الآيات والمعجزات لا تنفع من لا يريد أن يؤمن عنادًا واستكبارا
وَلَوْ شَاءَ رَبُّـكَ لَآَمَنَ مـَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَـأَنْتَ تُـكْرِهُ النَّـاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِـنِينَ (يونس: 100)

التفسـير:

لقد قال الله تعالى من قبل (فلولا كانت قرية…. إلخ). وكأنه كان عبّر عن رغبته الشديدة في أن يؤمن الناس جميعًا. فنشأ من ذلك سؤال: لماذا ا يحقق الله رغبته هذه وهو القادر المطلق القدرة، ولماذا لا يجعل الجميع مؤمنين؟ فردّ الله هنا على ذلك ردًّا لطيفاً رائعاً وقال (لو شاء ربك لآمَنَ مَن في الأرض كلُّهم.. إلخ).. أي لو كنا نريد تنفيذ أمنيتنا بالإكراه لما فرّقنا بين قوم وآخر، بل لجعلنا كل العالم مؤمنين، ولكنّنا لا نريد ذلك، لأننا تركنا أمر الإيمان لخيار الإنسان نفسه، وإن كان بودّنا أن يهتدي الجميع، ويحظوا بالدرجات العلى من قربنا.

أما قوله تعالى أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين فيمكن تفسيره بطريقين:

الأول: أن يكون دليلاً على ما قيل في الجملة السابقة، والمراد: أنه من المستحيل أن يُكرَه الناس على الإيمان، إذ لا جدوى في ذلك، ولأن العاقل لا يُقنع أحدًا بالإكراه. فهل تحب يا محمد، إكراه الناس على الإيمان، وما دمت لا تحب ذلك فكيف يمكن لله العالِمِ بذات الصدور أن يجعل الناس مؤمنين قسرًا.

والثاني: أن يكون الكلام موجّهًا إلى كل مسلم وليس إلى النبي ، والمراد: لا تغضبوا أبدًا من كفر الناس فتلجأوا إلى إكراههم على الإيمان، بل تذكروا دائماً أنه ما دام الله الذي هو مالك العباد وخالقهم لا يُكرههم عليه فكيف يحق لكم ذلك؟

وبأي من المعنيين أخذنا فإن الآية تُنكر بكل قوة وشدة نشرَ الإسلام باستخدام العنف والإكراه، وتهدم مزاعم الذين يقولون بأن الإسلام يجيز الإكراه في الدين.

كما يمكن أن نستنتج من الآية أنه من المحال أن يكون المسلمون الأوائل قد مارسوا الإكراه في نشر الإسلام، لأنهم كانوا عاملين بأحكام القرآن الكريم بكل حرص وحذر، فكيف يستساغ أن يكون هؤلاء الذين كانوا يُنهَون عن الإكراه في الدين حينما كانوا محرومين من الحكم بل حتى عندمـا كانـوا هـدفًَا للاضـطهاد والتعذيب في مكة.. أقول كيف يمكن أن يكـونوا قد بدأوا في قهر الناس على قبـول الإسلام بمجرد أن أخذوا زمـام الحكم!

وبأي من المعنيين أخذنا فإن الآية تُنكر بكل قوة وشدة نشرَ الإسلام باستخدام العنف والإكراه، وتهدم مزاعم الذين يقولون بأن الإسلام يجيز الإكراه في الدين… من المحال أن يكون المسلمون الأوائل قد مارسوا الإكراه في نشر الإسلام،

وَمَا كَانَ لِنَفْـسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَـجْعَـلُ الرِّجْـسَ عَـلَى الَّذِيـنَ لا يَعْـقِلُونَ (يونس: 101)

 شرح الكلمـات:

إذن: أَذِن بالشيء إذنًا: عَلِمَ به. وأذن له في الشيء: أباحَه له. والإذن: الإجازةُ؛ الإرادةُ؛ العلمُ. (الأقرب).

الرِجس: القَذَرُ؛ المأثمُ؛ العملُ المؤدي إلى العذاب؛ الشكُّ؛ العقابُ؛ الغضبُ (الأقرب).

 التفسـير:

إن للآية مدلولين: الأول: إنها تسوق الأدلة على عدم جواز الإكراه في الدين حيث يقول الله إنه من المستحيل أن تؤمن نفس بشيء  إيمانًا حقيقيًا بدون الإذن من عنده عز وجل، أي أن اليقين إنما يتولد في القلب بحسب نواميس حدّدها الله تعالى، وليس بمجرد الإقرار باللسان، فلا تستطيعون بالإكراه إقناع أحد. ثم الذين يقبلون الشيء دون تعقل ووعي لا ينفعهم إيمانهم شيئًا، بل يرتد عليهم وبالاً وبلاءً من عند الله سبحانه وتعالى، فلا جدوى في إكراه الناس.

وإذن فما أشدّهم غباءً وحمقًا أولئك الذين يرمون القرآن الكريم بأنه يعلّم الجبر والإكراه في الدين رغم وجود تعاليمه الواضحة الصريحة هذه. كلا، بل إن القرآن الكريم يحارب ويبطـل نظرية الجبر بأدلـة دامـغة.

كما أنه لا شك في جهل أولئك الذين يقولون بنسخ هذا الحكم القرآني، إذ لا يدركون أن البراهين الحقـة لا تبلى ولا تلغى أبدًا. إن صحة وصدق هذه البراهـين القرآنية الرافضة لنـظرية الجبر لم يزل أمرًا ثابتًا متحـققًا في كل عصر، فما معنى إلغائها ونسخها إذن؟

والمعنى الثاني للآية أنه قد قيل من قبل أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وكان من الممكن أن يُقال بأنه إذا كان الله لا يُكره ولا يُجبر أحدًا على الإيمان فلماذا ينـزل أحكامه وشرائعه للعباد بواسطة رسله، ولماذا يبشرهم وينذرهم، فهذا أيضًا نوع من الإكراه؟ فالآية تمثل ردًّا على هذا المعترض حيث يقول الله تعالى إن  تبليغَنا الناسَ طريقَ الهدى بواسطة الأنبياء وتقويتَنا إيمانَ المؤمنين من خلال آياتنا البينات ليس بإكراه، بل هو السبيل الوحيد لخلق الإيمان في القلوب، إذ كيف يمكن للعباد أن يصلوا إلى خالقهم إن لم يدلّهم على الطريق الذي يُكسبهم قربَه ورضوانه؟ فلو لم يفعل الله ذلك لما استطاع العباد أن يهتدوا إليه. إذا اخترنا هذا المعنى للآية فتكون كلمة (الإذن) بمعنى الإرادة.. أي لو لم  يُرد الله عز وجل أن يهيئ الأسباب لهداية الإنسان لما استطاع الإنسان أن يهتدي.

وأما قوله تعالى ويجعل الرِجسَ على الذين لا يعقلون فمعناه: أن الذين لا يستخدمون عقولهم ولا يريدون العمل وفق مشيئتنا هذه، لا نكرههم عليها، وإنما نرتب النتائج بحسب أعمالهم، وبما أنهم يميلون إلى السيئـة فتكون عاقبة أعمالهم أيـضًا سـيّئة. أو أنّه يـعني بأنّ الذين لا ينتفـعون بما وهبـنا لهم من عـقول فإنما هـم الذين نَذَرُهم يسـقطون في وحل السيئات والأرجـاس، وأما غيرهم فلا.

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَـنْ قـَوْمٍ لا يُـؤْمِنُـونَ (يونس: 102)

شرح الكلمـات:

تُغني: يقال: ما يغني عنك هذا: أي ما يُجدي عنك (الأقرب).

النُذر: جمع نذير وهو الذي يُنذر وينبه (الأقرب).

التفـسير:

أي أن أسباب انتصار محمد رسول الله تتهيأ في السماوات والأرض، فلا داعي للجبر والإكراه. والمراد من النظر إلى السماوات والأرض هو النظر إلى ما يقع فيهما من آيات وآثار دالة على صدقه ، ولذلك قال في آخر الآية: بأن الذي لا يريد أن يؤمن عنادًا واستكبارًا لا تنفعه الآيات ولا المعجزات أيضًا.

أي أن أسباب انتصار محمد رسول الله تتهيأ في السماوات والأرض، فلا داعي للجبر والإكراه….. ولذلك قال في آخر الآية: بأن الذي لا يريد أن يؤمن عنادًا واستكبارًا لا تنفعه الآيات ولا المعجزات أيضًا.

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (يونس: 103)

شرح الكلمات:

أيام: أيام الله: نِعَمُهُ ونِقَمُه، وعليه في القرآن (وذكِّرْهم بأيام الله).. أي ذكّرهم بنِعَمِه ونِقَمِه. وفي الأساس للزمخشري معناه: ذَكِّرْهم بدمادمه على الكفرة. ويقال: هو عالم بأيام العرب: أي بوقائعها (الأقرب). وبما أن الحديث هنا عن الكفار فنأخذ الأيام هنا بمعنى النِقم، والمراد أنهم لا ينتظرون إلا أن يصيبهم الله بأنواع العذاب كما أصاب به الذين خَلَوا من قبلهم.

التفـسير:

أي أن الذين لا يؤمنون عنادًا وتعنتًا فسوف يحل بهم العذاب في آخر الأمر، فلا حاجة بهم الآن ليطالبوا به، لأنه قادم عليهم في موعده لا محالة.

الغريب أن الكفار الذين يتمتعون بالسلطة وينهمكون في تعذيب المؤمنين يبدون قلقهم على تأخّر العذاب بينما لا يريد هؤلاء المضطهدون أن يتعجل الله بالعذاب عليهم، ولذلك نجد الله تعالى يأمر رسوله أن يقول لهم: انظروا إليّ أيضًا، فإنّي أنتظر نزول العذاب عليكم ولكن دونما قلق على تأخره، مع أنني عرضة لتعذيبكم، فلماذا أنتم قلقون على تأخر نزول العذاب عليكم، وأنتم تَنعَمون بالراحة والسؤدد، واعتداءاتكم علينا لا تنقطع.

هناك من جماعتنا من يقولون: إن الناس لا يستمعون إلينا، فمن ذا الذي نبشّره بالدعوة الأحمدية؟ فأجيبهم أن يتذكروا قول الله تعالى هذا للنبي ، حيث يأمره أن يُعلن للقوم قائلاً: إنني لن أبرح اللحاق بكم وتبليغ الرسالة إليكم وإن لم تستمعوا لقولي ومهما أعرضتم عني.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: 104)

التفسـير:

كان الحديث هنا عن محمد رسول الله وحده، ولكنه يقول هنا ثم ننجّي رسلنا ، مستخدما صيغة الجمع (رسلنا)، وذلك للأسباب التالية:

1 – كل نبي يكون في الحقيقة ممثلاً للأنبياء كافة، فكأن نجاته تكون بمثابة نجاة جميع الرسل، أما إن هلك وخسر – والعياذ بالله – لاشتبه على الناس صدقهم جميعًا.

2 – فيه إشارة إلى بعث رسل في الأمة الإسلامية في المستقبل، وبأنهم سيكونون من أبناء الأمة نفسها وتابعين للرسول ، لأن الله تعالى قد استخدم في الجملة التالية كلمة (المؤمنين) بدلاً من (رسلنا) وقال: حقاً علينا نُنجِ المؤمنين ، مبينًا أن هؤلاء المبعوثين سيكونون رسلاً من ناحية، ومؤمنين بالرسول ومن أمته، من ناحية أخرى.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ أَعْبُدُ الله الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (يونس: 105)

 شرح الكلمات:

يتوفّاكم: من الوفاة وهي الموت. توفّى الله زيدًا: قبض روحه. وتُوفيّ فلان مجهولاً: قُبضت روحه ومات، فالله المتوفِّي والعبد المتوفَّى. وأوفى فلانًا حقّه ووفّاه ووافاه: أعطاه إياه وافيًا تامًا. واستوفى حقه: أخذه وافيًا (الأقرب و القاموس المحيط).

التفسـير:

إن فعل التوفّي (من باب التفعّل) لا يعني إلا قبض الروح والموت إذا كان الفاعل هو الله سبحانه وتعالى والمفعول به أحداً من ذوي الأرواح. ولا يستطيع أحد تقديم أي نظير خلاف ذلك من التراث العربي كلّه، لا من قاموسٍ ولا قول شاعرٍ ولا عبارة كاتب ولا كلمة خطيبٍ. ولا يراد بالتوفّي إيفاء الحق أو استيفاؤه ولا توفيته إلا إذا كان هناك ذكرٌ للحق.

إعلم أن المؤمن لغةً هو من يأمَنُ منه الناس ويهيئ هو الأمنَ للآخرين. والمؤمنُ كذلك من يكون في مأمن، ذلك أنه يتوكّل على الله كليةً فيصير في مأمن من عقابه.

لقد أمر الله هنا رسوله أن يقول للكفار: كيف تدّعون أن الشكوك تساوركم حول ديني، مع أنني لا أزال على نفس الدين الذي كنت عليه من قبل، ولا أنفكّ كارهًا ومتبرئًا من الشرك كما كنت في الماضي. ولم أزدَدْ في ديني هذا إلا إيمانًا ويقينًا.

أما قوله ولكن أَعْبُدُ الله الذي يتوفاكم فأشار به إلى أن الإله الذي  أؤمن به هو في صدد هلاككم وكسر شوكتكم ليتُمّ بذلك الحجة عليكم.

إعلم أن المؤمن لغةً هو من يأمَنُ منه الناس ويهيئ هو الأمنَ للآخرين. والمؤمنُ كذلك من يكون في مأمن، ذلك أنه يتوكّل على الله كليةً فيصير في مأمن من عقابه.

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (يونس: 106)

شرح الكلمـات:

أَقِمْ: أقام الشيءَ: أدامه (الأقرب).

وجهك: الوجهُ: المحيّا؛ نفسُ الشيء؛ سيدُ القوم؛ الجاهُ؛ الجهةُ؛ القصدُ والنية؛ المرضاةُ (الأقرب). يقال: أريد وجهك: أي رضاك.

حنيفًا: الحنيف: الصحيحُ الميلِ إلى الإسلام الثابتُ عليه؛ وكلُّ من كان على دين إبراهيم؛ المستقيم (الأقرب) يبدو أن هذا المعنى الأخير جاء بتأثير من التفاسير القرآنية، وأن المعنى الثاني (أي المستقيم) هو المعنى الحقيقي للكلمة.

التفسـير:

قوله تعـالى ولا تكوننّ من المشركين لا يعـني أن لا تعبـد الأصنـام أو لا تتخذ مع الله ولدًا، إذ لا داعي لمثل هذا النصح لمن قد صار حنيفاً من قبل، وإنما المراد منه أن لا تتجه إلى ما سوى الله مطلقًا، وإلا سوف تُعدّ بهذا الخطأ البسيط في الظاهر من المشركين. وكأنما الله قد أشار بذلك إلى الأصناف الدقيقة للشرك، محذّرًا إيانا من الوقوع فيها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك