الإسراء كشف لطيف
  • رؤية الدنيا على صورة عجوز تدل على الإسراء كان كشفا.
  • القرآن الكريم بنفسه سمى هذا الحادث رؤيا.
  • كلمة الرؤيا في العربية تدل على الحلم وكذلك على الكشف الروحاني.

__

أتناول الآن حادث الإسراء بشيء من التفصيل. أرى أن رواية أنس التي نقلها ابن جرير في تفسيره ترسم لنا أدقَّ وأصحَّ صورة للإسراء، حيث ورد:

«عن أنس بن مالك قال: لما جاء جبرئيل بالبراق إلى رسول الله ضربتْ بذنَبها، فقال لها جبرئيل: مَهْ يا براقُ! فوالله إنْ رَكِبَك مثلُه. فسار رسول الله فإذا هو بعجوزٍ ناءٍ عن الطريق أي على جنب الطريق، فقال: ما هذه يا جبرئيل؟ قال: سِرْ يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحِّيًا عن الطريق يقول: هلمَّ يا محمد، قال جبرئيل: سِرْ يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير. قال: ثم لقيه خَلقٌ من الخلائق، فقال أحدهم: السلام عليك يا أولُ، والسلام عليك يا آخر، والسلام عليك يا حاشر! فقال له جبرئيل: ارْدُدِ السلامَ يا محمد. قال: فردَّ السلام. ثم لقيه الثاني، فقال له مثل مقالة الأولين، حتى انتهى إلى بيت المقدس. فعُرض عليه الماءُ واللبنُ والخمرُ، فتناول رسولُ الله اللبنَ. فقال له جبرئيل: أصبتَ يا محمد الفطرةَ، ولو شربتَ الماء لغرَقتَ وغرَقتْ أُمّتُك، ولو شربتَ الخمرَ لغَوَيتَ وغَوَتْ أُمّتُك. ثم بُعث لـه آدمُ فمَن دونه من الأنبياء. فأَمَّهم رسولُ الله تلك الليلةَ. ثم قال له جبرئيل: أما العجوز التي رأيتَ على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز. وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدوُّ اللهِ إبليسُ.. أراد أن تميل إليه. وأما الذي سلّموا عليك فذلك إبراهيم وموسى وعيسى». (تفسير ابن جرير الطبري)

هذه الرواية قد نقلها ابن كثير في تفسيره وعلّق عليها قائلاً: «وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن وهب. وفي بعض ألفاظه نَكارةٌ وغرابة. طريقٌ أخرى عن أنس ابن مالك، وفيها غرابة ونكارة جدًّا، وهي في سنن النسائي المجتبى، ولم أرها في الكبير.» (1)
وهذه الرواية لابن جرير يمكن أن تساعدنا على السير في الطريق السليم في هذا البحث، لأنها – عندي – أصدق الروايات وأصحها.
هناك خطأ واحد في هذه الرواية وهو أنها تذكر أنه عُرض على النبي أولاً الماء ثم اللبن ثم الخمر، ولكن الترتيب الصحيح هو: الماء ثم الخمر ثم اللبن، كما ذكره ابن كثير في تفسيره؛ وسوف أبيّن بعد قليلٍ أهمية تصحيح هذا الخطأ البسيط، أما الآن فأريد التأكيد أن المراجع الأخرى أيضًا قد سجلت المشروبات بالترتيب الذي أراه صحيحًا. فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن صهيب بن سنان قال: لما عُرض على رسول الله ليلةَ أُسريَ به الماءُ ثم الخمرُ ثم اللبنُ أَخَذَ اللبنَ» (الخصائص الكبرى ج 1 باب خصوصيته الإسراء، حديث صهيب ص 159).

فرؤية النبي الدنيا على صورة عجوز تدل صراحةً على أن الإسراء كان كشفًا من الكشوف الروحانية اللطيفة، وإلا لقال النبي لجبريل على الفور: لماذا تتكلف وتلجأ إلى التأويل، فقد رأيتُ هذه العجوز بأم عيني الجسمانية آنفًا؛ فهل يحتاج ما يُرى بالعين إلى تأويل؟

والرواية الواردة في «الدر المنثور» أيضًا تدعم الترتيب الذي ذكره ابن كثير، لأن الترتيب الوارد فيها هو: الماء والخمر واللبن.
إذن فبناءً على هذه الشواهد كلها يمكن أن نجزم بأن الرواية التي نقلها ابن جرير كانت في الأصل بالترتيب الصحيح، ولكن في بعض النُسخ حصل هذا الخطأ من سهو الكاتب.
إن رواية ابن جرير هي أصح الروايات، لأن محتوياتها تشكل شهادة داخلية على صحتها. اقرأوها مرة أخرى لتجدوا أن كل ما ورد فيها من وقائع وأحداث جاء في تناسق وانسجام، وأن التأويلات التي ذكرها جبريل واضحة تمامًا ومدعَّمةٌ من قِبل القرآن الكريم.
وعلى سبيل المثال، أوّلَ جبريلُ الماءَ بحطام الدنيا، وهذا حق، فإن الماء ينوب عن الدنيا، لأن به الحياة، كما قال الله تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: 31).

وقال جبريل: «لو شرِبتَ الخمرَ لغوَيتَ وغوَتْ أُمَّتُك». وهذا أيضًا حق، لأن الخمر رمز للأعمال الشيطانية لقول الله تعالى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة:91).

وحين تناول رسول الله اللبنَ قال لـه جبريل: «أصبتَ يا محمد الفطرةَ»، ذلك لأن اللبن يتكون في ثدي الأم، ويكون خالصًا من أية شوائب، لذا يدل على الفطرة الصحيحة.
ثم لاحِظوا روعة الترتيب والتناسق بين ما عُرض على النبي من مشروبات وبين مَن قابله في الطريق. فأول من مرّ به النبي هي العجوز التي عبّرها جبريل بالدنيا، وكذلك أول ما عُرض عليه هو الماء الذي عبّره جبريل أيضًا بحطام الدنيا، وهذا هو ما يعلنه القرآن الكريم أيضًا في قول الله تعالى:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ (الكهف:46).

ثم بعد العجوز رأى النبي في طريقه الشيطانَ، وبالترتيب نفسه عُرض عليه الخمر بعد الماء، ذلك تبيانًا بأن الخمر تدفع شاربَها إلى الغواية مثل الشيطان.
وآخر ما رآه النبي جماعةٌ من الأنبياء الذين سلّموا عليه أي دعوا لـه بالسلامة، وبالمثل عُرض عليه في آخر الأمر اللبنُ، وكان إشارةً إلى أن أمته ستحظى دائمًا بالعلوم الروحانية، وستنجو من الدمار.
فكل ما في هذه الرواية من ترتيب جميل محكم وتعبيرات صحيحة رائعة يدل على أن راويها لا بد أن يكون قد سمع هذا الخبر من رسول الله .
والآن أبين لكم مغزى الإسراء بناءً على ما فهمتُه من القرآن الكريم والعلوم الروحانية.
إن الإسراء، في رأيي، كان كشفًا من الكشوف اللطيفة، وإليكم أدلتي:
الدليل الأول: هو رواية أنس التي أفضّلها على باقي الروايات من حيث التفصيل. فقد جاء فيها أن النبي رأى في الطريق عجوزًا، ثم شيئًا يدعوه متنحّيًا عن الطريق، ثم خلقًا من الخلائق، وبعد ذلك عُرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول اللبن، ثم قام جبريل بتأويل هذه الأحداث كلها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا لم يكن الإسراء كشفًا من الكشوف فلماذا قام جبريل بهذه التأويلات؟ وإذا كان النبي قد أُسريَ بجسده المادي فلماذا رأى الدنيا على شكل عجوز؟ وهل في القرآن أو الحديث أن الدنيا امرأة عجوز في الحقيقة؟ فرؤية النبي الدنيا على صورة عجوز تدل صراحةً على أن الإسراء كان كشفًا من الكشوف الروحانية اللطيفة، وإلا لقال النبي لجبريل على الفور: لماذا تتكلف وتلجأ إلى التأويل، فقد رأيتُ هذه العجوز بأم عيني الجسمانية آنفًا؛ فهل يحتاج ما يُرى بالعين إلى تأويل؟ ولكنا نجد النبي قد لزم الصمت على تأويل جبريل لهذه المناظر، مما يوضح أنه اعتبر هذا الحدث كشفًا.
ثم إن فرحة جبريل على رفض النبي الماءَ أيضًا تؤكد كون الإسراء كشفًا من الكشوف، إذ لو كانت رحلته هذه بجسده المادي فلماذا تغرق أمته نتيجة شربه الماءَ وقد كان يشرب الماء في حياته دائمًا؟ فما الضمان إذًا لنجاة أمته من الغرق وقد شرب الماء آلاف المرات في حياته المادية؟!
الدليل الثاني: إن القرآن الكريم أيضًا قد سمّى هذا الحادث رؤيا كما قال الله تعالى في هذه السورة نفسها:

وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاس (الإسراء: 61)،

مما حدا بعديد من الصحابة والعلماء الأسلاف على اعتبار الإسراء رؤيا من الرؤى. فقد «أخرج ابنُ إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال: كانت رؤيا من الله صادقةً» (الدر المنثور). وهو أيضًا مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (السيرة النبوية لابن هشام:(2) ذكر الإسراء، ومختصر زاد المعاد: فصل في الإسراء ص 203)
الدليل الثالث: قولُ النبي : لما أخبرتُ الناسَ بذهابي إلى القدس سألوني أن أَصِفَها لهم، وكنت لا أعلم من مَعالمها شيئًا، فترددت في وصفها. فلو كان النبي قد زار القدس زيارة ظاهرة لما تردد في وصفها. فقد ورد أن النبي قال: «لما كذّبتني قريش حين أُسريَ بي إلى بيت المقدس، قمتُ في الحِجر، فجلّى اللهُ لي بيتَ المقدس، فطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه.» (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله أسرى بعبده ليلاً)
فهذا الحديث أيضًا يؤكد كون الإسراء كشفًا، حيث فكّر النبي لدى سؤالهم أن ما رآه من مناظر القدس ربما لا يكون مطابقًا للواقع الظاهر، ولذلك تردد في وصفها، ولكن بما أن موجة المعارضة والاستهزاء من قبل الكفار كانت على أشدها لدى سماعهم هذا الخبر لذلك قرر الله تعالى أن يكشف لنبيّه مَعالم القدس على صورتها الظاهرة أيضًا، فرآها النبي مرة أخرى رؤيةَ كشفٍ، فجعل يصفها لهم. فصدّقه من كانوا على معرفة بمعالم القدس.
وقد قال بعض المتعصبين من الكتّاب النصارى تعليقًا على هذا بأن خرائط القدس كانت متيسرة في زمن محمد، فربما استعان بها محمد في وصفه لمعالمها. (تفسير القرآن لـِ «ويري»)
وأقول: قد تكون خريطة القدس متيسرة حينذاك، ولكن هل يوجد بين هؤلاء المتعصبين من يستطيع أن يجيب هكذا على أسئلة الناس عن مدينة من المدن مستعينًا بخرائطها فقط دون أن يزورها؟!
وجدير بالذكر أنه مما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد استخدم للإسراء كلمة الرؤيا، ولكن يجب أن لا ينخدع بذلك أحد فيظنها كالأحلام والرؤى العادية. فإن «الرؤيا» بلُغتنا الأردية تطلَق فقط على ما يراه النائم من مناظر ومشاهد، ولكنها في العربية تطلَق على الحلم وكذلك على الكشف الروحاني. والكشف هو غير الحلم العادي، ولا يراه الإنسان في النوم، وإنما يراه ما بين النوم واليقظة.. أي في حالة شبه غيبوبة حين لا يكون نائمًا، وإنما تكون حواسه الظاهرة نشيطة في عملها، بل أحيانًا يرى الإنسان الكشف وهو يحاور صاحبه. وكشوف الأنبياء أكثر لطافة وشفافية من كشوف الآخرين، لأنهم يستطيعون أن يروا بعيونهم الكشفية ما يقع بالضبط في أماكن نائية للغاية.
واعلم أن الكشوف ثلاثة:

1- ما تكون مَناظرُه مطابقةً للواقع المادي، تمامًا كما يرى الإنسان بالمرقب الأشياء البعيدة.
2- ما يكون بعض مناظره مطابقًا للواقع المادي، وبعضه يتطلب التأويل.
3- ما تحتاج كل مناظره إلى التأويل.
وإن ما رآه النبي في الإسراء كان من النوع الثاني. فبعض ما رآه من مشاهد كان مطابقًا للواقع المادي، بينما كان بعضه يتطلب التأويل. وقد سبق أن تحدثت بالتفصيل عما كان بحاجة إلى التأويل. أما المناظر التي كانت طبقًا للواقع المادي فمنها – كما ورد في الحديث – أن النبي قال للسائلين: مررت عند العودة بقافلة لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بَعيرًا لهم. ولما وصلت تلك القافلة مكة أكدوا أنهم بالفعل كانوا ضلوا بعيرًا لهم في ذلك اليوم نفسه وفي المكان نفسه (الخصائص الكبرى: حديث شداد بن أوس ص 159)
علمًا أنني صاحب خبرة بالكشوف، بفضل الله تعالى، ولم أقل ما قلت إلا بناءً على خبراتي الشخصية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك