في عالم التفسير
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (الكهف: 75)

المفردات: قتل معناه أمات، قضى على شهواته. قتل الشراب يعني قلل من مفعول الخمرة بمزجها بالماء. يقولون قتل الجوع أو البرد يعني قلل من شدة الجوع أو البرد، قتل غليله يعني أطفأ عطشه بسقيه الماء.

التفسير:

هذا الجزء من رؤيا موسى مطابق للجزء الثاني من رؤيا النبي ، عندما رأى النبي رجلاً يناديه من وراء الطريق، وقدم له كأسًا من الخمر، لكنه رفض قبوله، فقال له جبريل بأن الرجل الذي ناداه كان الشيطان، وأن كأس الخمر كانت تعني الانحراف عن الطريق السوي (تفسير ابن جرير). كذلك في الجزء الثاني من رؤيا موسى عرض له غلام، والغلام في لغة الرؤى يشير إلى الجهل والقوة وحب المتعة الجنسية. ومعارضة موسى قتل ذلك الغلام على يد ذلك العبد الصالح في الرؤيا تعني أن الإسلام سيلزم أتباعه أن يقتلوا انفعالاتهم وشهواتهم البهيمية، لكن محبي اللهو من اليهود والنصارى سيعيبون هذه التعاليم الإسلامية.

وكلمة (انطلقا) التي استعملت عدة مرات في هذه الآيات هي اللفظ نفسه الذي استعمله جبريل أثناء رؤيا النبي ، أي قول جبريل: “انطلق، انطلق”.

والعبارة (حتى إذا لقيا غلامًا فقتله) قد تشير إلى قتل كعب بن الأشرف عدو الإسلام اللدود على يد جماعة من المسلمين، والذي كان على رأس اليهود الأشرار في المدينة. (ابن هشام).

كذلك توضح هذه الآية أن سفر موسى الذي جاءت هذه الآيات على ذكره تم أثناء الرؤيا، لأنه لا يجرؤ إنسان كامل القوى العقلية على قتل شخص بريء في اليقظة بدون مبرر شرعي.

قالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي  قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (الكهف: 76-77)

التفسير:

تبين هاتان الآيتان أن اليهود، أتباع موسى، سينقُضون عهودهم مع النبي مرة بعد أخرى إلى أن تنقطع العلاقات بينه وبينهم كلية.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (الكهف: 78)

التفسير:

أهل قرية في المنام تعني شعبًا أو أكثر، وطلب الطعام (استطعام) يعني طلب تعاونهم في عمل خير. طبقًا لهذا المفهوم للفظ (أهل القرية) يكون معنى الآية أن موسى ومحمد عليهما السلام، سيطلبان تعاون اليهود والنصارى، لكن هذا التعاون لن يُعطى لأي منهما. وهذا ما ظهر من اليهود عندما رفضوا كلية أن يتعاونوا مع موسى عندما دعاهم لاحتلال كنعان. وقد جاء ذكر ذلك في القرآن (المائدة 22-25). كذلك لم يستطع النبي في الحصول على تعاون المسيحيين حتى في أسمى وأرفع الأمور كإرساء التوحيد على الأرض، بذلك يصرح القرآن الكريم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 65).

وحسب (تعطير الأنام) يعني الجدارُ المشرفُ على الانهيار، زعيم شعب أو عالمـًــا أضاع ماله، وإصلاح ذلك الجدار يشير إلى إرجاع ذلك المال الضائع إلى صاحبه. فبالنظر إلى هذه التفسيرات يشير لفظ (فوجدا جدارًا يريد أن ينقضّ) إلى أن قادة اليهود والنصارى سيفقدون تأثيرهم على أتباعهم كلية، وإصلاح الجدار ردّ هذا النفوذ إلى هؤلاء القادة.

ويمكن اعتبار هذه الكلمات بأنها تشير إلى التقدم الذي أحرزه اليهود بواسطة موسى ، والتقدم الذي أحرزه بنو إسماعيل بواسطة النبي .

ولفظ (قال لو شئت لاتَّخذتَ عليه أجرًا) قد يعني أن غريزة العمل والمتاجرة عند اليهود والنصارى ستقوى إلى حد أنهم لا يقومون بعمل بدون أخذهم الأجر عليه.

قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ  سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (الكهف: 79)

التفسير:

عندما رأى ذلك العبد الصالح أن موسى (أي أتباعه)، رغم طلبه المخلص بأن يتعاونوا معه لنشر التعاليم المشتركة، لم يغيروا من موقفهم السلبي نحوه، وتبرمهم منه ومعاداتهم له.. أدرك أن عليه أن يقطع علاقاته معهم.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (الكهف: 80)

التفسير:

بهذه الآية يبدأ شرح الوقائع السالفة الذكر كما يرويها ذلك العبد الصالح الوارد ذكره في رؤيا موسى . فكلمة (مساكين) هنا تعني أرقاء القلوب الذين لا يغريهم رغَدُ العيش ولا كثرة الغنى عن العطف على المحرومين والفقراء، والحفاظ عليهم ومعاشرتهم. وكلمة (ملك) تعني حب الدنيا والتعلق بالماديات؛ فيكون معنى الآية إذًا أن أبناء الظلام هؤلاء المتكبرين المغرورين، والذين يستنكفون عن إنفاق أموالهم في أغراض خيرية يتيهون كلية في حب هذه الدنيا، ويقعون فريسة هينة للشيطان. ولهذا حاول النبي أن يخرق سفينة أمته؛ فوضع لها الشرائع التي جعلت حبهم للآخرة يخرق حبهم للدنيا. فينفقون من أموالهم للمظلومين والمستضعفين، ويؤازرونهم، ويتعاطفون معهم، بدل أن يضيقوا عليهم.

ومما يجدر بالذكر أن حب الدنيا في رؤيا النبي قد ظهر على شكل امرأة عجوز، بينما ظهر في رؤيا موسى على شكل ملك جبار. وفي ذلك دلالة على أن أثر حب الدنيا والتمتع بها يكون لدى أتباع محمد أقل منه عند أتباع موسى .

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (الكهف: 81)

التفسير:

كما جاء في الآية 75 السالفة، يعني لفظ غلام في المنام قوة أو جهلاً أو طيشًا. وكلمة قتل تعني تقليل أو تقليص أثر الشيء أو حدته كما سبق. فيكون معنى قتل الغلام تقليص أو تقليل الأثر السيء للجهل أو للقوة الزائدة والطيش الذي لا ضابط له. وكلمة (أبواه) هنا تعني الجسد البشري والروح، لأن الأبوين أو المصدر الذي تنتج عنه جميع الخصال الأخلاقية هو مركب الجسد البشري والروح، وهو الإنسان نفسه. فقتل الغلام في المنام يعني ضبط شعور الإنسان من أن يطلق له العنان، والتقليل من حدة هذا الشعور وشدته. لذا قتل الغلام بواسطة العبد الصالح كي لا ينحرف (أبواه) إلى الكفر والتمرد، كما ظهر في رؤيا موسى ، يدل على أن الإنسان قد مُنح من الله طاقات طبيعية عظيمة يقدر معها على القيام بأجلّ الأعمال الصالحة. وحتى تعمل هذه القوى أودعت في الإنسان قابلية الحركة والقدرة والجهل. وممكن للإنسان أن يحقق الغرض الأسمى من حياته بتسخير هذه الطاقات التي تنبع من الجسد والروح معًا. لكن هذه الطاقات إن لم تخضع لرقابة سليمة فإنها تؤدي بالإنسان إلى الكفر والطغيان. لقد وُضعت هذه الطاقات تحت رقابة صحيحة وسليمة، وكُبح جموحها بواسطة الشرائع التي أنزلها الله تعالى على نبيه ، كما تشير إلى ذلك حادثة قتل الغلام على يد العبد الصالح في رؤيا موسى.

فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (الكهف: 82)

التفسير: تعني الآية أن الإسلام وضع هذه التشريعات والأوامر حتى يُخضع الإنسان رغباته الحيوانية كلية. وبذلك يعتبر مولدًا روحيًا جديدًا. ولكن أتباع موسى، كما سلف، أرْخوا العِنان لمشاعرهم السفلى، واستسلموا لحياة المتعة والرخاء، فتجاوزوا كل حدود الاعتدال والوقار.

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ  وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي  ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (الكهف: 83)

التفسير:

حسب ما أسلفنا، يمثل الجدار أجداد اليهود، موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام.. الذين يقول القرآن الكريم أنهم فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (البقرة: 131). وكنز يعني كنز العلم الإلهي الذي منح لموسى وعيسى عليهما السلام. وتبين هذه الآية أن الله أودع في القرآن الكريم كنزًا عظيمًا من العلم الإلهي الذي أُنزل على موسى وعيسى لقوله تعالى: فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (البينة: 4).. والذي كان عرضة للضياع بسبب ابتعاد اليهود عن الدين وانهماكهم في شؤون الدنيا.. حتى إذا انتبهوا وأدركوا الحق فإنهم يقبلونه.

ولفظ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ يعني حفظ الله لتلك التعاليم الباقية التي أُنزلت على موسى وعيسى في كتابه، القرآن الكريم، والذي كان رحمة منه تعالى؛ لأن اليهود بتمردهم وإنكارهم فقدوا كل استحقاق للرحمة الإلهية، ولكن الله رحمهم رغم ذنوبهم بأن حفظ لهم كنوزهم من العلوم الروحانية في القرآن الكريم لأجل هدايتهم.

ولفظ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يعني أن النبي لم يكن له ضلعٌ في المحافظة على هذا الكنز من العلوم الروحانية. وهناك إشارة أخرى إلى ذلك، نجدها في الآية وما يَنْطِقُ عنِ الهَوى (النجم: 4).

وبعد تتبع الحوادث المذكورة في الآيات السابقة وشرحها يتضح تمامًا أن رؤيا موسى ذكرت هنا بقصد الإشارة إلى الحقائق التالية:

1.إنه كان مقدرًا من الله، وفقًا لطبيعة الأشياء، أن النبي سيظهر بعد فساد المسيحيين الذين يشكلون الشطر الثاني للديانة الموسوية.

2.حيث إن التعاليم الإسلامية قامت على قوانين وشرائع تختلف اختلافًا أساسيًا عن بعض القوانين والأصول الواردة في الشريعة الموسوية، فإن التعاون الحقيقي الصادق لا يمكن أن يتم بين اليهود والمسلمين، ولا مكان للتفكير في النجاة بدون اتباع المبادئ الإسلامية.

3.إن اليهود والنصارى لن يقبلوا النبي ، بل سيسيرون في طريقهم الخاص، ولكنهم سيدينون له بالولاء في المدى البعيد.

4.إنه بعد سفرٍ مُضنٍ وبعد القنوط واليأس من الوصول إلى سلام حقيقي وهدوء بال عن طريق محاولاتهم اليائسة فإن اليهود والنصارى سيضطرون لإعادة تقويم موقفهم، وسيؤدي بهم الأمر إلى الإدراك بأنه كان عليهم أن يتركوا دياناتهم، لأن تلك الديانات لم تَعُد ذات نفع منذ زمن بعيد.

5.إنه بعد أن يأخذ هذا الإدراك يلوح لدى اليهود والنصارى فستدفعهم الأنباء الواردة عنهم في القرآن الكريم إلى قبول النبي . وبعد قبولهم الإسلام سوف يستسلمون للضوابط والأصول التي تنظم السلوك الأخلاقي، وبكبحهم عواطفهم الجامحة سيخضعون للقدرة الإلهية، فيجلبون بذلك لأنفسهم فضل الله وتغمرهم رحمته تعالى.

وفي الحقيقة يشكل إسراء موسى مقدمة جميلة، وتمهيدًا رائعًا لظهور الديانة الإسلامية التي جاءت لتحل محل الشريعة الموسوية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك