خير الناس أنفعهم للناس!

خير الناس أنفعهم للناس!

التحرير

مما لا شك فيه أن النوازع المادية قد بلغت ذروتها في عصرنا وتهافت الناس إلى تسلّق  كل ما يُدَاعِبُ خيالهم ووجدانهم من سعي نحو الشهرة والمكاسب المادية والتسيُّد على الآخرين، مما ساهم في ازدياد وَهَج الصِّراع. فعمد البعض إلى إرضاء أهواء النفس ساعيًا للوصول إلى نوازعه وأمانيه دون أي اعتبار للقيم والمبادئ، فتأصلت نوازع الأنانية وحب الذّات واحتقار الآخر والتكالب على المصالح الشخصية.. ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد بل إن هذه الظواهر تطورت إلى شكل من أشكال العنصرية والانتهازية والوصولية والتملُّق والتكسّب والاحتيال وأمراض اجتماعية وأخلاقية أخرى عديدة..

لطالما ظلم الإنسان أخاه الإنسان نتيجة سعيه إلى تحقيق هذه النـزعات تحت مظلة مسميات شتى، وما هي  إلا  علل وعاهات أخلاقية وروحية سببها نزعات التكبر والإعجاب بالنفس والإحساس بالفوقية، إذ يروي لنا التاريخ القديم والحديث كيف سادت قبيلة على قبيلة وأمة على أمة تحت هذه المسميات وكيف باع الإنسان أقرب الناس إليه وأبعدهم على حد سواء لا لشيء إلا لتحقيق مصالح ومظالم مروعة وذلك تحت شعار “النجاح بأي وسيلة”. وهكذا فقدت المصطلحات دلالاتها فضاعت روح الكلمة وضاع معها ذمم الناس وشرفهم.

لقد بُعث الرسول الأكرم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ليصحح ويداوي هذه العلل ويهدي البشرية جمعاء إلى سبيل تحصيل الهدى والخير والرقي بما ينفع كل الناس على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وأجناسهم، وكان شخصه الطاهر صلى الله عليه وسلم وتعليمه نموذجا ومثالا يُقتدى به، حيث كان أنفع للناس حتى قبل النبوة يعمل لصالحهم ويفض منازعاتهم ويرأف بكبيرهم وصغيرهم، وعرف عنه قومه كل سلوك سَوي وموقف عظيم، حتى لقبوه بالصادق الأمين.. كما أن شهادة زوجه خديجة رضي الله عنها عند إرهاصات بشائر نبوته صلى الله عليه وسلم وهي تطمئنه، لكلمات من نور تُعرفنا بخدمته صلى الله عليه وسلم للخلق إذ قالت رضي الله عنها: والله ما يُخزيك الله أبدا. إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتحمِلُ الكَلَّ وتَكْسِبُ المعدومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوائب الحقّ!…

إن حب خدمة الخلق والرفق بالناس التي تفيض من سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها والتي عاينها الناس فيه  لهي سيلٌ من الرأفة والرحمة العظيمة تجاه خلق الله تعالى عموما دون استثناء، إنها محبة تهتم اهتماما مخلصا باليائسين والبائسين والمحرومين والمظلومين، وهي لخير الناس حيث ليس فيها أي شائبة من شوائب الأنانية وحب النفس وحب الظهور والشهرة والرياء مما تعارف عليه الناس في سعيهم إلى التسيّد أو احتلال مناصب ذات درجات اجتماعية عالية. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الاهتمام الشديد باحتياجات الآخرين الذى ولاه محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى باتت هذه السمة مميزة إياه عن كل بني قومه. وما انفكت مفاسد قومه تقلقه حيث كان الطمع والأنانية والمظالم سمة عصره التي لا تلقي بالا إلا للأنانية والمصلحة الشخصية والعصبية القبلية المنتنة، وهذا من بين الأسباب التي جعلته صلى الله عليه وسلم ينأى بنفسه عن المشاركة في تلك المفاسد ويأوي بنفسه إلى ركن شديد في غار حراء يتعبّد فيه بعيدا عن قومه، حيث كانت نفسه الشريفة تأنف الفساد والأنانية الشائعة في مكة، وتنفر من الآثام وسوء أعمال الناس، وكان عليه الصلاة والسلام ولا شك حين تعبّده في هذا الغار يفيض ألما لما آل إليه البر والبحر من مفاسد الإنسان وقسوته وأنانيته وبعده عن الله تعالى.. وكان الله عليما بصيرا حينها بهذا العبد الذي هجر عالما يعجّ بالفساد والظلم والانشغال بالمتع والملذات فأخرجه الله مما هو فيه من كرب وحزن حينما بلغ الأربعين ليصطفيه برسالته حيث أُمِرَ أن يبلغ دعوة ربّه إلى العالمين!

وهذا ما يجعل الإنسان يملك في نفسه القدرة على مقاومة وتخطي الميول المادية من حب الذات والتدني إلى الدنيا الدنية ليتحول من إنسان أرضي أناني إلى كائن روحي سماوي يُحلق في فضاء الروحانية.

ومن ضمن تعليمه صلى الله عليه وسلم لأتباعه الاهتمام بالآخرين وخدمتهم والإيثار ونكران الذات.. والشواهد على هذا كثيرة جدا إذ يضيق المجال لعرضها وسردها هنا بالتفصيل، وبوسع كل باحث أن يجد هذه النماذج من مواقف وسلوك الرسول الكريم وصحبه في كتب السيرة المطهرة أو سير الصحابة الكرام الأمر الذي يؤكد على عظمة خُلقه على لسان الخالق مرة

  وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم

وعلى لسان المخلوق أخرى “كان خلقه القرآن”. لقد كان تعليمه صلى الله عليه وسلم يتسم بهذه السمة حيث حثّ على أن يحب المؤمن لأخيه ما يحبه لنفسه، كما شجع على التسابق في ميادين الخيرات وأن الخيرية تكون لمن هو أنفع للناس، وهذا ما يجعل الإنسان يملك في نفسه القدرة على مقاومة وتخطي الميول المادية من حب الذات والتدني إلى الدنيا الدنية ليتحول من إنسان أرضي أناني إلى كائن روحي سماوي يُحلق في فضاء الروحانية.

وهكذا جعل الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أُخرجت للناس كما جاء في القرآن المجيد إذ أن خيرية الأمة المحمدية لم تؤسس على عنصر قومي أو عرقي أو جغرافي إلا من حيث رِيَادَتِهَا في عمل المعروف، وهو كل عمل صالح خيّر لصالح الناس، والتناهي عن كل عمل منكر، وهو كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الإضرار بالناس..!

فحري بنا معشر المسلمين الأحمديين أن نخدم خلق الله تعالى ابتغاء وجه الله الكريم ونكون مصداق ما أخبر به سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.. خـير النّاس أنفعـهم للنـاس، وسيّد القوم خادمهم!

Share via
تابعونا على الفايس بوك