طرق الإِصلاح الثلاثة

بعثة رسول الله عند الضرورة القصوى

أعود الآن إِلى كلامي السابق وأقول كما مر ذكره آنفًا.. أن للحالات البشرية ثلاثة مظاهر نفسية.. وهي النفس الأمّارة والنفس اللوّامة والنفس المطمئنة. وكذلك للإِصلاح طرق ثلاثة توازي هذه المظاهر بالتمام.

فالطريق الأول، هو القيام بتعليم المتوحشين الأغمار، والنهوض بهم من حالة التوحش إلى الدرجة الدنيا من الأخلاق، وذلك فيما يتعلق بآداب الأكل والشرب والزواج.. وما شابه ذلك من أمور التمدن البسيط، فلا يمشون عراة.. ولا يأكلون الجيف كالكلاب.. ولا يأتون بشيء من أفعال الهمجية. وإِن هذه لأدنى درجة من درجات إِصلاح الحالات النفسية. وهذا هو طريق الذي ينبغي أن يُتّبع فيما لو أُريد مثلا تأنيس أحد الهمج، فيؤخذ في تعليمه أولاً فأولاً بالأدنى والأسهل من الأخلاق والآداب الإنسانية.

والطريق الثاني.. هو أنه متى تمكّن المرء من المبادئ الإِنسانية الأولى.. واستعد لقبول ما فوقها.. وجب حينئذ أن يُعَلّم الأخلاق الفاضلة.. وأن يستعمل قواه الكامنة في مواضعها.

والطريق الثالث.. هو نفخ روح الحب والذوق في قلوب أولئك الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق.. ولكنهم لا يزالون محرومين من لذة الوصال الرباني، فيجب والحالة هذه أن يُسقوا رحيق المحبة ويُذاقوا لذة الوصال.

هذه هي مدارج الثلاث من الإٍصلاح، وهي التي بيّنها القرآن المجيد، وكانت من أجلها بعثة مولانا وسيدنا محمد .. في زمن كان العالم فيه قد فسد وخرب من كل الوجوه كما يصفه الله تعالى بقوله:

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (الروم: 42)

وفساد البر والبحر إِنما يشير إِلى أن الفساد قد عمّ أمم البشر ولم يشذ منهم لا أهل الكتاب ولا غيرهم من الأمم التي كانت محرومة من الوحي الرباني. وعليه فإِن هدف القرآن المجيد الحقيقي هو إِحياء الموتى كما يقول سبحانه:

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يُحْيِي الْأَرْ‌ضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الحديد: 18)

ولا ريب أن العرب كانوا يومئذ في أحط دركات الهمجية، ولم يكن لديهم أي نظام بشري يضبطهم عند حد معلوم. وكانت المعاصي عندهم مفاخر يتباهون بها علنًا، وكان الواحد منهم يقتني عددًا عديدًا من الأزواج. وكان أكل السُّحت عندهم سائغًا كأنه الحلو الحلال، وكانوا يستبيحون المحارم كلها حتى أنهم استحلوا ما نكح آباؤهم من النساء، ولأجل ذلك جاء تحريمهن في القرآن الكريم في الآية:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ  (النساء: 24)

كذلك كانوا يأكلون لحم الجيف، وكان منهم أكلة لحم البشر أيضًا. ولم تكن من مأثمة في العالم إِلا وكانوا يأتونها دون أدني حياء. كان أكثرهم يكفرون بالله وينكرون يوم الحساب، وكانوا يئدون البنات بأيديهم، ويقتلون الأيتام ليأكلوا أموالهم أكلاً لمـــًّا. فهم في الظاهر أناس.. إِلا أنهم كانوا كالأنعام فاقدي العقول، لا حياء عندهم ولا حشمة ولا غيرة. إِن هم إِلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا. كانوا يعاقرون الخمر كالماء، وكان أزناهم أسبقهم إلى الرئاسة، وكانوا من الجهالة بحيث أنهم اشتهروا بين الأمم المجاورة باسم الأميين.

القرآن هو الهدي الكامل في إِصلاح الحالات الثلاث

في مثل هذا الزمان.. ولإصلاح هؤلاء الأقوام.. ظهر في مكة سيدنا محمد فلا شك أن زمانه كان يقتضي بالحق الإِصلاحات الثلاثة التي ذكرناها آنفًا، وقد اشتمل عليها القرآن المجيد بأجمعها، وقرر أنه أكمل وأتم هداية بالنسبة إلى جميع هدايات العالم، وذلك لأن الصحف الأولى لم تصادف جميع الحالات المستوجبة للإصلاح، بينما صادفها القرآن المجيد. وكان هدفه أن يجعل من البشر الوحش إِنسانًا متمدنًا، ومن الإِنسان الأخلاقي إِنسانًا ربانيا، ولذلك فقد أحاط القرآن المجيد بهذه الأمور الثلاثة إِحاطة تامة.

القرآن ومثله الأعلى

قبل أن نفصِّل حالات الإِصلاح الثلاثة، نرى من الضروري أيضًا أن نذكر هنا أنه لا يوجد في القرآن الحكيم تعليم يُكرِه الإِنسان على قبوله. إِن الإِصلاحات الثلاثة هي مقصود القرآن كله، وهي لباب جميع تعاليمه وأوامره. وأما الأحكام الباقية فهي كالوسائل للإِصلاحات المقصودة ليس إِلاّ، وكما أن الطبيب يتذرع في معالجة المرض واسترداد الصحة تارة بالمبضع والتشريح طورًا بالتضميد والتدهين. كذلك فعل القرآن الحكيم.. بأن استعمل تلك اللوازم في محلها رحمة بالبشر، وأنّ جميع ما جاء في القرآن المجيد من المعارف والوصايا والوسائل.. إِنما ترمي إلى غاية واحدة.. ألا وهي انتشال الإنسان من حالته الطبعية والوصول به إلى الحالات الأخلاقية، ومن ثم إيراده بحر الروحانية الذي لا نهاية له.

الفارق بين الحالات الطبعية والأخلاقية

قلنا فيما سبق آنفًا أن الحالات الأخلاقية لا تختلف عن الحالات الطبعية.. بل هي عين الحالات الطبعية التي تتحول بعد تعديلها واستعمالها في محلها حسب توجيه العقل إِلى الأخلاق. وإِلا فإن تلك الحالات مهما شابهت الأخلاق في ظاهرها لا تكون قبل خضوعها للعقل سوى اندفاع الطبع المجرّد من الإرادة. كلا، إِننا لا نعتبر الكلب ذا خلق ولا الماعز ذا أدب من أجل أنهما يألفان صاحبهما ويتذللان له، كما أننا لا نسمي الأسد ذميم الأخلاق لشراسة طبعه. بل إِن الحالة الأخلاقية كما تقدم تبتدئ بعد ظهور الحصافة والحزم، وبعد الاطلاع على مقتضيات الظروف. فالإنسان الذي لم تنمُ بصيرته في شؤونه لا يزال كمثل الطفل الرضيع الذي لم تنمُ فيه القوة العقلية بعد، أو هو كالمجنون الذي فقد قوى العقل والفكر تمامًا.  ولا يخفى أن مثل هذا الإنسان قد تصدر منه أحيانًا أفعال تشابه الأخلاق. ولكن العاقل لا يُعدُّها من الأخلاق في شيء لأنها لا تصدر من مصدر التمييز والبصيرة، بل تنبعث من تلقاء نفسها كلما سنح لها محرك. وذلك كالطفل.. فإِنه حالما يولد يُقبل على ثدي أمه، والفرخ بعد الفقس يركض نحو الحَبِّ، وكذا صغار العلق ترث عادات كبارها، وأولاد الأفاعي تبدي عادات الأفاعي. والأشبال تظهر طباع الأسود. وانظروا بالأخص إِلى الطفل البشري كيف يبدي طبائع البشرية حين ولادته، فمتى بلغ سَنة أو سنتين من عمره.. تكشفت تلك الطبائع أكثر فأكثر، فلا يبكي مثلا كبكائه الأول بل يرفعه قليلا ويصير ضحكة قهقهة، وتلوح في نظراته أمارات التعمد والتأمل. وكذلك يبدو منه في هذا العمر ميل جديد. فهو يظهر رضاه وسخطه بحركاته. ويعطي ويمنع بإرادته. ومع هذا فلا تكون هذه الحركات إلا الطبعية.

وكمثل الطفل يكون الإنسان الهمج المتوحش الذي لم يُعط من العقل إِلا القليل، فإنه أيضًا لا يزال يتبع ميول طبعه، ويذعن لها في جميع أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فلا يصدر منه شيء عن تفكير قواه الباطنة وتدبيرها، بل كل ما ينشأ في نفسه إِنما ينشأ عن طبع واستجابة للبواعث الخارجية. نعم، قد لا تكون جميع ميوله الطبيعية التي تصدر منه بدافع تلك البواعث شرًا، بل يمكن أن يكون بعضها مشابهًا للأخلاق، غير أنها تخلو من التفكير وإِمعان النظر، وإِذا صاحبها بعض التعقل فلا اعتبار له البتَّة بسبب غلبة نوازع النفس وبواعث الطبع، لأن الاعتبار إِنما يكون بجانب الكثرة.

الأخلاق الحقيقة

وزبدة القول أنه لا يجوز أن تنسب الأخلاق الحقيقة إِلى من كان أسيرًا للميول الطبعية كمثل البهائم والمجانين والأطفال، ومن يعيش عيشة الوحوش في معظم الأحوال. إِن فترة الأخلاق الصالحة أو غير الصالحة تبتدئ في الحقيقة متى ينضج عقل الإنسان ويستطيع أن يميّز بين الخير والشر. أو بين الشرّين أو خيرين، فيجد في نفسه حسرة متى حاد عن الطريق الصالح، ويندم ويأسف على ما اقترفه من سوء. هذا هو الدور الثاني من أدوار الحياة البشرية الذي عبر عنه كلام الله القدسي في القرآن المجيد بالنفس اللوامة.

ولكن لا يغيبن عن البال أن المتوحش لا يكفيه الوعظ السطحي البسيط وحده كي يصل إِلى درجة النفس اللوامة، بل لا بد من معرفة الله من أجل أن تنشأ الأخلاق الخالصة الصادقة. لذلك نبَّه القرآن الحكيم فيما وعظ به الإِنسان إِلى معرفة الإله الحق، أكّد له أن لكل عمل أو خُلق نتيجة تورث صاحبه في الدنيا نعيمًا أو عذابًا روحانيًا، ثم تنكشف تلك النتيجة في الحياة الآخرة انكشافًا ظاهرًا. والخلاصة أن الإِنسان في حالة النفس اللوامة يكون على شيء من العقل والعرفان والوجدان الصحيح فيلوم نفسه على عمل السوء ولا يفتأ يتوق إلى العمل الصالح. وهذه الحالة هي تلك الدرجة التي يكتسب فيها الإِنسان الأخلاق الفاضلة.

تعريف الأخلاق

ويجدر بي أن أعرّف كلمة الخُلق بالاختصار، فاعلموا أن الخَلق (بفتح الخاء) اسم للتكوين الظاهري، وأن الخُلُق (بضم الخاء) اسم للتكوين الباطني. وبما أن الخلقة الباطنة تتكامل بالأخلاق وليس بالميول الطبعية وحدها، لذلك أُطلق لفظ الخُلُق على الأخلاق دون الميول الطبعية. ومن المناسب أيضًا أن أخبركم أنه من الخطأ الفاحش ما يزعمه الناس عامة أن الخُلُق إِنما هو عبارة عن الحلم والعطف والتواضع. كلا، بل المراد بالخُلُق جميع كيفيات الكمال البشري التي أُودعت في باطن الِإنسان بإزاء أعضائه الظاهرية. مثلا.. يبكي الإِنسان بإزاء أعضائه الظاهرية. مثلا.. يبكي الإِنسان بالعين، وتقابل هذا البكاء حالة في النفس هي رقة الفؤاد، فإِذا استعملها الإِنسان في مكانها بواسطة العقل الموهوب له كانت هذه الحالة خُلُقًا. وكذلك يقاوم الإِنسان العدو بيديه وتوازي هذه الحركة الظاهرية قوة في النفس، وتلك هي الشجاعة، فإِن استخدمها الإِنسان طبقًا للحال والمحل كانت هي أيضًا خُلُقًا. وكذا يريد الإِنسان أحيانًا إِنقاذ المظلوم أو إِعطاء العاجز المعدم شيئًا يقتضيه بيديه، أو يريد أن يخدم بني نوعه بطريق آخر. فهذه الحركة تماثلها في النفس حالة هي الرحمة. وآونة يهُبّ فيعاقب الظالم بيديه، وفي النفس كيفية نظير هذه الحركة الجسدية نسميها الإنتقام. وتارة يستنكف من أن يقابله بالمثل فيصفح عنه، وبإِزاء هذه الحركة كيفية نفسية نسميها العفو والصبر. وطورًا يستخدم يديه أو رجليه أو رأسه ابتغاء الخير لبني نوعه، ويبذل آخر بضاعته في ترفيه أحوالهم، وتوجد بموازاة هذه الحركة في النفس كيفية ندعوها باسم السخاء والجود. فإذا استعمل الإنسان جميع هذه القوى في محلها وظروفها الملائمة كان اسمها أخلاقًا.

الأسوة الكاملة في الأخلاق الفاضلة

يخاطب الله تعالى نبينا بقوله:

وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:5)

ومعنى هذه الآية طبقًا للشرح المذكور، أنك مستوعب لجميع أقسام الأخلاق من عدل وإحسان وسخاء وجود ورحمة ورأفة وصدق وثبات وشجاعة وشهامة وما شاكل ذلك. وقصارى القول.. إن جميع الكيفيات التي توجد في الإنسان مثل الحشمة والحياء والمروءة والأمانة والعفة والنزاهة والزهد والغيرة والشفقة والمواساة والاعتدال والاستقامة والجود والكرم والصبر والقناعة والعفو والإحسان والصدق والوفاء وما شابهها من الحالات الطبعية إذا أظهرها الإنسان في أوقاتها المناسبة ووضعها في مواضعها بإعمال الفكر وإيماء العقل، كانت كلها أخلاقًا. وهي إن كانت في الأصل غرائز الإنسان وشهواته الطبعية، إِنما تُسمى أخلاقًا عندما يتصرف فيها بالإرادة حسب اقتضاء الزمان والمكان. وبما أن من خصائص الإنسان أنه قابل للرقي والتقدم فهو لذلك يستطيع أن يبدِّل طباعه إلى أخلاق باتباع الدين الحق، والتعاليم الملائمة، والصحبة الصالحة، الأمر الذي لا يتّصف به حيوان آخر.

الإصلاح الأول

إصلاح الحالات الطبعية

نبذة من الآداب الابتدائية

نذكر الآن الإصلاح الأول من إصلاحات القرآن المجيد الثلاثة، الذي يهدف إلى تقويم أدنى الحالات الطبعية. وهذا القسم من الأقسام الثلاثة للإصلاح هو الذي يُسمى بالأدب، وأعني به الأدب الذي يجعل المتوحشين على مستوى الاعتدال في أوضاعهم الطبعية مثل الأكل والشرب والزواج وغير ذلك من أمور التمدن الابتدائي، وينجيهم من الحياة الوحشية، حياة البهائم والسباع، كما بيّن الله تعالى جميع هذه الآداب في كتابه العزيز بقوله:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (النساء: 24)

وقوله:

لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا (النساء: 20)

وقوله:

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (النساء: 23)

وقوله:

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (المائدة: 6)

كانت نساء بعض جهلاء العرب إذا لم يولد لهن ولد طلبنه بالزنا، فالمسافحة هي هذه العادة القبيحة وقد حرّمها الله تعالى عليهم.

وقوله:

وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (النساء: 30)

وقوله:

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ (الأنعام :152)

وقوله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ (النور: 28-29)

وقوله:

وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا (البقرة: 190)

وقوله:

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء: 87)

وقوله:

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 91)

وقوله:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ  (المائدة:4)

وقوله:

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ    (المائدة:5)

وقوله:

إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا  (المجادلة:12)

وقوله:

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا (الأعراف:22)

وقوله:

وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (الأحزاب:71)

أي اجتنبوا اللغو من القول وإذا نطقتم فانطقوا بما يليق بالمقام.

وقوله:

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (المدثر: 5-6)

أي صونوا البدن والبيت والطريق وكل مجلس ومقام من الأوساخ والأقذار، واعتنوا بالنظافة بجميع الوسائل.

وقوله:

وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (لقمان: 20)

أي الزم الوسط في سيرك فلا تبالغ في السرعة أو في البطء، والزم الاعتدال في صوتك فلا ترفعه كثيرًا ولا تخفضه كثيرًا.

وقوله:

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (البقرة: 198)

وقوله:

وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا   (المائدة: 7)

وقوله:

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات:20)

أي أعطوا السائل والمحروم الذي لم يوهب قوة النطق سواء كان من البشر أو الحيوانات الداجنة والطيور التي تطوف بالدور.

وقوله:

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا ، وآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (النساء: 4-5)

وقد حدد الله تعالى عدد الزوجات بالأربع منعًا لهم من عاداتهم القديمة في الإفراط الزائد في أمر الزواج، وإنقاذًا لهم من السقوط في هوّة الزنا.

وملخص القول: إن هذه الآيات تتضمن الإصلاح الأول الذي يحوّل اتجاه الإنسان من طرقه الهمجية إلى لوازم البشرية ومبادئ التمدن والحياة الاجتماعية، دون أن يتصل بالمثل العليا، فما هو إلا آداب الإنسان الابتدائية. وقد قلنا سابقًا أن الضرورة التي اقتضت هذا التعليم الابتدائي هي أن الأمّة العربية التي بُعث سيدنا محمد لإصلاحها.. كانت أحط الأمم قاطبة باعتبار الحالة الهمجية، حتى أنها لم يكن قد بقي لديها من الآداب البشرية من شيء أبدًا في أي شأن من الشؤون، لذلك كان من الضروري تعليمها هذه الآداب الأولية قبل كل شيء.

العلّة في تحريم الخنزير وغيره

ههنا حكمة جديرة بالذكر، وهي أن الله حرّم الخنزير وجعل في اسمه ما يشير إلى تحريمه أصلاً، لأن لفظ الخنزير مركب من كلمتين هما (الخنز) أي الفاسد جدًا، وكلمة (أر) وهي مشتقة من أرى، فيكون معنى الاسم المركّب: (أراه فاسدًا جدًا)، فالاسم الذي سمى الله به هذا الحيوان منذ الابتداء إنما يدل على خبثه. ومن الاتفاق العجيب أن اسمه في الهندية (سؤر) وهذا أيضًا مركب من كلمتين: (سوء) و (أر) أي أراه سوءًا.

ولا ينبغي أن يُستغرب هذا القول إذ أننا أثبتنا في كتابنا (منّن الرحمن) أن العربية هي أمّ الألسنة بأجمعها، وأن كلماتها توجد في جميع اللغات كثيرة.

إن كلمة (سوء) عربية ومرادفها في الهندية (بد) ولهذا يدعى الحيوان المذكور في هذه البلاد (بد) أيضًا. ويبدو أن الحيوان المذكور كان مشهورًا في البلاد الهندية بالاسم العربي المرادف للخنزير حينما كانت العربية رائجة في أنحاء العالم، ثم لم يزل فيها حتى الآن كأثر مذكور، وإن كان قد طرأ على هذا الاسم في لغة (سنسكريت)10، من النحت والقلب ما غيّر شكله الأصلي، ولكن الاسم الصحيح الموضوع للحيوان المذكور هو ذلك الاسم لا غير، لأنه يشتمل على علّة التسمية التي يدل عليها لفظ (الخنزير) وأما معنى (فاسد جدًا) فهو لا يحتاج إلى شرح مستفيض.

من ذا الذي لا يدري أن هذا الحيوان أشد حرصًا على أكل النجاسات من جميع الحيوانات الأخرى وأنه فوق ذلك وقح ديّوث. والعلّة في تحريمه ظاهرة من أن قانون الفطرة يقضي بأن يكون تأثير لحم هذا الحيوان النجس الخبيث في الجسم والروح تأثيرًا خبيثًا. وقد أثبتنا فيما مضى أن الأغذية تفعل فعلها لا محالة في جسم الإنسان، فهل بعد ذلك من شك في أن تأثير الخبيث خبيث؟ ولقد كان الأطباء اليونانيون من قبل الإسلام يرون أن لحم هذا الحيوان يقلل من الحياء، ويزيد في الشهوة والديّوثية على وجه الخصوص.

والميتة أيضًا لم تُحرَّم في الشريعة الإسلامية إلاّ لأنها تصبغ آكلها بصبغتها، وتُوضر روحه بوَضرها11، كما أنها تضر بالصحة الجسمانية. ويدخل في حكم الميتة جميع الحيوانات التي يبقى دمها بداخلها عند الموت كالمنخنقة والموقوذة12. وهل يمكن أن يستمر الدم على حالته الأصلية إذا بقي في بدن الميت؟ كلا، لا يمكن ذلك البتّة، بل لا يلبث أن يفسد لأنه رطب، ويسري فساده إلى سائر الجسم وتصبح خلايا الدم متعفنة إلى حد التسمم.  (يتبع)

معاني المفردات

10- سنسكريت : لغة العلم في الهند.

11- توضره بوضرها: تلوثه بوسخها ودنسها.

12- الموقوذة: المضروبة حتى الموت.

Share via
تابعونا على الفايس بوك