حضرته وليًّا من أولياء الله، وثانيهما أنَّ الدعوة الأحمدية كانت وبالضرورة مخاض آلام الأمة يوم انحدرت المصائب والمصاعب على الإسلام والمسلمين. فضاع الحق، ونسوا اسم الله، واصبح الإسلام مجرد اسم يُذكر والقرآن مجرّد رسم يُباع، وليس هناك من يقتدي بهما. فهي أُطروحة عصر الجفاف.

والمهم في الحديث أن أسأل جميع المسلمين: لماذا التفرقة والعداء؟ وهل مثل هذا التصرُّف هو استجابة لنداء ربنا سبحانه..

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا .

طال بنا الحديث الشيّق وعقرب الساعة يزحف نحو الواحدة، ومازال التعب يبدو عليّ واضحًا. انتهت جلستنا بالشكر لله تعالى على إتاحة هذه الفرصة التي فيها تعارفنا واطّلعتُ على قليل من الحقائق، فأُزيل بها كثيرًا من الغبار. وخرج الجميع وبقيتُ وحدي أُراجع ما سمعته وما رأيته، وأستغفر الله. استلقيتُ على فراشي وأنا في غاية السعادة والاطمئنان خصوصًا عندما رأيتُ كتاب الله موضوعًا قريبًا مني في لوحة من الخشب ذات شكل جميل ومثبّت على الجدار. إنّها الصورة الرائعة التي لم أُشاهد مثلها قطّ. قُدسيّة تبعث على الاستقرار.

في صباح اليوم الثاني جاء الشخص الذي رافقني في دار الضيافة بالأمس، وأخذني إلى دار المطالعة وهي لا تبعد عن دار الضيافة إلا عشرات الأمتار. فقبل الدخول إليها رأيتُ آيةً من القرآن الكريم مكتوبةً فوق الواجهة الأمامية لها: رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا . دخلتُ المكتبة وتجوّلتُ في أقسامها واطّلعتُ عليها. فوجدتُ غرفةً خاصة للمجلات المختلفة المحلية والأجنبية، وأخرى للصحف الباكستانية اليومية. وهناك قسمٌ للأطفال وفيه مختلف الكتب، وآخر للنساء. ثم دخلتُ إلى قاعة المكتبة الكبرى حيث تنتشر فيها الكراسي والطاولات للقراءة، وكان فيها قرَّاء كثيرون والجميع مشغولون بالمطالعة بانتظام، وكانت كثيرةً جدًا. أرى كتبًا نفيسة ورائعة جدًا باللغة العربية ولمختلف العلوم.. وحقًا: “فيها كُتبٌ قيِّمة”.

نعم لقد أدهشني ما رأيتُ في هذه المكتبة. فهذه التُحفة النادرة على أرض باكستان كونها في مدينةٍ صغيرةٍ نائية وفي بلدٍ ناءٍ وغير عربي. ولكني اطّلعتُ فيما بعد عن السبب الحقيقي لوفرة مثل هذه الكتب وهو أنَّ الأحمديين حريصون جدًا على معرفة أصول العلم، ثم إنَّ حُبّهم للعرب وإلى لغتهم لغة القرآن جعلهم أكثر اندفاعًا ورغبةً لاقتنائها.

بعد ساعتين خرجت مع زميلي بدعوةٍ منه لزيارة الجامعة الإسلامية الأحمدية وما كان في رغبتي الخروج من المكتبة هذه. لم تبعد الجامعة عن دار المطالعة كثيرًا. وعندما وصلت إليها وجدتها خلاف ما أتوقع. فكانت واسعةً جدًا بحيث مشيتُ من الباب الرئيسي حتى حرم الجامعة لمدة ثلاث دقائق تقريبًا والحرم يقع في وسطها. تجوّلتُ في أقسامها. وكان في المكتبة المخصّصة لطلابها كتب أكثرها باللغة الأرديّة وعدد لا بأس به باللغة العربية وخصوصًا الأدب العربي. اجتمع حولي بعض الأساتذة والطلاب ورحّبوا بي كثيرًا، وأخذني أحد الأساتذة إلى جميع الصفوف، وشرح لي البرنامج الدراسي للجامعة.

التواضع سرُّ الشموخ الأحمدي

بعد صلاة العصر طرق شخصٌ باب غرفتي وكان زميلي الذي طلبتُ منه أن يصطحبني في أماكن أخرى. سلّم عليَّ وجلس قليلاً وسألني عن راحتي. فحمدتُ الله سبحانه. ثم قال لي: هل ترغب بالذهاب إلى “بهشتي مقبرة”؟

  • وماذا تعني بها..؟
  • مقبرة خاصة بالأحمديين وفيها قبور الخلفاء؟
  • وأيُّ خلفاء؟
  • الخليفة الثاني والخليفة الثالث، لأنَّ مؤسِّس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة مرزا غلام أحمد أوصى بالخلافة من بعده، ويُشترط أن يكون الخليفة من الجماعة الإسلامية الأحمدية وتتوفر فيه شروط قيادة وإمامة الجماعة. فالخليفة الأول، قبره في قاديان، وسبب دفنه هناك لأنّه توفي ما قبل انفصال باكستان عن الهند.

بادرته فقلت: نعم، تفضَّلْ. وكان في الحسبان أنني أرى اليوم شيئًا ما رأته عيني أو سمعته أذني. الخليفة يعني وليٌّ من أُولي الأمر ومن بعد الله والرسول في الطاعة لقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ .

وما عرفته هو أنَّ الخليفة الأحمدي يعني إمام الملايين من الناس، فَحين وفاته بإمكانهم أن يُشيدوا له ضريحًا في غاية من الجمال في بطن قصرٍ شامخ أو تحت قبّةٍ شمّاء.

كنت أُوسّع خطواتي من أجل الوصول إلى قبور الخلفاء الأحمديين. وبعد دقائق قليلة انتهت بحديثٍ قصير من زميلي، وصلنا للمقبرة، وأشار زميلي إليَّ: أيها الأخ. نظرتُ إلى جهة اليمين للباب، فرأيتُ لوحةً من الحجر منقوش عليها: “السلام عليكم يا أهل القبور، يغفرُ الله لنا ولكم. أنتم سلفنا ونحن بالأثر، وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون”. ويحيط بالمقبرة سورٌ كبير. دخلتُ وفوجئت بالقبور التي كانت إلى جانب الباب. لم أصدّق عيني؛ التراب وقليل من الحصى ولوحة من المرمر مثبّتة من جهة الرأس مكتوبٌ عليها اسم صاحب القبر وتولُّده ووفاته. والقبور أراها منتشرة ومتشابهة تمامًا. رجعتُ في تفكير مرةً أخرى وقلت ربما أصحاب هذه القبور هم من عامة الناس، وبنفس الوقت كنت أنظر لمسافة أبعد وسط المقبرة، فلم أجد ما يُثيرني. وبعد مسيرة دقيقتين أشار زميلي بيده وقال: هذه هي قبور الخلفاء.

نعم عجبتُ أول مرة ولم أعجب بعدها، لأنَّ ما أُشاهده الآن هو يعني أنَّ من في القبور هم أولياء الله بحقّ وإلا فما هو سرُّ التواضع حتى في القبر الذي حسبتُه قبل وقتٍ قصير ضريحًا مطعّمًا بالأحجار الكريمة ذا زخرفة رائعة وعليه قبةٌ شامخة و…

خليفة وإمام الملايين يوصي قبل مماته أن لا يزيد على التراب وعليه قليلٌ من الحصى. حتى لا يتطاير التراب عندما تأتي رياحٌ قوية. أمّا من جهة الرأس فهناك لوحةٌ متينة من الحجر المرمر مكتوبٌ عليها اسم صاحب القبر وتاريخ ولادته ووفاته. ثم رأيتُ قبورًا أخرى في هذه الروضة وأهمها هو قبر “نصرت” زوجة حضرة غلام أحمد. انتبهتُ لنفسي لأني لم أقرأ سورة الفاتحة، فقرأتها بقلبٍ سليم، ودعوت الله تعالى ألا يؤاخذني إن نسيتُ أو أخطأت.

بعدها تجوّلتُ بين القبور التي في هذه الروضة وكأنها قبرٌ واحد. فلم أرى ما يميّز هذا عن ذاك وحتى قبور عامة الناس خارج الروضة. في تلك اللحظات تذكّرتُ زميلي البنغالي وإمام المسجد في كراتشي مرةً أخرى، ودعوتُ لهما بالهداية واليقين. بعد نصف ساعة تقريبًا غادرتُ المقبرة وقد طار غبارُ الشكّ من ذهني، لأنني رأيتُ ولم أسمع. رأيت الخليفة الأحمدي يرفض طمع الدنيا الزائل ليتمسّك بطمع آخرته، وكل الأحمديين ساروا على نهجه الصريح، نهج الإسلام الحقيقي.

الآن حان وقت صلاة المغرب، والمسجد الأقرب لنا هو “المسجد المبارك”. ذهبنا إليه وتوضأنا فيه. مسجدٌ في غايةٍ من الجمال وواسعٌ جدًا وهو اسمٌ على مسمّى. انتهت الصلاة وخرجتُ مع زميلي إلى دار الضيافة.. أحمل للمصلّين الإعجاب والشكر لله على التزامهم، فعندما أكملنا الفريضة قام الجميع مرةً أخرى لصلاة المستحبّات. ثم الهدوء قبل وبعد الصلاة كبندٍ من بنود احترام المسجد.

بعد وصولي الدار ذهبتُ إلى المطعم المخصص للضيوف وتناولتُ العشاء، وبعدها ذهبتُ إلى غرفتي ومعي زميلي. وفي هذه الليلة زارني الكثير من الإخوة أساتذة وطلابًا من الجامعة الإسلامية الأحمدية. والحديث عن تلك الليلة يطول. والصريح في القول كانت ممتعة وكنت فيها مسرورًا.

“مدينة السلام”!

أخرجُ أحيانًا لأتجوّل في هذه المدينة الصغيرة لأتعرَّف على أحوال الناس فيها من عادات وتقاليد وكل ظاهرة تحدث أمامي. وهنا تعرّفتُ على ظاهرة لم أجد كمثلها في أماكن أخرى أبدًا وهي التحية.. فالتحية عند الأحمديين لها أثرٌ ووقعٌ في نفوسهم وتعتبر جزءًا منهم. كنت أمشي في الشارع وليس لي معرفة مسبقة بأي منهم، فما مرَّ شخصٌ بالقرب مني إلا وسلَّم عليّ: “السلام عليكم”. والطريف هنا أنَّ الرجل يؤدّي التحية بلا تكلّف أبدًا، وقد يكون مشغولاً في قضية تهمّه.. ولا ينتظر هل ردَّ الطرف الآخر التحية أم لا. فالأحمدي يعتبر التحية أمرًا هامًا. هذا ما وجدته في هذه المدينة، وقد لفت نظري إلى أن أسمّيها “مدينة السلام”.

وما وجدته فيها من أسمى حالات التواضع هو أنَّ الجميع يستعملون الدرّاجات الهوائية داخل المدينة، الطالب والأستاذ، موظف الدائرة ومديرها، الرجل البسيط وذو الشأن بحيث كان يصعب عليّ أن أعرف من هذا وذاك. كنتُ أرى الطلاب في الجامعة ومعهم الدرّاجات، فلم أعرف هنا من هو الأستاذ ومن هو الطالب. والاثنان يجيئان إلى الجامعة أو يخرجان منها وهما يتحدَّثان معاً وكلٌّ على درّاجته. الكثير من الأساتذة من هو الحاصل على شهادة ممتازة من الجامعات العالمية. قال لي أحدهم عندما كنت أتحدَّث إليه حول هذه الظاهرة: لا تعجب، انظُرْ من هو قادم الآن راكبًا الدرّاجة. نظرتُ إليه جيدًا عندما قرُبَ منا فقلت: لا أعرفه. قال هذا عميد الجامعة. والله كدتُ لا أُصدِّق لو لم أره جالسًا في غرفته ومكتوب عليها “عميد الجامعة”. ومنذ ذلك اليوم أينما أراه أترقّب ماذا يصدر عنه. فعندما يمشي في الشارع أو على دراجته كان كثيرًا ما يُحيّي الناس ونظره دائمًا إلى طريقه. وفي حديث لي مرة أخرى مع شخص آخر عن هذا الرجل وكيف أنه متواضع ويعكس الأخلاق الإسلاميّة الحقيقيّة في تصرّفه اليومي مع الناس، وينسى أنه عميد الجامعة، ردَّ عليَّ زميلي مبتسمًا وقال: أُخبرك إذن بشيء لم تعلمه إلى الآن عن هذا الرجل. قلتُ: وما هو؟ قال هو زوج ابنة الخليفة الثاني. تعجبت كثيرًا. يعني زوج ابنة إمام الملايين من الناس ودراجته الهوائية ليست أكثر تقنية من دراجات بعض التلاميذ.

والحقيقة كلما أدخل أكثر في الحديث عن التواضع الأحمدي أرى نفسي وكأنني لم أبدأ بعد. وكيف لا أقول ذلك و”المسجد المبارك” يشهد على ما أقوله الآن؛ أبناء وأحفاد الخليفتين، الثاني والثالث، أراهم كل يوم في المسجد يصلون معنا، وبعد الصلاة يستمعون إلى محاضرة في تفسير القرآن مع المستمعين، ودرّاجاتهم الهوائية هي الواسطة لنقلهم إلى أي مكان يشاؤون داخل ربوة. أرجع مرة أخرى وأقول: كلما أدخل أكثر في الحديث عن التواضع الأحمدي أرى نفسي وكأنني بدأت الآن، وهذا هو سرُّ الشموخ الأحمدي.

المرأة الأحمدية والحجاب

للحجاب دورٌ كبير وفعال في بناء وتقوية المجتمع الإسلامي المنشود، والمرأة المسلمة تتميز أولاً بحجابها، ويُعتبر الحجاب هو الشيء المهم والرئيسي في حياتها. والحجاب وإن تعدَّدت أشكاله فغرضه واحد: “الحشمة والعفّة”. في رحلتي هذه لباكستان المسلمة رأيتُ أشكالاً متعدِّدة من الحجاب بين ولاية وأخرى.

والحجاب الشرعي الذي ترتديه المرأة الأحمدية هو النموذج الرائع للحجاب الشرعي الذي أقرَّه الإسلام بحيث أنَّ المرأة الأحمدية هي المتميّزة في حجابها في الشكل والالتزام. أما في الشكل فالحجاب يكون عادةً لونه أسود ويغطي جميع أعضائها بصورةٍ كاملة ما عدى العينين والكفين والقدمين. وفي الالتزام رأيتُ المرأة الأحمدية تعتزُّ بلباسها هذا لأنها تحسُّ وكأنه هو وجودها وغايتها، ولم تُضف عليه أية ظاهرةٍ لموضةٍ جديدة تأتيها من الخارج.. فلباسُها كما هو. ووجدت دورها واسعًا جدًا في بناء الأسرة المسلمة ثم المجتمع الأحمدي. تشارك الرجل في كثيرٍ من الأعمال وذلك ضمن الحدود الشرعية التي تسمح لها والتي تكفل لها حشمتها أولا ثم كونها امرأة تختلف في حالتها الجسدية عن الرجل.. في ربوة وجدتُ المرأة تتعلّم وتُعلِّم في مراحل مختلفة، وكذلك تعمل في مجال الطب. فهي على الدوام تُشارك الرجل في هذه المهنة، والمؤسسات الطبيّة تجد فيها دائمًا العنصر النسوي.

فأما اليتيمَ فلا تقْهَرْ

اطّلعتُ على كثير من المؤسسات الخاصة بالجماعة الإسلامية الأحمدية ولم أجد فيها ما هو فائضٌ عن الحاجة، بل لكل مؤسسة عملها الخاص بها، فهي تُديره وهي المسؤولة عنه وتعتبره ذا أهميةٍ مُلحّة. وهناك إنجازاتٌ طبيّة تشرح الصدور، وهي إن دلّت على شيء فإنّما تدلُّ على صدق النية وطيب الخاطر. لقد ذهبتُ بنفسي ذات يوم وشاهدتُ إنجازات للجماعة وزرتُ عمارات سكنية من النوع الممتاز بنتها الجماعة للعائلات الفقيرة التي لا تملك دارًا للسكن. ودَور المعوز هو أن يأتي إلى الجهة المختصّة ويستلم مفتاح البيت المخصّص له. إنّه مشروعٌ جميل وفرحتُ عندما رأيتُه وكأنني أنا المعوز وأنتظر مفتاح داري المخصّصة لي.. هذا المشروع هو في أطراف ربوة، والسبب يرجع إلى أنّهم أي المسؤولين يعتبرونه حيًّا نموذجيًا أكثر من غيره، لذا فهم اختاروا مساحةً أوسع وأفضل، وشوارعها تعبّدت على أحسن وجه. وإلى جوار الحي فوجئتُ بمشروعٍ آخر يحبه الله ورسوله وكل قلبٍ إنساني، وهو بناء قسمٍ للأيتام الذين فقدوا آباءهم وليس لهم من يُعيلهم. وفي هذا القسم تتوفر لهم كل المستلزمات الضرورية بلا استثناء، ويُعتبر مدرسةً نموذجية كذلك، فاليتيم عند الجماعة الإسلامية الأحمدية أصبح ذا مقام. هنالك من يتكفّل له بمعيشته وضمان حياته وتعليمه حتى ينضج ويبلغ أشدَّهُ في هذه الحياة الملتوية. وما رأيتُ هنا لم أره عند غيرهم في هذه البلاد وبهذه الطريقة. فالأحمديون اهتموا برعاية الأيتام، والبناية التي شيّدوها هي من أفضل بيوتهم وحتى من بعض مؤسّساتهم. وأرجَعَ أحدهم ذلك إلى الآية الكريمة: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ .

التضحية تكفل النجاح

لاشكّ أنّ العقيدة الإسلامية الأحمدية قد اختصّت بأسلوبٍ لخدمة الإسلام يختلف في نمطه ومدى الالتزام به عما في الفرق الإسلامية الأخرى. والتضحية عند الأحمديين هي السبيل الناجح لتحقّق الإنجازات التي يُقدمون عليها. فوصلوا إلى أقاصي الأرض مبلّغين ومبشّرين وليس فاتحين. وهذا الأسلوب جاء بناء على الاجتهاد في أحكام الدين.

والأحمدي يرى بمنظاره الديني لزامًا عليه أن يبذل من ماله وجهده في سبيل إنجاز أي مشروع تقوم به الجماعة وهو سبّاق إلى الخير ملتزمٌ مُطيع. لقد تحقق المزيد من الأماني التي كانوا يحلمون بها، فوضعوا أمامهم خطة عمل مقرّرة مسبقًا ذات برنامج موحد للعمل بموجبها والتي تعتمد أساسًا على مبدأ واحد وهو التضحية التي تكفل النجاح في إنجاز أي عمل مطلوب.

وهذه رَبْوَة خيرُ شاهد. فعندما دخلها المسلمون الأحمديون القادمون من بلاد الهند بعد التقسيم عام 1947، كانت أرضًا جدباء مالحة ميتة ليس لها اسمٌ تُسمّى به، لأنها تفتقر حتى إلى الشجرة التي تنبتُ في الأرض. نصب الأحمديون الخيام وسكنوا فيها وبعدها بنوا مساجد لهم من طين بسيطة جدًا ودارًا للضيافة ومدرسة يتعلّمون فيها ويُعلِّمون. وتضافرت الجهود حتى استبدلوا بالخيام بيوتًا من طين. وتقدَّم الحال بالتدريج إلى أن أصبحت هذه الأرض الميتة الجرداء أرضًا زراعية طيبة ولها اسم وقعُه عذب في الآذان فسمُّوها رَبْوَه. ثم أصبحت بيوت الطين قصورًا مسكونة بالأحمديين، وأصبحت المساجد عامرة بأهلها وأهمها هو “المسجد الأقصى”. وأصبحت دار الضيافة دورًا عديدة ذات استعدادات كبيرة وضخمة بحيث يمكنها استضافة مئات الألوف من الناس الذين يأتون كل عام للمشاركة في الاجتماعات التربوية السنوية التي تُقام في ربوه. وأما تلك المدرسة البسيطة فأصبحت جامعةً ضخمة عالية الصيت تُخرِّج الطلّاب لتوزّعهم دُعاة ومبشِّرين في شتّى بقاع العالم ينشرون رسالة الإسلام. كل ذلك أساسه التضحية، ولأنه أي الأحمدي يُقدِّم دينه على دنياه.

وتنفرد الأحمدية بجهادٍ مستميت لا تغفل عنه، وهو جهاد النفس لأنّها أي النفس أمَّارة بالسوء. فهي تهتمُ بالجانب التربوي كثيرًا، وترى أن لا حاجة لنشر الدين للجوء نحو القوة وليس هناك مبرِّر لذلك.

نعم يا إخوتي الأعزاء، كل ما تحدَّثتُ به هو دليل أنني أنصر الحق أينما يكون ولو بحرف أو كلمة تظهر مني بأمانة. وإنَّ رحلتي إلى باكستان جعلتني أعرف حقائق كثيرة وكبيرة. والأسفار هي الدروس للناس طلاب العلم خاصة. والحمد لله أنني تعلمتُ واستفدت أكثر مما كنت أتوقعه أو أسمع به. وما قدمت لكم من شيء متواضع أعنه به ما رأيت بعيني غثا أم سمينا. ولست أبحث هنا صدق الفلسفة الأحمدية من الجانب الديني، فهذا ما أرجعته إلى المستقبل قد يمكنني الله أن أقدم لكم قبسًا من نورها الفلسفي الديني والذي رأيته يدحض ادعاء من يدعي على الأحمدية بسوء. وهذا المدعي يجب أن ندري جوانب حياته كلها حتى نعرفه جيدا.. فهل يتحدث بحسن نية أم لا. واللصوص كثيرون ويرتدون أزياء جميلة. وخلاصة ما أقول: ليس الأحمدية كما سمعتها، بل “الأحمدية كما وجدتُها”.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك