روح العبادة وذروتها
التاريخ: 1983-06-10

روح العبادة وذروتها

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

ملخص خطبة الجمعة ألقاها حضرة الخليفة الرابع للمسيح الموعود

أيده الله تعالى بنصره العزيز يوم 10/6/83 في ربوة.

الصوم روح العبادة وذروتها، يقود المرء إلى الغرض من وجوده، ويمكنه من الوفاء بالحقوق الإنسانية إلى أقصى حد، ويتيح للإنسان أن يؤدي الالتزامات قِبَل الله تعالى كاملة.

إن أشد الناس تعاسة من شهد هذا الشهر ويخرج منه خاوي الوفاض من البركات الإلهية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة: 184-186).

اخترت لكم هذه الآيات الكريمة من القرآن المجيد لأنها تتعلق برمضان وصومه وتبين نفعه. في مستهل الآيات أخبر المسلمون بفرض الصيام عليهم كما فرض على الأمم السابقة ليكون وقاية لأنفسهم من الشرور والآثام. فالصوم إذن بركة إلهية ونعمة سماوية وهبت للأمم السابقة، وكذلك للأمة الإسلامية. ولما كان المسلمون هم أتباع النبي محمد الذي تلقى كل البركات السماوية بأوفى قدر.. فهم أحق الناس بنيل هذه البركة العظيمة.. إذ أن الصيام يرفع مكانتهم من الصالحية، ويزيد حظهم من التقوى والفضائل التي غرسها في نفوسهم محمد المصطفى وأتم تربيتهم عليها في أسمى درجاتها. إن المسلمين إذن هم الأجدر بأن يكتب عليهم الصيام، بل أعظم الصوم روعة وبهاء.

يحدثنا القرآن الكريم بأن الصوم فريضة قديمة، كتبها الله تعالى على أمم سابقة، وكذلك كشف لنا التاريخ أنه ما من ديانة خلت من فكرة الصوم على نحو أو آخر. والعجب المدهش أنه في الوقت الذي تلقى فيه الرسول هذا الوحي الرباني لم تكن تلك المعلومة بشأن الصوم عند الديانات الأخرى متاحة له.. ولكن الحقيقة تأكدت بالبحث التاريخي. وفي هذا دلالة واضحة على المكانة السامية التي يتبوأها النبي الكريم ، وما أوتي من وحي سماوي جليل.

وثمة أمر آخر جدير بالانتباه، فقد كشفت الأبحاث التاريخية أنه ليس هناك قوم فرض عليهم الصيام يفصل لهم دينهم تعاليمه بالقدر الذي بينه القرآن المجيد لخير المسلمين وصالحهم. خذ مثلاً الكتاب المقدس أي التوراة، فقد أشير فيها إلى الصوم، وقد حث موسى قومه من بني إسرائيل على صوم العاشر من شهر المحرم، لأنه اليوم الذي نجوا فيه من طغيان فرعون. ولا يبدو أن أحدًا من الأقوام السابقة قد حظى بتشجيع الصيام لمدة شهر كامل.

وهناك تباين كبير في تعاليم الصوم، ففي بعض الديانات يكون الصوم الامتناع عن الطعام المطهر، وكل ما عداه مباح. وفي بعض الديانات يُسمح بتناول الماء واللبن أثناء الصيام. وفي بعض الملل الأخرى يكون الصوم بالامتناع عن العمل والسعي إلى جانب الامتناع عن الطعام والشراب.

وهكذا نجد أن ما جاء به المصطفى من تعاليم حول الصيام يتسم بالتمام والكمال من كل النواحي، ويفرض على الصائم مزيدًا من الالتزامات. بيد أن التشريع الإسلامي يعلن بكل وضوح أن الغرض من الصوم ليس العسر والمشقة كما يعتقد أتباع الأديان الأخرى.

ويقدم القرآن الكريم ما فيه التيسير على المؤمنين، مبينا أن المراد من الصوم هو تنمية خُلق التقوى في المؤمن، ولا يراد منه الحرمان والتعسير. نعم قد يترتب على الصوم مشقة، ولكنها أمر عرضي ليس مقصودا لذاته، وإن كانت تساعد على نيل الغرض الحقيقي من الصوم.

ثم إن الصوم مفروض لمدة شهر واحد فقط، وليس في هذا مشقة كبيرة على الصائم إذا اعتبرنا الخير العظيم الذي يعود عليه. وفي الحالات التي يعفى فيها المؤمن من الصوم فعليه أن يصوم عددًا من الأيام مساويًا لما أفطره من رمضان، ولكن تيسيرًا ومنعًا للحرج عليه، لم يشترط الإسلام موعدًا محددًا للصوم البديل، بل ترك للمرء أن يختار الوقت الذي يناسبه. وهذا دليل آخر على أن المراد من الصوم مصلحة الصائم لا فرض المشقة والحرمان عليه.

تناول المفسرون مسألة الفدية التي يقدمها المفطر الذي أعفي من الصوم خلال رمضان يعوض عن أداء الفريضة، وقالوا في ذلك الشيء الكثير، ولكن جوهر وخلاصة الموضوع هو ما بينه المسيح الموعود من أن الفدية إطعام مسكين عن كل يوم لمن لا يستطيع الصوم، لأن مشقة الصوم أشد من أن يتحملها. ورب سائل يسأل عن العلاقة بين الصوم وإطعام المسكين. إن الصوم يضع الصائم في موضع الفقير، فإن امتنع الصائم عن طعامه فقد شارك الفقير على نحوها في معاناته، وإن أعفي المؤمن عن الصوم وتناول الطعام أطعم مسكينًا فشاركه في نعمة الأكل ومتعة الشبع. فالعزاء للمسكين مكفول في الحالين: إما مشاركة في الجوع والحرمان وإما مشاركة في الطعام والشبع.

ومن المزايا العديدة للصوم أن الغني يعرف من خلال تجربته ومعاناته ما يعنيه الجوع والعطش والحرمان عند الفقير الذي لا يجد مئونة طعامه وحاجاته. إن الغني على وجه الخصوص لا يعرف ولم يجرب بنفسه مشاعر الفقير وهو يسعى على ضرورات حياته، ويعاني من قرصات الجوع والعطش. فالصوم يتيح مثل هذه التجربة، ومن ثم يقوي أواصر التعاطف بين الغني والفقير، ويجعل الثري مقدرًا لمصاعب الفقير.

فالصوم إذن وسيلة شديدة التأثير في تنمية الفهم والمشاركة الوجدانية بين مختلف قطاعات المجتمع.

ولا تعني الفدية أن يقدم القدر الأدنى من الطعام إلى الفقير. لا، إن هذا القدر الضئيل هو ما يحصل عليه عادة سائر أيامه. يجب أن نتذكر أن ما يقدم كفدية هو أوسط ما يأكل منه المفتدي، أي الطعام الذي اعتاد أن يأكل منه القادر في أيامه العادية.

وينبه القرآن الكريم، إلى أن الإعفاء من الصوم ليس رخصة للتفريط فيه، وإنما هو تيسير مقصور على الحالات التي يكون فيها الصوم مشقة حقيقية لا وسيلة للتهرب من الفريضة. فالصائم القادر على الصوم أفضل في كل حال من المفطر لمرض أو سفر أو لعدم قدرته على الصوم.

أحدثكم عن حكمة الصوم، الغرض الحقيقي من تشريعه.. يقول الله تعالى لنبيه المصطفى :

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (البقرة: 187).

ولكن هذا الطريق ليس ذا اتجاه واحد، ينبغي على عباد الله تعالى ألا يفترضوا أن ما عليهم سوى الدعاء، ثم يسمع الله لدعائهم. لا، إنه طريق ذو اتجاهين؛ عليهم أولاً أن يستجيبوا لله تعالى ويعملوا بوصاياه التي جعلها سبحانه لمصلحتهم وخيرهم. إنها الوصايا المتعلقة بالصوم التي أشارت إليها الآيات السابقة. ومعنى ذلك أن الله تبارك الله وتعالى هو استجابة الصوم.. هو ثمرة الصيام، إنه يقول: إذا كنتم تبحثون عني.. تريدونني.. فعليكم بالصوم. إنه العبادة الكاملة.. ومن خلالها سيكون بوسعكم تحصيل أسمى درجات القرب من رضائي.

إن مراعاة الصوم هي أشمل العبادات لله تعالى.. إنها تتضمن كل نواحي العبادة الجسمانية والشعورية والروحانية. وهكذا يكون الله تبارك وتعالى هو الغاية من الصوم. إن سياق الآيات القرآنية يدل على هذا المفهوم. فبعد ذكر الأمر بالصوم مباشرة يلفت الله تعالى الانتباه إلى وجهه الكريم كما لو أنه يقول: إذا أديتم فريضة الصيام فسأكون قريبًا منكم.

ولقد فسر الخليفة الثاني قول الله تعالى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

بمعنى أن شهر رمضان هو الشهر الذي نزل القرآن بشأنه. أي أن الغرض من نزول القرآن المجيد يتحقق بشهر رمضان بعبادة هذا الشهر.. لا يدع غرضًا إلهيًا خارج نطاقه. فكل عبادة تدخل في عبادة رمضان.. كل خدمة يؤديها المؤمن للإنسانية لا يخلو رمضان منها. إن الصوم يولِّد في الصائم أسمى مشاعر التعاطف مع إخوة الإنسانية وشركاء الوجود، ويخلع على المؤمن كمالات الإخلاص والتقوى من قِبَل الله تعالى. إنه يعلِّم طرق التواضع ويضع وسائل الانسجام بين الناس والكون.

إذن فإن رمضان خلاصة التعاليم القرآنية. إن من يقضي شهر رمضان خافضًا رأسه لجلال الله العلي القدير.. مقبلاً على طاعته إنما يجني كل الثمار القرآنية. لقد عزا المصطفى إلى رمضان كل خيرات العبادات الأخرى. حيث قال بأن للعباد غرضًا شخصيًا ومصلحة ذاتية من كل عبادة ما عدا الصوم فإنه العبادة التي تكون خالصة لله .. فقال بما عهد فيه من جوامع الكلم عن المولى تبارك وتعالى:

“كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”.

فكل عمل صالح وخلق نبيل يحقق للإنسان فضلاً من الله تعالى، ولكن جزاء الصوم هو الله جل وعلا. فإذا كانت الغاية من القرآن المجيد الغاية الأسمى من وحيه أن يجد الإنسان ربه، أن يصل الإنسان إلى الله خالقه، فرمضان يتعلق بهذه الغاية. فهو خلاصة العبادات كلها. إنه ذروة العبادة جميعها. إنه يمكن المرء من الوفاء الكامل بكل مسؤولياته قِبَل خالقه، وتبعاته تجاه نجاة سائر الموجودات.

إذن، فما أتعسه وأشقاه ذلك الذي يمضي عليه رمضان وهو خاوي الوفاض، إن ضياع رمضان يمثل حرمانا وخسارة لا يعوضها إطعام ملايين المساكين. فعلى كل أحمدي لا ينطبق عليه الإعفاء من الصوم حقًا، ولديه المقدرة على الصيام، أن يسارع إلى الصوم والتمسك به.

إن شهر رمضان سريع الانقضاء، ومراعاة آدابه ونظمه ليس بالأمر الشاق. إن أحكام الصوم تخفف من الجسم والروح وتبعث فيهما النشاط. وتساعد من يراعي أحكام الصوم على الانطلاق قدمًا إلى الأمام بهمة ومضاء. إن رمضان يرفع عن الإنسان ما لا يحصى من النقائص، ويضفي عليه ما لا يعد من الفضائل. إن من يفوته الصيام ليس بوسعه أن يتصور كيف يمضي الصائمون خفافًا نشيطين إلى التقدم والارتقاء. بل إن الطعام المأكول والشراب يمنح الصائم متعة أعظم بكثير مما يستمع به المفطر. إن الصائم في رمضان يدرك نعم الله تعالى ويقدرها بعمق، ويكون من الشاكرين. ومن ثم يتعلم الصائم درس عرفان الجميل والاقرار لصاحب الفضل تبارك وتعالى بجميله وفضله.

ثم إن البهجة الروحانية التي ينعم بها الله تعالى على الصائمين تفوق كثيرا تلك المباهج المادية التي ذكرتها آنفا. إنها نعيم وسعادة تتخلل قلب الصائم وتدفع روحه إلى العتبة الإلهية ساجدة هناك.

أما وقد عرفتم أن للصوم منافع لا حصر لها، فعليكم أن تحنوا رؤوسكم، وتسلموا أجسادكم وأرواحكم لله تبارك وتعالى. ثم انظروا كيف وكم من فضل الله سوف يتنزل عليكم بعد ذلك. إنهم أولئك الذين قال الله بشأنهم: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب”، إني قريب منهم بشرط أن يذكروني ويوفوا بحقي عليهم وواجبهم نحوي. هذا هو الطريق الصحيح للعثور عليّ.

عسى الله تعالى بفضله وكرمه أن يجعلنا من الذين يصومون كما ينبغي أن يكون الصوم، وأن نحظى من الصوم بأعظم الفائدة وأجل الفضل! تذكروا ألا يضيع منكم رمضان كما أضاع الذين خلوا من الأمم. لقد أشارت الآيات القرآنية إلى فريضة الصيام على أمم سابقة ليلفت انتباهكم من انتفع بصومه ومن كان سيء الحظ وفقده وأضاعوا فرص الانتفاع به. إنه يلفت الانتباه، ويحذر المسلمين من أن يتبعوا سنة الأمم السابقة، إذ إن ذلك يستوجب عليهم عقاب الله والدمار التام.

Share via
تابعونا على الفايس بوك