خطبة عيد الأضحى لسيدنا المصلح الموعود رضي الله عنه

خطبة عيد الأضحى

لسيدنا مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه

الخليفة الثاني للإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام

ألقاها في 11 فبراير 1937 بقاديان

 

“إذا متّم ولم تحدثوا انقلابًا في العالم الروحاني.. فكأنكم تموتون كما يموت الحيوان..

لا يأسف لموته أحد في الأرض ولا في السماء”.

بعد تلاوة سورة الفاتحة.. قال حضرته:

“إن عيد الأضحى المبارك يذكرنا بتلك التضحيات التي هي من حيث الشعور الإنساني بمثابة أعظم شيء في رقة العواطف. نرى أن نظام التضحية في العالم سائد في جميع الناس.. أبرارهم وأشرارهم على السواء، والمندمجين في نظام يؤلف بينهم كجماعة، والذين هم بحالة فوضى لا رابطة بينهم، فالجميع من بني الإنسان مُرغم على التضحية، أيًّا كانت تلك التضحية.

إن من الناس من يضحي في سبيل أشياء جيدة مفيدة للمجتمع الإنساني، ومنهم من يضحي من أجل نفسه فقط، ولا تكون لتضحيته علاقة بالمجتمع الذي يرتبط فيه الإنسان مع أخيه الإنسان.

وأعظم تضحية تتعلق بالنفس البشرية هي تضحية الإنسان بأولاده، وهذه التضحية لا يقدم عليها إلا من أوتي صبرًا عظيمًا وجلدًا واسعًا، سواء كانت هذه التضحية في سبيل الخير أو في طريق الشر.

ومن يُنعم النظر يجد أن تسعة وتسعين بالمائة من الناس يضحون بأنفسهم من أجل أولادهم، ليستريح هؤلاء الأولاد بعدهم من عناء المشاكل في هذه الحياة الموَّاجة بشتى المتاعب والأوصاب. ومن هذه الناحية نجد أيضًا منظرًا من أعظم المناظر غرابة وعجبًا، وذلك أن الجد يضحي في سبيل راحة ابنه، والابن يضحي بكل ما يملك في سبيل راحة ولده، وهلم جرّا.

هذه الحقيقة واقعة منذ آدم حتى اليوم، بدون قيد ولا ارتباط بزمن من الأزمان، أو مملكة من الممالك، أو مذهب من المذاهب، أو دين من الأديان. ويستوي في ذلك الغني والفقير، والأمير والصعلوك، والعالم والجاهل. والنفس البشرية كلها في هذا على شاكلة واحدة؛ ولا تجد هناك بين الألوان والأجناس فرقًا، بل الكل في هذا الأمر سواء. نعم إننا نجد منذ ظهور آدم وحواء على هذه الأرض حتى الآن.. وإلى أن تقوم الساعة، أن كل إنسان.. ذكرًا كان أم أنثى، مشغول بالتضحية من أجل أولاده. ويستثنى من ذلك من خرج عن طور الإنسانية، وأصبح من زمرة الحيوانات المتوحشة، كالذين يقدمون على قتل أولادهم.. فهؤلاء ليسوا من عداد البشر، وليس لهم نفسية بشرية، بل إن نفسيتهم، على العكس، نفسية حيوانية متوحشة.

إن ذلك الدافع الذي يدفع الإنسان إلى التضحية لا يمكن أن يخفى على أحد من بني البشر. اذهبوا إلى بيوت الفلاسفة، واذهبوا إلى بيوت البدو.. اذهبوا إلى دور المتمدنين، واذهبوا إلى بيوت الفلاحين القرويين، بل اذهبوا إلى أبعد من ذلك إلى أولئك الذين يعيشون بعيدين عن المجتمع الإنساني في وسط الصحارى النائية، اذهبوا إليهم تجدوا أن الأب والأم يعملان سويًا لراحة الأبناء، ويشتركان معًا في التضحية، ناسين أو متناسين قيمة أنفسهم في الحياة، بل نراهم على استعداد لأن يضحوا بآخر رمق من حياتهم في سبيل إسعاد أبنائهم.

وإنكم لتجدونهم جميعًا يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم لم يأتوا إلى هذه الحياة إلا لكي يهيئوا أنفسهم للتضحية من أجل أبنائهم، ولن تجدوا واحدًا من هؤلاء الآباء يشذ عن هذه القاعدة. نعم يخطئ البعض في طريق إسعاد أولادهم، ولكنهم لا يخطئون في الإحساس القلبي والدافع الوجداني الذي يجعلهم يقفون حياتهم على هؤلاء الأبناء. وإني أقدم لكم على ذلك مثلاً، هناك أم متعلمة ترى أن شفاء ابنها المريض لا يكون إلا بإعطائه دواء مرًّا بالرغم منه، فتأخذ برأسه، وتفتح فمه، وتضع ملعقة الدواء فيه، وهو يبكي ويصرخ، وهي تتألم لبكائه، ولكنها لا تتركه حتى تسقيه الدواء. وهناك أم أخرى جاهلة، حينما ترى أن الأب أتى بالدواء المر إلى ابنها، ووجدت الابن يبكي ويعول، فتتدخل وتطلب إلى الأب أن يعفيه عن شرب هذا الدواء، ظنًّا منها أن هذا الدواء لا يفيده، بل يؤذيه.

فالأُمّان كلتاهما عندهما عاطفة الحب لابنيهما، ولكن ألم الجاهلة أخطأت في تقدير تلك العاطفة، وأما الأم المتعلمة فقد سارت على المنهج القويم في تقديرها لتلك العاطفة.

ومن هنا تعرفون أن محبة الآباء للأبناء موجودة في كل جنس من الأجناس البشرية، شرقًا كان أو غربًا، متدينًا أو غير متدين، عالمــًا أو جاهلاً، ولا يشذ من هؤلاء إلا المجانين، والذين خرجوا عن الحدود الإنسانية كما ذكرت آنفًا.

وهؤلاء الآباء صنفان: صنف يضحي بنفسه في سبيل إسعاد أبنائه لوجه الله تعالى ومرضاته، وآخر يضحي فقط لارتباطه الطبيعي بالعاطفة الغريزية.

وبعد هذا التمهيد لم يعد يعسر عليكم فهم ما أقوله في خطبة هذا العيد المبارك.

إن هذا اليوم السعيد هو اليوم الذي يسوقنا ويرشدنا إلى ذلك الإحساس العميق.. الذي هو أقوى وأوسع أحاسيس الإنسان.

أمر الله تعالى إبراهيم بتضحية أعظم شيء يتعلق به بصفته أبًا.. أمره بالشيء الذي يضحي الناس كلهم من أجله بأنفسهم، يستوي في ذلك الآباء والأمهات!

بادر إبراهيم للتضحية عندما تلقى أمر الله سبحانه، ولم يسأله: يا رب، إنك قد أودعت قلبي تلك العاطفة التي يشعر بها الآباء نحو الأبناء.. ثم تريد أن تسلبني أعز شيء لدي في الوجود؟ لم يسأل إبراهيم هذا السؤال، بل بادر لامتثال أمر الله سبحانه. نعم، لم يسأل ربه قائلاً: إن تلك الأم التي أودعتها تلك العاطفة العظمى كيف تسلبها ابنها.. وذلك القلب الذي لو انكسر لفقد عزيزه لا يمكن جبره، وهيهات أن يزول أثره نعم، نسي إبراهيم تلك العاطفة القلبية التي ترتبط بقلبه، ونسي تلك العاطفة التي ترتبط بهاجر، ونسي عواطف ابنه المتعلقة بأرواح آبائه وأجداده.. تلك العاطفة التي كان يرجو بسببها إحياء نسله.

انظروا.. كان إبراهيم قد بلغ من الكِبَر عِتيًّا، ولم يكن ليُنتظر منه أن ينجب نسلاً آخر.. بعد ذلك الذبيح الوحيد الذي كان قرة عينه. ولكن كل هذه العواطف لم تزحزح سيدنا إبراهيم ، ولم تغير شيئًا من عقيدته، بل نهض بعزيمة صادقة، ممتثلاً لأمر الذي ناداه في الرؤيا، يطلب إليه أن يقدم ابنه الوحيد ذبيحة لوجهه الكريم، ولم يجعل لهذا الأمر العظيم أية أهمية، بل عدَّه كأنه أمر عادي وقع له في حياته.

ثم انظروا.. إلى ذلك الابن الوحيد البار الذي عندما سمع من أبيه بأنه يريد أن يقدمه ذبيحة وقربانًا لله ، امتثل لأمره وأطاع قائلاً:

يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .

كان بإمكانه أن يتمرد على ذلك الأمر، ويقوم في وجه أبيه، لأن هذا الطلب، من حيث الظاهر، عدوان على النفس البشرية وإهدار لحقِّها؛ ولكنه لم يفعل ذلك، بل استكان، وأظهر الطاعة العمياء.

ومن هنا تتجلى لنا تلك الروح الطاهرة المقدسة التي تمتع بها ذلك الابن البار، فإنه استسلم لأبيه، ومد عنقه إليه، وكاد الأب أن يذبح وحيده، ويقوم بذلك العمل الذي هو في الظاهر مخالف للفطرة البشرية.. نعم إن إبراهيم قام لتلبية ذلك الأمر بشوق عظيم ومحبة فياضة، وكأنه ظن بأن العالم لم يخلق إلا لهذه الغاية المقدسة، لولا أنه سمع النداء الإلهي قائلاً له:

يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا .

وهنا رفع السكين عن وحيده، وعلم أن الله كان يختبره، وأنه قد نجح في ذلك الاختبار.

إن نظرة عامة على تلك الحال التي جعلت إبراهيم يقدم على تضحية فلذة كبده تجعل الإنسان حيران مندهشًا تجاه ذلك الأمر العظيم الذي قام به.

وربما يعترض على سيدنا إبراهيم .. أحد من الملحدين الذين لم ينعم الله عليهم بنعمة الإيمان، ويقول: كيف سوّغ هذا الرجل لنفسه أن يقوم بتضحية ابنه، لمجرد رؤيا رآها، وخاطبه الله فيها مطالبًا أن يذبح فلذة كبده؟ وكيف صدع لأمر خيالي منامي لا يرتكز على أساس من الواقع؟! وهنا يتهمه بالجنون، إذ لا يقدم أحد من البشر على ذبح ابنه، ويكون لديه مسحة من العقل. ويتهمه أيضًا بقساوة القلب وجموده وخلوه من عاطفته المقدسة، التي توجد في قلوب جميع الآباء والأمهات.

ولإزالة مثل هذه الشكوك من العقول، بين الله في القرآن المجيد صفات عظيمة خالدة لسيدنا إبراهيم ، وقال:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ،

أي أن إبراهيم من ألين الناس قلبًا، وأرقَّهم عاطفة، وهو عاشق لله ، ولرقة عاطفته لم يكن يحتمل حتى ألم غيره، ولو قليلاً، ولذلك سُمي بالأواه.

ثم انظروا إليه حينما أتاه الملكان اللذان أرادا الذهاب إلى قوم لوط لتعذيبهم، وأخبراه بذلك كيف حزن حزنًا عظيمًا.. لم يحزن مثله حتى أمهات أولئك الرجال والشبان الذين حاق بهم العذاب. وأنا حينما أذكر الملكين اللذين جاءا إلى سيدنا إبراهيم لا أريد الخوض فيما إذا كانا من الملائكة أم من البشر، لأن ذلك لا يتعلق بهذا الموضوع.

ومن المعلوم أن الأنبياء كلهم إخوان من حيث الروحانية، وكان إبراهيم أن يفرح، لأن الملكين ذاهبان لعقاب قوم لوط الذين آذوه وعذبوه، وأن الله أراد أن ينتقم من الذين آذوا أخاه لوطًا . ولكن بدلاً من أن يفرح حزن حزنًا عظيمًا، واضطرب اضطرابًا شديدًا، شفقة على أولئك القوم. ثم أسرع إلى مصلاه، وبدأ يتضرع إلى الله، ويبكي بكاء مرًّا، ويقول: يا رب، يا رب، أتهلك بلدًا فيه مئات من الأبرار؟ إذا كان هناك معهم آلاف الأشرار فارفع عنهم عذابك رحمة بمئات الأبرار.

وهنا خاطبه الله بعد أن سمع بكاءه وعويله وتضرعه وقال: لو كان في ذلك البلد مئات من الأبرار ما كنت لأعذب الأشرار الذين يعدون بالألوف، ولكن لا يوجد هناك حتى مئات من الأبرار. ففكر إبراهيم أنه ربما يوجد فيها مائة من الأتقياء، فدعا الله مرة ثانية قائلاً: يا رب، ارفع عن أولئك الأشرار العقاب إن كان هناك مائة واحدة من الأبرار. ولكن الله خاطبه بأنه لو كان هناك مائة من الأبرار لرفعت عذابي، ولكن لا يوجد حتى ولا مائة من الأبرار أيضًا. فبدأ إبراهيم يدعو الله مرة أخرى، ويرجو أن يرفع العذاب عن أولئك الأشرار إن كان يوجد بينهم تسعون من الأبرار. فرد الله عليه بأنه لا يوجد من بينهم ولا تسعون من الأبرار، ليرفع عذابه عن الأشرار. فعاد للدعاء والرجاء من الله بأن يرفع عذابه إن كان يوجد فيهم ثمانون من الأبرار. فأجابه الله بأنه لا يوجد حتى ثمانون، وإلا لرفعت العذاب عنهم استجابة لك ولتضرعاتك. وبالرغم من ذلك فإن إبراهيم لم ييأس من روح الله، ولم يقنط من رحمته، وظل يدعو وينزل بالعدد إلى العشرة. وأخذ يقول يا رب! إن عشرة من الأبرار شيء عظيم، وإني لا أريد أن يكونوا بعيدين من رحمتك. فأجابه سبحانه قائلاً: يا إبراهيم! إني لو وجدت هناك عشرة من الأبرار لرفعت العذاب، ولكني، لسوء حظهم، لم أجد بينهم حتى عشرة من الأبرار.

وهناك أيقن إبراهيم أنه لا يوجد في هذا البلد أبرار إلا لوط وأولاده. وبعد هذا الدعاء العظيم لم يجد أي طريق ليشفع لأولئك القوم فجلس صامتًا، والحزن يملأ فؤاده.

ولما رأى الله أن قلب عبده إبراهيم فياض بالشفقة الإنسانية أعطاه لقبًا من أعظم الألقاب في القرآن المجيد حيث قال جل ذكره:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ .

وكأن الله يقول للمسلمين الذين يتقربون إلى الله تعالى أيها المؤمنين! انظروا إلى إبراهيم كيف أنه كان أكثر الناس شفقة، وأرجحهم عقلاً، وأشدهم رجوعًا إليّ، فاقتدوا به، وكونوا له من التابعين. كم كان يتأوه لآلام الخلق، وكم كان يتألم ويتحمل المشقات في محبتي وعشقي.

فما أجمل هذه الألقاب التي لقب الله بها إبراهيم ، وكأن الله كان بمنزلة الأم الرءوم، وإبراهيم بمنزلة الطفل الضعيف، الذي عندما يرى ما يروعه يعانق أمه ويبكي، ولما كانت أمه لن تغير مجرى الأحداث، فهي تشفق على ولدها.

وهكذا كان الحال مع إبراهيم وربه، فلأن الله لم يشأ أن يغير كلمته أشفق على إبراهيم، وقال: إنه حليم وأواه ومنيب. وإن كلمتي: أواه وحليم.. على إيجازهما تتضمنان بحرًا مواجًا بالجذبات الروحانية، إذ أن الله يتجلى في هذه الآية بصفات الرأفة والرحمة والشفقة.

وبناء على ذلك فإن المعترضين على سيدنا إبراهيم لا يجدون بعد هذا ما يستطيعون أن يعترضوا عليه لأنهم مخطئون في زعمهم أنه كان مجنونًا، والعياذ بالله، أو قاسي القلب أو خاليًا من العاطفة الإنسانية، تلك الوقائع التي ذكرتها تفند ما يزعمون. فالله يقول عنه بأنه أواه، ومعناه أن قلبه مفعم بفيضان الشعور والإحساس، فلا يمكننا لذلك أن نقول بأنه عندما طرح ابنه تحت سكينه، كان خاليًا من الشفقة الإنسانية، فالذي كان يتألم لأولئك الذين لم تكن له بهم رابطة البنوة أو القرابة.. كم يكون ألمه إذن عظيمًا على ابنه وفلذة كبده الأوحد. نعم، إنه كان لا يتحمل وقوع الأذى على أعداء خليله.. الله جل وعلا.. وبات الليل يبتهل إلى الله ليدفع عنهم عذابه، فكيف يكون ألمه العظيم على ولده.

ثم انظروا كيف إنه حاور ربه طوال الليل كي يرفع العذاب عن أعدائه، ولكنه لم يسأل الله، ولا للحظة واحدة، عندما أمره بذبح ابنه، بل صدع بالأمر، وسارع إلى تنفيذه، وقام وقال: اللهم لبيك، اللهم لبيك، وأراد ذبح ابنه الوحيد.

وإن الحجاج الذين يذهبون من الكعبة إلى مِنى، عندما يرددون هذه الكلمة: لبيك اللهم لبيك، فكأنهم يستعيدون لأنفسهم تلك الذكرى المجيدة لأبيهم إبراهيم .. عندما قدم أعظم ضحية لله العلي الأجل، ويقولون يا رب، إننا مستعدون لأن نضحي بأنفسنا وما نملكه من غال ورخيص في سبيلك، كما قدم إبراهيم أعظم ضحية، ألا وهي فلذة كبده وابنه الوحيد. ولا يجري على لسان أولئك الحجاج إلا تلك الكلمة التي قالها إبراهيم من قبل: لبيك اللهم لبيك.

انظروا إلى الأمم والشعوب، فهي إذا رأت من زعيم من الزعماء تضحية، تتجمع وتتظاهر وتقول: فليحيى فلان، فليحيى فلان، مع أن ذلك الزعيم يكون بتضحيته التافهة لا يعادل ذرة صغيرة من تلك التضحية العظمى التي قدمها إبراهيم . فليحيى إبراهيم، فليحيى إبراهيم!

إننا إذا اغتسلنا ولبسنا الملابس الجديدة، فكأننا نهيّء أرواحنا لاستقبال روح سيدنا إبراهيم. وعندما نكبِّر في صلاتنا، فكأنما نقدم هذه الهدية إلى سيدنا إبراهيم، لأن كلمة (الله أكبر) لا تقال إلا عند ظهور جلال الله وكبريائه. انظروا إلى غزوة الأحزاب، لقد اضطر المسلمون إلى حفر الخنادق حول المدينة، وفي أثناء الحفر اعترضتهم صخرة صلبة قاسية لم يستطيعوا تحطيمها، فذهبوا إلى الرسول ، وأخبروه بالأمر. فقال: آتوني فأسًا ثم ذهب إلى الصخرة، وهوى عليها بشدة، فتطايرت شرر النار من الصخرة. وهناك صاح النبي بأعلى صوته: الله أكبر! فتبعه الصحابة رضوان الله عليهم بالصياح قائلين: الله أكبر! وقد فعل ذلك مرة أخرى حين ضرب الصخرة ضربة شديدة، وتطاير منها الشرر فقال: الله أكبر، فردد الصحابة رضوان الله عليهم قوله: الله أكبر. ثم أعاد العمل مرة ثالثة، وقال بعد أن تطايرت الشرر: الله أكبر، وتبعه الصحابة في قوله، يرددون هتافه: الله أكبر. وهنا تكسرت الصخرة، وأزيلت من طريق الخندق، فتمموا حفره.

وبعد أن انتهوا من عملهم قال لهم النبي : إنني عندما ضربت أول فأس وتطايرت الشرر، قلت: الله أكبر، فلماذا أنتم كبرتم من ورائي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال عندما ضربت أول ضربة، وخرج الشرر، رأيت الجيوش الرومية قد تحطمت، وأعلام الإسلام مرفوعة. وعندها صحت قائلاً: الله أكبر. وفي الضربة الثانية عندما خرج الشرر رأيت أن الجيوش الإسلامية قد زلزلت عرش كسرى، وقلبته رأسًا على عقب، ورأيت سطوة الجيش الإسلامي، فصحت قائلاً الله أكبر. وفي الضربة الثالثة رأيت جيوش حِمْيَر قد أبيدت أمام القوات الإسلامية، وهنالك صحت قائلاً: الله أكبر.

يظهر من هنا أن التكبير لا يكون إلا عند ظهور جلال الله وسطوته. فنحن عندما نكبر في أيام العيد، ونقول: الله أكبر، فكأننا نقدم هديتنا إلى روح سيدنا إبراهيم . وكأننا نقر في أيام العيد والتشريق عند التكبير، أننا رأينا في تضحية إبراهيم سطوتك يا رب، وجلالك وكبرياءك.

وإنني ألفت نظركم، أيها الإخوان، لأنكم تودون أن تروا ربكم في إبراهيم، ولكن ألا تودون أن تروا ربكم في أنفسكم؟ وكما أنكم تقولون في أعمال إبراهيم : الله أكبر، أفلا تريدون أن يقول الغير في أعمالكم: الله أكبر؟ ألا تريدون أن تأتوا من الأعمال ما يمكن أن يتجلى الله به فيكم كما تجلى على إبراهيم ؟ ألا فاعلموا، إن هذا الأمر ليس من المستحيل، وأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. هل كان إبراهيم ابنًا لله، وأنتم أدعياؤه ولستم بأبنائه؟ كلا، ثم كلا! فكما تقرب إبراهيم إلى الله بتضحياته، وظهر جلال الله فيه، كذلك أنتم تستطيعون أن تتقربوا إلى الله، ويظهر جلاله فيكم.

ثم اعلموا أن في هذا العالم تجدون العاشق يمد يده وينتظر معشوقه ليعانقه، ويضمه إليه، ولكن في العالم الروحاني تجدون أن المعشوق هو الذي يمد يده إلى العاشق، ويقول

:وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (البقرة: 187).

يذهب البعض إلى المسارح ودور السينما، ويشاهدون هناك الروايات التمثيلية التي تمثل العظماء والملوك. فالجاهل يتمنى أن يكون ملكًا مثلهم، ناسيًا أن في بيته كتابًا من ملك الملوك يقول له فيه: إذا سلكت حسب قواعد هذا الكتاب فإني أجعلك أكبر ملك في العالم.. ولكنه بالرغم من ذلك يُعرض عنه ويقبل على أشياء تافهة. فما أتعس هذا المرء! وليت أمه لم تلده! إن هذا الرجل عار على الإنسانية أن تضمه بين أبنائها، وهو أحط من الحيوانات.. إذ أن الحيوانات ليس لها عقول، ولكنها تسبِّح الله تعالى. وأما هذا الرجل فإنه يبقى غافلاً عن تسبيحه تعالى، مع ما له من عقل وهبه الله إياه. لقد منحه الله عينا، ولكنه لم يرد ولم ينتفع. وأعطيت له الأذن، ولكنه لم يسمع ولم يستفد. وأعطي له الأنف، ولكنه لم يشم ولم يستفد. وأعطى له الجسد كله، ولكنه لم يستفد. فما أتعس هذا الرجل! وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. لقد قُدمت له حلوى الروح فآثر عليها حنظل الدنيا.

هذا هو ربنا ذو محبة ولين. انظروا إلى إبراهيم كيف أظهر لين قلبه، ولكن تفكروا.. من الذي أدخل على قلبه ذلك اللين؟ ومن الذي منحه تلك الشفقة والرأفة على عباد الله؟

إنه هو الله الذي جمع الصفات الحسنى كلها. إنه هو الرحمن الرحيم. فاسعوا واجتهدوا أن تكون حياتكم حياة تاريخية حقيقية مثل حياة إبراهيم .

ولا تضيعوا أنفسكم في الحياة الدنيا بل اغتنموا الحياة الأبدية.. فإنكم إذا متم ولم تحدثوا انقلابًا في العالم الروحاني فكأنكم تموتون كما يموت الحيوان.. لا يأسف لموته أحد في الأرض ولا في السماء.

ادعو الله أن يجعل حياتنا حياة إبراهيمية.. وأن يوفقنا لأن نأخذ من هذا العيد درسًا عظيمًا مفيدًا.. وأن نطوف حول عرش الله .. وعلى ألسنتنا: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، حتى نلقاه في عالم البقاء والخلود. اللهم آمين!

عيد مبارك

Share via
تابعونا على الفايس بوك