على المؤمنين التبشير وعلى الله فتح القلوب
التاريخ: 1938-02-11

على المؤمنين التبشير وعلى الله فتح القلوب

حضرة الحاج مرزا بشير الدين محمود أحمد (رضي الله عنه)

حضرة الحاج مرزا بشير الدين محمود أحمد (رضي الله عنه)

الخليفة الثاني للمسيح الموعود (عليه السلام)

 خطبة جمعة ألقاها يوم ۱۰ ذي الحجة سنة 1356 الموافق 11 شباط سنة ۱۹۳۸ م حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود .

قال حضرته بعد تلاوة الفاتحة:

“اعلموا أن من عادة المؤمنين أن يأخذوا لأنفسهم العبرة من كل شيء، إذ إن أقل وأحقر شيء في هذا العالم يجب على الإنسان أن يلفت نظره إليه وأن يفهم الحكمة من وجوده، وكذلك أكبر وأعظم شيء في هذا الكون يكون للمؤمنين بمثابة أعظم درس يتلقونه ويستفيدون من حكمته. إننا بينما نرى الكفار ومكذبي العقائد وكذا الذين في قلوبهم مرض، لا يستفيدون من أكبر المعجزات في هذا العالم، بل يزدادون طغيانًا على طغيانهم ويستكبرون استكبارًا، إذ بنا نشاهد المؤمنين المخلصين الذين صفت أرواحهم واتصلوا بالملكوت الأعلى يستفيدون من كل صغيرة وكبيرة من هذا الكون، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض قائلين: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار.

وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي كان ذات مرة مع بعض أصحابه في غزوة من الغزوات، وإذا بامرأة جاءت مسرعة إلى ميدان الحرب، وكان النبي ينظر نحوها. فحينما وصلت إلى ساحة المعركة وكانت حامية الوطيس لم تبال بما يجري حولها، بل كان يظهر عليها الاضطراب، وكأنما تتفقد شيئًا أضاعته. وإذا بها ترى طفلاً صغيرًا، فسرعان ما حملته دون أن ترى من يكون هذا الطفل. ثم قبلته وضمته إلى صدرها ظنًا منها أنه ابنها الذي كانت تنشده.

وبعد برهة تبين لها أن هذا ليس بطفلها، فتركته، وبدأت تفتش عن طفلها وهي شاردة اللّب مضطربة البال فاقدة الحس من جراء فقدان ابنها. وإذا بها تجد طفلاً آخر. ففعلت به كما فعلت بالطفل الأول ظانة بأنه طفلها. ولما تبين لها بأنه ليس طفلها فلذة كبدها تركته. وهكذا ظلت مرة بعد أخرى تسير بين مشتجر القنا وضرب السيوف وفوق جثث القتلى والجرحى وهي غير مبالية بكل ذلك. نعم إنها كانت تسير في وسط هذه المعركة الحامية الوطيس دون أن تفكر في الخطر المحدق بها وهي تفتش بدون وعي عن ابنها وطفلها وفلذة كبدها. وكانت كلما وجدت طفلاً تفعل به ما فعلت بالذي قبله، حتى وجدت طفلها الحقيقي، فأخذته، وجلست في نفس الموضع الذي وجدته فيه، وبدأت تُرضعه غير هيابةً من الخطر الذي يحيق بها من كل جانب. وكان ممكنًا أن تُقتل هي وطفلها في ساحة الوغى، ولكنها لم تبال بكل ذلك، بل هبطت عليها سكينة، وكأنها جالسة في جنة الخلد لا تفكر فيما حولها. وكان دماغها خاليًا من أي فكر آخر سوى طفلها الذي كانت تظن بأنه لا يوجد في الميدان غيره وغيرها. وما دام طفلها موجودًا في حضنها فهي لا تبالي بأي شيء لأن طفلها أكبر مملكة عندها.

وكان الرسول متتبعًا جميع حركاتها وسكناتها. فتأثر النبي من هذا المنظر وأعجبه حنان تلك الأم على طفلها. فالتفت إلى أصحابه وخاطبهم قائلاً: «أرأيتم هذه الأم الرؤوم كيف كانت تفتش عن طفلها وهي في اضطراب وقلق عظيمين. ولما وجدت طفلها الحقيقي اطمأنت وهدأت كأن لم يحدث لها أي حادث. وانفرجت أسارير وجهها بعد أن كانت كئيبة حزينة مقطبة الجبين؟ هكذا هو الله ، فإنه كالأب الشفوق، لأن الخلق هم عيال الله، وكالأم الرؤوم التي تشفق على أولادها، لأنه هو المربي لنا من المهد إلى اللحد. فلا تظنوا أنه لا يبالي بالذين يتركونه وينحرفون عن طريقه المستقيم، أو يشركون به ويهيمون في ظلمات الضلال ويتبعون زخارف الشياطين، بل الله عندما يرى عبده ضالاً وغارقًا في الضلالة يمكننا عندئذ القول بلغة مثالية: إن الله يضطرب كما تضطرب الأم الحنون على ولدها.

فكروا في هذه الواقعة التي رآها النبي فاستنبط منها حكمة من أعظم الحكم وموعظة من أعظم المواعظ دون أن يفطن لها أحد غيره! إن المؤمن يتعظ بغيره، ويفكر في كل شيء في العالم، ويجد في كل صغيرة وكبيرة آية كبرى من آيات الله .

جاء سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، فأما المؤمنون فقد وجدوا في كل عمل يعمله موعظة. وأما المنكرون الذين في قلوبهم زيغ فلم يزدادوا إلا عتوًّا واستكبارًا. ولكن هل يمكننا أن نترك هؤلاء وشأنهم؟ كلا!؟ ألا تعرفون أنهم ينسبون أنفسهم على كل حال، ولو باللسان، إلى حبيبنا وسيدنا ومولانا محمد ؟

ألا أيها الإخوان الأحمديون! ذكّروا وذكّروا، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. بشّروا وبشّروا، فإن البشارة والتبشير ينفعان المخلصين.

لقد قسم الله العمل بينه وبين عباده المؤمنين. فعمل المؤمنين التبشير وعلى الله أن يفتح القلوب وأن ينزل السكينة على من يشاء من عباده. فعلينا بالتبشير وعلى الله فتح القلوب.

جاء أحد من العرب في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى قاديان. ويوجد من بين هؤلاء الذين يأتون من البلاد البعيدة ويمكثون في قادیان من يكون طالب جدوى. وقد ظن الإمام المهدي والمسيح الموعود أنه من هؤلاء. فلما قصد السفر أراد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود أن يصله بأجرة السفر، ولكن ذلك العربي أبَى وقال: إني ما جئت من أجل المال، ولكني أتيت لكي أبصر ما سمعته عنك بأنك ادعيت المهدوية. وأنا بعد أن مكثت هذه المدة لم يتبين لي صدقك. فقال له الإمام المهدي والمسيح الموعود : إذن عليك أن تبقى مدة أخرى عندنا مثل المدة التي قضيتها، وسترى صدق دعوتي إن شاء الله. ثم أشار حضرته إلى بعض كبار أصحابه بأن يناقشوه لكي يقنعوه في بحر تلك المدة. ففعلوا ذلك بضعة أيام واجتهدوا معه كثيرًا، ولكنه لم يقتنع. فأخبر الصحابة حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود بالأمر وقالوا إننا لم نستطع إقناعه، ولكننا نجد فيه شوقًا لمعرفة الحق، ورأينا أن تدعو له، ربما اهتدى بواسطة الدعاء. فدعا حضرته . فأخبره الله سبحانه بأن هذا العربي سيهتدي. وبالفعل حدث في تلك الليلة أن هذا العربي بينما كان جالسًا وحده إذا به يقوم فجأة ويقول صائحًا: نعم نعم، إن المسيح الموعود حق وصدق. ولقد اقتنعت بأنه صادق في دعوته.

ثم ذهب إلى الحجاز وأخذ يبشر القوافل ويقول بمجيء سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . حتى إنني لما ذهبت إلى الحج قبل خلافتي سمعت عن هذا الرجل بأنه كان يتبع القافلة المسرعة ويركض بجانبها ويبشر الحجاج. فكانوا يضربونه ضربًا مبرحًا حتى يسقط على الأرض مغشيًا عليه، ويظل مطروحًا على الأرض إلى أن تأتي قافلة أخرى، فيفعل معها مثلما فعل بالأولى. وظل يفعل هكذا طول حياته إلى أن توفاه الله، وذهبت روحه الطاهرة إلى خالقها.

فالهداية والإقناع في الحقيقة من الله تعالى، وأما التبشير وإبلاغ الدعوة فأمر موكول إليكم. فإذا لم تبلغوا حق التبليغ تكون المسئولية عليكم أنتم يوم القيامة، ولا على الذين لم تبلغهم الدعوة.

ولن يضركم سب المنكرين وشتمهم لأنكم بمثابة الأب الشفيق المربي الذي إذا أراد أن يصلح أولاده ويوجههم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم فهو لا يبالي بهم إذا قاموا ضده وسبوه وشتموه.

ثم إن هؤلاء أيضًا مثل الجنين في بطن أمه. وكما أن الأب يهتم به اهتمامه بالولد الذي خلق ووجد في هذا الكون، ويعتني بصحة أمه اعتناء عظيمًا غير مفكر هل يكون من نصيب هذا الجنين الحياة على وجه الأرض أم يذهب إلى القبر، فكذلك حالكم أنتم مع هؤلاء.. فهم كأجنَّتكم، ويجب أن تعتنوا بهم. فلربما يكون من نصيب بعضهم الحياة والهداية على أيديكم.

ولا تفكروا في سبهم وشتمهم، وإن لكم في رسول الله أسوة حسنة، فإنه عندما ذهب إلى الطائف يبشر قومه قابلوه بالإيذاء والضرب، وأدموه لدرجة تدفق الدم من ظهره وسال إلى حذائه، والتصقت قدمه بالحذاء لِتجمُّد الدم. وأطلقوا الكلاب وراءه تنوشه. وفي هذا الموقف نزلت عليه الملائكة وسألته إذا ما أحب أن يعذبوا قومه بعذاب أليم؟ ولكنه قال لهم: كلا!؟ إنهم قومي. ثم توجه إلى الله وقال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

فيا إخواني الأحمديون! إني لأرجو أن تعتبروا بهذه الحوادث، وتفكروا دائمًا في كل ذرة من الذرات، وفي كل شيء من الأشياء، وأن تروا الله متجليًا في جميع الحوادث التي تمر أمامكم. وإني أحضُّكم على التبشير وعلى الله فتح القلوب وتهيئتها إلى الإيمان الصحيح.

والله أسأل أن يوفقنا جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك