غايات بناء الكعبة

غايات بناء الكعبة

حضرة الحافظ مرزا ناصر أحمد (رحمه الله)

حضرة الحافظ مرزا ناصر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الثالث للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

ملخص خطب الجمعة ألقاها حضرة مرزا ناصر أحمد

رحمه الله الخليفة الثالث لسيدنا المهدي والمسيح الموعود

في 31 مارس و7 و 21 إبريل 1967

خطبة رقم (1)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 97- 98) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 126- 130).

كنت قد بدأت بموضوعي هذا يوم عيد الأضحى المبارك، وقلتُ عندئذٍ إنَّ الله تعالى جدَّد بناء البيت الحرام بيد إبراهيم ، وأخذ منه عهدًا وثيقًا بأنّه هو وأولاده سيضطلعون بتلك المسئوليات المنوطة ببناء بيت الله، ولا يبرحون يفدون جميعا بحياتهم في سبيل الله ، ولن يألوا جهدًا في التدبير والدعاء لكي يُوفَّق أولادهم للإيمان بآخر الأنبياء الشارعين عند ظهوره في هذا العالم، ويُقدِّموا في سبيل الله، بعد أن أسلموا، أعظم التضحيات التي يتطلّبها إعلاء كلمة الإسلام.

كذلك كنت قد بيّنت أنّ الأهداف الكثيرة والغايات العديدة متوقفة على بيت الله الحرام، وهي كلها مذكورة في القرآن الحكيم، وأنّها تتصل ببعثة النبي الأكرم اتصالاً مباشرًا. وإذا أمعنا النظر في الآيات التي تلوتها آنفًا، تبيّنت الأهداف التالية التي لأجلها أمر الله بتجديد بناء بيت الله، ولم ينفكّ يُضحّي في سبيلها إبراهيم وذريّته لِأَلْفي وخمسمائة سنة بلا انقطاع.

ثلاثة وعشرون هدفًا من البيت الحرام

الهدف الأول يتضمّنه قوله تعالى: وُضِعَ لِلنَّاسِ ،

والهدف الثاني مذكور في كلمة: مُبَارَكًا ،

والهدف الثالث يتبيّن من: هُدًى لِّلْعَالَمِينَ ،

والهدف الرابع يوجد في : آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ،

والهدف الخامس مذكور في قوله تعالى: مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ،

والهدف السادس جاء في: مَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ،

والهدف السابع ذُكر في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ،

والهدف الثامن موجود في: جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ،

والهدف التاسع يتبيّن من كلمة: أَمْنًا ،

والهدف العاشر يتضح من كلمات: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ،

والهدف الحادي عشر ظاهر من: طَهِّرَا بَيْتِيَ ،

والهدف الثاني عشر جاء في كلمة: لِلطَّائِفِينَ ،

والهدف الثالث عشر ذُكر في كلمة: الْعَاكِفِينَ ،

والهدف الرابع عشر ورد في: الرُّكَّعِ السُّجُودِ ،

والهدف الخامس عشر مذكور في كلمات: رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا ،

والهدف السادس عشر تشير إليه كلمات: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ،

والهدف السابع عشر أُشيرَ إليه في: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ،

والهدف الثامن عشر أُشيرَ إليه في: السَّمِيعُ ،

والهدف التاسع عشر تهدف إليه صفة: الْعَلِيمُ ،

والهدف العشرون ورد في كلمات: وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً ،

والهدف الحادي والعشرون جاء في قوله تعالى: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ،

والهدف الثاني والعشرون يتعيّن بقوله تعالى: وَتُبْ عَلَيْنَا ،

والهدف الثالث والعشرون حُدِّد بقوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ .

خطبة رقم (2)

 

غايات بناء بيت الله الحرام وبعثة النبي

لقد خطبتُ حول موضوع هام خُطباتٍ يمكن أن نُلخّصها: بأنَّ الله تعالى بنى بيتًا لخير الإنسانية جمعاء، لكنهم لم يعرفوا عظمته، الأمر الذي أدّى إلى خرابه حتى اندثرت آثاره. ثم جدَّد الله بناءه بعد أن أوحى إلى إبراهيم بتجديد خطّته الأساسية، وأمر إبراهيم لأجل حفظه والقيام على شؤونه، بأن يقف أولاده على القيام بهذا الواجب المقدَّس. فظلّت ذريّته تضطلع بأعباء هذه الخدمة أحقابًا طويلة. وبعد هذه الخدمة التي استمرت ألفين وخمسمائة سنة، وبعد ابتهالات دامت مثل هذه المدّة، نشأت أمةٌ متحلّية بمواهب وكفاءات للقيام بأعباء ثقيلة من شريعةٍ عالمية مستوعبة لجميع معاني الكمال.

ثم كنت أخبرتُ بأنَّ هذه الآيات التي تلوتُها بين أيديكم، قد بيَّن الله فيها تلك الغايات الثلاث والعشرين التي تتصل ببيت الله الحرام، والتي تتوقف على بعثة سيدنا ومولانا محمد . وكنتُ قد ذكرت منها خمسة أهداف في خُطبة سابقة، الأول أنَّ هذا البيت وُضِعَ لِلنَّاسِ ، أي لخير الناس جميعًا،  والثاني أنّه بُنيَ مُبَارَكًا من الناحيتين الماديّة والروحانية. والثالث أنّه هُدًى لِّلْعَالَمِينَ ، أي جعله الله تعالى مركزًا لهداية العالمين. والرابع فيه آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ، أي يكون مصدرًا للآيات السماوية المستمرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، وستنبع منه عينٌ للنُصرة السماوية التي لا تنضب أبدًا. والهدف الخامس هو مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ، وقد أخبر به أنّه سيكون مركزًا للعبادة القائمة على عواطف الحبّ والفدائيّة، ومن هنا ينشأ شعبٌ يمثّل سائر الشعوب والأمم وفي كل عصر وزمان، وهذه الأمة ستكون متفانية منتشية بنشوةِ العشق الذي يحرق المعاصي، ولن تزال طرق التقرُّب إلى الله مفتوحة أمامها.

هذه هي الأهداف الخمسة التي كنت تناولتها في الخطبة السابقة بالتفصيل، وبما أنني سأعود إلى كل واحد من هذه الأهداف مرةً أخرى، لإيضاح صلتها ببعثة نبينا وتحديد كيفية تحقّقها، فقد أردتُ اليوم أن أُبيّن سائر ما بقي من الأهداف الثلاثة والعشرين بأوجز أسلوب، إن شاء الله تعالى.

يقول الله : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي أول بيت وُضِع أو بلفظ آخر بُنيَ للناس هو بمكة، ولقد استنبطتُ من الآيات الواردة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم ومن الروايات المتفرقة من الحديث النبوي، أنّه حينما خُلق أبونا آدم وبُعث (لقد اخترتُ لفظ ((أبونا))، لأنَّ النبي قال بأنَّ نحو مائة ألف آدم كانوا قد خلوا قبل أبينا آدم. وأيضًا لقد رأى بعض أولياء الأمة كثيرًا من ذراريهم بالكشف الذي سجّلوه في بعض مؤلفاتهم)، وكان بنو آدم يسكنون عندئذٍ في منطقة محدودة من الأرض. فأوحى الله تعالى إلى آدم وأمره ببناء بيت الله، وكلّفه بتأسيس بيتٍ عظيم، واختصَّه بجميع بني آدم المبعوث في ذلك العصر. لكن بعد ذلك لما تكاثرت ذرّيته وانتشرت، وعمّرت المناطق المختلفة من الأرض، جعل الله تعالى يُرسل الأنبياء إلى كل قوم وفي كل منطقة على حدة لأجل تنميتهم الروحانيّة والعقليّة، لكي يوجِّهوهم نحو الطرق التي تؤدي بالعبد إلى الاضطلاع بواجبات العبوديّة طبق صلاحياته.

ويتبيّن من الأحاديث النبويّة أن مائة ألف ونيّفًا من الأنبياء قد خلوا من قبل. فالآدم الذي تكاثرت ذرّيته وانتشرت شعوبًا وقبائل في مختلف أقطار الأرض، وكان لكل شعب نبيّهم، هؤلاء الأُمم أعرضت عن بيت الله الحرام الذي كان شُيّد لأجل بني آدم قاطبةً، وأهملوه إهمالاً أبلى آثاره حتى اندرست اندراسًا بعد أن دارت عليه دوائر الدهر وتلاشت وسائل إصلاحه وعمرانه. ولكن حينما أوشك أن تتم كلمة الله بجمع الناس كافةً على دينٍ واحد، أراد الله تعالى عندئذٍ أن يُجدِّد بناء ذلك البيت بيد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وذرَيته حتى يقفوا حياتهم على حفظ هذا البيت ورعايته، وذلك لكي ينشأ قومٌ يتصل ببيت الله اتصالاً وثيقًا، ويتمتّع بمواهب وصلاحيات يجب وجودها في قومٍ يكون أول المخاطبين لسيدنا محمد وللكتاب المنزل عليه، القرآن العظيم. فبعد تضرُّعات استمرت ألفين وخمسمائة من السنين وبعد ذلك الوقت الطويل، أعدَّ الله قومًا إذا وقف نفسه في سبيل الله، كان ذا استعدادات وكفاءات تؤهّله لقيادة بني نوع الإنسان في المجالات الروحانيّة. وبما أنَّ هذه المؤهّلات كانت قد بلغت ذروة الكمال، لذلك كان من المؤكّد أن يُثير استعمالها الخاطئ فتنةً عظيمة، لذلك نراهم خالفوا رسول الله أشدَّ المخالفة، ما داموا متمادين في غيّهم وضلالاتهم. فآذوا النبي الكريم إيذاءً لم يسبق له مثيل في الأُمم والأنبياء الأولين. وبالجملة إنَّ مواهبهم وكفاءاتهم كانت لا تعرف الحدود، لكنها ظلّت دفينة إلى أمدٍ بعيد، ولم يبرح الشيطان مسيطرًا عليها. لكن لما انتبهت تلك الصلاحيات المكبوتة، وعرفت ربها حقَّ المعرفة، شاهدت الدنيا من الفداء والتفاني مناظر رائعة لم تشاهدها من قبل في حين من الأحيان، فزبدة القول إنَّ ذلك هو القوم الذي كان قد نشأ بتضرَّعات إبراهيم وتضحياته وابتهالاته ونداء قومه.

فالمعنى الحقيقي لـ وُضِعَ لِلنَّاسِ يتصل بسيدنا ومولانا محمد ، كما أنَّ جميع الغايات المنوطة ببيت الله إنّما تتصل في الواقع بوجود النبي ، ولكن الله كان قد أخبر إبراهيم بأنني إنّما أُجدِّد بناء بيتي هذا لأجل هذه الغايات، وإنّها لن تتحقَّق إلا بتضحياتكم.

الهدف الثاني

والهدف الثاني لبناء بيت لله هو أنَّ الله يريد أن يجعل هذا البيت مُبارَكًا. والمـــُبارَكُ هو موضعٌ منخفضٌ من الأرض تنصبُّ إليه المياه من كل الجوانب، لكن بما أنّه ليس المراد به هنا المياه والأمطار، لذلك إنّما أُريد به معنيان: الأول أنَّ ممثلي جميع الشعوب والأُمم في العالم لا يزالون يجتمعون في هذا البيت، والثاني أننا أمرنا ببناء هذا البيت وعمارته لأن يُبعث فيه نبيُّ شارعٌ يتضمَّنُ شرعه جميع التعاليم والحقائق المتفرقة في شرائع الأمم الأخرى، وما من حقيقة إلا وتوجد في شريعته . فيقول الله : إننا نريد جعل هذا البيت مُبارَكًا لكي يكون مولد ومنشأ لشريعةٍ جامعة لكل الحقائق المتفرّقة في شرائع سائر الأنبياء، ومع ذلك ستكون هذه الشريعة مباركة ببركةٍ سماوية، أي أنَّ هذه الشريعة ستكون محتويةً على جميع التعاليم التي لم تكن الأمم الخالية بحاجةٍ إليها، ولم تكن كذلك لتصلُحَ للاضطلاع بها، وأنَّ هذه الشريعة ستكون مستوعبةً لجميع معاني الكمال محقّقة لمصالح سائر الأُمم، وأنَّ بيت الله هذا سيكون مركزًا وأمَّ القرى لتلك الشريعة الكاملة الأبدية.

الهدف الثالث

والهدف الثالث لبناء هذا البيت أن يكون هُدًى لِّلْعَالَمِينَ . يجب أن تلاحظوا أنَّ الله استهلَّ هذه الآيات بقوله: وُضِعَ لِلنَّاسِ ، أي أننا نبني هذا البيت لكافة الأُمم والشعوب ولكافة الأزمان والعصور، ولذلك كرَّر الله تعالى في هذه الآيات عالميّة هذا البيت، فيقول إنَّ الهدف الثالث لبناء هذا البيت هو أنّه هُدًى لِّلْعَالَمِينَ ، أي يكون منارًا هاديًا لجميع العوالم. وكلمة هُدًى أيضاً تدلُّ على عالميّة هذا البيت، لأنَّ كلمة هدىً جامعة لكل المواهب الإنسانيّة من العقل والعلم والفراسة وسائر المعارف التي يحظى بها جميع بني الإنسان على السواء، وما هي المصادر التي تتوقف عليها العلوم الروحانيّة وتدور؛ لانَّ الذي لا حظَّ له من العقل فهو مجنون ليس إلا، فيُدعَى مرفوع القلم عنه، أي لا تجري عليه أحكام الشرع، فالعقل أساسٌ للتفقّه في الشرع والعمل بكل ما في كلمة هُدًى من معانٍ. فيقول الله تعالى هنا: إننا سنجعل ببناء هذا البيت جميع الشعوب تتمتع بصلاحياتٍ وكفاءاتٍ متساوية من ناحية العقل والفراسة وسائر المعارف والعلوم، وليس من شعب يفوق شعبًا آخر من هذه الجهة.

ولقد أُشيرَ بذلك إلى أنَّ العصر الذي تتجلّى فيه حقيقة هُدًى لِّلْعَالَمِينَ بعد بعثة النبي الكريم فيه، ستظهر في العالم أُمم تزعم أنها أعقل من سائر الشعوب وأعلم وأجدر بإتقان العلوم، وأنَّ الأُمم الأخرى لم تُخلق إلا لتكون خاضعة لحُكمنا. فيقول الله تعالى إننا سنُثبت بهذا البيت العظيم أنّه لا فضلَ لقومٍ على قوم بالعقل وسائر العلوم الأساسية، بل إنَّ الله خلق جميع بني نوع الإنسان لأجل عبادته، ووهب لكل الأمم ما تحتاج إليه من العقل والفهم والعلوم والمعارف على السواء، أي أنّها تملك الكفاءات والمواهب متساوية، ويمكن أن يمتاز فيها فردٌ عن فرد، ولكنه لا فضلَ فيها لقومٍ على قوم بتاتًا.

والمعنى الثاني لـــــ هُدًى لِّلْعَالَمِينَ أنَّ الله تعالى سيبدأ بتنزيل القرآن الحكيم من هذا البيت، إذ أنَّ الهداية عند صاحب المفردات هي الهدي السماوي العالم الذي دعا الله إليه بلسان الأنبياء وبتنزيل القرآن الحكيم بصورةٍ خاصة، قائلاً: إنَّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه، تكونوا من المقرّبين إليَّ. فمعنى الهداية هذا شاملٌ لمحمد وسائر الأنبياء على السواء، لكن هُدًى لِّلْعَالَمِينَ . لا يتحقّق إلا لسيدنا ومولانا محمد دون سائر الأنبياء، لأنّهم كانوا قد بُعثوا في أقوامٍ وأزمنة خاصة ولم يكونوا للعالمين، فيقول الله : إنَّ هذا البيت هو منزل القرآن، ومنه يبدأ نزول القرآن، ولذلك إننا نحفظه له، ونخلق وسائل لتطهيره.

والمعنى الثالث لـ هُدًى لِّلْعَالَمِينَ أنَّ هذا البيت سيكون مبدأ شريعة تفتح للإنسان أبواب الرُّقي اللانهائي، إذ المعنى الثالث لـ هُدًى لِّلْعَالَمِينَ ، عند صاحب المفردات، أنَّ الإنسان إذا قام، بعد الاهتداء، بأعمالٍ صالحة، تفضَّل عليه الله ووفَّقه لمزيد التقدُّم في سبيل الاهتداء، وعندئذٍ يوفّق على كل خطوةٍ يخطوها لأحبّ الأعمال إلى الله وأرضاها، ويتدرَّج به هذا العمل إلى المراتب الروحانية العليا، وبهذا تُفتح لهذه الامة أبواب التقدُّم الروحاني الذي لا ينتهي إلى حد.

ثم يقول الله طبق المعنى الرابع للهدى أنه ستكون هناك أمةٌ مسلمة ترِثُ من النِّعم ما لم ترثه أمةٌ من قبل، وأنَّ سائر بني نوع الإنسان لن يزالوا يتمتعون بأتمِّ النِّعم وأكملها وبأوسع رحمة وأعمِّ فضل لا ينقطع إلى يوم القيامة؛ لأنَّ المعنى الرابع للهدى عند صاحب المفردات: ((الهداية في الآخرة إلى الجنة))، أي أنَّ الإنسان سيبلغ الغاية التي خُلِقَ لأجلها. وإنّ الله تعالى قال في كتابه الحكيم أنَّ الجنة ليست بمقصورة على التي هي في الآخرة، بل إنّ الإنسان يرث الجنة في هذه الحياة أيضًا. فالمراد بالهدى عند الله أننا نُشيد هذا البيت ونجعله آمنًا لكي تنشأ عنه أمةٌ ترثُ من الثواب والأجر ومن جنة مرضاة الله ما لا حظَّ منه لأمةٍ أخرى، وإنها ستلقى بأعمالها خير جزاء يلقاه الإنسان؛ لأنَّ الشريعة التي وهبت لها هي أكمل الشرائع وأشملها، والشرائع المتقدمة بما أنها كانت أنقص منها، لذلك لو عُمِلَ بها أيضًا لما كان لذلك العمل حظٌّ من الأجر مثل ما كان للعمل الذي يتم طبق الشريعة الكاملة. ولقد صرَّح الله تعالى هنا أنّ هذا البيت هُدًى لِّلْعَالَمِينَ أي أنّ الشريعة التي يتفجّر ينبوعها من هذا البيت، سيكون العمل بها مؤدّيًا إلى الجنة الكاملة في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضًا. فالهدف الثالث لبناء بيت الله الحرام كونه هو هُدىً للعالمين.

الهدف الرابع

والهدف الرابع لبناء هذا البيت هو آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ . إنّ القرآن الكريم يَعِدُ الإنسان بآياتٍ بيّناتٍ خاصة. فالآيات البيّنات ليست بمعنى عام، بل المراد بالآيات البيّنات هنا هي التي تتصل بهذا البيت الأول الذي هو وُضِعَ لِلنَّاسِ و مُبَارَكًا و وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ وبعد هذه الصفات قال الله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ، ومعناها هنا، أنّ له آياتٌ بيّناتٌ تختصُّ به، وأنه سيكون منبعًا للآيات والتأييدات السماوية الأبديّة. إنّ الآيات والبيّنات التي أُعطيها الأنبياء الأولون انقرضت بعد آجالها المحدّدة، وإنّ الأمم الأولى كلها ادّعت الآن على أساس أدّلةٍ منطقيّة غير مقنعة بأنه لا يمكن الآن أن يتصل الإنسان بالله اتصالاً يورثه التقرُّب إليه، ويُمكِّنه من تلقّي الوحي والرؤى الصادقة والكشوف والأنباء عن المستقبل. إنّ كل أمةٍ سدّت في وجه أفرادها أبواب القرب هذه كلها. فيقول الله تعالى هنا إنَّ الغاية المتوخاة ببناء بيت الله هي إنشاء أمةٍ لا تنقطع عنها آيات الله المتجلّية إلى يوم القيامة، وإنَّ هذه الأمة ستُبيّن للعالم بآيات الله المتجدّدة واستجابة دعواتها وتضحياتها أنّ لهذا الكون خالقًا حيًّا وقيُّومًا، قويًا محبًا لعباده، لا يضيع عباده الذين يخضعون لعتبته، بل إنّه يتقرَّب إليهم ويتصل بهم، ويُشرّفهم بوحيه إظهارًا لعزّهم وكرامتهم وإعلانًا بأنّهم عباده المقرّبون المحبوبون لديه، ويُريهم كشوفًا ورؤى صادقة، ويُجيب دعواتهم، ولا يزال أمثال هؤلاء الأخيار يظهرون في هذه الأمة ويُثبتون ببياناتهم أنّ إلههم لإلهٌ حيّ، وأنَّ عباده المقرّبين ينالون الآيات البيّنات.

الهدف الخامس

والهدف الخامس الذي قد بيّنه الله تعالى لبيت الله هو أنه مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ قال الله تعالى هنا أنّ إبراهيم وكثيرًا من أتباعه وذرّيته هتفوا وتنادوا قائلين: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ بعد أن انقطعوا عن نفسيّاتهم واستغرقوا في عشق الله وحبه كالعاشق المشغوف والمحبّ المتفاني. فاتخذناهم مثلاً أعلى للعالمين جميعًا، وأردنا أن نعمر هذا البيت بإنشاء جماعة من العشّاق الذين يمزّقون جميع الحجب المادّية، ويُعرضون عن علائق الدنيا كلها، متعرّين عن أهوائهم، مُضحّين بأمانيهم، مُتفانين في الله حقّ الفناء، قائمين بتلك العبادة التي تتوقف على الحبّ والإرشاد أحسن قيام. ولقد صرّح حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بأنّ العبادة على نوعين: أولها يتأسّس على التواضع والتذلّل، وثانيهما يتوقف على أُسس الحب والإيثار. الصلاة أساسها التذلّل والتواضع؛ لأنّ النبي قال: إنّ الصلاة دعاء، والدعاء يلزمه التذلُّل والخضوع، فالذي يخفي في نفسه ذرةً من الكِبَر، لا يمكن أن يحظى دعاؤه بالإجابة، فإنّ صلواتنا لا تكون عبادة إلا إذا كانت متأسِّسة على قواعد الخضوع والتذلُّل حقًا. لكن عبادة حضرة إبراهيم هذه التي تتصل ببناء بيت الله وحفاظته والتي تتعلّق بوقف نفسه وذرّيته لأجل خدمة بيت الله والدعاء لبقائه، هذه العبادة تتأسّس على حب الله والتفاني في سبيله، وإنَّ حبّ الله والتعشُّق الذي جاء به إبراهيم لمنقطعُ النظير. فيقول الله إنَّ هذا هو مقام إبراهيم، ومن هذا المقام سنُنشئ أمةً ستبلغ الملايين وستوجد في كل زمن. فإن قارنتم تضحياتها بتضحيات إبراهيم ، فلن تجدوها أقلَّ منها وأحط.

وكان من المحتم أن يكون منشأ هذه الأمة من ثمرات القوة القدسيّة للنبي ، ولكن لنشر تأثيرات هذه القوة كان قد جدَّد تأسيس بيت الله الحرام قبل ألفين وخمسمائة سنة. فيقول الله هنا أنَّ مظاهر أركان الحج تدلُّ بوضوح على علاقة هذه العبادة بإظهار الحب والتفاني. ومن التقاليد المتّبعة في سائر الأمم أنّه إذا أراد أحدٌ أن يفدي حبيبه بنفسه يحوم حوله ويطوف به. ولقد ورد في التاريخ عن بعض الملوك أنَّ ابنه كان مريضًا فطاف به وسأل الله أن يهب له حياته. فالفداء يتصل بالطواف اتصالاً وثيقًا. وبالجملة إنَّ الله يصرّح بأنَّ قومًا عظيمًا سينشأ من هذا البيت، وهو لن ينفك يطوف حول محبوبه، ولا يفتأ يستلم عتبته. من ناحية إنه سيجدد ذكرى إبراهيم ، ومن ناحية أخرى إنه سيظهر القوة القدسية للنبي إظهارًا رائعًا، والله تعالى لم يبعث مثل هذه الأمة، لا في القرون الخالية، ولا في سكان شبه جزيرة العرب فقط، بل في كل قطر من أقطار العالم وفي كل عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أجل إن أولئك الناس هم الذين يحبون الله حب إبراهيم وعشقه له تعالى، ويفدون في سبيله بكل أنواع الفداء.

الهدف السادس

يقول الله : مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ، فالهدف السادس هو أن الذي يدخل هذا البيت ويقوم بالعبادات المتصلة بهذا البيت، سيأمن من جهنم الدنيا وجهنم الآخرة ويغفر له ما تقدم من ذنبه. فالهدف السادس لبناء بيت الله هو أنه تتصل به بعض العبادات، فالذي يؤديها بإخلاص النية وبجميع شروطها، يغفر له جميع ما تقدم من ذنبه وينجو من نار جهنم.

الهدف السابع

والهدف السابع لبيت الله هو ما صرح به الله تعالى قائلاً: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت . فالحج ليس مفروضًا على إبراهيم وآله عليهم السلام أو العرب فقط، بل الهدف الحقيقي لبناء بيت الله الحرام أن تجتمع أمم العالم كافة لحج هذا البيت.

إنني أرى، وعندي قرائن قوية من القرآن الحكيم، أن هذه الأهداف كلها كان قد أخبر بها حضرة إبراهيم عند بناء بيت الله. إن الله أمر حضرة إبراهيم بأن هذا هو البيت الذي على جميع الأمم التي تؤمن بالله ورسوله وتخضع أعناقها لنير حضرة خاتم النبيين أن تحج هذا البيت حتى يصير مرجعًا ومثابة لخلائق العالم كلها.

الهدف الثامن

والهدف الثامن لبناء بيت الله أنه جعل “مثابة” للناس، وأشير بهذا اللفظ إلى أن الأمم لما تتفرق فرقًا وتبلغ منتهى الافتراق يبعث الله تعالى رسولاً يصيب جميع هذه الأهداف ويجمع الأمم المتفرقة كلها على مركز واحد وعلى دين واحد. فيقول الله هنا أنه يريد على رغم هذا التشتت المتناهي أن يبعث رسولاً يجعل أمم العالم كافة أمة واحدة.

الهدف التاسع

والهدف التاسع هو أمْنًا أي أنه جُعل أمنًا للناس، والمراد هنا أننا جعلناه بيتًا لا يمكن تأسيس الأمن في العالم إلا به وحده، لأنه هو وحده يمكن أن يدعى بيت الله، وبدونه وبصرف النظر عن التعاليم المتصلة به لا تقدر هيئة أو منظمة عالمية لتأسيس الأمن على النجاح في مقاصدها، والأمن الحقيقي لا يمكن أن يتأسس في العالم إلا بالتمسك بالتعاليم التي يقدمها النبي المبعوث من هذا البيت. وأيضًا المراد بالأمن بأن الدنيا لن تحظى بطمأنينة القلب الروحانية إلا بالتعلق بمكة المعظمة وبالتمسك بآخر شريعة نزلت بها، وأنها ستنادي أمم العالم كلها إلى ربها الذي نزلها. وبما أن طمأنينة القلب لا تحصل للإنسان إلا إذا كانت التعاليم التي يتبعها محققة لمقتضياته الفطرية وهادية ومنمية لجميع المواهب والكفاءات المودعة في الإنسان، فقال الله تعالى هنا: إن مكة ستكون دارًا للتعاليم التي ستكون مطمْئِنة لقلوب الناس. وكلا المعنيين يصدق هنا وهما: أن الأمن العالمي لا يتأتى إلا بمكة المعظمة، وأن أرواح العالم وعقوله لن تحظى بطمأنينة القلب إلا بالتعاليم النازلة ببكة.

الهدف العاشر

والهدف العاشر لبيت الله الحرام في هذه الآيات هو: اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى . وقد سبق أن ذُكر في آية قبلها مقام إبراهيم، وكان المراد به البيت الذي بُني على قواعد العبادة الفياضة بعواطف الحب والإيثار والعشق. والعبادة المذكورة في اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ، هي التي تنبع من معين التذلل والتواضع. وبالجملة يقول الله هنا: إن من أهداف بناء بيت الله أن ينشأ منه قوم يعكف على عبادة الله بمنتهى التذلل والتواضع، ويعد أظلال إبراهيم في مثل هذه العبادة في الدنيا كلها، ويؤسس فيها مراكز الإسلام والدعوة إليه.

الهدف الحادي عشر

والهدف الحادي عشر لبناء بيت الله هو طَهِّرَا بَيْتِيَ . وقد أُخبر به أن الله تعالى يريد أن يجعل هذا البيت جامعة عالمية لتعليم النظافة الظاهرية والطهارة الباطنية.

الهدف الثاني عشر

والهدف الثاني عشر لبناء بيت الله هو لِلطَّائِفِينَ أي إن ممثلي أمم العالم لن يزالوا يجتمعون هنا مرارًا وتكرارًا. إن الله كان قد أخبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل ألفين وخمسمائة سنة، بأن ممثلي أمم العالم سيجتمعون هنا دون انقطاع وبتكرار للطواف وإتمام الواجبات والمقاصد المنوطة لبناء بيت الله.

الهدف الثالث عشر

والهدف الثالث عشر هو وَالْعَاكِفِينَ ، أي أن بيت الله الحرام قد جدد بناءه لكي ينشأ عنه قوم يقفون حياتهم في سبيل الله، وبذلك يكونون محققين لغايات بيت الله تعالى.

الهدف الرابع عشر

والهدف الرابع عشر الذي صرح به هنا هو الرُّكَّعِ السُّجُودِ ، أي إن الله يريد أن ينشأ من هنا قوم متمسك بتوحيد الله قاضيًا طوال حياته مطيعًا له وخاضعًا له تعالى.

الهدف الخامس عشر

والهدف الخامس عشر هو بَلَدًا آمِنًا . وقد استعمل هنا لفظ الأمن لثلاثة مقاصد مختلفة:

  • إن الله تعالى يقول إننا سندفع عنه الهجمات العدوانية ونحفظه كل الحفظ، ولن ينجح هجوم لتدمير هذا البيت، بل المهاجمون أنفسهم سيقضى عليهم بالهلاك والدمار.
  • وذلك لكي يتبين للدنيا أن للنبي المبعوث من هنا سيكون في مأمن من قبل الله، وليست من قوة في العالم بقادرة على القضاء عليه أو حائلة دون تبليغ رسالته.
  • وأيضًا لكي يتبين للدنيا أن الشريعة المنزلة على ذلك النبي المقدس خالدة غير منقطعة إلى يوم القيامة، والله تعالى هو الذي كتب على نفسه حفظها وصيانتها.

الهدف السادس عشر

والهدف السادس عشر المنوط ببيت الله الحرام هو: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ . وقد أخبر الله بذلك أنني أجدد بيت الله لكي تتبين الدنيا، بعد أن ترى بركاته، بأن الذين يستميتون في سبيل الله ويفدون بأنفسهم متفانين في حبه منقطعين عن الدنيا، لا تضيع أعمالهم، بل تأتي لهم بثمرات حلوة، ويتاح لهم أحسن ما كانوا يعملون من التضرع والتعشق.

الهدف السابع عشر

والهدف السابع عشر لبناء بيت الله وهو رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ، وذلك لكي تعرف الدنيا وتتبين أن الدرجات العليا من الروحانية لا يمكن أن تنال إلا بالدعاء، وعند الدعاء حينما يبلغ تضرع العبد وابتهاله منتهاه وتسود نفسه كيفية الموت فعندئذ ينزل فضل الله من السماء، وتفتح للعبد أبواب سبل المعرفة الإلهية.

إن الله حدد هذا الهدف بقوله بأن قومًا عظيمًا سينشأ من هنا، وهم المتمسكون بالدعاء الضارع الجامع لشروطه الخاضعون لعتبة الله تعالى مستميتين متفانين في سبيله بكل كيانهم، حتى يذوب وجودهم لله، وأنهم لعالمون حق العلم بأنهم لا يستحقون أن ينالوا شيئًا بمجرد أعمالهم ما لم يستمدوا فضل الله بالدعاء، فلذلك إنهم على الرغم من تضحياتهم المتناهية، لن يقيموا لها وزنًا ولن يزالوا خاشعين متضرعين مقشعرين، ومع فدائهم وتفانيهم المتناهي لن يزالوا سائلين الله تعالى وهم يعترفون بأن ما نقدمه إنما هو هدية متواضعة محتقرة، سبحانك اللهم وتعاليت، وإننا لموقنون بأن هديتنا هذه لا تستحق القبول لديك، غير أنك لرَبُنا، فتقبل منا هديتنا هذه المحتقرة، وانظر إلى تفريطنا وتهاوننا ومساعينا القاصرة المتواضعة بعين المغفرة، وارحمنا لكي تلقى جهودنا ومساعينا القبول لديك. ولإنشاء مثل هذا القوم أسس الله تعالى البيت الحرام.

الهدف الثامن عشر

والهدف الثامن عشر لبناء بيت الله هو السَّمِيعُ ، أي أن تعرف الدنيا حق المعرفة بأن الذين يدعون الله تعالى بمثل هذا الدعاء هم الذين تتجلى لهم صفة ربهم السميع، ثم تدرك الدنيا بأن ربهم سميع يجيب دعواتهم. يقول تعالى هنا قد أجبت دعواتكم. فببناء بيت الله تحصل الدنيا على معرفة الله .

الهدف التاسع عشر

والهدف التاسع عشر لبناء هذا البيت هو الْعَلِيمُ ، أي أن الدنيا ستعرف به ربها العليم، أي أنه لا يجيب كلما دعاه العبد الناقص العلم، بل إنه سيجيب دعاء عبده عندما يلح في دعائه أشد الإلحاح، لكن إجابته هذه تكون طبق مقتضى علمه بالغيب؛ أي إنه يجيب الدعاء حسبما ينبغي طبق علمه للغيوب، وإن رد الأدعية دون قبولها أو عدم قبولها بصورة مطلوبة، فلا يدل على بطلان صفة السميع أو صفة القدير، بل إنه يدل على أن الله هو وحده علام الغيوب. فإن بيت الله بني لكي يعرف عباد الله ربهم العليم حق المعرفة.

الهدف العشرون

والهدف العشرون لبناء بيت الله هو: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، أي اجعل الأمة المسلمة ذريتنا. يقول الله تعالى هنا: إننا نريد أن تكون أمة محمد بعد بعثته أمة مسلمة، وإنها ستكون كذلك بفضل دعاء حضرة إبراهيم .

ويمكن أن يراد به أن النبي الموعود سيبعث في مكة، لكن عليكم أن تسألوا متضرعين قائلين: اللهم لا تحرمنا نحن ولا ذريتنا بسبب غفلتنا وتقصيرنا من بعثة ذلك النبي حتى يبعث في غيرنا. فقال إبراهيم : اللهم لا تجعل هذه الأمة إلا من ذريتنا حتى يكونوا كلهم أول المؤمنين بذلك النبي . فالله تعالى صرح هنا بأن تكون ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هي الأمة المسلمة ولا تكون من المنكرين، وتكون فياضة الصلاحية والاستعداد للقيام بأعباء الواجبات المفروضة عليهم بعد الإيمان بذلك النبي ، ولذلك أمرنا بتجديد بناء بيت الله.

الهدف الحادي والعشرون

والهدف الحادي والعشرون هو أَرِنَا مَنَاسِكَنَا ، وقد أشير به إلى أن رسولاً عظيمًا سيبعث في مكة حينما تكون الدنيا قد بلغت، بعد نشوئها الروحاني مقامًا يؤهلها لتحمل أعباء الشريعة الكاملة التي هي أوسع وأكمل وأمرن من الشريعة السابقة، والتي أمر فيها بالعمل الصالح وتكون مزودة بما يسد حاجات كل زمن وكل شعب. فمعنى أَرِنَا مَنَاسِكَنَا ، هو أن بَيِّنْ لنا الأعمال الصالحة والأعمال المفروضة علينا، والواجبات، أي أنزل علينا شريعة القرآن الحكيم.

فإن قوله تعالى: أَرِنَا مَنَاسِكَنَا يدل على أنه لما يُبعث ذلك النبي العظيم تكون رسالته عالمية وأبدية إلى يوم القيامة. فاسألوا الله تعالى أن يرسل شريعة شاملة ومحققة لجميع المقتضيات الفطرية للأمم كافة، مقدمة حلول مشاكل كل زمن باقية إلى يوم القيامة لكي تتحقق بها الأهداف التي لأجلها بني بيت الله وأُسس.

الهدف الثاني والعشرون

والهدف الثاني والعشرون الذي بينه الله تعالى هو تُبْ عَلَيْنَا ، وهو يدل على أن للشريعة الآخرة علاقة وثيقة بالرب التواب، وأن أتباعها سيعرفون أن الظفر بالمعرفة الإلهية لا يمكن بغير التوبة والاستغفار، ولذلك يقدمون التضحيات في سبيل هذه الغاية السامية ويرجعون إليه تعالى قائلين: “اللهم اغفر لنا خطايانا”. وإنهم أناس إذا أتوا عملاً صالحًا ظلوا مع ذلك حذرين خائفين أن تشوب أعمالهم شوائب التفريط التي عسى أن تجر عليهم غضب الرب، وإنهم لا يفتأون مستغفرين تائبين.

الهدف الثالث والعشرون

والهدف الثالث والعشرون الذي بينه الله تعالى هو: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا ، أي أننا نريد أن نجعل هذا البيت مولدا للنبي محمد ، ونتخذه مقامًا يحفه التضرع والابتهال، ويسوده العجز والتواضع والعشق والحب والتفاني. سنبعث لنا عبدًا عظيمًا على مقام المحمدية، وبوجوده سنسوس شريعة غراء، ومنه ستنشأ أمة متحلية بأعظم الآيات الخالدة لقوله تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِك . وإنهم المتمتعون باتصال وثيق بالإله الحي وبرسوله الحي الخالد وبشريعة فياضة بالحياة. وإنهم ليتلقون درس الشريعة الكاملة، لكنهم لن يحتاجوا في ذلك إلى الأمر والنهي كصغار الأولاد، بل الله تعالى يشحذ عقولهم وأذهانهم ببعثة هذا النبي العظيم، وبذلك يطلعهم على حكمة شريعته، وبذلك سيطهرون تطهيرًا لم يسبق له مثيل في الأمم الغابرة. وهذه هي الحقيقة التي تسلم بها العقول أيضا، إذ أن الشرائع النازلة على الأولين إذا كانت ناقصة فالتزكية التي حصلت لهم بتلك الشرائع كانت ناقصة أيضًا، وإن تلك التزكية وإن كانت ملائمة لفطرتهم، ومطابقة لصلاحيتهم واستعدادهم وموافقة لقوتهم، لكنها ليست بتزكية كاملة على كل حال؛ لأن التعليم الذي تلقوه لم يكن كاملاً لأجل ضعف استعدادهم. ولما نشأت أمة تفيض بالكفاءات والصلاحيات المتكاملة للاضطلاع بشريعة كاملة، فالتزكية الحاصلة بمن قدم منهم تضحيات متناهية خاشعين، عاملين بجميع أوامره ومنتهين عن نواهيه، متضرعين طوال حياتهم، ستكون تلك التزكية بفضل الله تعالى لا بفضل أعمالهم، تزكية كاملة وتطهيرًا شاملاً، ومرضاة لله أبدية لم يعهد لها نظير في الأمم الأولى.

فالله تعالى يقول هنا أن الهدف الثالث والعشرين لبناء بيت الله هو أن يبعث هنا خير الرسل لأمم العالم كافة، وبذلك يتبوأ الإنسان أسمى مقام خُلق لأجله.

ونسأل الله أن يجعلنا أيضًا من أولئك الصالحين الأخيار؛ لأننا ضعفاء أشد الضعف، متهاونون أشد التهاون، خاطئون مذنبون قاصرو الفهم ومتخبطون في الأهواء النفسانية، لكن إذا شاء الله وترحم علينا بفضله فهو أقدر على انتشالنا من جميع أنواع الأنجاس ورفعنا إلى أعالي التقوى التي وعد بها للأمة الإسلامية.

خطبة رقم (3)

كنت قد بينت في الخطب الماضية أن الآيات التي افتتحت بها الخطبتين الماضيتين قد صرح بها الله تعالى الأهداف الثلاثة والعشرين التي تتصل ببيت الله ، والتي يتوقف تحققها على بعثة النبي . إن هذه الوعود، وإن وعد بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل ألفين وخمس مائة سنة، لكن هذه الأمور والوعود والأنباء تحققت في الواقع عندما بعث النبي في هذه الدنيا، فنزلت شريعة القرآن من السماء.

إن أول هدف لبيت الله كما بينت من قبل، أنه وُضِعَ لِلنَّاسِ ، أي إن هذا البيت تجدد بناءه لكي تتوقف عليها المصالح المادية والروحانية لكل الأمم. ولا يمكن أن نقول عن تلك الأحقاب الطويلة من ألفين وخمسمائة سنة التي مضت بين إبراهيم وبين نبينا صلوات الله عليهما وسلامه، أن أمم العالم استفادت خلالها ببيت الله فوائد دينية ودنيوية، بل كانت كثير من الأمم عندئذ لا تعرف حتى أوضاع مكة الجغرافية أيضًا، ومعظمها كانت خلوًا من عواطف الحب والاحترام لبيت الله، ولم تكن تلك الأمم تندفع إليه اندفاعًا، وما كانت قلوبها تختلج بحبه وتقديسه، ولم تكن توقن بأن لبيت الله بركات إذ عرفناها وأدركنا حقيقتها أمكن لنا أن نتمتع بحظ منها. لكن لما بعث النبي، عرفت الدنيا ذلك البيت المنسي، وأدركت حقيقة تلك البركات المنوطة به، وثارت صدور الأمم بحبه وتقديسه، وأخذت تتحقق تلك الوعود التي وعد بها إله إبراهيم وإله محمد صلوات الله عليهما وسلامه، وإلهنا نحن عز وعلا.

والآن سأبين أن وعد وُضِعَ لِلنَّاسِ كيف تحقق بوجود سيدنا ومولانا محمد . ومن الواضح جدًا أن هذا الوعد كان عالميًا، وكان يتصل بتبرك الأمم بمكة المعظمة، وليس من الممكن عقلاً أن يتم ذلك دون نزول شريعة كاملة، فكان لا بد من نزول القرآن كشريعة كاملة قبل تحقق هذا الوعد.

معاني لَا رَيْبَ فِيهِ

ولقد ادعى القرآن الحكيم قائلاً: ذَلِكَ الْكِتَابُ أي إن هذا القرآن أكمل شريعة. ودعم القرآن ادعاءه هذا قائلاً: لَا رَيْبَ فِيهِ . وللريب أربعة معان وهي تتضمن أربعة أدلة على أن القرآن الحكيم في الواقع هو الكتاب الكامل المكمل، بل الكتاب الأتم والأكمل.

ومن ناحية أحد المعاني الأربعة للريب يمتاز القرآن الحكيم بأنه هو وحده الكتاب الكامل الذي تتم به جميع ضرورات الإنسان الروحانية والجسمانية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية، وذلك هو الكتاب الكامل الذي يوفي جميع المتطلبات للفطرة الإنسانية، لأنه يثبت ضرورته وصدقه بكمالاته الذاتية وفضائله البارزة وتعاليمه القيمة ولإن جعلتُ هذا الدليل ادعاء وأتيت عليه بأدلة اقتضى هذا الدليل وحده وقتًا طويلاً، وإن الذين يلمون بعلوم القرآن إلمامًا هم أيضًا يعرفون أن أدلة القرآن الحكيم وفضائله وتعاليمه المنقطعة النظير لتكفي لتفضيله على سائر الكتب السماوية السابقة.

سئل حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ما هو الداعي للإيمان بالقرآن مع وجود الكتب السماوية الإسرائيلية الأخرى، فرد حضرته على ذلك: لا حاجة لمقارنة القرآن كله، لأنه كتاب زاخر بالمعارف واسع الحقائق. إنه مفتتح بسورة الفاتحة، وإن المعارف والعلوم والأدلة التي تتضمنها هذه السورة وحدها، فإن قدمتم من كتبكم السماوية أمثال هذه المعارف والأدلة، اعترفنا بأن تلك الكتب يمكن أن تباري القرآن في هذا المجال. وقد مضى على هذا التحدي أمد طويل، وتتابع الباباوات الكاثوليكيون الذين ترأسوا كنيستهم العالمية، وكذلك الطوائف الأخرى من النصارى، لكن لم يجرؤ أحد على مقابلة سورة الفاتحة بالأدلة المستمدة من كتبهم التي تحداهم حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بإتيانها إزاء معارف سورة الفاتحة.

فمن معاني لَا رَيْبَ فِيهِ ، أن القرآن كتاب يستطيع أن يثبت صدقه بكمالاته الذاتية وفضائله البينة وبيناته القيمة.

والدليل الثاني في لَا رَيْبَ فِيهِ على كمال هذا الكتاب هو أن التعاليم القرآنية تسمو بالإنسان عن الصحاري الجرداء من الظن والاضطراب إلى أعالي اليقين مصحوبًا بالبينات. وهذه الفضيلة ستلزمه ولا تنفك عنه أبدًا، لأن الله تعالى قد كتب على نفسه حفظه وصيانته. ومن ناحية أحد معاني (ريب) أن هذا الكتاب مصون بيد الله تعالى ولا يمكن أن يتطرق إليه الدجل الشيطاني. إن تأثيره في الروح الإنسانية التي نشعر به اليوم سيستمر إلى يوم القيامة، وعلى ذلك إنه الكتاب الكامل.

ومن معاني لَا رَيْبَ فِيهِ أنه ما من حقيقة أو هداية تلزم كتابًا كاملاً إلا وتوجد في هذا الكتاب. ولقد تحدى به حضرة مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الأديان الأخرى في مواضع عديدة من كتبه، كما قال حضرته مثلاً: “عليكم أن تأتوا بدليل حتى واحد على وجود الله تعالى الذي لا يوجد في القرآن. فإن كل حقيقة يمكن أن يدعى بها الكتاب، توجد في هذا الكتاب الكامل، وإن كثيرًا من الحقائق الأخرى توجد فيه لكنها معدومة في الكتب السماوية الأخرى، فلذلك هو وحده الكتاب الكامل”.

والدليل الآخر ناحية المعنى لَا رَيْبَ فِيهِ أن العمل بهذا الكتاب سينجيكم من كل المصائب والآفات، وبه ستدخلون في دار السلام الإلهية، فلن تضركم مكيدة دنيوية ولا قوة مادية ولا دسيسة خفيةً. الحق أن الخسارة الحقيقية هي التي لا تعوض عنها بشيء، لكن إذا ضاعت لأحد مثلاً خمسة جنيهات وقال له أبوه خذ هذه الخمسة عوضًا عما ضيعت وأضاعِفُ لك عشرًا بدلاً مما أُصبت من القلق والاضطراب، وبذلك سيملك خمسة عشر، فعندئذ لن يقول أحد أنه ضيع خمسة بينما هو ظفر بخمس عوضًا عنها. كذلك قال الله تعالى هنا: إنكم إذا عملتم بهذا الكتاب فلن تخسروا شيئًا ولن تلقوا مصيبة تضركم، ولكنه تعالى لم يقل إنكم لن تنالوا من الآلام والإيذاء شيئًا، ذلك لأن المؤمن لا بد من أن يقدم في سبيل الله تضحيات، لكن المؤمن حق الإيمان يعُدّ ما تراه الدنيا عذابًا عينَ الراحة والسعادة، وإن إلهه وربه ومالكه الذي لأجله يستعذب العذاب يخلق لأجل سعادته ومسراته وراحته وسائل لم تكن في حسبانه، حتى أن المؤمن يظن أن العدو قد فرَّط في إيذائه وليته ضاعف الإيذاء فأحظى بنعم الله تعالى أضعافا مضاعفة. فبما أن هذا الكتاب هو الذي لا يخسر المؤمن العامل به شيئا، بينما الكتب السماوية الأخرى ليست كذلك، فلذا تحقق جليًا أن هذا هو الكتاب الذي لا ريب فيه، كما قال الله في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ . أي يا بني آدم أجمعين قد جاءكم رسول كامل بحقائق كاملة. إن ربكم الذي خلقكم لغاية خاصة قد طوركم من مراحل النشوء والارتقاء إلى مقام مرضاته الذي يدخلكم جناته، ها قد جاءكم ذلك الرسول العظيم فآمنوا بما يقول بلسانكم، ومن صميم قلوبكم، واعلموا بما يعلمكم حق الإيمان، وتمسكوا به أشد التمسك، واقضوا حياتكم طبق أكمل شريعة نزلت إليه تكونوا خير أمة في العالم، فتنفعوا عندئذ جميع بني نوع الإنسان وتستفيد بكم أمم العالم كافة في كل عصر استفادة دينية ودنيوية. ولن تستفيد بكم الأمم ما لم تحظوا بهذه المكانة. وإذا لم تتم بكم الإفادة العالمية، لم تكونوا خير أمة أُخرجت للناس، وإذا لم تكونوا كذلك، لم يتحقق وعد الله الذي وعد بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ . فلذلك آمنوا بهذه الشريعة واقضوا حياتكم طبق حكمها تكونوا خير أمة ليتحقق وعد الله تعالى: وُضِعَ لِلنَّاسِ بنزول القرآن العظيم، وكما يقول الله في سورة آل عمران :

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ .

إن هذه الآية تتضمن في الواقع ادعاء بأن نبأ إبراهيم ووعده قد تحقق بوجود الأمة المسلمة التي قد أُخرجت لخير البشرية جمعاء. قد أخرجت وأُنشِئت للناس، والدليل على ذلك أنها خير أمة، ولذلك هي أُخرجت للناس، إنها لخير جميع الناس. وذلك لأننا إذا أمعنا النظر في شرائع العالم كلها، عرفنا أنها ما زالت تنزل طبق استعداد الأمة التي نزلت إليها. إن الشريعة التي أنزلت إلى قوم نوح تحدد استعداد ذلك القوم وصلاحيته، والشريعة التي أنزلت إلى حضرة موسى ، تبين المواهب والكفاءات الموجودة في أمة موسى ، وكذلك أقوام سائر الأنبياء. فكل شريعة أنزلها الله تعالى إلى قوم ما، كانت وفق صلاحيات القوم الذي أنزلت لأجله، لأن الله تعالى لا يُحمّل فردًا أو قومًا ما لا طاقة لهم به.

والحقيقة الثانية التي هي من الوضوح بمكان، هي أن شريعة القرآن هي أكمل الشرائع قاطبةً وأتمها. وإذا قارنتم أحكام الشرائع الأولى بأحكام القرآن تبين لكم أن القرآن يتضمن سبعمائة ونيفًا من الأوامر والنواهي لهداية هذه الأمة، بينما لم ينزل إلى موسى إلا بضعة أحكام. ثم إن هناك مئات من أحكام القرآن التي لا نجد لها أي أثر في أية شريعة من الشرائع الأولى، الأمر الذي يدل على أن أحكام تلك الشرائع كانت محدودة، لأن الأمم التي نزلت إليها هذه الشرائع كانت قاصرة الاستعدادات، لكن نزول القرآن كشريعة كاملة يدل على أن بني نوع الإنسان كانوا عندئذ بأكمل استعداد ولولا ذلك لما نُزل إليهم القرآن العظيم.

إن فضائل التعاليم القرآنية وكمالاتها البارزة إن دلت على شيء فإنما تدل على كمال الاستعدادات للأمة المسلمة. ونتبين من تلك الكمالات القرآنية وسعتها وعظمتها أن مخاطبي القرآن هم أكثر استعدادًا من سائر الأمم السابقة، وإلا فلم يكونوا حاملين لرسالة القرآن. لذلك هم أفضل من تلك الأمم وأعظم لأجل استعداداتهم وصلاحياتهم. ولما واجهت تلك الاستعدادات القرآن وتلقت التربية القرآنية ظهرت فيهم شخصيات زادت رفعة على ذرية الأنبياء كمًّا وكيفًا وصورة وعظمة، وكانوا أكمل منهم وأعظم لأجل معرفتهم الروحانية ولأجل قوة النبي الفعالة فيهم، وباتباعهم له . فلم يكن وعد الله ليتحقق ما لم تنشأ خير أمةٍ أخرى لأن الأمة الناشئة عن شريعة ناقصة وتربية ضعيفة لا يرجى منها أن تكون نافعة للعالم كله.

وبالجملة فإن الأمة المسلمة قد سبقت في إفاضة الخير سائر الأمم، ولن تسبقها أمة في هذا المجال إلى يوم القيامة. ولقد قال الله عز وجل هنا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، أي إنكم خُلقتم للناس كما وُعد إبراهيم ، وإن الدنيا كلها ستستنير بأنواركم وتتبرك ببركاتكم، والدليل على ذلك أنكم خير أمة من الناحيتين الاستعدادية والتربوية كلتيهما وباصطباغكم بصبغة الأسوة النبوية من الأخلاق السامية والمثل العليا، وأنتم الذين هم مصادر الإرشاد والهدى للدنيا كلها فإن كونكم خير الأمم وازدهار كفاءاتكم واكتمالها بالتربية الكاملة إن دل على شيء فإنما يدل على أن الوعد بوضع هذا البيت للناس ولخير الأمم كافة قد تحقق.

الإسلام والعنصرية

ولا يغيبن عنكم أن الإنسان لا يمكن أن يفيد جميع بني البشر ما لم يرهم سواسية في صف الأخوة والمساواة دون أي تفريق أو تمييز، فلذلك نرى أن جميع الفضائل التي تؤسس بناء شرف الإنسانية وتشيد صرح احترامها، إنما تُوجد في شريعة الإسلام وأسوة نبيه وأحاديثه . إن الإسلام قد قضى على كل أثر من التفريق العنصري والتمييز الجنسي بين إنسان وآخر قضاء نهائيًا، وبذلك أسس ورفع قواعد الكرامة الإنسانية شامخة راسخة لا تُزعزعها صروف الأيام ودوائرها. وما أروع ما صرح به النبي في خطبته حجة الوداع إذ قال ما معناه: ألا إن ربكم واحد وهو الإله الوحيد الذي لأجل ربوبيته تشابهت كل الأمم وتساوت من ناحية المواهب والكفاءات الروحانية والخلقية بعد أن قطعت مراحل عديدة من نشأتها، حتى استعدت اليوم لاستقبال آخر شريعة. أجل إن خالقكم واحد. إنه أنشأ صلاحيتكم الجسمانية والروحانية متماثلة، ولم يفرق بين قوم وآخر. والحق أن لكل فرد من الأفراد نطاقًا للتقدم، ولكن لا تمييز بين شعب وآخر وليس من قومٍ بأحقر من قوم ولا أذل أو مطبوعًا على التأخر من النواحي الجسمانية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. فقال ما معناه: ألا استمعوا، إن ربكم الذي أودع فيكم القوى المنوعة والذي أنشأ فيكم المواهب العديدة، فرباها أحسن تربية وارتقى بها من مراحل التطور حتى بلغ بها إلى ذروة الكمال من النشوء، إن ربكم ذلك لواحد أحد. ألا إن أباكم جميعا آدم، أبوكم أيضا واحد، فإن ربكم واحد وأباكم آدم أيضا واحد. فلو كنتم ذرية آباء عديدين لقلتم أنكم ورثتم ما ورثتم من أبيكم وأن أبانا كان أجلّ وأعظم، وأنه قد أورثنا هذه المكانة العليا. وذلك غير صحيح لأن أباكم جميعا كان واحدا. فلو كانت آلهتكم وأربابكم متعددة لزعمتم أن الرب الذي خلقنا كان أقوى وأعلم وأقدر وأشفق وأرحم من سائر الأرباب، لذلك إنه رزقنا أكثر من سائر الناس الذين لم يكن ربهم أعلم ولا أرحم ولا أعطف على مخلوقه بمثل عطف ربنا علينا، فلذلك إنهم نالوا حظا يسيرا تافهًا، وصاروا أقل منا حظًا. لكنكم يا أيها الناس، إذا كان ربكم واحدًا أيضا، فاعلموا أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر. وقال في موضع آخر: ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى، وهذه هي الميزة الوحيدة الناجمة عن الاستعدادات والكفاءات التي أنشأها فيكم قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَ ، ويقول أيضا لَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى . فإذا كان الاتقاء مقصورا على علم الله وحده، ولم نعلم مهما اتقينا أنه راضٍ عنا أم غاضبٌ علينا فلا ينبغي أن ندعي بالتقوى بين أيدي الناس.

هذا مثال واحد ذكرته كدليل على أن التعاليم الإسلامية فياضةً بمثل هذه الأحكام. كما نرى مثلاً أن الإسلام لا يقر لأحد فضلاً على آخر من الناحية الاقتصادية، بل إنه يأمر الغني بأنه لا حق لك في مالك ما دام في الأرض فقير، كما يقول : وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات: 20). وعندي المراد بهذه الآية أنه لا حق لغني في ماله ما لم تُقض حاجات كل فرد من أفراد القوم. فإذا قُضيت الضرورات الحيوية الأساسية للفقراء فلصاحب المال أن يُنفق مما تبقى على حاجاته المشروعة، فهو من فضل الله عليه، ولا يأذن لكم الإسلام بتاتًا بأن تتنعموا بألوان متنوعة من الطعام وجاركم جائع.

فلا فضل لقوم على قوم بصفة القوم، فكل الشعوب متساوية في المواهب العقلية والفكرية، وفي كل قوم عباقرة ومنهم أغفال أيضًا، ولكل قوم مواهبه وكفاءته، ومن الخطأ الفاحش أن تعد قومًا بأسره من الأغبياء أو أن يكون جميع أفراد أحد الأقوام عباقرة. ومن الواقع أيضًا أن الشعوب الحاكمة قد ترفع أحط رجالها وأغباهم إلى منصب عالٍ كما يتبين مما حدث لي في جامعة أكسفورد الشهيرة (Oxford). كان لي زميل إنجليزي يدرس معي في هذه الجامعة. ومن الطرق المتبعة فيها أن الطالب الذي يفشل في إحدى دراساته الدورية لا يؤذن له بمتابعة دراسته وتضيع أمواله، بل يكتبون إليه عندما يرجع إلى بيته بعد دورته التي فشل فيها أنه لا حاجة لرجوعه إلى الجامعة بل عليه أن يختار لنفسه عملاً آخر، ويُقال لهذه العملية بالإنجليزية (sent home). فعلمت بالمصادفة أن زميلي ذلك لم يرجع للدورة التالية. ولم أكن أعرف عندئذ طريق أصحاب الجامعة في مثل هذه القضايا لذلك سألت زملائي عن ذلك الطالب الغائب، وخُيل إلي أنه قد تحدث بعض العوائق من الموت وغيره من المآسي الأخرى. فأخبرني أحد الأصدقاء ((he is sent home، بأنه قد طُرد من الجامعة. وفي سنة 1944 حينما سافرت إلى دلهي، صادفت على رصيف محطتها رجلاً إنجليزيًا فإذا هو ذلك الطالب المطرود، وكان عندئذ رئيسًا في إحدى دوائر الحكومة. فعرفني وعرفته. فالتقينا وقلت في نفسي إن الإنجليز وهم أصحاب السلطان على بلادنا، يسلطون علينا من أبناء بلادهم من هو كالحمير غباوة.

فلكل شعب عباقرة وأغبياء كذلك، ولا يمكن أن يستثنى من ذلك قومٌ. فليس من قومٍ كل أفراده عباقرة، وليس من قوم كل أفراده من الأغبياء، بل العباقرة والأوساط والأغفال يوجدون في كل شعب على السواء. فلا يرضى الإسلام بالتفريق بين الشعوب من ناحية المواهب والكفاءات، بل يأمر بالمساواة. خذوا مثلاً ناحية التعليم. إن الإسلام يؤكد ويوصي بالتعليم أيما تأكيد، ويقول أن على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ما استطاع حسب صلاحيته واستعداده. ومن ثم يتبين أن الطالب الذي يفوز بأحط الدرجات لا يستحق منحة مالية، لأن ذلك تضييع المال، لكن الطالب الذكي بعكس ذلك، أمانة شعبية قيمة وإضاعتها جحود بنعمة الله وخسارة قومية فادحة.

فالإسلام أسس المساواة والأخوة بين بني البشر جميعًا واجتث جذور الحسد والبغضاء من القلوب. ويقول عليكم أن تتحابوا كالإخوة الأشقاء. ثم شيد بناء مبادئه الأساسية على أساطين ثلاثة وهي: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. كل شعب يتصف بالصفة الدولية وكل العلاقات الدولية تؤسس على مبادئ العدل، فإن زادت فعلى مبادئ الإحسان، فإن زادت كذلك فعلى مبادئ ذي القربى. فإذا كانت كذلك انقضت جميع النزاعات وعاشت الدنيا على التعاون والتضامن بدلاً من أن يدوم تفكيرهم في التعادي والتباغض. ولقد صرح الله تعالى بهذا الأمر الأساسي، فقال أن بعض الطبائع ستقتنع بمقام العدل ولا تجتازه، فنقول لمثل هذه الطبائع بأن لا تنفكوا عن هذا المقام ولا تنحطوا عنه، إلا خرجتم من نطاق الإسلام. وإن بعض الطبائع ستحلّق فوق مقام العدل حتى تبلغ مقام الإحسان، ولكن لا تتعداه، فنقول لمثل هؤلاء القوم إنكم إن سقطتم عن مقام الإحسان إلى مقام العدل مع استعدادكم وصلاحيتكم حُرمتم من النعم التي يُمكن أن تنالوها في ذلك المقام، وليس ذلك بخسارة عادية بل إنها لخسارة فادحة جدًا. ثم منكم من يفوق هذين المقامين ويبلغ مقام إيتاء ذي القربى عن جدارة، ونقول لمثل هؤلاء لا تكتفوا بمقام الإحسان أبدًا فتحرموا من نعم الله تعالى وأفضاله وبركاته التي لا مثيل لها ولا نظير، فالإسلام قد أسس الأخوة والمساواة والإنسانية المقرونة بالتودد على هذه القواعد الثلاثة.

فأحد المقاصد لبناء بيت الله هو أنه قد وُضع للناس. إن هذا الهدف من الأهمية بمكان، إذ أن سائر الأهداف تتصل به اتصالاً وثيقًا، أو بلفظ آخر إنه يتصل بآخر هدف تتضمنه كلمات وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ اتصالا عميقا. وكنت أريد أن أتناول هذا الهدف بتفصيل مستفيض لكي تفهموا حق الفهم أنه لم يكن من الممكن أن يتحقق نبأ وُضِعَ لِلنَّاسِ حتى تظهر في الدنيا أمة هي خير الأمم كافة، ولم يكن من الممكن أن تظهر هذه الأمة حتى تنزل شريعة القرآن التي هي أتم الشرائع وأكملها على الإطلاق، إن كل شريعة سماوية إنما تنزل طبق صلاحية الأمة التي تنزل لأجلها، لذلك فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن أن نصل إليها هي أن الأمم التي كان ولا يزال يخاطبها القرآن إلى يوم القيامة كانت أحق بخطابه من ناحية صلاحيتها واستعدادها وإذا انقلبت أوضاعهم الفطرية انقلابا صاروا به مخلوقًا بشريًا جديدًا في أعين المبصرين، حتى لم تبق فيهم من هيئاتهم وملامحهم باقية، فتكونت لهم أوضاع جسمانية جديدة، وذلك بعد خضوعهم لتعاليم القرآن واستفادتهم بفيوض النبي وبركاته. فكانوا كدودة القز التي إن أتاح لها الإنسان فرصة للخروج من ألفافها الحريرية تغيرت صورتها تمامًا حتى تصير عينها غير ما كانت ويصير رأسها غير ما كان من قبل وتحولت هيئتها كل التحول. إنها في أول الأمر تكون عديمة الجناحين، ولكن خلال أربع وعشرين أو ثمانٍ وعشرين ساعة تتكون لها عينان ويظهر لها رأس جديد. وهذا هو مثل الذين آمنوا بالنبي كانوا ديدان الأرض، فوهب الله لهم بصيرة جديدة أو عينًا جديدة وعقولاً جديدة وزودهم بقوة خارقة للطيران. فأخذوا يحلقون بها في أجواء السماء الرحيبة. ولما نشأ مثل هذا القوم تحقق عندئذ وعد وُضِعَ لِلنَّاسِ أيضًا.

ومن هنا تتبين لنا المسؤوليات الكبرى المفروضة على الأمة التي وصفها القرآن بخير الأمم. وفقنا الله تعالى جميعًا للقيام بمسؤوليتنا. اللهم آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك