في عالم التفسير
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (88).

شرح الكلمات:

قفينا– قَفّى فلان زيدا: تبعه. وقفّاه: أتبعه إياه. القفا: مؤخر العنق. فالأصل في قفّاه أن يكون التابع وراء المتبوع وقريبا منه، ولكنهم توسعوا فقيل لمن تبع أحدا وإن كان على مبعدة: قفاه (الأقرب).

 بينات – هي تلك الأدلة التي في حد ذاتها تشكل برهانا على صدق النبي. فالأدلة على نوعين: الأول ما يستنبط منه صدق نبي، فمثلا نستدل بفساد أهل زمان ما على ضرورة مجيء نبي، فنقول: قد عم الفساد في العالم ونسي الناس الشرع وتركوا العمل بتعاليمه فلذلك لا بد من نبي … وهذا المدعي هو النبي الموعود. فكل هذه الأمور يستنبط منها ضرورة ظهور نبي. إنها أدلة بلا شك، ولكنها ليست بينات. ويندرج في هذا النوع أيضًا تلك الأنباء التي تدل على قرب ظهور نبي، ولكنها لا تحدد زمن ظهوره، فهي ليست بينات ومنها على سبيل المثال الآيات والأحداث التي ظهرت قبيل مبعث محمد ، والتي يمكن أن نستنبط منها صدقه. إنها أدلة على صدقه ولا شك، ولكنها لا تؤكد بصورة قطعية على أنه النبي ، فلا تسمى بينات.

والنوع الثاني من الأدلة تسمى بينات، وهي التي تشكل بحد ذاتها برهانا مباشرا على صدق النبي، وهي التي تجعل صدقه مشهودا، والتي تبين الصدق من الباطل تبيانا.. مثل الطاعون الذي أنبأ بتفشيه المسيح الموعود، وكذلك أنبأ النبي الكريم بذلك من قبله. فظهور الطاعون في زمنه ليس دليلا على صدقه فقط، بل إنما هو ’بينة‘، لأن تحقق هذا النبأ لا يعين زمن ظهور المسيح المنتظر، وإنما يبين أيضًا أنه هو نفسه المسيح المنتظر. إذن فالبينة ما يدل على صدق النبي دلالة واضحة لا غبار عليها، وغيرها هو ما يثبت صدقه بالإشارة والتلميح فحسب.

وأدلة صدق المسيح الموعود- عليه السلام- بعضها من نوع الإشارة والتلميح، وبعضها من البينات. والواقع أن كل نبي قد أوتى كلا النوعين من الأدلة، لان الأدلة الواردة في شكل الإشارة والتلميح وحدها لا تكفي لإثبات صدقه، بل لا بد إلى جانبها من البينات ليتضح صدقه لعامة الناس وإلا لن يعلموا أنه هو الشخص المنتظر الموعود. لقد بين أبو حيّان معنى البينات في تفسيره فقال: البينات الحجج الواضحة الدالة على النبوة (تفسير البحر المحيط).

 روح القدس– الروح: الكلام، والقدس: المقدس أو المبارك (لسان العرب). فروح القدس يعني كلام الله المقدس المبارك. ويتضح بمطالعة قواميس اللغة أن كلمة التقديس لا تستخدم إلا للأشياء التي لها علاقة بالله تعالى. لا شك أن هناك كلمات عديدة تعطي معنى الطهارة، لكنها لا تتقيد بهذا الشرط، وإنما افترض في التقديس وحده أنه لا يطلق إلا على ما يتعلق بالشرع والأمور الروحانية.. مما يعني أن الطهارة المقدسة إنما هي ما تكون مرتبطة بالشرع. فمثلا لا يسمى أي مكان مكانا مقدسا إلا إذا كان له شرف في الدين ودرجة من حيث الروحانية. فكلمة النظافة أيضًا تعني الطهارة، ولكنها لا تختص بالنظافة الدينية والروحانية. فالكافر يمكن أن يكون نظيفا، لكن لا يسمى رجلا مقدسا إلا الذي نال شرفا روحانيا وعزة من الله تعالى. فلا يمكن أن تسمى الأفكار النبيلة وحدها كلاما مقدسا ومباركا.. وإلا فان أفكار فيلسوف أيضًا يمكن أن تكون نبيلة لأنه هو الآخر لا ينفك يأتي بنكات جديدة عن طبيعة الأشياء، ولكنه لا يكون مؤيدا بروح القدس، ولا مشرفا بالوحي الإلهي. إنه لا يحظى بتلك الأفكار التي تأتى من الله. فالكلام المؤيّد بروح القدس إنما هو ذلك الذي ينـزل من الله ويكون مباركا وطاهرا من كل النواحي.

وتعني الروح أيضًا المَلَك، فيكون معنى روح القدس: ملك التقدس والبركات. والملائكة نوعان: نوع ينـزل بكلام الله ونوع آخر يقوم بتنفيذ كلام الله تعالى أو قضائه في الكون. فالملائكة الذين ينـزلون بكلام الله يسمون روح القدس. وتطلق كلمة روح القدس على جبريل عليه السلام سيد الملائكة النازلين بكلام الله. فيعني قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس) أن الله نصره بملاك التقديس والبركات الذي ينـزل بكلامه، أو أنه عز وجل شرّفه وأعزه بكلامه المقدس المبارك.

التفسير:

فقوله تعالى (وقفينا من بعده بالرسل) يعني أنه عز وجل أرسل بعد موسى أنبياء كثيرين. ليس ذلك فحسب، وإنما يبين أيضًا أن هؤلاء الأنبياء لم يأتوا بشرع جديد بل كانوا تابعين لموسى وعاملين بشرعه – عليهم السلام. لقد استدل سيدنا المسيح الموعود عليه السلام من هذه الآية وقال: قد جاء بعد موسى العديد من الأنبياء الذين لم يكن معهم شرع جديد، وإنما كانوا يدعون الناس إلى تعاليم التوراة وينشرون أحكامها (شهادة القرآن، ص44).

إن عامة المفسرين يظنون أن كل نبي يأتي بشرع جديد، ولكن الله تعالى قد صرح هنا بكل وضوح أن الأنبياء المبعوثين بين موسى وبين النبي الكريم-عليهم الصلاة والسلام-كلهم كانوا تابعين لموسى وعاملين بشرعه. ولقد اعترف بذلك العلامة أبو حيان في تفسيره لهذه الآية وقال: ويحتمل أن تكون التقفية معنوية، وهي كونهم يتبعونه بالتوراة وأحكامها ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها (تفسير البحر المحيط).

قوله (ءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس).. إن كون عيسى بن مريم محظوظا بالبينات ومؤيدا بروح القدس ليس مما يختص به عيسى وحده .. .حتى يستدل بذلك على أفضلية له على غيره من الأنبياء؛ فقد ذكر القرآن في هذه السورة نفسها أن موسى أيضًا قد أعطي البينات، فقال (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (92).

كما قال الله تعالى للرسول الكريم :(ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) (100) كذلك ذكر الله هلاك الأمم السابقة للنبي وبين سبب هلاكهم قائلا: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب) (غافر:23) ويوضح هذا جليا أن سائر الأنبياء المبعوثين للخلق قد أتوا بالبينات أيضًا وإلا كان من المستحيل أن يتبين للناس صدقهم. فلم يذكر الله هنا البينات وروح القدس لبيان خصوصية للمسيح الناصري، وإنما ذكرها ليبين لليهود أن المسيح أيضًا قد أوتى البراهين الدالة على صدقه كما أوتيها غيره من النبيين الذين تؤمنون بصدقهم. كما ذكر هنا روح القدس لبيان أن المسيح أيضًا كان يتلقى الوحي من الله كالأنبياء الآخرين وليس لأن له أفضلية على غيره من الرسل أو أنه صاحب شرع.

ولو أخذنا الروح بمعنى الملك، وكان روح القدس بمعنى الملك المقدس..  لكان المعنى أن الله تعالى أمر جبريل وغيره من الملائكة بتأييد المسيح، فيجعل له القبول في قلوب الناس أو يثبت قلوبهم. ويتأكد هذا المعنى بقوله تعالى (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)، (المائدة:112). والبديهي أن وحي الله ينـزل عموما بواسطة الملائكة. فمن معاني الآية أن الله تعالى أيد المسيح بجبريل وهذا ليس خاصا بالمسيح وحده وإنما سائر الأنبياء وكبار المؤمنين أيضًا يؤيدون من الله تعالى. كما ذكر القرآن أصحاب النبي (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) (المجادلة: 23)..أي أن الله تعالى قد رسخ الإيمان في قلوبهم ونصرهم بإرسال الروح أي الملائكة. لم يرد هنا (روح القد س)، بل قال (روح منه) ولكن الواضح أن الروح التي تكون من الله لا تكون إلا مقدسة. وأيضًا قال الله تعالى لنبيه (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) (النحل: 103): أي قل للناس إن روح القدس قد نزل هذا القرآن من ربك بالحق والحكمة لكي يجعل به المؤمنين ثابتين على الإيمان للأبد، ولكي يزيدهم به هدى ويبشرهم بالخير. وقال أيضًا(فإنه نزله على قلبك بإذن الله.. )(البقرة:98)..أي نزله روح القدس على قلبك بإذن الله. فكون المسيح قد أوتي البينات ونصر بروح القدس لا يضفي عليه أي فضيلة خاصة دون سائر الأنبياء.

وعلاوة على القرآن فان أقوال الرسول تؤكد أن نزول روح القدس ليس خاصا بالمسيح، بل يمكن أن ينـزل على غيره من الأنبياء، أو حتى غير الأنبياء. إن حادث حسان بن ثابت خير شاهد على ذلك. فقد كان الأشرار في زمن النبي يهجونه وأزواجه المطهرات في أبيات من الشعر هجوا فاحشا، وتحمل الصحابة كل ذلك لفترة من الزمن بسبب تعليم النبي بالتمسك بالصبر. ولكن لما تجاوز خبثهم الحدود طلب بعض الصحابة من سيدنا حسان أن يرد عليهم، فجاء النبي يستأذن في هذا قائلا: لقد أكثر هؤلاء هجوك، فدعني أرد عليهم وأكشف مثالبهم للناس. فقال النبي : كيف تهجو آباءهم وهم آبائي أيضًا؟ قال: يا رسول الله، كن مطمئنا “لأسلنك منهم كما يسل الشعر من العجين”. وقوله هذا دليل على تصرفه بأعِنَّة الكلام، لأن الشاعر المتمكن هو الذي يستطيع أن يهجو عدوه بحيث لا يقع في ذم آبائه. على أية حال، أذن له الرسول قائلا: “اهج قريشا وروح القدس معك”(البخاري، المناقب).وفي رواية أن النبي قال لحسان: “اهج قريشا وجبريل معك”.. حتى أن حسانا قال في شعره:

وجبريل رسول الله فيناوروح القدس ليس له كفاء

أي أن رسول الله جبريل موجود بين ظهرانينا، وليس لروح القدس هذا مثيل.. مما يدل على أن روح القدس كان يؤيد الصحابة كلهم. وفي رواية ثالثة أن الرسول أمر حسان بالرد على هجاء الكفار ودعا له: “اللهم أيده بروح القدس” (مشكاة المصابيح، باب البيان والشعر). وفي رواية أنه قال:”اهج المشركين فإن جبريل معك”(البخاري).

فكيف يحق للمسيحيين بعد كل ذلك أن يستدلوا بكون المسيح الناصري مؤيدا بروح القدس على أنه إله أو ابن الإله. فليس في ذلك أي خصوصية له، بل كان سائر الرسل والصالحون مشتركين في هذه الميزة، وكان كل واحد منهم مؤيدا بروح القدس بحسب مكانته عند الله تعالى، حتى إن الخواجة معين الدين الجشتي – وهو من كبار أولياء الله في الأمة الإسلامية- يقول في ديوانه ما تعريبه: إن روح القدس ينفخ الروح في نفسي كل لحظة، حتى خيل إلي أنني صرت مسيحا ثانيا(ص52). وإذن ليس في كون المسيح مؤيدا بروح القدس ما يدعو إلى الاستغراب والإعجاب. ولا بد هنا من الرد على تساؤل: إن صح القول بأن قوله تعال:” وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس” لا يشير إلى ميزة خاصة في المسيح..فلماذا خصه القرآن هنا بالذكر وبمثل هذه الكلمات بعد الحديث عن موسى ثم الأنبياء ككل؟

يستنتج النصارى من ذلك أنه لما كان المسيح أفضل من غيره من الأنبياء وأسمى منهم درجة.. لذلك ذكره القرآن على حدة، ولو كان مجرد رسول ما ذكره هكذا.

فأما المفسرون فيقولون: كان الأنبياء الآخرون تابعين للشرع الموسوي ولم يكن لهم شرع جديد مستقل، لذلك ذكروا جماعة، ولكن عيسى لم يكن تابعا للشرع الموسوي.. بل جاء بشرع جديد فجاء ذكره على حدة.

وهذا الرأي غير صحيح، لان المسيح نفسه يقول:” لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء؛ ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ” (متى 17:5 ،18). فالقول بأن المسيح قد ذكر على حدة لأنه جاء بشرع جديد قول خاطئ ولا شك. ولكن يبقى السؤال كما هو: ما السر في ذكره على حدة؟

ليكن معلوما أن اليهود- بشكل أو بآخر- كانوا يعظمون سائر الرسل المبعوثين في بني إسرائيل قبل المسيح الناصري. لا جرم أنهم عارضوهم في البداية، ولكنهم اعترفوا بصدقهم آخر الأمر؛ فلا تزال كتب أنبيائهم إلى النبي “ملاخي” موجودة في التوراة، يقرءونها ويرونها صالحة للعمل، حتى أن داود وسليمان عليهما السلام اللذين رموهما بالارتداد في آخر العمر قد جاء ذكرهما في التوراة، ولا يزال اليهود يعظمون أقوالهما بغض النظر عن أعمالهما. ثم إنهم يعتبرون زكريا ويحيى من علمائهم وصلحائهم وإن أنكروا نبوتهما. فكل هؤلاء يعظمهم اليهود وإن كانوا يعدون بعضهم من الصلحاء والعلماء فقط. أما المسيح فكان اعتقادهم فيه اعتقادا فاسدا ونجسا للغاية، فيرمونه بتهم شنيعة خطيرة، ويعتبرونه مفتريا وملعونا- والعياذ بالله. فكان ضروريا عند الحديث عن معارضة اليهود للأنبياء أن يذكر المسيح ذكرا خاصا مستقلا لأنهم أساءوا إليه أكثر من غيره، وكانوا حتى إلى زمن نزول القرآن مصرين على الاعتقاد أنه- والعياذ بالله- من المفترين ولم يكن من الصادقين. وكان ضروريا أيضًا أن يصرح القرآن عند الحديث عن عداء اليهود للمسيح أن الله أعطاه من البراهين على صدقه مثلما أعطى غيره من الأنبياء الذين يصدقهم اليهود أنفسهم. فذكر من هذه البراهين الساطعة على صدق الأنبياء برهانين. أولهما-أنه أوتى البينات.. أي الحجج الواضحة التي يظهر بها صدق النبي، وثانيهما –التأييد بروح القدس الذي لا غنى لأي نبي عنه. ولقد تناول ذكر البينات وروح القدس خاصة عند الحديث عن المسيح أيضًا لأن اليهود إنما كانوا يعترضون عليه لأنه أولا- لم يرهم آية معجزة، وثانيا- لأنه –معاذ الله –نجس، وأن روحا شيطانية تنـزل عليه. وقد ورد اعتراضهم بأنه لم يرهم آية معجزة فيما يلي:”حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم، نريد أن نرى منك آية. فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان (يونس) النبي.لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي.. هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي” (متى 13: 38-40).

أما اعتراضهم بأن الشيطان ينـزل عليه فقد جاء فيما يلي: “وكان يخرج شيطانا وكان ذلك أخرس. فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس، فتعجب الجموع. وأما قوم منهم فقالوا: ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين “(لوقا 11: 14 ،15). بل إنهم سموا المسيح ’بعلزبول‘، وذكر هو ذلك وهو ينصح تلاميذه قائلا: “إن كانوا قد لقبوا رب البت بعلزبول فكم بالحريِّ أهل بيته”(متى25:10)

فبقوله”آتينا عيسى بن مريم البينات “يدحض الله اعتراض اليهود الأول ويقول: لقد أريناكم على يد المسيح آيات عظيمة.هذا مع العلم بأن الإنجيل – للأسف الشديد-لا يذكر من معجزاته ما يكون حجة على اليهود. كانت له معجزة واحدة هامة في هذا الصدد، ولكن النصارى- لجهلهم- قد جعلوها موضع شبهة. إنها تلك التي تحدث عنها المسيح نفسه حيث قال: لا تعطى لهم إلا آية يونس النبي. وكانت آية يونس أنه مكث في بطن الحوت حيا لثلاثة أيام وثلاث ليالي، وخرج منه حيا. ولكن النصارى يقولون إن المسيح مات على الصليب ودخل القبر وهو ميت، ثم قام من الموت وصعد إلى السماء. لقد كان لهذه المعجزة شقان: شق يتعلق بالناس، وجعله النصارى أنفسهم مشتبها فيه باعتبار المسيح مات على الصليب ودخل القبر ميتا، وشق آخر يتعلق بقيامه من الأموات وهذا ما لا يصدقه اليهود. فكأن الآية الوحيدة التي قدمها المسيح لليهود أيضًا لم تتحقق طبقا للإنجيل؛ لأن أحد شقيها لم يتحقق حسب قول النصارى، بينما الشق الثاني ليس حجة على اليهود.

فقد ذكر الله البينات هنا خاصة ليفند اعتراض اليهود على المسيح، ولم يكن هناك أي داعي لذكرها في حق الأنبياء الآخرين.. لأنهم لم يعترضوا بمثل هذا الاعتراض، وإنما كان المسيح هو الوحيد الذي قوبل به ولذلك مست الحاجة لدفع زعم اليهود والنصارى بان المسيح لم ير أية آية، فقال: كلا، بل آتيناه العديد من الآيات البينات.

وكان اتهامهم الثاني أن روحا شيطانية تنـزل على المسيح، فأبطله الله تعالى بقوله:”وأيدناه بروح القدس”. إن النصارى كما أبطلوا معجزة المسيح الوحيدة بقولهم إنه مات على الصليب ودخل القبر وهو ميت.. كذلك فإنهم أيدوا موقف اليهود في قولهم إن المسيح كان على صلة في الشيطان إذ قالوا في الإنجيل: إن الشيطان امتحنه (متى:4). والحق أنه لا يمكن للشيطان أن يتجاسر على اختبار نبي، بل إنه لا يجرؤ على الاقتراب منه..ولكنهم مع ذلك ذكروا هذه الأشياء في الإنجيل وبالتالي ساندوا اليهود في موقفهم. وحيث إن الأنبياء الآخرين لم يتعرضوا لمثل هذه التهمة.. لذلك خص الله المسيح وحده بهذا التصريح، وبرأه من تهمة اليهود وقال “وأيدناه بروح القدس”.

إلى هنا كنت أوضح سبب ذكر المسيح منفصلا للرد على موقف اليهود، أما الآن فأتناول الموضوع في ضوء موقف المسيحيين القائل إنه ذكر منفصلا عن باقي الأنبياء لأنه أرفع منهم مكانة، بل هو إله أو ابن اله.

والجواب أولا – الأنبياء المذكورون في قوله”وقفينا من بعده بالرسل” ما كانت لهم أمة منفصلة في عهد الرسول . فمثلا لم تكن لداود أمة خاصة، ولا لسليمان، ولا ليحيى، ولا لإلياس، ولا لزكريا، ولا لدانيال، ولا حزقيال عليهم السلام. فما كان هناك أي داعٍ لذكر كل واحد منهم ذكرا منفصلا. ولكن عيسى كانت له أمة منفصلة عن اليهود..  فكان من الضروري ذكره منفصلا.

وثانيا- إن أمة عيسى نزعت عنه رداءه الحقيقي وهو النبوة، وخلعوا عليه من عندهم رداء البنوة لله تعالى، فكان لا بد من ذكره منفصلا لنـزع هذا الرداء.. رداء الألوهية الكاذبة. أما باقي الرسل المبعوثين في بني إسرائيل من بعد موسى فكانوا لا يفرقون بين أحد منهم، وإنما كانوا يعتبرونهم سواسية كأسنان المشط .. لذلك لم يذكر كل واحد منهم على حدة.

الواقع أن الله تعالى قد نزل هذه الآية لإبطال عقيدة النصارى في المسيح، موضحا لهم أن زعمهم بكونه إلها أو ابن إله جهل منهم.. إذ لم يكن إلا رسولا مؤيدا بالبينات وروح القدس، وليس في هذا أية خصوصية له..لأن جميع الرسل بدون استثناء قد أيدوا بالبينات طبقا للنظرية الإسلامية. كما أن النصوص القرآنية البينة والأحاديث النبوية الشريفة تصرح بإمكان نزول روح القدس حتى على غير الأنبياء. وإذن فكون المسيح قد أوتي البينات وأيد بروح القدس ليس بدليل على أنه نبي ذو شرع مستقل أو أنه إله أو ابن إله.

إن أول كلمة في الآية تبطل كونه أحد الأقانيم الثلاثة: حيث قال الله تعالى “وآتينا عيسى بن مريم البينات”..  فهل يعطي أحد شيئا للإله؟ كلا، إنه في غنى عن كل شيء، وإنما هو الذي ينعم على الآخرين.

ثم إن كلمة البينات أيضًا تبطل عقيدة بنوة المسيح لله تعالى ..  إذ لا يمكن أن يكون إلها من يحتاج لإثبات صدقه إلى بينات تعطى له من غيره. الأشياء في الدنيا على نوعين: مادية وغير مادية، والمادية تحصل بالسبب والمسبب، وتحتاج لإثبات وجودها إلى دليل خارجي. وأما غير المادية فليست بحاجة إلى سبب ومسبب ودليل خارجي، وإنما تشكل بنفسها دليلا على وجودها..  كما قيل بالفارسية: “آفتاب آمد دليلِ آفتاب”.. أي الشمس نفسها دليل على وجودها. وحيث أن المسيح عليه السلام احتاج لإثبات صدقه إلى أدلة خارجية فثبت أنه مخلوق وليس بخالق، والمخلوق لا يمكن أن يكون إلها.

ثم إن قوله تعالى: “وأيدناه بروح القدس” أيضًا يوضح أن المسيح كان بحاجة إلى مساعدة الآخرين، ومن احتاج مساعدة من غيره كيف يكون إلها؟ إنما يحتاج إلى مساندة الآخرين الضعيف؛ ومن المستحيل أن يسمى الضعيف إلها أو ابن إله. فكلمة “أيدناه” تنفي وجود شيء كالألوهية في ذات المسيح، موضحة أن الله تعالى هو الذي زكى المسيح وقدسه، وبدونه فلم يكن المسيح إلا مجرد مضغة من اللحم.

وإذن فهذه الكلمات ليست دليلا على ألوهية المسيح.. وإنما هي ضربة قاضية على الزعم بألوهيته.

ويبين الله في قوله “أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم..  ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون” أن الأنبياء يبعثون عند انحراف الناس عن جادة الحق، ولذلك لا بد أن تكون تعاليمه بخلاف ما عند القوم من اتجاهات وآراء. ولكن من عادة اليهود رفض كل ما يتنافى مع آرائهم.. ومن أجل ذلك عاملوا كل نبي باستكبار. وإذا كانوا قد كذبوا بعضهم باللسان فقد خططوا لقتل البعض الآخرين. فالله تعالى يذكر اليهود بشقاوتهم هذه ويقول: ما دمتم مصممين على الإنكار والرفض.. فكيف نصدق قولكم أنه لو بعث نبي من بني إسحاق لصدقناه؟ فقولكم هذا كذب صريح ولا شك.

وقوله تعالى “ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون” قد يعني أنه كذبتم بعضا منهم وقتلتم بعضهم كما استشهد سيدنا يحيى عليه السلام. ولكن حيث إن الله قد فرق بين صيغتي “كذبتم” و”تقتلون” لذلك قد يكون في هذه إشارة إلى محاولة اليهود لقتل النبي . والمعنى: أما الأنبياء الصادقون فكذبتموهم وأما هذا النبي فتحاولون قتله أو قتاله. فتكون تقتلون بمعنى تقاتلون. ومهما يكن، فإنكم لم يتحسن حالكم ، بل زدتم سوءا، ولم تدخروا وسعا في معارضة رسل الله تعالى.

 وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ (89).

شرح الكلمات:

غُلف: جمع غِلاف وأغلف. وهو الذي لم يُختن بعد. ويقولون: قلب أغلف أي لا يعي شيئا وسيف أغلف: أي أنه في غلاف لا يمكن أن يدخل فيه شيء (الأقرب).

التفسير:

إذا ما يفشل الإنسان في دحض حقيقة من الحقائق بالأدلة والبراهين، ولا ينوي قبولها.. فانه يتهرب منها ويتشبث بأعذار سخيفة. وتسوق هذه الآية عذرا من أعذار اليهود السخيفة..  حاولوا به التهرب من قبول الإسلام. وفي هذا الزمن أيضًا يحاول المتعندون اللجوء إلى مثل هذه المعاذير تهربا من قبول الحقائق التي بعث بها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى العالم.

إذا اعتبرنا كلمة ’غلف‘ جمع ’غلاف‘.. كان مرادهم من قولهم “قلوبنا غلف أن الله تعالى قد غطى قلوبنا كما تغطى الأشياء النفيسة الثمينة بغلاف يحفظها كي لا تتسخ.. فلا تظنوا أننا سنتأثر من كلامكم. كأنهم يقولون: ماذا تظنون بنا؟ إننا أصحاب قلوب طاهرة مبرأة من كل دنس، فلم نتأثر من كلامكم السخيف، ولقد جعلنا الله في مأمن من تأثيراتكم النجسة.

ولو اعتبرنا كلمة ’غلف‘ جمع ’أغلف‘ وهو الذي لا يفهم شيئا.. كان المراد من قولهم “قلوبنا غلف” أنهم حينما يعرض عليهم المسلمون الأدلة والبراهين فإنهم يتهربون منهم قائلين: قد يكون صحيحا ما تقولونه، ولكننا قوم جاهلون فلا نقدر على فهمه. فيعني بعضهم بهذا القول أننا لا نريد أن نتناقش معكم، فاذهبوا إلى علمائنا تناقشوا معهم واتركونا. بينما يكون هذا القول من بعضهم على سبيل السخرية، أو بتعبير آخر: نحن لا نفهم هذه الأمور مع أننا ذوو عقل وفهم، فكيف يمكن أن تفهموها أنتم؟ أو أنكم تظنون بنا أن الله قد عاقبنا فجعل قلوبنا في غطاء، فلماذا تأتوننا بعد ذلك وتشرحون لنا هذه الأمور ؟

وإذا اعتبرنا ’غلف‘ بمعنى ’كنوز العلم‘.. فالمراد أن قلوبنا كنوز العلم ولسنا بحاجة إلى معارف جديدة.

وقد يعني قولهم “قلوبنا غلف” أن قلوبنا نجسة. وهذا يعني أنهم عندما يعجزون عن الجواب يتهربون قائلين: نحن قوم نَجَس، فاتركونا وشأننا وناقشوا أحدا غيرنا. ذلك بالرغم من أن هدى الله لا ينـزل إلا ليهتدي به الذين هم نَجس.

وقد يكون قولهم هذا نفورا من المسلمين، بمعنى: لماذا تنصحوننا ما دمتم تروننا نجسا غير طاهرين.

“بل لعنهم الله” يقول الله سبحانه وتعالى: سواء أكان قولهم ’قلوبنا غلف‘ تهربا من النقاش، أو سخرية بالمسلمين، أو تفاخرا بما لديهم من علم.. فإن لعنة الله قد صُبَّت عليهم فعلا، وهي التي سببت حرمانهم من قبول الحق.

وكلمة”بكفرهم” تبين أن نزول اللعنة عليهم يرجع إلى كفرهم برسل الله ومعارضتهم إياهم.. فما هم بأغبياء حتى لا يفقهوا قولكم، ولا هم عقلاء جدا حتى يستغنوا عن أي نصح وإرشاد؛ وإنما السبب الحقيقي هو أن الله تعالى قد لعنهم، مما جعلهم الآن يصرون على إنكار تعاليم الإسلام رغم كونها أفضل من التعاليم الأخرى، وتقبَلُها الفطرة الإنسانية ويطمئن إليها العقل السليم.

كما أن قوله ” لعنهم الله بكفرهم ” يكشف عن حقيقة.. هي أن الله تعالى لا يلعن أحدًا دونما سبب، وإنما السبب الحقيقي لذلك هو كفرهم وإلا فإن الله الرؤوف الرحيم بعباده لا يحرمهم من حبه ورحمته. إنه -تعالى- لا يسد أبواب قربه في وجوههم إلا إذا أغلقوا بأيديهم أبواب رحمته لهم.

ويمكن أن يفهم قوله تعالى” فقليلا ما يؤمنون” بطريقتين: أولا- أنهم يؤمنون إيمانًا قليلا ناقصا، بمعنى أنهم يؤمنون ببعض الأمور ويكفرون ببعض.. كما سبق أن حكى الله عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.

وثانيا-أنهم لا يؤمنون أصلا.. لأن لفظة ’قليلا‘ تأتى للنفي أيضًا.. فقد كتب العلامة أبو البقاء أنه يمكن اعتبار ’ما‘ نافية، والتقدير أنهم لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا (إملاء ما من به الرحمن)،أي أنهم محرومون من الإيمان كل الحرمان.

Share via
تابعونا على الفايس بوك