بيان تغطية الله حاجات الإنسان المادية والروحانية
  • من نعم الله المحضة التي أذن الله بوجودها على الأرض
  • نعم ربانية مستودعات لنعم أخرى
  • إشارة للاهتمام بالحاجيات الروحانية
  • تطور العقل الإنساني منوط بالوحي
  • للرحلة الروحانية منازل ونجوم للهدى
__
وَأَلْقَى فِي    الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (16)

شرح الكلمات:

ألقى: ألقاه إلى الأرض: طرَحه. وألقى إليه القولَ وبالقول: أبلغَه إياه. وألقى المتاعَ على الدابة: وضَعه. وألقى عليه القولَ: أملاه، وهو كالتعليم. وألقى فيه الشيءَ: وضَعه. وألقى إليه السمعَ: أصغى. وألقى إليه خيرًا: اصطنعه عنده (الأقرب).

رواسي: الرواسي: الجبال الثوابت الرواسخ (الأقرب).

تميد: ماد الشيءُ: تحرَّك وزاغَ، يقال: مادتْ به الأرضُ: دارتْ. وماد السرابُ: اضطرب (الأقرب). فالمراد أن الله تعالى قد جعل في الأرض الجبال الثابتة لئلا تضطرب الأرض بأهلها.

التفسـير:

لقد استخدم القرآن الكريم هنا فعل ألقى وذكر بعده ثلاثة مفاعيل به هي رواسيَ وأنهارًا وسبلاً؛ ومن معاني الإلقاء الطرح، فكيف يصح أن يقال إن هذه الأشياء الثلاثة قد أُلقيتْ مع أن الجبال قد خرجت من باطن الأرض، والأنهار هي التضاريس التي يجري فيها الماء ليصل من مكان إلى مكان، والسبل هي الأماكن الذي يطرقها الناس لدى السير فيها؟

لقد رد البعض على هذا بقولهم: إن فعل (ألقى) متعلق بالجبال فقط، ولكنه استُخدم للأنهار والسبل أيضًا بمعنى (جعَل)، والمراد أنه ألقى في الأرض الجبالَ وجعل فيها الأنهار والسبل (فتح البيان).

مما لا شك فيه أن العرب تستخدم بعض الأحيان فعلاً واحدًا لشيئين مختلفين على سبيل المشاركة كقول الشاعر:

قالوا: اقترِحْ شيئًا نُجِدْ لك طبخَهُ

قلتُ: اطْبُخوا لي جُبـةً وقميصًا

(كليات أبي البقاء، فصل الميم)

فقد استخدم المضيف في سؤاله فِعلَ “الطبخ” للطعام، فردّدَ ضيفُه الفعلَ نفسه للجبّة والقميص أيضًا.

غير أن المشكلة تبقى على حالها فيما يتعلق بفعل الإلقاء في حق الجبال. فهل يصح القول إنه تعالى ألقاها في الأرض من الخارج؟ مع أن علم طبقات الأرض يؤكد أن مادة الجبال خرجت من الأرض نفسها، ولم تُلقَ فيها من الخارج.(The Text Book of Geology p. 11). لذلك لا أرى داعيًا لاعتبار فعلٍ محذوف للأنهار والسبل، بل نعتبر ألقى بمعنى (جَعَلَ)، خاصة وأن القرآن يؤيدنا في ذلك حيث استخدم في أماكن أخرى فعل (جَعَلَ) لكل من الجبال والأنهار والسبل. فقال الله عن الأنهار وجعَل خِلالَها أَنهارًا (النمل: 62)، وقال عن الجبال وجعلنا فيها رواسيَ (المرسلات: 28)، وقال عن السبل وجعلنا فيها فِجاجًا (الأنبياء: 32).

فثبت أن إلقاء الجبال في الأرض لا يعني أنه أتى بها من خارج الكرة الأرضية، بل إن الإلقاء قد استُخدم هنا ليعطي معنى خاصًّا آخر لغويًّا أو مجازيًّا. وحينما ننظر إلى معانيه اللغوية – المذكورة أعلاه – فلا نرى أيًّا منها ينطبق هنا، فلا مناص لنا إلا أن نقول إن فعل ألقى قد ورد هنا بالمعنى المجازي.

يقول الله تعالى- تقتضي حاجاتكم الروحانية، أيها الناس، نزولَ وحي سماوي لا يغطي حاجات طبقة معينة منكم أو أهل عصر محدد فحسب، بل يلبي مقتضيات أهل العصور كلها على تفاوت طبائعهم ورغباتهم وحاجاتهم، ويمكّنهم من طيّ المسافة الروحانية.. بمعنى أن ذلك الوحي قادر على إيصالهم من عصر نبي إلى عصر نبي آخر..

ولو سُئلتُ: ما هو المعنى المجازي الذي أراد الله إبرازه باستخدام فعل أَلقَى مكان (جعَل) في بعض المواضع من القرآن الكريم.. قلتُ: إن المعنى الحقيقي للإلقاء هو طرح الشيء، والفرق بين الطرح والوضع هو أن ما تضعه من شيء فإنه يصل إلى مكان معين، ولكن ما تطرحه فإنه يتناثر هنا وهناك، حتى إننا في بعض الأحيان إذا أردنا التعبير عن توافُر شيء في مكان بكثرة قلنا: كأن أحدًا نثره هناك، أو أن ذلك الشيء مبعثر هناك. وعندي هذا هو المعنى الذي أراد الله إبرازَه باستخدام فعل ألقى .. أي أنه تعالى قد خلق الجبالَ والأنهار والطرق في كل منطقة وكل قطر وبلد. وبالفعل فقد أُوتي كلُّ قطر من الأرض نصيبَه من الجبال والأنهار والسبل، وكل بلد من العالم يتمتع بهذه النعم؛ وكأن الله قد نثر هذه الأشياء نثرًا، فوقعت هنا وهناك في كل مكان. والواضح أن هذا المعنى لا يمكن التعبير عنه باستخدام فعل (جعل) وإنما هو ممكن بفعل ألقى .

وهذا المعنى يمثل برهانًا على سعة المعارف القرآنية؛ ذلك أنه لما نزل القرآن الكريم لم يكن جزء من العالم – أعني القارة الأمريكية وأستراليا وغيرهما – قد اكتُشف بعد؛ كما كانت أقطار عديدة من العالم المعروف مجهولةً أو شبه مجهولة للناس مثل كثير من الجزر والمناطق الوسطى والجنوبية من أفريقيا. فإعلان القرآن الكريم في ذلك الزمن بأن نعمة الجبال والأنهار والطرق ليست خاصة ببلد معين أو منطقة واحدة من العالم، بل لقد تم توزيعها على كل قطر من العالم.. يشكّل دليلاً على أن الذي نزل عليه القرآن لم يعلم هذه الحقيقة إلا بإعلام من الله تعالى. واليوم، وبعد أن تم اكتشاف الدنيا كلها تقريبًا، قد تجلى للعالم أن هذه النعم توجد في كل القارات والأقطار، وأن كل الدنيا تتمتع بها.

فلكي يكشف القرآن الكريم هذه الحقيقة المجهولة استخدم هنا فعل ألقى لهذه الأشياء الثلاثة في موضع، بينما استخدم لها في مواضع أخرى فعل (جعَل) تبكيتًا لبعض الحمقى الذين قد ينخدعون بفعل ألقى فيعترضون على القرآن الكريم بأنه يدّعي بأن هذه الأشياء أُلقيت على الأرض من خارجها.

وقد يثار هنا سؤال آخر وهو أن الجبال والأنهار إنما تكونت بسبب العوامل الطبيعية كما هو معلوم، ولكن السبل يصنعها الناس، فلماذا ذكرها القرآن الكريم هنا؟ والجواب: ليست السبل هنا بمعنى الطرق التي يشقها الإنسان بيده، فإنها لموجودة في كل مكان حتى في المدن أيضًا، وإنما يدور الحديث هنا فقط عن الطرق التي تُخلَق بالعوامل الطبيعية أي بسبب الجبال والأنهار والغابات مثلاً؛ ومثل هذه الطرق هي التي تكثر عادةً وينتفع بها الناس، ولاسيما في قديم الزمان. خذوا مثلاً الحدود الهندية والأفغانية الممتدة إلى مئات الأميال، فمعظم هذه المساحة الكبيرة الشاسعة خالية من الطرق، وإنما هناك بعض الطرق فقط على شكل ممرات تكونت بحسب طبيعة الجبال؛ والأمر نفسه ينطبق على التخوم بين الهند والصين وبورما، بل هكذا الحال في كل العالم.

إن مدّ الطرق في المدن يتوقف على خيار الإنسان، ولكنه لا يملك خيارًا لشق الطرق بين منطقة وأخرى وبلد وآخر، وإنما يتوقف هذا على السهولة الطبيعية المتمثلة في الأنهار وممرات الجبال وحافات الغابات. فلم يزل الإنسان منذ القدم يسلك هذه الدروب الطبيعية، رغم أنها لم تكن من قبيل الطرق التي مهّدها الإنسان، وإنما سلكها الناس لسهولتها الطبيعية. ولا تزال هذه الدروب مطروقة منذ آلاف السنين. لقد مرت بها قوافل التجار كما طرقتها جحافل الغزاة عبر التاريخ الإنساني. إن دراسة الحملات التي شنّها الغزاة الأجانب على الهند تبين أنها كلها تمّت عبر بضع ممرات ضيقة تقع على الحدود الشمالية (تاريخ إقليم السرحد ص 52). وعندما هاجر الشعب الآري إلى القارة الهندية دخلها وانتشر فيها عبر هذه الطرق الطبيعية نفسها المتكونة على شواطئ الأنهار الجارية في منطقة البنجاب ثم على ضفاف النهرين الغانج وجمنه، أو عبرَ ممرات جبال الهملايا وغيرها، أو على جوانب الغابات الكجلية. وفي القديم كان من الضروري أن تكون للطريق معالم طبيعية حتى يتمكن السائرون عليها من تعيين المسافة وتقدير الجهة والحصول على الطعام، ولذلك كان طبيعيًا أن يسافروا على العموم في سفوح الجبال، وعلى حافات الغابات، وعلى ضفاف الأنهار؛ حيث كانت هذه الأشياء بمثابة طرق طبيعية تربط أهل بلد بسكان بلد آخر.

إذن فكلمة سبلاً تشير إلى هذه الطرق الطبيعية، وليست إلى الطرق المصطنعة التي تربط بين مدينة وأخرى.

هذا، وإن ما سبق بيانه يوضح أيضًا الحكمةَ وراء ذكر القرآن الكريم هذه الأشياء معًا.

كما قد يكون المراد من سبلاً الوديان التي تجري خلالها الأنهار. فلو لم يخلق الله هذه التضاريس الضيقة التي يمر بها الماء منكمشًا لغطت المياه وجه اليابسة كلها، ولم تعد الأرض صالحة لعيش الإنسان.

هناك تساؤل آخر يجب الرد عليه: ما الحكمة في ذكر هذه الأشياء منفصلةً عن النعم السالفة الذكر؟

والجواب أن الله تعالى قد تحدث من قبل عن شتى النعم حديثا عامًا، أما الآن فتحدث خاصة عن الأشياء التي تعمل كخزينة ومستودع للنعم الأخرى. فالجبال تحتفظ بذخائر المياه وتدّخر الأشجارَ والأعشاب، بينما تأخذ الأنهار المياهَ من الجبال وتمد بها مختلفَ أنحاء الأرض طوال السنة؛ وأما السبل الطبيعية فتساعد الناس على الوصول إلى هذه النعم للتمتع بها. فلو كان الجبل تَلّةً كبيرة عالية ولم يكن به مرتفعات متدرجة لما استطاع الإنسان الوصول إلى قمته. ولو كانت الأنهار ماءً منبسطًا على سطح الأرض ما نفع الناسَ، بل لجلب عليهم الضرر بتغطيته الأراضي الصالحة للزراعة، وبعرقلتِه سيرَهم على الأرض. فثبت أنه إنما يمكن الانتفاع من الجبال والأنهار إذا كان ارتفاعها أو انتشارها بوضع معين، وأن تكون هناك طرق بجانبها توصل الناس من مكان إلى آخر للتمتع بهذه المنافع.

ومن أجل ذلك نجد شتى الفلسفات الإنسانية لا تمضي قُدُمًا باستمرار، بل تتقدم مرة ثم ترجع القهقرى إلى فلسفة قديمة بمئات السنين؛ ولكن التعاليم التي ينـزلها الله تأخذ العباد بواسطة الأنبياء على منهج واحد قُدمًا، ولا تضطرهم إلى التقهقر ولو مرة واحدة.

وأما علاقة هذه الآية بما قبلها فهي كالآتي:

1- يعدّد الله في هذه الآية أيضًا نِعمَه على البشر كما فعل في الآيات السابقة فيقول: ما دام قد خلق كل هذه الأسباب لمنافعكم المادية، فكيف يمكن أن يغض النظر عن حاجاتكم الروحانية؟

2- إن التدابير الإنسانية تسد حاجات زمن محدود فقط، وإنما الله وحده القادر على أن يدبر ذخائر أبدية تلبي المتطلبات المتجددة في أي زمن وعصر؛ إذ حتَّامَ يمكن للبِرك والجِباب أن تزوّد الناسَ بالماء؟ وإنما هي الأنهار الطبيعية التي تمدّهم بالماء طوال السنة، وتروي قطرًا بعد قطر. ثم إنما هي الجبال التي تغطي حاجات البلدان، وتهيئ لأهلها على مدار السنة ما يحتاجونه من صنوف الأعشاب الطِّبّية والأزهار والثمار وذخائر الخشب التي لا تكاد تنتهي. ثم إن هذه السبل الرئيسية هي التي تمد جسور الاتصال بين أهل قطر وآخر. كذلك تمامًا – يقول الله تعالى- تقتضي حاجاتكم الروحانية، أيها الناس، نزولَ وحي سماوي لا يغطي حاجات طبقة معينة منكم أو أهل عصر محدد فحسب، بل يلبي مقتضيات أهل العصور كلها على تفاوت طبائعهم ورغباتهم وحاجاتهم، ويمكّنهم من طيّ المسافة الروحانية.. بمعنى أن ذلك الوحي قادر على إيصالهم من عصر نبي إلى عصر نبي آخر.. أو بتعبير آخر يكون في الوحي قدرة التطور بالناس حيث يمكّن الفطرةَ الإنسانية من السفر من قطر روحاني إلى قطر روحاني آخر، أي يؤهّلها لقبول تعليم النبي المقبل. إذ كيف يمكن للإنسان أن يعرف مدى التطور الذي سيحرزه العقل الإنساني خلال القرنين المقبلين مثلاً حتى يدبّر بحسبه ما ينير به عقولَ الناس في تلك الشُّقّة الزمنية؟ إنما يمكن طيُّ هذه المسافة بالسير على المنهج الإلهي الذي لا ينفك يطوّر العقل الإنساني ويأخذه دومًا إلى الأمام وعلى طريق واحد. ومن أجل ذلك نجد شتى الفلسفات الإنسانية لا تمضي قُدُمًا باستمرار، بل تتقدم مرة ثم ترجع القهقرى إلى فلسفة قديمة بمئات السنين؛ ولكن التعاليم التي ينـزلها الله تأخذ العباد بواسطة الأنبياء على منهج واحد قُدمًا، ولا تضطرهم إلى التقهقر ولو مرة واحدة.

وَعَلَامَـاتٍ وَبِالنَّجْـمِ هُـمْ يَهْتَدُونَ (17)

التفسـير:

وكلمة علاماتٍ أيضًا مفعول به لفعل ألقى الوارد في الآية السابقة. وقد أشار بها إلى أن الكرة الأرضية ليست متشابهة الشكل ولا متساوية السطح في كل مكان، بل جعَلها الله بين مرتفع ومنخفض، وبحر ويابس، وغابة وبرية، وجعل فيها فروقًا كثيرة يستطيع بها الإنسان معرفة طريقه واتجاهه. فلو أن الأرض كلها كانت على طراز واحد لبقي الإنسان طوال الحياة دائرًا في مكان واحد كحمار المِعصرة. هذا فيما يتعلق بالوسائل الأرضية التي تساعد على معرفة الطريق، ولكن هناك وسيلة سماوية أيضًا تساعد السائرين على معرفة الطريق في ظلمات الليل ومتاهات البحر ألا وهي النجوم.

لقد نبّأ موسى بمجيء النبي الذي أتى بعده، وهذا أخبر بظهور من يُبعث بعده وهلمَّ جرًّا؛ وكأن كل نجم روحاني لم يزل يدل على النجم التالي، وفي الأخير دلت هذه النجوم الروحانية كلها على الشمس الروحانية أي محمد رسول الله ، مما سهّل للإنسان القيامَ بهذا السفر الروحاني والوصول إلى مركز الروحانية.

وبالمثل فقد جعل الله في الرحلة الروحانية أيضًا علامات أي معالم واضحة ومنازل مميزة يستطيع السالك برؤيتها معرفةَ الجهة التي يتوجه إليها، وما إذا كان يتقدم أو يتأخر أو ينحرف؛ وكذلك جعل للرحلة الروحانية النجومَ أي الأنبياء الذين يهتدي بهم السالك في سيره الروحاني. وبما أن الأنبياء جميعًا من مصدر واحد فكل نبي يساعد السالكين من كل زمن في رحلتهم الروحانية. وكما أن النجم يدلّ بمقامه ومنـزله على وجود النجم الآخر كذلك ينبئ كل نبي في تعليمه عن مجيء النبي المقبل، فلا يبرح السالكون يزدادون في إيمانهم باستمرار. لقد نبّأ موسى بمجيء النبي الذي أتى بعده، وهذا أخبر بظهور من يُبعث بعده وهلمَّ جرًّا؛ وكأن كل نجم روحاني لم يزل يدل على النجم التالي، وفي الأخير دلت هذه النجوم الروحانية كلها على الشمس الروحانية أي محمد رسول الله ، مما سهّل للإنسان القيامَ بهذا السـفر الروحـاني والوصول إلى مركز الروحـانية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك