مهد الإسلام.. مكان هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

اشتداد الاضطهاد

اشتدّ الاضطهاد، وأصبح أكثر خطورة وأشدّ قسوة بشكل يصعب احتماله. وغادر كثير من المسلمين مكة، والذين بقوا صاروا يلقون معاناة أشدّ وأكثر من ذي قبل. ولكن المسلمين لم يتزحزحوا قيد أنملة عن طريقهم الذي اختاروه. وظلت قلوبهم تسكنها الشجاعة، وظل إيمانهم ثابتًا كالطود. كان حبهم لله تعالى يزداد بقدر كراهيتهم لأصنام مكة. واتخذ الصراع صورة خطرة لم تحدث من قبل. ودعا أهل مكة إلى اجتماع كبير آخر، وقرروا فيه المقاطعة التامة للمسلمين. فلم يعد أهل مكة يتعاملون بأي شكل من الأشكال مع المسلمين كما كان الحال من قبل، فلا يشترون منهم شيئًا ولا يبيعونهم شيئًا على الإطلاق. وقد اضطر الرسول وأسرته وعدد من أقاربه الذين وقفوا إلى جانبه، رغم أنهم لم يكونوا مسلمين، إلى اللجوء إلى مكان منعزل يُسمى شعب أبي طالب لأنه كان يملكه، وانحصروا هناك دون مال، ودون وسائل الحياة الضرورية، وبلا زاد مخزون. وقد عانى الرسول وعائلته وأقاربه شدة لا يمكن التعبير عنها تحت هذا الحصار الذي دام لسنوات ثلاث، لم تخفّ خلالها حدّته. وفي النهاية، ضاق بعض الكرام من أهل مكة بهذا المشهد، وثاروا في وجه هذه الشروط المجحفة الظالمة، وذهب خمسة منهم إلى الأسرة المحاصرة لإنهاء المقاطعة وطلبوا منهم الخروج، فخرج أبو طالب وعنّف قومه على هذه القسوة. وعرفت مكة كلها بثورة الرجال الخمسة، غير أن المشاعر الطيبة عادت لتثبت وجودها في الإنسان ثانية، وقرر أهل مكة أنه يجب عليهم إلغاء المقاطعة الوحشية. ولكنهم لم يستطيعوا إلغاء آثارها، ففي غضون أيام قلائل لقيَت السيدة خديجة.. زوج الرسول المؤمنة المخلصة ربها، ولحق بها أبو طالب بعد شهر.

وهكذا فقدَ الرسول الكريم مساندة وصداقة السيدة خديجة، وفقدَ الرسول والمسلمون معه المساعي الحميدة لأبي طالب. وبطبيعة الحال، فقد أدّى موتهما إلى فقْد المسلمين بعض التعاطف العام. وقد بدا في أول الأمر أن أبا لهب، العم الآخر للرسول ، سيقف معه، بعد أن أثرت فيه صدمة وفاة أخيه، وكانت وصيّته وهو على سرير الموت لا تزال حيّة في مخيّلته. ولكن أهل مكة نجحوا في استعدائه على الرسول مستغلين تأثير العادة وقوة التقاليد، فقد كانت تعاليم الرسول تنص على أن الكفر بوحدانية الله عار وعورة وتجلب العقاب في الآخرة، وكان هذا التعليم يتعارض مع كل ما تعلموه من آبائهم الأولين. وهكذا قرر أبو لهب أن يأخذ جانب معارضة الرسول أكثر من ذي قبل. وأصبحت العلاقات بين المسلمين وأهل مكة متصدعة، وقد أدّت ثلاث سنوات من المقاطعة والحصار إلى اتساع الهوّة بينهما. وصار الاجتماع والدعوة إلى الإسلام والحوار في حكم المستحيل. ولم يعبأ الرسول بالمعاملة السيئة ولا بالاضطهاد، فلم يكن لذلك اعتبار طالما أنه يستطيع أن يلتقي بالناس ويحادثهم، ولكن بدا له الآن أنه لن يستطيع أن يحقق ذلك في مكة. وبالإضافة إلى هذه العداوة العامة، وجد الرسول أنه لا يستطيع الظهور في أيّ مكان عام أو في الطرقات، لأنه إذا فعل فإنهم يحثونه بالتراب ويعيدونه إلى داره. وقد عاد مرة إلى بيته ورأسه مكسيّ بالتراب، فبكت ابنته فاطمة وهي تنفض التراب عنه، فقال لها الرسول : “لا تبكي يا بنيّة، فإن الله مانع أباك”. إن المعاملة المهينة لم تكن هي ما يزعج الرسول ، بل لعله كان يرحب بها كدليل على الاهتمام برسالته. فعلى سبيل المثال، حدث في يوم من الأيام أن كاد لـه أهل مكة مكيدة، إذ لما خرج من بيته ومر في الطرقات، لم يجد أحدًا من أهل مكة يكلمه ولا يردّ عليه، وفي نفس الوقت لم يزعجه أحد بمعاملة سيئة من أي نوع، فعاد الرسول إلى بيته مبتئسًا، حتى أتاه صوت الله تعالى يطمئنه ويخرجه إلى قومه مرة أخرى.

وقد عاد مرة إلى بيته ورأسه مكسيّ بالتراب، فبكت ابنته فاطمة وهي تنفض التراب عنه، فقال لها الرسول : “لا تبكي يا بنيّة، فإن الله مانع أباك”. إن المعاملة المهينة لم تكن هي ما يزعج الرسول ، بل لعله كان يرحب بها كدليل على الاهتمام برسالته…

الرسول يذهب إلى الطائف

بدا الآن أنه لا أحد في مكة بات يصغي إلى الرسول ، وقد جعله ذلك حزينًا، وأحس أن سوقه كاسدة، فقرر أن يتوجه إلى مكان آخر كي يبشر برسالته. واختار الطائف، وهي مدينة صغيرة تبعد 60 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من مكة، واشتهرت بالفاكهة ومزروعاتها. وكان قرار الرسول جاريًا على سُنة الأنبياء جميعًا. فقد توجّه موسى إلى فرعون مرة، وإلى بني إسرائيل مرة، كما ذهب إلى مديَن، وكذلك حدث للمسيح ، فقد دعا أهل الجليل ثم عبر الأردن ودعا أهل أورشليم. وكذلك لما وجد الرسول أن أهل مكة يسيئون المعاملة ولا يستمعون، تحوّل إلى الطائف. ولم تكن الطائف تقل عن مكة في الشرْك بالله، ولم تكن الأوثان المنصوبة في الكعبة هي وحدها المعبودة ولا وحدها المهمّة في بلاد العرب. ففي الطائف كان هناك صنم هام هو “اللات”، وبسببه كانت الطائف مركزًا للحجيج. وكانت أواصر الدم تربط بين أهل الطائف وأهل مكة، كما كان أهل مكة يملكون أغلب البساتين التي بين مكة والطائف. وعند وصول الرسول إلى الطائف زاره سادة المدينة عدة زيارات، ولكن لم يَبد أن أحدهم كان مستعدًا لقبول رسالته، والعامة من الناس اتبعوا رؤساءهم ولم يعيروا كلامه أيّ اهتمام. ولم يكن ذلك غريبًا، فالناس المنغمسون في الأمور الدنيوية يرون مثل هذه الرسالة دائمًا على أنها نوع من التدخل في حياتهم، بل يعتبرونها إهانة لهم. ولما كانت الدعوة تبدو لهم بلا سند مرئي يدعمها، كعدد الأتباع وقوة السلاح، كانوا يشعرون أيضًا أن بإمكانهم أن يرفضوها بلا مبالاة بل وبازدراء. ولم يكن الرسول استثناء من ذلك. وقد سبقته أخباره إليهم، وها هو الآن قد أتى إليهم بلا سلاح ولا أتباع، فرْدٌ وحيدٌ ليس معه أحد سوى رفيق واحد هو زيد. واعتبر أهل الطائف أن الرسول مصدر للضيق يجب وضع نهاية لـه من أجل إرضاء سادتهم ورؤسائهم. فسلطوا عليه سفهاءهم والصبية المشردين في الطرقات، فحصبوه بالحجارة وطردوه خارج المدينة. وقد جُرح زيد وكان الرسول ينْزف بغزارة، ولكن الملاحقة استمرت حتى صار الرسول وزيد على بُعد أميال خارج الطائف. وكان الرسول محزونًا وموجوعًا ومغتمًّا عندما جاءه مَلَك وسأله إن كان يريده أن يهلك أولئك الذين عاملوه بهذه القسوة البشعة، فرفض الرسول وقال: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” (البخاري، كتاب بدء الخلق).

وتوقف الرسول بعد أن أنهكه التعب، ونال منه الغم، واعتصره الألم، في كَرْمٍ يملكه رجلان من أهل مكة تصادف وجودهما في ذلك اليوم. ورغم أنهما كانا من بين الذين يضطهدون المسلمين في مكة، إلا أنهما كانا متعاطفين في تلك المناسبة. فهل كان السبب أن أهل الطائف قد أساءوا معاملة رجل من مكة، أم كان السبب شرارة من العطف الإنساني توهجت فجأة في قلبيهما؟ لقد أرسلا إلى الرسول طبقًا مليئًا بالعنب مع مملوك نصراني يسمى “عدّاسا” من مدينة نينوَى. وقدّم عدّاس الطبق إلى الرسول وصاحبه بينما أخذ يرنو إليهما بعينيه متفكرا، ثم اشتد فضوله كثيرًا عندما سمع الرسول يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”. وانتعشت ذاكرته المسيحية، وأحسّ أنه في حضرة أحد أنبياء العبرانيين. وسأله الرسول إلى أين ينتمي، فقال عداس إنه من أهل نينوى، وحينئذ قال الرسول : “نينوَى، بلدة الرجل الصالح يونس بن متّى. ذاك أخي، فهو نبيّ مثلي”. وقد أخبر الرسول عدّاسا عن رسالته، فتأثر عدّاس كثيرًا بكلامه وآمن به في الحال، وعانق الرسول والدموع تتقاطر من عينيه، وراح يقبّل رأسه ويديه وقدميه. وبعد هذا اللقاء توجه الرسول إلى الله تعالى بالدعاء فقال:

“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنْزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك” (ابن هشام والطبري).

بعد هذا الدعاء، توجه عائدًا إلى مكة، وفي الطريق توقف عند “نخلة” لبضع أيام ثم قفل عائدًا إلى مكة. وحسب تقاليد مكة فإنه لم يعد مواطنًا مَكّيًا. لقد غادرها بسبب عدائها له، فلا يمكنه العودة إلا بموافقة أهل مكة. بعث الرسول برسالة إلى المطعم بن عديّ، أحد أشراف مكة، يطلب جواره لدخولها. ورغم أن المطعم كان عدوًا لدودًا كالآخرين، لكنه كان يملك قلبًا نبيلاً، فجمع أولاده وأقاربه، وحملوا سلاحهم وذهبوا إلى الكعبة، ووقفوا في ساحة المسجد الحرام، وأعلن المطعم أنه قد أجار محمدًا ليعود إلى مكة. وعاد الرسول وطاف بالكعبة مع المطعم وأبنائه وأقاربه وسيوفهم مسلولة، ثم صحبوه إلى داره. ولم يكن هذا الجوار الذي أعلنه المطعم يعني منح الحماية الكاملة للرسول ، إذ لم يتعد ما فعل المطعم سوى بلاغ رسمي يسمح له بالعودة فقط، ولقد استمر الرسول يعاني من الاضطهاد مثل غيره، ولم يستطع المطعم أن يمنع عنه شيئًا.

إن رحلة الرسول إلى الطائف قد انتزعت المدح حتى من أعداء الإسلام. فقد تحدث السير وليم موير عن رحلة الطائف في كتابه عن سيرة الرسول ، فقال:

هناك شيء شامخ وبطولي في هذه الرحلة التي قام بها محمد إلى الطائف؛ رجل وحيد، محتقر ومرفوض من قومه، يذهب في جسارة باسم الله، مثل يونس إلى نينوَى، ويدعو مدينة من الوثنيين كي يتوبوا ويساندوه في مهمته. إن ذلك يُلقي ضوءًا يدل على شدّة إيمانه بالأصل الإلهي لدعوته (حياة محمد، تأليف السير وليم موير، طبعة 1923م ص 112- 113).

فتأثر عدّاس كثيرًا بكلامه وآمن به في الحال، وعانق الرسول والدموع تتقاطر من عينيه، وراح يقبّل رأسه ويديه وقدميه.

وعادت مكة إلى عداوتها القديمة. ومرة أخرى أصبح وطن الرسول والبلدة التي يعيش فيها جحيمًا بالنسبة له، ولكنه استمر يخبر الناس برسالته، وبدأت جملة “لا إله إلا الله” تُسمع هنا وهناك. وظل الرسول بكل حكمة ومحبة، وشعور بالتعاطف، يدعو الناس بإصرار ومثابرة. وأعرض عنه الناس، ولكنه خاطبهم ليلاً ونهارًا، وأعاد مخاطبتهم مرارًا وتكرارًا، ولقد صدع بدعوته سواء اهتم الناس به أم لا، وكان لا بد أن يأتي الإصرار بأثماره. كذلك فإن تلك الحفنة من المسلمين التي عادت من الحبشة وقررت البقاء، راحت تبشر بالدين الجديد في سرّية مع الأصدقاء والجيران والأقارب. وقد اعتنق بعض هؤلاء الإسلام، وأعلنوا عن أنفسهم على الملأ، وشاركوا المسلمين الآخرين أشكالاً وأنواعًا من المعاناة التي كانوا يقاسون منها، ولكن الكثيرين لم تواتهم الشجاعة أن يعترفوا علانية، وإن كان القلب قد سكنه الاقتناع، فقد فضلوا الانتظار إلى أن يأتي ملكوت الله إلى الأرض.

خلال ذلك الوقت كان الرسول يتلقى وحيًا يحتوي على تلميحات عن قرب إمكانية الهجرة من مكة. وقد تلقى أيضًا ما يفيد أن مكان الهجرة سيكون بلدة تتميز بوجود الآبار وحدائق النخيل، وقد ظن الرسول أنها اليمامة، ولكن سرعان ما استبعد هذه الفكرة، وانتظر أمر الله تعالى يحدوه اليقين بأنه أيًّا كان المكان الذي ستتم الهجرة إليه، فلا بد أن الله  عز وجل قد قدّر لـه أن يكون مهد الإسلام.

Share via
تابعونا على الفايس بوك