في رحاب (وسع كرسيه السماوات والأرض)
(اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (سورة البقرة: 256)

شرح الكلمات:

الحي– صاحب الحياة الكاملة. عندما يوصف الله بالحياة فإنه “الـ” تفيد الكمال.. فحياته لا تحتاج أي شيء، ولم يعطه أحد شيئاً لهذه الحياة، بل إنه بذاته حي منذ الأزل إلى الأبد.

القيوم– قام يقوم، ومنه القيّم: المراقب المتولي. والقيِّم المستقيم. أمر قيِّم: لا عِوجَ فيه. القيوم والقيام: الذي يقوم بذاته ولا تكون له بداية (الأقرب). والقيوم ليس من يقوم بذاته فحسب، وإنما يقيم الآخرين ويحفظهم. القائم: الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه. فالله قيوم لأنه قائم بذاته، كما يُودع هو الأشياء الأخرى القوى التي تقوم بها (المفردات).

وصفه القيوم تشير إشارة لطيفة إلى ما يوجد بين الأجرام الفلكية من قوى الجاذبية وما يوجد بين الجُسيمات الدقيقة من روابط تحفظهما في دوران بعضها حول بعض.

سِنة– السِّنة من الوسن. وَسَنَ الرجل: أخذه ثقل النوم. والسنة هي النعاس الذي يستولي على الإنسان بسبب غلبة النوم (الأقرب).

كرسيه– الكرسي من الكَرْس، وهو جمع الأجزاء المتفرقة. يقال كرست البناء فتكرَّس: وضعت اللبنات فوق بعض حتى صار بناء. والكرسي: العلم؛ الحُكم (المفردات). والمعنى الحقيقي للكرسي هو جمع الشيء وتركيبه. وما دام العلم يجمع المعلومات المتفرقة، والحُكم يضم المناطق المتفرقة لذلك يسمى كل منهما الكرسي.

التفسير:

أول ما وجَّه الله به نظر الإنسان إليه هو حقيقة أن (اللهُ لا إله إلا هو).. أي أيها الإنسان، انظر إلى الله.. فهو معبودك الوحيد الذي لا معبود سواه. إن كل شيء في العالم يكتسب قدره وقيمته بندرته. فمثلاً، الماء ضروري جداً للحياة، ولكن الناس عموماً لا يحتفظون به لأنهم يعرفون أنهم يستطيعون الحصول عليه بسهولة عند الحاجة. كذلك الهواء ضروري للحياة، ولكن لا يحتفظ به الإنسان لأنه يعرف أنه في متناوله عند الحاجة يتنفس منه ما يشاء. ولكن نفس هذا الماء الضروري الذي لا يقيم له الناس وزناً كبيراً.. يصبح شيئاً ثميناً غالياً جداً إذا كان الإنسان في فلاة لا ماء فيها. لو كان عند المرء قطرات من الماء فلن يستبدل بها شيئاً مهماً غلا. فالشيء تزداد قيمته وتقل بقدر الحاجة إليه وإقبال الناس عليه. الغلال مثلاً إذا كثرت هبط ثمنها، وإذا شحت ارتفع ثمنها أضعافاً.

كذلك لو كان في الدنيا أكثر من إله لقال البعض: إذا لم يتيسر لي هذا الإله فسأجد إلهاً غيره. ولكن الله يقول: كلا، بل الله واحد لا إله إلا هو. فلو قال أحد أنني أترك هذا وأذهب إلى ذاك فلن يجد سواه.. لأنه إله واحد.. لا اثنان أو مائة أو آلاف. فما دام واحداً فكيف تتركونه وتذهبون إلى آخر غير موجود. أنتم في حاجة إليه في كل وقت وحين. لو غضب ملك في الدنيا على أحد، استطاع هذا أن يقول: لا بأس، أترك بلده وأذهب إلى بلد آخر. إذا ظلمني ملك الصين أذهب إلى ملك إيران، وإذا وجدت هذا ظالماً ذهبت إلى ملك إنجلترا. ولكن أين يفرون من الله تعالى؟ ليس هناك أرض إلا وهي لله، وليس هناك حكم إلا هو تحت قبضته سبحانه. ثم ليس هناك إله آخر يستطيع الإنسان الاستعانة به.

يعتقد الهندوس في آلهة كثيرة، وأن هؤلاء الآلهة يتشاجرون فيما بينهم. والمشهور عندهم أن الإله (شِو) غضب على أحد الناس وأهلكه، ولكن الإله (براهما) كان يحب هذا الإنسان فقال: أنا الخالق وسوف أحييه، فأحياه. ولكن “شو” أهلكه مرة أخرى، فأحياه “براهما” ثانية، وهكذا استمرت الخصومة بينهما: هذا يهلكه وذاك يحييه! هذه أفكار الهندوس. أما عندنا فلا وجود لمثل هذه الآلهة.. واحد يُهلك والثاني يُحيي، أو هذا يغضب وذاك يرضى.

إذا كان عند سيد خادم فيمكن أن يرفض الخادم خدمته، لأنه يعلم أنه سيجد عملاً عند سيد آخر. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يقول ذلك لله لأنه السيد الوحيد جل علاه.

ثم إن إلهنا إله حي يبقى حياً إلى الأبد. كان حياً زمن آدم، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.. وهو لا يزال حياً إلى اليوم، وسوف يبقى حياً مهما طال الزمن. ولسوف يُظهر الآيات الدالة على حياته إلى الأبد.. لأنه الحي القيوم، ولأنه لا تأخذه سنة ولا نوم. فكيف يمكن أن تنتهي آيات حياته؟ عندما ينشئ الإنسان صلة بإله كهذا فإنه – عز وجل – يكفله ويسد حاجاته بنفسه، ويظهر لتأييده آيات غير عادية باستمرار.

لقد رأينا الناس يأتمنون الخليفة الأول للمهدي، وكان ينفق من هذه الأمانات بحسب الحاجة؛ ويقول: إن الله تعالى يرزقنا بهذا السبيل من فضله. وقد جرَّبنا معه أن أصحاب الأمانات كانوا يأتونه فجأة ليستردوها. وكان حضرته بسيط الطبع، لا يحب أن يفرط في شيء حتى قصاصات الورق، وعندما كان يطالبه صاحب الأمانة كان يأخذ ورقة عادية ويكتب فيها لأهله أن أرسِلوا أمانة فلان مائة روبية مثلاً. وكان أهله أحياناً يقولون: لقد أنفقنا هذا المال أو بقي منه كذا فقط. فكان يقول لصاحب الأمانة انتظر قليلاً فلسوف يأتي المال إن شاء الله. وبينما نحن في هذا إذا بشخص رث الثياب يأتي من مكان بعيد ويسلمه مالاً بنفس المقدار المطلوب ليحفظه أمانة له.

في أحد الأيام وقع حادث غريب طريف. جاءه صاحب أمانة يطلبها ولكن لم يكن عنده أي مال، وفي نفس الوقت جاء شخص للعلاج (كان حضرته طبيباً مشهوراً في الهند كلها) وقدم إليه ظرفاً فيه بعض المال. وكان الحافظ روشن علي يعرف مقدار المبلغ الذي يطالب به صاحب الأمانة، فقال الخليفة الأول للحافظ: انظر كم من المبلغ في الظرف. فعدَّه وقال نفس المبلغ الذي تحتاج إليه. فقال: أعطِ صاحب الأمانة إياه!

وكان يحكي لنا قصة أحد الأسلاف الأولياء.. قال أنه في إحدى المرات جاءه أحد الدائنين وقال له: لي عليك مبلغ كذا وقد مضت عليه مدة طويلة، فعليك أن تسدده الآن. فقال: ليس معي شيء لأدفعه لك، وعندما يأتيني مال فسأرده لك. فقال الرجل: تتظاهر أمام الناس بالصلاح والولاية ولا تسدد للناس أموالهم! أهذا دأب الصالحين؟ وبينما هم في ذلك إذ جاء صبي يبيع الحلوى، فاشترى منه الولي بعض الحلوى بنصف دينار ووزعه على الحاضرين بما فيهم هذا الدائن. وعندما طالبه الصبي بدفع ثمن الحلوى قال: ليس معي حتى ربع دينار، وأنت تطالبني بنصف دينار! فبدأ الصبي يبكي ويصرخ. وبرؤية هذا المشهد قال الدائن: ما أغرب سيرتك! لقد سلبتني مالي، والآن تسلب هذا الصبي ربع دينار أيضاً. وطفق الدائنان يصيحان، والرجل الصالح جالس في مكانه مطمئناً، حتى جاء شخص وأخرج من جيبه كيساً، وسلمه له قائلاً: أرسل لك الأمير هدية. وعندما فتحه وجد فيه مالاً بقدر ما يطلبه الدائن، ولكن لم يكن هناك ربع دينار للصبي. فقال للرسول: هذا الكيس لا يخصني فخُذْه. وبسماع ذلك اصفرَّ وجه الرسول، وأخرج على الفور من جيبه كيساً آخر، وقال: لقد أخطأت فهذا هو الكيس الذي لك. ولما فتحه وجد فيه نفس المبلغ الذي يطلبه الدائن ومعه أيضاً ربع دينار. فسلم المبلغ لهما. فالله تعالى حي، يُرِي مثل هذه الآيات نصرة وتأييداً لعباده على الدوام.

ثم إنه (القَيُّوم). قد يفكر أحدهم: إنني أخدم هذا السيد الآن، ولكن من قبل كنت أعمل عند ذلك السيد فله علي أيادٍ، ويجب أن أحترمه هو أيضاً. يقول الله تعالى: لست إلهاً لكم اليوم فحسب، بل أنا إلهكم منذ بدايتكم. وليس لأحد سواي يدٌ عليكم، بل أنا الإله القائم منذ الأزل الذي يعطي الجميع وجودهم، فلا يمكن أن يكون لأحد غيري منة عليكم.

ثم يقول (لا تأخُذُه سِنةٌ ولا نومٌ). قد يقول أحد: قبِلنا أنه لا يكون إله إلا الله، وأنه حي أزلي أبدي، وهو سيدنا الآن ومن قبل أيضاً.. ولكن قد يستولي عليه النوم أو النعاس.. فتقوم حاشيته مقامه، ولا بد عندئذ من إرضائهم وكسب ودّهم. يقول الله تعالى: إن إلهكم إله لا تأخذه سنة ولا نوم. لا تظنوه كالملوك والحكام الدنيويين الذين تحتاجون لإرضاء حاشيتهم. إن إلهكم يقظ دائماً يراقب كل شيء بنفسه.

ما ألطف كلام الله! يقول (لا تأخُذُه سِنةٌ ولا نوم). في حين أن القاعدة في ترتيب الكلام أن يُبدأ بالصغير ثم الكبير وإلا كان خطأ. فعند النفي لا يقال مثلاً: فلان لا هو أعرج ولا كسيح، وإنما يقال: لا هو كسيح ولا أعرج. ما دام الله قد نفى هنا عن نفسه السِّنة فقد نفى النوم تلقائياً، فلماذا قال بعد ذكر السِّنة (ولا نوم)؟ فلنتذكر أن هناك حكمة في هذا الترتيب. فالسنة تستولي على الإنسان من شدة النوم، وما لم يكن الإنسان في نوم عميق لا تأخذه سنة. فيقول الله تعالى أنه لا يرهقه عمله بحيث يصاب بالسنة وتشتد عليه غلبة النوم ويغلق جفنيه، كما لا يصاب بالنوم العادي. فبحسب الترتيب البياني وجب أن يذكر السنة أولاً ثم النوم، وهذا ما فعل.

قوله (لهُ ما في السماواتِ وما في الأرض).. إن سيدكم وإلهكم يملك كل ما في السماوات والأرض جميعاً، فكيف يمكن أن تتخذوا من دونه سيداً؟

ويقول البعض: لا نعبد أحداً سوى الله، ولكننا نقدم النذور لبعض خلقه، ونطلب منهم شيئاً من الحاجات، لأنهم مقرَّبون إلى الله تعالى وسوف يشفعون لنا عنده. فيرد الله: (مَنْ ذَا الذي يشفَعُ عندهُ إلا بإذنهِ)؟.. من يملك الشفاعة أمامنا بدون إذن منا؟ آمالكم هذه في غير محلها وخاطئة. في زمننا هذا.. مَنْذا الذي يكون أقرب إلى الله من المهدي والمسيح الموعود؟ كان مرة يدعو الله تعالى من أجل عبد الرحيم خان ابن النواب محمد علي خان، وكان هذا الولد مصاباً بمرض شديد جداً، وأثناء الابتهال والدعاء تلقى سيدنا المهدي إلهاماً يقول: القدر مُبْرمٌ والهلاك مقدر. ففكَّر حضرته أن الرجل هاجر إلى قاديان تاركاً وراءه كل ما كان يملك، فإذا توفي ابنه فسوف يمر في ابتلاء شديد الوطأة.. لذلك مضى سيدنا المهدي يتوسل إلى الله تعالى ويلِح في الدعاء وقال: يا رب، إني أشفع عندك لشفاء هذا الولد. فتلقى إلهاماً شديداً يقول: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ قال: عندما تلقيتُ هذا الوحي سقطتُ على الأرض، وأخذتني رعدة شديدة، وأوشكت على الموت. وعندئذ ناداني ربي قائلاً: إنك أنت المُجاز. أي الآن نأذن لك بالشفاعة. فشفعت له، وتقبل الله الشفاعة، وشفى عبد الرحيم خان (التذكرة، مجموعة إلهامات وكشوف سيدنا المهدي، ص 496).

انظروا إلى سيدنا المهدي، كم كان محظوظاً بقرب من الله تعالى، وكان إنساناً ذا قدر عظيم. كان الناس ينتظرونه منذ ثلاثة عشر قرناً، ولكن عندما يشفع يؤنبه الله تعالى: منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ فما بالك بالأناس العاديين ليشفعوا عنده!

يتبين من الأحاديث أنه في يوم القيامة يأذن الله لسيدنا محمد ثم يشفع للناس (الترمذي، صفة القيامة). فما دام الأمر كذلك، فما أشد حمقاً من يظن أن فلاناً سوف يشفع له عند الله! بقيت مسألة ربما يقول أحد: نعم، لا يمكن أن يشفع أحد إلا بإذنه، ولكن كما يكون للملك حاشية يمكن للمواطن أن يتوسل إلى الملك عن طريقهم.. كذلك يكون لله تعالى حاشية. يدحض الله هذه الفكرة ويقول: ألا يعرف هؤلاء الحمقى لماذا يكون مع الملك الدنيوي حاشية؟ إنه يحتفظ بحاشية ليجتمعوا له المعلومات ويخبروه بما يجري في البلد.. لأنه لا يعرف بنفسه ما يدور في البلد. أما الله تعالى فيعلم كل ما قدمتم وأخرتم في حياتكم، فلا حاجة له في حاشية ليستعين بهم.

وقوله (يعلمُ ما بين أيديهم وما خلفَهم) له مدلولان – الأول: إن الله يعلم ما فعلوا في الماضي وما سيفعلون في المستقبل، والثاني: أنه تعالى يعلم ما يفعلون حالياً، ويعلم ما كان يجب عليهم أن يفعلوه في الماضي ولكنهم لم يفعلوه في الماضي ولكنهم لم يفعلوه وتركوه وراء ظهورهم. فما الداعي لأن تكون له حاشية؟

وقوله (ولا يُحيطون بِشيءٍ مِن عِلمِهِ إلا بما شاء) يعني لا يستطيع أحدٌ بجهوده الشخصية أن يعرف حقيقة علومه. نعم، إذا أطلع الله أحداً على بعضٍ من علمه فإنه يعرف بقدر ما يكشفه الله له ولا شيء أكثر من ذلك.

لقد بين الله في هذه الآية أنه لا يستطيع أحد الإحاطة بعلومه.. لا محمد ولا أي شخص آخر. صحيح أن النبي محمداً كان سيد الأنبياء عليهم السلام، وأحب الناس إلى الله، بل إن اتباع محمد يُكسب الإنسان حب الله تعالى.. ومع ذلك كان مخلوقاً لله محتاجاً إليه، وكان يتصف بصفات العباد، ولم يتصف بصفات الله الخاصة به.

كما أن قوله (ولا يُحيطون بشيء من علمه) يوجه النظر إلى أنه لا نهاية ولا حد لسُبُل ومدارج التقرب إلى الله، حتى لا يظن أحد أنه يستطيع أن يحوز عليها كلية. كلما يتقرب الإنسان إلى الله ويجذب في نفسه – بحسب درجته ومرتبته في التقرب إلى الله – أنوارَه وبركاته.. فإن الله تعالى يتفضل عليه بتجليه الثاني. وعندما يتحمل هذا التجلي الثاني، ويرى اللهُ أنه صار جديراً لتحمل التجلي الثالث تجلّى به الله عليه.. وهكذا يزداد قرباً إلى الله باستمرار. وقد وضح النبي هذه الكيفية بمثال رائع جداً.. فقال: آخر نزيل في جهنم يقول الله له: سلني ما بدا لك، فيقول: أسألك أن تخرجني من جهنم: فيخرجه منها. فتُرفع له شجرة، فيقول، أي ربِّ، أَدْنِني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها. فيقول الله: يا ابن آدم، لعلِّي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب، ويعاهده ألا يسأل غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب ماءها. ثم تُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أَدْنِني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلِّي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب ماءها. ثم تُرفع له شجرة هي أحسن من الأولَيَيْن، فيقول: أي رب، أدنني من هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي ربِّ، أدخلنيها. فيقول: يا ابن آدم، ما يضربني (أي يخلصني) منك؟ أيرضيك أن اعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: أي رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟.. فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قدير (مشكاة، الفتن). وفي رواية: “فيضحك الله – عز وجل- منه، ثم يأذن له في دخول الجنة” (البخاري، الأذان).

هكذا يُري الله في البداية تجلياً خفيفاً، فلا يصبر أولئك الذين يشبهون الملائكة في صفاتهم على هذا التجلي، وإنما يدعون من الله أن يُريهم تجلياً كاملاً.. فيريهم الله تعالى تجلياً أعلى، ثم تجلياً أكمل.. ويستمر هذا الموضوع. وعلى أية حال، فإن ذات الله تعالى غير محدودة ولا يمكن أن يحيط به أحد.

قوله: (وَسِعَ كُرسيُّهُ السَّماوات ِ والأرض) يعني أن عِلم الله يحيط ويسع السماوات والأرض. فعِلمه نهائي بكل شيء، وليس هناك ما يخرج عن عِلمه. إن علم الإنسان محدود جداً. أحياناً يظن شيئاً خيراً له، ولكن تكون النتيجة وخيمة، كما جرى مع سيدنا المهدي، فقد علم عن “مير عباس علي اللدهيانوي” المرتد أنه رجل صالح، فبدأ في مدحه.. لأنه لم يُعط حتى ذلك الوقت عِلماً بمصيره، ولم يعرف أنه سيرتد في يوم من الأيام، ولكن الله بعد ذلك أعلمه بهذا الأمر. فعِلْم الإنسان إذن محدود جداً، وعلم الله هو الكامل الشامل لكل شيء، ولا يستطيع أحد أن يحيط بعلومه.

كما أن قوله (وسع كرسيه السماوات والأرض) يشير إلى أمر علمي عظيم.. ذلك أنه لا أحد سوى الله يقدر على معرفة سعة هذا الكون. إن التقدم العلمي الذي أحرزه علم الفلك في هذه الأيام لم يكن من قبل أبداً. إنهم اليوم لا يقيسون أبعاد الكون بالأميال ويقولون إن الأرض تبعد عن نجم كذا بعدد كذا من الأميال أو حتى آلاف الأميال؛ بل يقيسونها بالسنة الضوئية.. أي ما يقطعه الضوء في سنة، وكأن هذا دليل على صدق قول الله تعالى (اللهُ نورُ السماواتِ والأرض) (النور: 36)، لأن هذه الآية تبين أنكم لا تستطيعون تقدير سعة السماوات والأرض إلا بالنور وسرعته.

وإذا كانت سرعة الضوء 300.000   كيلو متراً في الثانية الواحدة.. فإنه يقطع 18.000.000 كم في الدقيقة؛ و 1.080.000.000 في الساعة، و 25.920.000.000 في اليوم؛ و 9.460.000.000.000 كم في السنة، وهذا ما يسمى بـ “السنة الضوئية” أو المسافة التي يقطعها الضوء في سنة أرضية.

ويقول علماء الفلك أن سعة هذا الكون تقدر بثلاثة آلاف من السنين الضوئية. ومن هذا الرقم تقدر سعة الكون بأنها 28.380.000.000.000.000 كيلومتراً.. أي ثمانية وعشرون ألف مليون مليون كيلومتراً. ومثل هذه الأعداد التي تفوق التصور تخرج من نطاق الحساب البشري. ثم مع تقدم العلوم يثبت خطأ هذه الأرقام ويتبين أن الكون أوسع من ذلك كثيراً. فبعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) أعلنوا أن سعة الكون ستة آلاف من السنين الضوئية، ولكن كشفت البحوث التي تمت بعد ذلك عن خطأ هذا التقدير، وقالوا: لا نستطيع تقدير سعة هذا الكون، لأنه يمتد ويزداد في كل اتجاه كما تنتشر الموجة، وقدروه الآن باثني عشر ألف سنة ضوئية. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله (والأرضُ جميعاً قبْضَتُهُ يومَ القيامةِ والسماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِهِ) (الزمر: 68). والشيء الذي يكون في يد الله تعالى.. كيف يمكن للإنسان أن يقدره؟ ومن أجل ذلك كلما تتقدم التخمينات البشرية عن الكون فإن الله يزيد الكون اتساعاً. وإذن فقد اعترف هذا العلم الجديد أخيراً بصدق قول الله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماواتِ والأرضَ) وأنه لا يستطيع أحد تقدير سعة هذا الكون إلا الله تعالى.

(ولا يَؤُودهُ حِفْظُهُما).. قد يقول البعض أنه إذا لم يكن لله حاشية لجمْع المعلومات له عن هذا الكون الشاسع.. فلعل له مساعدين يساعدونه في إدارة الكون. ويعلن الله تعالى أنه لا حاجة إلى المساعدين، لأنه سبحانه ينجز كل المهمات بنفسه، وهو قادر على كل شيء، الجميع في قبضته، ولا يصيبه من ذلك تعب أو إرهاق.

وقد يعترض البعض: صحيح أن الله لا يحتاج إلى حاشية أو مساعدين، ولكن ربما يحتاج لما يُظهر جلاله وشوكته.. فيرد الله بقوله (وهو العليُّ العظيم)! إنه كامل العظمة.. بحيث ليس هناك شيء يزيد من جلاله بالانضمام إليه.. بل كل من يتصل بالله ينال جلالاَ وشأناً. فلا تظنوا أن لله حاشية من أي نوع.. لا لجمع المعلومات، ولا للمساعدة في الأعمال، ولا لإظهار قوته وجلاله. وكلمة (العليُّ) تشير إلى رفعته وسموه، و(العظيم) إلى عظمة قدراته.

هذا هو الإله الذي يقدّمه الإسلام. وما أدعى للأسف من أن يتجه الإنسان إلى الآخرين رغم وجود هذا الإله! إذا ترك الإنسان طعاماً طيباً شهياً ليأكل النجاسات، أو يدَع ملبساً بهِيَّاً ليضع على جسده خرقة وسخة.. فهل هذا يُسمّى عاقلاً؟ كلا، ثم كلا، إنما العاقل من يفضل الأفضل. ولا أحد أفضل من الله جل وعلا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك