الأخلاق ما يقوم به الإنسان
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(224)

 شرح الكلمات: 

أَنَّى: معناه: أين؛ مِن أين؛ كيف (الأقرب).

التفسير:

هنا مثّل الله المرأة بالحرث لينبهنا أولا –إلى ضرورة السعي ليكون هذا الحرث مثمرا، وإلى ذلك يشير حديث النبي (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثرٌ بكم الأمم) (أبو داود والنسائي، النكاح).. أي تزوجوا من النسوة من تلد كثيرا من الأولاد وتحب الزوج.. لأنني سوف أفاخر الأنبياء الآخرين يوم القيامة بكثرة أمتي.

وثانيا – إلى ضرورة معاملة نسائكم بحيث لا تضيع قواكم وقواهن. إذا ألقى الفلاح بذرا أكثر من الحاجة فسد البذر ونقص المحصول. وإذا زرع النبات زرعا متتاليا بدون فترة للراحة أجهد الأرض وضعُف المحصول. فيجب أن يقوم الإنسان بكل عمل في الحدود المناسبة.. كما أن الفلاح العاقل يعامل زرعه بتعقل وحكمة.

ويستدل أيضا من قول الله هذا جوازُ ضبط النسل في بعض الأحوال، لأن الإنسان إذا زرع الأرض بعد حصادها مباشرة ضعف المحصول التالي، أما في الزرعة الثالثة فسيكون الحال أسوأ. إن الإسلام لا يمنع من الأولاد، بل يحُث ويقول (وقدموا لأنفسكم).. أي باشروا نساءكم بما يحقق لكم الذرية ويُبقي ذِكركم، ولكنه أيضا بيَّن أن القانون الذي تراعونه في حرثكم لا بد من مراعاته فيما يتعلق بإنجاب الأولاد، فإذا كانت صحة المرأة ضعيفة، أو كانت تربية الطفل لا تتم كما يجب.. فيجب أن توقفوا سلسلة الولادة.

وثالثا- أن تنشئوا مع المرأة علاقة تكون ثمرتها الأولاد. ومن هذا المعنى يُستدل على النهي عن كل عمل غير فطري. إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ويتحدث بحذر في كل أمر بحيث يحقق الغرض بدون أن يضر حديثه أخلاق الإنسان.

ولكن بعض الناس لجهلهم أخطأوا في فهم قوله تعالى (أنّى شئتم)، واستدلوا منه استدلالات خاطئة. إن الآريين والهندوس على وجه الخصوص اعترفوا وقالوا: إن الإسلام قد رخّص بذلك لأتباعه أن يعاملوهن بدون تعقل وهوادة، وأن يختاروا أي طريق – لو كان مخالفا للفطرة – في العلاقات الجنسية بين الزوج وامرأته (ستيارث بركاش، باب14 ص676)، ولكن هذا الظن باطل تماما. فإن الله بهذه الكلمات قد حذر الإنسان وقال: إن نساءكم حرث لكم، فعامِلوهن كما يعامَل الحرث، وتذكّروا أن تفعلوا ما فيه الخير لكم وإلا فسوف تتحملون الوبال. عندما يزوّج الناس بناتهم يقولون لأهل العريس: لقد أعطيناكم ابنتنا فعاملوها كما شئتم، ولا يعنون أن يضربوها ويهينوها، ولكن يعنون أنها أصبحت ملكا لكم فاحتفظوا بها في عنايتكم. وقوله تعالى (أنى شئتم) يعني أن الزوجة أصبحت شيئا يخصكم، فالخيار لكم الآن: فإذا أسأتم معاملتها فسوف تتحملون أنتم النتائج السيئة، وإذا عاملتموها بالحسنى فسوف تجنون أطيب الثمار، وتنالون ذِكرا حسنا في الدنيا، وتصونون أرواحكم في الآخرة.

لا شك أنه فلاح أحمق ذلك الذي يبذر بذرا فاسدا، أو لا يتفقد حرثه بعد إلقاء البذر، ولا يحاول الحصول على محصول جيد. ولكن الناس عموما يغضون النظر عن هذا القانون فيما يتعلق بمعاملاتهم مع النساء، فلا هم يحافظون على هذا البذر كما يجب.. لا من حيث الجسم ولا من حيث الأخلاق، كما لا يهتمون بصحة المرأة وحاجاتها، ولا يولون عناية صحيحة بتربية الأولاد.. مما يضر بصحة الأزواج وبصحة الزوجات، كما أن أولادهم لا يشبّون ليكونوا ذرية نافعة للشعب.

إن الله تعالى قد وجه هنا نظر الناس إلى هذا الأمر الهام، وبيَّن أنكم كما تحافظون على حرثكم وتبذلون الجهود لمحصول أفضل..كذلك عليكم أن تحافظوا على النسوة، وتولوا اهتماما خاصا بتربية الجيل القادم وتعليمه، حتى يؤتيكم حرثكم أُكلا روحانيا ينفع العالم، وتنالوا به حياة جديدة.

وبقوله تعالى (وقدِّموا لأنفسكم) أمرنا أن نقوم بما تكون نتيجته طيبة وصالحة لنا من حيث الصحة ومن حيث النسل. وقوله (وقدموا لأنفسكم) يشابه قوله تعالى (وابتغوا ما كتب الله لكم). إن أطفال اليوم آباء الغد، لذلك اعملوا لتحصلوا على أولاد ينشرون اسمكم في الدنيا، ويحققون لكم عزة وذكرا خيرا في الآخرة.

ويعني أيضا قوله (وقدموا لأنفسكم) أن الدنيا بمثابة الحرث الذي يؤتي محصولا لا ينتفع به الإنسان في الآخرة، فمن واجبكم أن تهتموا بهذا الحرث وتعملوا أعمالا يجلب كل عمل منها آلافا من النعم الإلهية.

إن الله تعالى قد وجه هنا نظر الناس إلى هذا الأمر الهام، وبيَّن أنكم كما تحافظون على حرثكم وتبذلون الجهود لمحصول أفضل..كذلك عليكم أن تحافظوا على النسوة، وتولوا اهتماما خاصا بتربية الجيل القادم وتعليمه، حتى يؤتيكم حرثكم أُكلا روحانيا ينفع العالم، وتنالوا به حياة جديدة.

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(225)

شرح الكلمات: 

عُرضة: ما يُجعل مُعرَّضا للشيء، وما يتخذ ذريعة لتحقيق ضرورة، فيقال: البعير عرضة للسفر (المفردات). والعرضة: حيلة في المصارعة (الأقرب).

أيْمان: جمعُ يمين، واليمين: الجهة اليمنى؛ الجانب الأيمن من الجسم؛ القَسم؛ البركة؛ القوة (الأقرب). ويقال للشيء الذي يُقسم لأجله، قال النبي لعبد الرحمن بن سمرة:  (إذا حَلَفْتَ على يمين فرأيتَ غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكَفِّرْ عن يمينك) (مسند أحمد جزء 5 ص 63).

التفسير:

  يقول الله تعالى: لا تتخذوا الله عرضة. فكما يطلق الرامي بالسهام عُرضته مرة بعد أخرى، كذلك لا تقسموا باسمي مرة بعد أخرى وتقولوا: والله سوف نفعل كذا، بالله سوف نقوم بكذا.

وقوله (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) جملة استئنافية منفصلة، هي مبتدأ خبرها محذوف وتقديره: أولى وأحق. أي: بِركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس أمثل وأولى. لا يليق بالإنسان أن يكتفي بالقسم، بل عليه أن ينجز عملا بدلا من أن يقسِم قسَما. ما الفائدة في أن يقسم قبل أن يفعل شيئا؟ هذا هو ما قاله النحوي الشهير والأديب الزّجّاج (البحر المحيط).

والمعنى الثاني ألا تجعلوا الله عائقا يحول دون إتيانكم الأمور التي تُقسمون لأجلها.. من البر والتقوى والإصلاح بين الناس. وباعتبار هذا المعنى تكون هذه الخيرات الثلاثة عطف بيان، ولا تكون الأيمان بمعنى الأقسام، وإنما بمعنى الأمور التي يُقسَم عليها أو لأجلها. والمراد: لا تحلفوا بالله ألاّ تفعلوا كذا من البر والعمل الصالح.. تنصلا من سؤال الناس، ولا تتذرعوا بالقسَم لتتهربوا من القيام بهذه الأعمال. فمثلا يأتي أحد المحتاجين ويطلب بعض المال فيرد المسئول: لقد أقسمت ألا أُقْرض أحدا.

ويرى العلاّمة أبو حيّان أن الأفضل اعتبار قوله تعالى (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) بدلا وليس عطف بيان.. لأن الأعلام هي التي تكون عطف بيان (المرجع السابق). على أية حال فالمعنى في كلتا الصورتين: إذا دعاكم أحد لعمل من أعمال البر والتقوى والإصلاح بين الناس فلا تقولوا: لقد أقسمنا بالله أن لا نفعلها.

والصورة الثالثة أن يعتبر قوله (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) مفعولا لأجله، والمعنى: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم كراهة أن تبروا.. والمراد: لا تقسموا بأنكم لن تفعلوا هذه الأعمال وإلا تحرمون من هذه الحسنات، عليكم تجنب هذا الأسلوب التافه لكي تتقدموا في البر والتقوى والإصلاح بين الناس.

الحقيقة أن كل هذه المعاني المذكورة آنفا متشابهة مترادفة. وقد لجأ المفسرون إلى هذه الطرق المختلفة لحل المشكلة الموجودة في العبارة العربية. أمّا ما يتفقون عليه جميعا فهو أن هذه الآية تعني ألا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم في كل صغيرة وكبيرة، فإن هذا يتنافى مع احترام الدين، والذي يقسم على كل شيء يمكن أن يقسم في أمور الدين والخيرات أنه لن يفعل أمرا كهذا، والنتيجة أنه إما أن يسيء الأدب تجاه الدين، أو يُحْرَم من حسنات كثيرة.

أو لا تجعلوا الله عائقا يحول دون إتيانكم الأعمال الحسنة. وفي هذه الصورة ينطبق معنى اليمين أي الحيلة في المصارعة انطباقا جيدا. والمراد أن بعض الناس يتهربون من فعل الخيرات كأداء صدقة مثلا بأنواع الحيل، ويتخذون القسم بالله ذريعة للتنصل منها. وكأن القسم بالله أيضا من الحيل التي يصرع بها الإنسان الآخرين. فلا تستخدموا اسم الله لمثل هذه الحيل الخبيثة. وأرى أن أفضل شرح قدمه العلامة أبو حيان: لا تجعلوا الله عائقًا يحول دون إتيانكم فعل الخيرات والإحسان إلى الناس.

وقوله تعالى (والله سميع عليم) بيَّن أنه إذا واجهتم المشاكل والعوائق في سبيل البر والتقوى والإصلاح بين الناس فاستعينوا بالله على إزالتها واشتغلوا بالدعاء دائما.. لأن هذه المهام لا تتم إلا بالدعاء. ثم بيَّن أن الله –إذا أنبتم إليه-سوف يعلمكم من علمه الخاص، ولن تبقى قدمكم على الدرجة الدنيا من سلم التقوى والبر.

 

لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(226)

شرح الكلمات:

حليم: من الحلم هو الصبر. والحليم كثير الرويّة والأناة، الذي لا يقوم بأي عمل طائش. والحلم: العقل، وقد يقابل به الجهل والسفاهة (الأقرب).

التفسير: 

الأَيمان التي تُعتبر من اللغو على ثلاثة أقسام:

الأول – ما يكون بسبب العادة، كأن يقول الإنسان دائما: والله، تالله.

والثاني – أن يقسم بيقين على أن قوله صحيح مع أنه مخطئ في يقينه هذا.. كأن يقول: والله فلان في مكان كذا، في حين أن فلانا هذا يكون قد ترك المكان.

والثالث- ما يقسمه الإنسان في شدة الغضب عندما يفقد صوابه، أو أن يقسم على تناول حرام أو ترك فرض بسبب حماس مؤقت.

كل هذه من لغو الأيمان ولا كفار ة عليها.

قبل ذلك نهى الله عن القسم، والآن يبيّن أنه لا يؤاخذ على اللغو من الأيمان. ولكن ذلك لا يعني أن الإنسان لا يحتاج إلى الاحتياط والحذر في القَسَم، فيحلف لغو الأيمان ليل نهار. فالله يقول عن المؤمنين (والذي هم عن اللغو معرضون)(المؤمنون: 4). فالذي يقسم لغو الأيمان لا شك أنه مخطئ مذنب، ولا بد له من التوبة على هذا الذنب وإظهار الندامة. ولكن إذا حنث الإنسان في مثل هذه الأيمان فلا كفارة عليه، ولبيان هذا المعنى قال تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).

وقد قال البعض (لا يؤاخذكم الله) يعني لا بأس ولا حرج في ذلك. ولكن هذا غير صحيح. فهنا ينفي الله المؤاخذة على هذه الأيمان، ويوصي بتجنب لغو الأيمان.

وقوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) لا يتضمن الأنواع الثلاثة للأيمان، لأن القسم بسبب العادة أو الغضب أو عدم الحذر والحيطة لا يكون عمدا، بل إن الإنسان في بعض الأحيان لا يدرك أنه يقسم. فقوله (ما كسبت قلوبكم) يدل على أن القسم المذكور هنا هو القسم المتعمد.. أي أنه يعرف الأمر. ولكنه يخالفه في قسمه. وقد ذكر الله ما يكفِّر عن اليمين المتعمد في قوله (فكفارتُه إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) (المائدة: 90).

وهنا سؤال: هل يجوز القسم بالقرآن؟ والجواب عندي أنه إذا كان ذلك في بلد يعتاد أهله القسم بالقرآن فيجوز، لأن القسم بالقرآن الكريم يترك أثرا غير عادي في قلب الخصم.

ويتبيّن من قوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) أنه لو تولد في قلب الإنسان أفكار تُعد من سوء الأخلاق، كأن يسيء الظن بأخيه، أو تنشأ فيه عاطفة الاستكبار والحسد والنفور تجاهه، ولكنه يكبتها ويقاومها فهذا لا يُعد من سوء أخلاقه.. لأنه في الحقيقة يقاوم سوء الأخلاق ويستحق على ذلك ثناء. ومن يتولد في قلبه فكرة لعمل الخير أو يميل طبعه إلى حسن معاملة أحد، ولكنه يكبت هذه الفكرة ويمنعها من الخروج إلى حيز العمل فلا يعتبر هذا أيضا صاحب أخلاق حسنة، وإن كانت عاطفته المؤقتة هذه جديرة بالمدح، لأن الأخلاق هي ما يقوم به الإنسان بالإرادة. ولكن ما ذُكر من قَبْل من أفكار سيئة أو حسنة لا تكون بإرادة الإنسان وإنما تحدث بتأثيرات خارجية لا يتعمدها وتزول فورا. وإلى هذا الأمر يشير القرآن بقوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم).. إنما يؤاخذكم الله ويعاقبكم على أفكار تتولد بإرادتكم، وليس على تلك التي تتولد في أذهانكم فجأة ثم تزول أيضا فورا.

وقد شرح النبي هذا الأمر في حديث يقول فيه إنه إذا تولدت فكرة سيئة في قلب إنسان فنفضها عنه فإنه يثاب عليها، ونص الحديث: (وإن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) (البخاري،الرقاق).

ثم قال (والله غفور حليم) فدلَّ بكلمة (غفور) أنكم لو تجنبتم مثل هذه الأيمان وتبتم فسوف نغفر لكم، ونبه بكلمة (حليم) إلى أننا لم نؤاخذكم على هذا اللغو من الأيمان لأننا لو فعلنا ما استطعتم النجاة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك