في عالم التفسير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(مختصر من تفسير الإمام المهدي والمسيح الموعود وخليفته الثاني)

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (الكهف: 84).

المفردات: قرن شيئا بشي: وصلهما. القرن: الطرف؛ الرجل النبيل، المساوي في السن؛ الجيل؛ شعب في زمن معين؛ مائة سنة؛ عصر.

التفسير:

أشارت سورة الكهف فيما مضى إلى عصرين من الازدهار المادي للشعوب المسيحية. وبدأت بالحديث عن المسيحيين الأوائل وذكرت تقواهم وإخلاصهم لدينهم؛ ثم تناقُصِ نشاطهم الروحاني عندما يحصلون على السلطة السياسية، مع احتفاظهم بشي من الإيمان بالمسيح. ثم جاء ذكر إسراء موسى الذي بيَّن أن بعثة نبي الإسلام تفصل بين عصري الازدهار المسيحي، وكيف أن عصرهم الثاني يكون أشد ازدهارًا من الناحية المادية، وأقل روحانية حتى كأنهم موتى من الناحية الروحية.

تناولت الكتب السماوية السابقة ذكر الموت الروحي هذا مع قيام قوة يأجوج ومأجوج، وسيأتي الحديث عنهما في الآيات التالية. يأجوج ومأجوج تسمية أطلقت على بعض القبائل التي عاشت في شمال غرب آسيا، والتي كانت تُغِير على سهول آسيا في الجنوب، والتي لو تمكنت من الاستيلاء عليها لغيرت مجری أحداث التاريخ تمامًا. ولقد تمكن ذو القرنين من إقامة سد بينهم وبين هدفهم.. مما أدى إلى اتجاههم إلى الغرب.. حيث اتصلوا بالشعوب المسيحية في أوروبا ودخلوا المسيحية.. وبقي فيهم تطلعهم نحو الشرق الآسيوي. وقد تفجر هذا الشعور العدائي نحو الشرق في القرون الأخيرة.. وعادوا إلى إعاثة الفساد في الشرق بعد أن استشرى فيهم. وبسبب ازدهارهم المادي المتسارع.. عادوا يحملون الفوضى الروحية.. تحت اسم الدجال.

يذكر القرآن الكريم أمورًا عن ذي القرنين.. لا على أنها أحداث تاريخية، فالقرآن ليس كتابًا للتاريخ، وإنما لأنها إشارات ونبوءات تتعلق بالمستقبل. انتصارات ذي القرنين الأول.. وفتوحاته شرقًا وغربًا.. ونجاحه في صد غارات يأجوج ومأجوج.. إشارة إلى قدوم ذي القرنين الثاني.. ليحقق فتوحات في الشرق والغرب.. ويصد يأجوج ومأجوج عندما يعودون إلى الشرق. وقد أشار النبي إلى هذا الفاتح العظيم باسم (المهدي والمسيح).

أما ذو القرنين الأول فهو مؤسس الإمبراطورية الفارسية الميدية، الملك الصالح قورش الذي وصفه القرآن بالصلاح والعبودية لله، وأنه كان فاتحًا عظيمًا عادلاً رحيمًا، وأنه زحف وفتح في الغرب وتوقف عند بحيرة مظلمة. ثم اتجه إلى الشرق حيث أخضع مناطق واسعة، وفي الطريق تصدى لهجمات يأجوج ومأجوج وبنی سدًا يصدهم.

وتنطبق كل هذه الصفات على الملك قورش، فقد ذكرت التوراة صلاحه ونصرة الله له (أشعياء: 44، عزرا: ۱، أخبار الأيام الثاني: 26)، وسُمّيَ صديقُ يَهْوَه، وعمل حسب رغبته.

وذكر (تاريخ العالم للمؤرخين) صفاته الطيبة ودخول بعض الشعوب تحت حكمه عن طيب خاطر. كما أنه فتح بلادًا كثيرة، وأنشأ مملكة واسعة امتدت من البحر الأسود غربًا إلى أفغانستان شرقًا. وقد ذكرت التوراة أن شعوب يأجوج ومأجوج كانت في روسيا (تکوین: ۱۰) وأنهم عبروا ممر دربند، واحتلوا فارس حتى طردهم قورش (تاريخ العالم).

ونسب بعض المؤرخين السدَّ القوقاسي الموجود في داغستان غرب قزوين إلى الإسكندر الأكبر، ولكن فترة فتوحات الإسكندر العاصفة لم تكن لتسمح له بإنشاء هذا السد الذي بلغ طوله عشرات الكيلومترات.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (الكهف: 85-87).

المفردات: الحمأ: الوحْل الأسود الوخِم. العين الحمئة: في مائها وحل أسود.

التفسير:

لقد أعطى الله قورش جميع الأسباب والوسائل لفتوحاته العظيمة، ورعی توجهاته، وأعطاه ممالك الأرض. (سفر أشعياء: 45: ۱۳، وعزرا ۱: ۲) ومغرب الشمس يعني أقصى مُلك قورش – الغربي، ناحية تركيا.. ويشير إلى البحر الأسود الذي إذا وقف إنسان عند شاطئه لرأى الشمس وكأنها تغرب في مائه.

قال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (الكهف: 88-92)

التفسير:

قوله ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ يدل على أن قورش مؤمن بالبعث والثواب العقاب.. ذلك لأنه كان من أتباع نبي الفرس زردشت الذي أكَّد على الحياة بعد الموت الموسوعة اليهودية ج 4). وتبين الآية التالية إنسانيته وحسن معاملته التي تتسم بالرحمة.

والآية الثالثة تشير إلى حملة قورش نحو الشرق إلى أفغانستان وبلوخستان. وقوله لم نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا يدل على أن الأقوام هناك وقتئذ لم يكونوا متحضرين، بل يعيشون في خيام أو أكواخ.. وأنها منطقة قاحلة مكشوفة شديدة الحرارة.. وهذا ينطبق على بلوخستان.

وقوله أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا يفيد أن قورش كان تحت رعاية الله في غزواته. وهذا يتفق مع ما جاء في التوراة «سأذهب أمامك وأقوم المعوج» (أشعياء 45: ۲)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (۹۳ – 99).

تشير الآية إلى حملة قورش إلى شمال فارس في المنطقة بين جبال القوقاس وبحر قزوين. والآية 94 تدل على أن شعوب المنطقة يصعب عليهم التحدث بالفارسية. وقد طلب سكانُ المنطقة بناء جدار يسد الممر الذي يعبره المغيرون من الشمال. فأخبرهم أن الله تعالى منحه الوسائل والخطط، ولا يطلب منهم سوى الأيدي العاملة. وبنى لهم جدارًا يسد ما بين البحر والجبال، واستخدم العمال في نقل خامات النحاس والحديد لتقوية الجدار بالحديد، ويحميه النحاس من الصدأ. وزوده بأبراج للمراقبة. ولم تستطع القبائل المغيرة هدمه أو المرور منه.

قوله هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي يدل على تواضع قورش وتقواه، إذ لم ينسب إلى نفسه فخر إنجازاته. أما عبارة فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي فتشير إلى أن الجدار لن يجدي في المستقبل لصد تقدم تلك الشعوب الشمالية (يأجوج ومأجوج).

وهدم الجدار مجازيًا يعني سقوط الدولة الإسلامية وسلطانها.. كما حدث للدولة العثمانية التي كانت تكبح جماح الغرب وتمنعه من السيطرة على الشرق.

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (۱۰۰-۱۰۲).

تشير الآية 100 إلى أنه في زمن سيطرة يأجوج ومأجوج ستتقارب شعوب العالم وتختلط كأنها شعب واحد. وسيقوم شعب على شعب، وتعم الكراهية والضغائن وينتشر الفساد.

الآيتان ۱۰۱ و۱۰۲ تدلان على أن هذه الشعوب سوف ينزل بها العقاب سريعًا وشديدًا.. ويكثر فيهم الهلاك والدمار.. وسيتعرضون لأنواع من العقاب الإلهي بسبب انغماسهم في الخطايا وانشغالهم عن ذكر الله.

نلفت النظر هنا إلى أن هذه الشعوب مع ازدهارهم السياسي والعسكري والتكنولوجي إلا أنهم سيجلبون على أنفسهم غضب الله على صورة حروب مدمرة، وأمراض اجتماعية فتاكة.. وأنهم حسب رؤيا موسى سيعودون إلى مجمع البحرين بعد أن ضلوا عنه، أي يقبلون بالإسلام بعد أن رفضوه طويلاً.

وقد أشار سفر الرؤيا إلى وقت غلبة الشعوب في رؤيا يوحنا: “ثم متى تمت الألف سنة يحل الشيطان من سجنه، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج ومأجوج، ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر..” (رؤيا: ۲۰).

وتبدأ الألف سنة من هجرة النبي ، أي في القرن السابع عشر الميلادي تبدأ هذه الشعوب نهضتها وازدهارها.

هذا ولقد ذكرت قصة ذي القرنين في القرآن الكريم لما تتضمنه من إشارات مستقبلية لها صلة بالماضي البعيد، وليست أخبارًا تاريخية. ولقد تحققت بعض أنبائها في شخص النبي ويتحقق الباقي منها في المستقبل.

إن قصة ذي القرنين تشير إلى ضرورة ظهور ذي قرنين آخر.. لصد هجمات نفس الشعوب الشمالية التي أوقف هجماتها ذو القرنين الأول. وخطر يأجوج ومأجوج هو الفساد الروحاني المدمر للأخلاق.. ولا بد من أن يكون ذو القرنين مكلفًا بهذه المهمة.. مهمة وقف هذا الفساد المخرب. ولقد سمي قورش في التوراة (المسيح)، وكذلك سمي ذو القرنين الثاني باسم المسيح أيضًا. أما ذو القرنين الثاني فهو حضرة أحمد المسيح الموعود والمهدي. وثمة مشابهات أخرى بين (قورش) و (حضرة أحمد) من الناحية الطبيعية والروحية: فالإثنان من أصل فارسي. وكلاهما ذو قرنين: قورش ذو قرنين أي جهتين هما مملكة فارس ومملكة میدیا. أما حضرة أحمد فقد شهد قرنين هجريين، وقرنين میلاديين وقرونًا أخرى غيرها.

والآن نذكر بإيجاز تعريبًا لما كتبه حضرة المهدي والمسيح الوعود حول تفسير هذه الآيات من سورة الكهف، وأوضح علاقتها بشخصه الكريم، قال حضرته:

“سماني الله تعالى (ذا القرنين) وخاطبني بالوحي أني (جَرِيُّ الله في حل الأنبياء) أي أني رسول من الله في رداء الأنبياء جميعًا، وهذا يظهر أن لي مزايا ذي القرنين الذي كان يتلقى الوحي من الله.. كما يستدل من قوله تعالى قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ . فدل الوحي المذكور الذي أخبرت فيه بأني ذو القرنين.. أن قصته الواردة في القرآن المجيد نبأ يتعلق بي.

إن معنى (ذي القرنين)، الحائز على قرنين من الزمان. وأنا حائز على قرنين بحسب جميع التقاويم المعتبرة. لقد بلغت من العمر اليوم 67 عامًا، وقد شهدت قرنين هجريين، وقرنين شمسيين، وقرنين عبريين، وقرنين هنديين.

(ولد حضرة أحمد المهدي والمسيح الموعود في فجر الجمعة 14 شوال 1250ه. وتوفي في يوم الثلاثاء 26 مايو 1908، فشهد القرنين 13، 14 من الهجرة، و۱۹، ۲۰ من الميلاد المسيحي، وكذلك شهد القرنين 55، 56 من التاريخ العبري).

سأشرح الآيات القرآنية المتعلقة بذي القرنين من سورة الكهف حسبما كشف علي من الله تعالى. وقبل الشرح أؤكد لكم أني لا أنكر التفاسير السابقة لأنها تحدثت عن الماضي، أما تفسيري فيتحدث عن المستقبل.. لأن القرآن الكريم ليس مجموعة قصص للترفيه عن القراء، تشتمل على تقارير عن حوادث لامعة تمت في الماضي.. بل هو كتاب عظيم من الوحي الإلهي.. كلُّ حادث فيه يشير إلى نبأ عظيم عن المستقبل. وما جاء عن ذي القرنين فإنه نبأ تحقق في شخصي أنا المسيح الموعود (آیتا 84، 85) قوله وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا .. تلقيت وحيًا بنفس المعنى ونشر في (البراهين الأحمدية) وهو «ألم نجعل لك سهولة في الأمر». ومن الواضح أن الله تعالى قد منحني وسائل تمكنني من القيام برسالتي لم تتسنَّ لنبي قبلي.. فقد تقاربت في زمني الشعوب بعضها من بعض، فالأسفار التي كانت تتطلب سنوات تستغرق الآن أيامًا. وتطورت وسائل الاتصال، فتنتقل الأخبار عبر آلاف الأميال في دقائق قليلة. ونشرت اليوم الكتب التي كانت خافية على الناس. واكتشفت الوسائل للوصول إلى جميع أطراف الأرض بسهولة. وسهلت آلات الطباعة نشر الكتب وضاعفت توزيعها. فينشر اليوم من الكتب في عشرة أيام ما كان ينشر في عشر سنين. ويمكن اليوم إذاعة كتاب في بلاد العالم في أربعين يومًا.. مما لم يكن ممكنا إنجازه في مدى عمر الفرد كله.

(الآيات من 86 إلى ۸۹) تعني أن ذا القرنين بما لديه من تسهیلات سوف يتجه أولاً إلى الغرب للقيام بإنعاش روحاني فيهم. وسيجد هناك أن شمس الحقيقة والتقوى قد انطفأت فلا نور لها. وسيجدها تغرب في عين موحلة ماؤها آسن. وسيجد حول هذه العين نصارى الغرب تائهين في ظلام حالك ليس لهم نور يهتدون به، ولا عين ماء عذبة يروون منها ظمأهم.. وبعبارة أخرى: تفسد معتقداتهم وأعمالهم، وليس لديهم نور إلهي يهديهم إلى الطريق السوي، ولا ماء روحي يروي ظمأهم للحق.

عندئذ يخوّل الله تعالى لذي القرنين معاقبتهم على سوء فعالهم أو يعفو عنهم إن شاء.. أي يدعو الله أن ينزل بهم العقاب السماوي.. كما أشارت إلى ذلك الأحاديث النبوية الموثوقة: «فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه. (صحيح مسلم)»، أو أن يترفق بهم. فيجيب ذو القرنين أنه لن يدعو بالعقاب إلا على الظالمين، أما الذين يتمسكون بالتقوى والفضيلة فسينالون أحسن الجزاء.

والخلاصة أن المسيح الموعود سيظهر في وقت يكون فيه الغرب غارقًا في ظلمات روحية، قد غربت شمس الحقيقة أمام أعينهم في عين فسد ماؤها.. أي فسدت معتقداتهم وأعمالهم، ولن يكون عندهم ماء سماوي يشربون منه، ولا بصيص من نور يهتدون به. وهذا هو واقع حال المسيحيين في زماننا الحاضر والتي مركزها في بلاد الغرب.

(الآيات ۹۰ إلى ۹۲) سيحول المسيح الموعود انتباهه ناحية الشرق، حيث يجد قومًا لا يملكون ما يسترون به أجسامهم من الشمس اللافحة، ويجدهم يحترقون برغباتهم الشهوانية وانكبابهم على الدنيا، غرباء عن روح الدين. يأتيهم ذو القرنين بكل بركة روحية ويهبها لهم، ولكنهم ينصرفون عنها ولا يقبلونها. وستكون حالهم كمن لا يجدون بيتًا أو ثيابًا أو حتى شجرة ترد عنهم وهج الشمس وشدة حرها.. فكأنهم طلعت عليهم شمس الهدی فلم ينتفعوا بنورها، ولكنهم أحرقت جلودهم وخطفت أبصارهم.. على خلاف الفريق الغربي الذي غربت عندهم شمس الهدی.

تحتوي هذه الآيات على إشارة إلى النواحي الثلاث من وظيفة المسيح الموعود: أنه أولاً يحافظ على من أضاعوا روحانياتهم ويقيمون حول عين مظلمة موحلة، وثانيًا يصلح الذين يواجهون الشمس عرايا.. فقدوا كرامتهم واحترامهم، وافتقروا إلى حسن التربية، وتطرفوا في سلوكهم كالحيوانات ذات النزعات الخصامية. لم ينتفعوا بنور الشمس، وأصابهم منها الاصطلاء والاحتراق فقط. وهذا حال المسلمين الذين عندما يظهر فيهم المسيح الموعود، فإنهم بدلاً من معاملته بالاحترام والإجلال.. يقفون في وجهه بالمعارضة، فيحرمون من البركات التي كان من الممكن أن ينتفعوا بها.

(الآيات: ۹۳ إلى ۱۰۲) تشير إلى أن ذي القرنين سيتجه وجهة ثالثة، إلى مكان يقع بين جبلين.. أي أنه يجد قومًا يتهددهم خطر مزدوج: الضلال الديني والقوة المادية. هؤلاء القوم سيجدون الهداية صعبة بسبب انغماسهم في الخطأ عملاً وعقيدة. ولكن المسيح الموعود سيتعامل معهم، وسيحالفهم الحظ ويستفيدون من تعاليمه. وسوف يطلبون منه أن يقيم جدارًا بينهم وبين يأجوج ومأجوج، ويستأذنونه في جمع الأموال. وسيخبرهم بأن ما آتاه الله أجدى من المال. فيزودهم المسيح الموعود بالحجج والبراهين على صدق الإسلام التي تكون جدارًا يحميهم من غزو الأعداء وهجماتهم. وسوف يقوي جدارهم هذا بالحديد الذي عولج بالنار والنحاس. أي يطلب منهم أن يتمسكوا بتعاليمه فلا تفلت منهم، ويشعلوا نار محبة الله في قلوبهم حتى تَحمَرَّ من حرارة المحبة ويشع منها النور.. فتنعكس فيهم صفات الله تعالى الذي هو وحده مصدر الأنوار.

وحُبّ الله يعني أن يرتوي المحب من روح صفات الله.. بحيث تنعكس هذه الصفات في ذاته.. ولو على نطاق ضيق فقط. إن ادعاء الإنسان بحب الله دون أن يصل إلى هذه الحالة القدسية من الوصال بالذات الإلهية.. يظل مجرد بخار يتصاعد من عقول متفاخرة.

أما حال الحب الحقيقي فيشبه الحديد الذي يحمى على النار فيحمر وتصير فيه خصائص النار من الإحراق والإنارة.! وإذا كان الإسلام عاجزًا عن إيصال الإنسان إلى هذا المقام القدسي فكأنه شبكة لاصطياد الناس، وقشر بلا لب. ولكن الإسلام والحمد لله ليس كذلك.. الإسلام قادر على أن يوصل الإنسان إلى هذا المقام المنشود، بل وأبعد من ذلك.. بشرط واحد ووحيد: أن يكون الإنسان قويًا ثابتًا كالحديد الذي يكتسب خصائص النار مع بقائه حديدًا.

ومن المؤسف أن بعض الحمقى لا يستطيعون استيعاب هذه العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويطعنون في الوحي الذي تلقيته: “وإنما أمرك إذا أردت شيئًا أن تقول له كن فيكون”. وهو ليس كلامي، وإنما كلام نزل من رب العالمين. وقد أكد الصدق الكامن في هذا الوحي الشيخ عبد القادر الجيلاني (رحمه الله) وأقره بجلاء في كتابه (فتوح الغيب). والأهم من ذلك أنه ، يؤيد أقواله بهذه العبارة بالذات: وإنه لما يؤسف له أن الناس عندما يتحدثون عن العقيدة يكتفون بالقشر فقط، ويعتبرون التعمق إلى اللب وحصول المعرفة الكاملة كفرًا. ويظنون أن أحدًا لا يستطيع فعلاً أن يحظى بالمكالمة والمخاطبة الإلهية بعد النبي على الإطلاق.

ثم يقول الله تعالى أن ذا القرنين سيطلب من هذا القوم المهدد دومًا من يأجوج ومأجوج أن يزودوه بمصهور النحاس ليصب على الجدار حتى يقيهم ويحميهم من غزوات يأجوج ومأجوج. ولا يخفى أن الحديد عندما يتعرض للنار يحمر ويحمي ويأخذ خواص النار، ولكن انصهاره أصعب من النحاس. فالإشارة هنا أن الباحث عن الله يجب أن يتصف بقلب لين يذوب في سبيل الله. فكأن الآية تقول: يطلب ذو القرنين من هذا القوم أن يكونوا ذوي قلوب مستعدة للقبول، لينة تذوب لرؤية الله.. لأن القلوب القاسية لا تؤثر فيها آيات الله. ولكي يتقي الإنسان همزات الشيطان ينبغي أن يكون ثابتًا وصلبًا كالحديد. وأنه يأخذ من النحاس صفة الليونة والذوبان إذا ما تعرَّض لنار المحبة الإلهية، ويصب هذا المصهور على قلبه الثابت الصلب فيحفظه من التفتت والتشتت.. كما يحمي النحاس الحديد من الصدأ. تلك هي الشروط الثلاثة التي يجب أن تتوفر للإنسان الذي يريد السير في طريق الحب الإلهي الكامل، الذي سيكون سدًا يحمي من هجمات الروح الشيطانية ويتعذر عليها اختراقه. ثبات وقوة كالحديد، الاستجابة لصفات الله تعالى وعكسها في نفسه كما يعكس الحديد المحمي صفات النار، ثم ليونة وخشوع لذكر الله وتعاليمه كالنحاس الذي يسهل صهره وصبه، فيسد الثغرات ويحمي من الصدأ.

ثم يقول الله تعالى إن كل ذلك سيتم بفضل من الله وبيده تعالى، وليس بتدابير البشر وعند اقتراب الساعة.

ثم يقول الله تعالى.. أنه في زمن ذي القرنين (المسيح الموعود) تهب الديانات تدافع عن معتقداتها وتتصادم بعضها مع البعض الآخر کتلاطم أمواج البحر. ثم ينفخ الصور من السماء، أي يبعث الله المهدي والمسيح الموعود ويقيم بواسطته قومًا.. يظهر آياته العظمى لتأييدهم.. إلى أن يجتمع أهل السعادة في العالم على دين واحد هو الإسلام.. هؤلاء السعداء الذين استمعوا لصوت المهدي والمسيح الموعود وينضمون إليه. فيكون قطيع واحد وراع واحد. ستكون تلك الأيام ذات محن، ويظهر الله وجهه بتجليات القهر.. وتنزل المصائب بأنواعها على رأس من يصرون على الكفر. ويرون نار جهنم في حياتهم.

ويقول الله تعالى بأن الذين كانت أعينهم في غطاء عن كلامي وصمّت آذانهم لأوامري.. أولئك الذين ألَّهوا وعبدوا رجلاً عاجزًا.. وحسبوني متعطلاً.. ليس أهون عندي من إنزال عذاب كعذاب جهنم بهم في هذه الحياة الدنيا. وسيظهر الله آياته الدالة على صدق مسيحه. انظروا.. ما أعظم أفضال الله الكريم على هذه الحفنة من التراب.. أنا.. ذلك الإنسان الذي كفَّره معارضوه وسمّوه دجالاً!!

(الآية ۱۰۳) تتحدث عن الأقوام التي يتخذون من يسوع المسيح بن مریم مخلِّصًا لهم وابنًا لله، والذين أشير إليهم في أول السورة. وهذا يدل على أن الآيات السالفة تتناول موضوع هذه الأقوام نفسها.. أي الشعوب الغربية المسيحية.

(الآيات 104 إلى 109): إن هؤلاء الأقوام يسعون للحصول على الراحة المادية والمنافع الدنيوية، واختراع واستنباط كل جديد من شأنه أن يحقق لهم تلك الراحة. إنهم يكتفون في هذه الدنيا بمتعتهم المادية دون أن يكون لله تعالى مكان في قلوبهم. أما وقد تنكروا للحياة الأخرى، فلن يكون لأعمالهم ومكاسبهم أثر نافع، بل ستعود عليهم بالضرر. وبما أنهم قد صُدُّوا عن الله وكسب مرضاته فلا يتوقعون في الحياة الآخرة سوى نار جهنم.. جزاء على كفرهم وسوء أفعالهم وهزئهم بآيات الله واحتقارهم لرسله.

ولسوف يتقدم الإسلام ويرتقي على أنقاض مجد المسيحية، وستوضع أسس نظام جديد أفضل. وينال المؤمنون في النهاية حسن الجزاء على ما بذلوا وتحملوا، وسيكون لهم السعادة والراحة الفكرية بحيث لن يخطر لهم على بال أبدًا تبديل هذا النعيم الروحي المبارك.

(آية ۱۱۰) تفاخر الشعوب الغربية المسيحية باختراعاتها واكتشافاتها العلمية ويظنون أنهم قد أدركوا سر الخليقة. تقول الآية لهم: إن تفاخركم باطل، فلا حد ولا نهاية لأسرار الله. نعم، لقد منح الله عباده قوى واستعدادات عجيبة، ولكن ما يُكتشف لا يتعدى قطرة واحدة من بحر. وتشير الآية إلى أن تلك الأيام ستكون أيام نشر الكتب والمطبوعات بكثرة. ولكن بحر العلم الحقيقي سيبقي خفيًا عن علمهم المادي.

(آية ۱۱۱) يطلب الله تعالى من النبي أن يخبر الشعوب المسيحية، أن الله أظهره على كثير من الغيب، وأطلعه على الأنباء الخاصة بنصر الإسلام وسقوط المسيحية.. ومع ذلك فهو لا يجرؤ على الادعاء بأنه ابن الله أو أن له قوى إلهية.. ما هو إلا بشر كسائر البشر، وإنما فضله في كونه حامل الرسالة السماوية. فمن أراد أن يتبارك بهذا الوحي.. فعليهم أن يقلعوا عن الإشراك بالله.. وعندئذ تتنزل عليهم بركات الله وأفضاله، وتفتح لهم كنوز السماء.

روي عن النبي أنه قال: «من قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة الكهف حماه الله من فتنة الدجال». وهذا يظهر أن الدجال ويأجوج ومأجوج شعب واحد.. هم الأقوام المسيحية الغربية. فالدجال يمثل دعايتهم الدينية الشريرة، ويمثل يأجوج ومأجوج سلطانَهم المادي والسياسي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك