الفرق بين العذاب الإلهي والحوادث الطبيعية
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (يونس: 14)

 شرح الكلمات:

القرون: واحدة قرن، ولها عدة معانٍ منها: كلُّ أمة هلكت فلم يبقَ منها أحد، الوقت من الزمان؛ أهلُ زمانٍ واحد؛ أمةٌ بعد أمة. وقرنُ الشيطان وقرناؤه: أمته المتبعون لرأيه، أو قوته وانتشاره وتسلّطه. (الأقرب).

التفسير:

منذ بدء الخليقة لا تزال تهلك أمة بعد أمة ويموت شعبٌ بعد شعب، ولا ينحصر ذلك في مثال أو مثالين حتى ينساهما الناس، ومع ذلك فما أشدَّ غباءَ وحمقَ تلك الأمم التي تتباهى برُقيّها وتزهو بثرائها، متناسيةً وقت دمارها، رغم توفّر هذه العِبر وتكرارها.

هناك بعض القوانين الإلهية التي تتضح من الآية ومنها:

الأول: إنَّ العذاب الإلهي إنما ينزل بالظالم، وإنّه لا ينزل ما لم يُمارِس الظالم ظلماً، لأنه تعالى يصرّح هنا أنه لم يدمِّر أي أمة إلا بعد أن أصبحت ظالمة.. أي أنها أهملت إما النواميس الطبيعية أو الشرائع الإلهية.

والثاني: أنَّ الأمة الظالمة أيضاً لا تُعذَّب ولا تُهلَك ما لم يُبعث إليها رسولٌ يحذّرها من عاقبة أخطائها ومعاصيها، لأنه تعالى يقول إننا إنما أهلكنا القرون الأولى بعد أن صاروا ظالمين، وبعد أن أرسلنا إليهم رسلهم، ولكنهم لم ينصاعوا لإنذارهم.

وقوله تعالى كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أيضاً تأكيدٌ لما سبق بيانه من أنَّ الله تعالى يريد أن يرحم عباده ولا يريد أن يُعذّبهم، إذ يُصرّح أننا عندما نرى شعباً ما واقعاً في المعاصي نبعث إليهم رسولاً من عندنا رحمةً بهم وشفقةً عليهم لكي يتفادوا باتباع نبيّهم عواقب سيّئاتهم، ويرثوا نعمنا وأفضالنا، ولكنهم يرتكبون الجريمة النكراء وهي معارضة نبيهم، وبالتالي يجلبون عليهم العذاب.

والعجيب أنَّ الناس في عصرنا هذا يعترفون بألسنتهم بنزول العذاب في الأرض أنواعاً ومع ذلك لا يقُرّون بمجيء نبي من الله تعالى.

والعذاب نوعان طبيعي وشرعي. والعذاب مشروط بأمرين: أن يصبح الناس ظالمين فاسدين، وأن يُبعث نبي. وأما العذاب الطبيعي فهو خالٍ من هذين الشرطين، فكلما أصاب الضعف أمةً من الناحية المادية وتغافلت عن الأخذ بأسباب الرقي المادي هلكت وبادت. فسبب هلاكهم إذن هو الضعف المادي لا فقدان الحب الإلهي.

ويمكن معرفة العذاب الشرعي بعلاماتٍ غير عادية: أن ينزل العذاب مصحوباً بأشراطٍ ومعالِمَ لا تتوفَّر أبداً في العذاب الطبيعي: كأن يكون الناس قد أُخبروا به قبل وقوعه عن طريق نبوءاتٍ وإنذارات، أو يحدث انقلاب هائل غير عادي في السنن الطبيعية البادية لنا. فمثلاً تبدأ فجأةً سلسلةٌ من الزلازل المتكرّرة، أو تجتمع في زمنٍ واحد شتّى المصائب والآفات من أمراض وأوبئة وقحط ومجاعة، وإذا حصل ذلك فلا مناص عندئذٍ من الاعتراف بأنَّ هذه التغيرات الهائلة عذاب إلهي ولا بدَّ من أنَّ نبياً قد بُعث للدنيا.

أما العذاب الطبيعي فيقع في العالم عموماً، ولذلك يجب أن لا يقع أحد في فخ المشكّكين الذين يقولون: إنَّ الأمة الفلانية جاءت في عصر كذا، وذهب مُلكُها، فأي نبي كان بُعِث عندئذٍ؟ لأننا يمكن أن ندحض موقفهم هذا بقولنا: تعالوا وأثبِتوا لنا أنَّ العذاب النازل عليهم كان غير طبيعي، وأنه لم يُبعث حينئذٍ نبي، فلن يستطيعوا إثبات ذلك أبداً.

ولنعلم أنَّ من شروط العذاب الشرعي أن ينزل على قرن أي على أمةً كاملة، لا على بعض أفرادٍ منها، لأنَّ نزول العذاب على فرد أو مجموعة من الأفراد ظاهرة تتكرّر في كل زمنٍ، فإنه يمكن أن ينزل حتى في عصر نبي وعلى أفرادٍ من جماعته.

ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (يونس: 15)

شرح الكلمات:

خلائف: جَمع خليفة، وهو: من يخلف غيره ويقوم مقامه؛ السلطانُ الأعظم الذي ليس فوقه إمام. (الأقرب)

التفسير:

هناك سؤالٌ يطرح نفسه: لماذا قال الله لهؤلاء الخلفاء لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ في حين أنَّ أعمال شعب ما تؤخذ بالاعتبار حين يجعله الله خليفةً لشعبٍ هالك، وأنَّ أية أمة لا يمكن أن تكون خليفة لأمةٍ أخرى ما لم تكن أحسن منها عملاً، لأنَّ هذا هو الداعي لإهلاك الأولين واختيار الآخرين؟ نعم يمكن أن تكون الأمة الهالكة أعلى كعباً في بعض المجالات الهامشية، فقد تكون مثلاً أكثر حذقاً ومهارةً من هؤلاء في فنّ البناء والعمارة، ولكن من المحال أن يتخلّف هؤلاء عن الأوائل في المجال الذي صاروا خلفاءهم فيه. إذن فكيف يصحّ القول لمن جعلهم خلفاء: سوف ننظر أعمالهم؟! والجواب: أنَّ الأعمال تنقسم إلى قسمين: أعمال يستحق بها الإنسان الفوز بنعمةٍ ما، وأعمال أخرى لا بد من القيام بها حِفاظاً على تلك النعمة في يده. فمثلاً نجد أنَّ كثيراً من الطلاب المتفوقين في الدراسة، يفشلون عند مواجهة مشاكل الحياة العملية. هذه هي حال الأمم والشعوب أيضاً. فهناك أممٌ يُضرب بها المثل في العمل والتضحية قبل أن تحقّق العز والجاه، ولكنها سرعان ما تستسلم للكسل والهوان بعد نيل الحكم والملك.

والسبب الثاني لما ورد في قوله تعالى لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ هو أنَّ الأعمال الإنسانية نوعان: العمل الصالح؛ والعمل المحافظ على العمل الصالح. فالمراد من هذه الفقرة القرآنية إننا جعلناكم خلفاء في الأرض لما فيكم من محاسن ذاتية وأعمال صالحة، والآن سوف نرى كيف تقومون بأعمال تضمن دوام هذه الحسنات والصالحات فيكم. والحق أنَّ القيام بأعمال تحافظ على الأعمال الصالحة أصعب بكثير من القيام بالأعمال الصالحة نفسها. وما هلكت الأمم الغابرة إلا لأنها كانت تكافح وتناضل من أجل الرُقيّ ولكنها لم تسعَ كما ينبغي لاستمرار ذلك الرُقيّ وبقائه. يحافظون على تقواهم هم، ولكن لا يولون اهتماماً كافياً لإصلاح أخلاق الأجيال فيهبط مستوى الحسنات فيهم حتى لا يبقى في أيديهم إلا الكلمات دون المعاني والقشور دون اللُباب. وبما أنَّ هذا التغيّر يحدث في بطءٍ تدريجيّ من جيل إلى جيل، فلا يفطن له أحد، فتنهار الأمة كلها في هوّة الظلام الدامس والخراب المدمِّر.

فالله تعالى يلفت الأنظار إلى هذه الحقيقة ويقول: سنرى إلى متى ستُحافظون على خلافتكم. ولو أنَّ المسلمين أَوْلَوا هذه النصيحة الحكيمة العظيمة الانتباهَ لما لاقوا هذا المصير المحزن. لقد أتى عليهم زمنٌ أهملوا فيه واجب توعية أجيالهم وتربيتهم تربيةً صالحة، فغلبت عليهم محبة أولادهم بشكلٍ خاطئ؛ أو أنّهم لم يأخذوا الحِيطة والحذر في أمر الزواج، فتزوَّجوا بنسوةٍ غير مؤهّلات لتربية ذرّياتهم تربيةً إسلامية، وكانت النتيجة أنَّ ذلك الصرح العظيم الذي رفعه النبي وأصحابه بأيديهم المباركة خرَّ على قواعده وخوى على عروشه. فإنا لله وإنّا إليه راجعون! هذا وإنّي أُبشِّر هؤلاء القوم الذين اصطفاهم الله اليوم لإظهار الإسلام وازدهاره أنّهم إذا ما راعوا في المستقبل هذا التوجيه الربّاني وأولوه العنايةَ الكافية فإنَّ فرصةَ إحداث انقلابٍ عظيم لصالح الإسلام في العالم قائمة، إن شاء الله تعالى.

ولقد نبّه النبي الكريم إلى هذا بقوله: “كُلّكم راعٍ وكُلّكُم مسؤولٌ عن رَعيَّته” (البخاري، الأحكام). أي أنَّ كل إنسان ليس بمسؤول عن نفسه فحسب بل إنّه مُطالَبٌ عمن هو في كفالته أيضاً، كما أنَّ الله تعالى لن يؤاخذه على ما اقترفه من أعمال هو فقط، بل سيسأله أيضاً عن كيفية قيامه بتربية وتوعية من كانوا في رعايته وكفالته. فلن تُغني عن الإنسان طهارة نفسه فقط، ما لم يكن جادّاً في تطهير الآخرين من حوله.

فإنهم بالرغم من رؤية الآيات لم ينتفعوا بها، وبهذا ثبت أنهم لا يقدِّمون مطالبهم بقصد الانتفاع بها وإنما خلت قلوبهم من حبّ الإيمان فلا يقصدون إلا الاستهزاء والسخرية والشر، ليمحوا بذلك ما تركته هذه الآيات البيّنات من وَقعٍ في قلوب العامة من الناس.

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس: 16)

شرح الكلمات:

تُتلى: تلا الكلام تلاوةً: قرأه (الأقرب). لا يرجون لقاءنا: (راجع شرح الكلمات للآية 8).

ما يكون لي: أي لا يمكنني.

تلقاء: اسم من اللقاء ويُتوسع فيه فيُستعمل ظرفاً لمكان اللقاء والمقابلة فيُنصب على الظرفية ويُقال: توجَّه تِلقاءَ النار وجلس تِلقاءَ فلان أي حذاءه (الأقرب) وعندما تضاف إلى النفس فتعني معنى (عند). فالمراد (من تلقاء نفسي) أي من عند نفسي.

التفسير:

لقد وردت كلمة (بيّنات) هنا حالاً لــــ (آياتنا)، مع العلم أنَّ القرآن الكريم قد استخدم كلمة (بيّنات) صفةً لما يقدمه الله من آيات ومعجزات أو كلام بواسطة أنبيائه عليهم السلام. ذلك أنَّ الآيات نوعان: نوع يسمّى آيات فقط، ونوع آخر هو آيات بيّنات. فكل ذرة من الكون هي في الحقيقة آية إلهية، لأنها تقف دليلاً عقلياً على وجود خالقها، ولكنّ هذا الدليل نستنتجه بقياسنا نحن ولا تخبرنا الذرة بنفسها أنها خُلقت لتحقيق هذا الغرض. أما ما يظهر بواسطة الأنبياء من آيات فيعلن الله عنها قبل ظهورها أنها تستهدف الدلالة على الأمور الغيبية وأنَّ غايتها الحقيقية إنما هي التدليلُ على وجود البارئ وإظهارُ صدق الأنبياء وتبيانُ حقيقة الصفات الإلهية، والتأكيدُ على البعث بعد الموت. فبما أنَّ الله تعالى يصرّح عند ظهورها أنها شاهدة على الأمور الإيمانية الغيبية لذا سمّاها آياتٍ بيّنات بعكس الآيات الطبيعية الموجودة في الكون. وعلى سبيل المثال، فإنَّ ظاهرة تفشي الأوبئة هي آية أيضاً، ولكنّ الوباء الذي يُنبئ به النبي قبل تفشّيه مذكِّراً القومَ أنَّ ظهوره سيكون تصديقاً له، فهو ليس بآية فحسب وإنما هو آية بيّنة، لأنّها تبيّن وتحقّق غاية ظهورها بطريق أفضلَ وأوضحَ مما يبيّنه الوباء الطبيعي العادي.

عندما يرى ويسمع المنكرون هذه الآيات البيّنات من القرآن الكريم لا ينتفعون بها وإنما يشرعون في المطالبة بأمرين: الأول: أن يا محمد، اِئتِ بقرآنٍ بدلاً من هذا، والثاني: أو غيّر على الأقل بعضَ ما ورد فيه من أمور. يقول الله تعالى: إنَّ مطالبهم هذه ترجع إلى ما أصاب قلوبهم من تحجّر وما علَاهَا من صدأ. فإنهم بالرغم من رؤية الآيات لم ينتفعوا بها، وبهذا ثبت أنهم لا يقدِّمون مطالبهم بقصد الانتفاع بها وإنما خلت قلوبهم من حبّ الإيمان فلا يقصدون إلا الاستهزاء والسخرية والشر، ليمحوا بذلك ما تركته هذه الآيات البيّنات من وَقعٍ في قلوب العامة من الناس. ذلك أنه يتضح جلياً من قوله تعالى الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أنَّ قلوب بعض الناس كانت قد لانت ومالت إلى الإيمان برؤية هذه الآيات مما أثار قلق أئمة الكفر، فلجأوا إلى إثارة مشاعر القوم من جديد ضد النبي، وأخيراً تنكَّروا لهم بزيّ المصالحين المسالمين. والحق أنَّ الفطرة الإنسانية تحبُّ السلم والصلح، وإذا ما دُعيتْ إلى التصالح غضَّت الطّرف في أحيانٍ كثيرة عن أهمية المبادئ المتنازَع عليها، مركِّزةً على فكرة أنَّ الصلح خير ولو على حساب بعض المبادئ. إنَّ مُعارِضي الأنبياء ينتهزون ضعف الفطرة الإنسانية هذا، داعين النبي إلى طريقٍ وسط. فيُطالبونه أن ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا بمعنى أنك شخصٌ مرجوّ تصلح لأمورٍ عظامٍ، ولكن لا تُقدِّم أمام القوم منهجك الجديد، بل عليك أن تقودهم عاملاً بنظرياتهم وآخذاً بأفكارهم هم، ولو فعلت ذلك سِرنا وراءك، وبهذا الأسلوب لن تحدث فتنةٌ في الأرض ولا فساد، ولن تحصل فرقةٌ بين بين الأخ وأخيه. أما إذا لم يعجبك هذا فهناك اقتراحٌ آخر: أن احذِفْ من تعاليمك ما يجرح مشاعر الشعب كمكافحة الشرك ومحاربة الطقوس الشعبية.

وأئمة الكفر هؤلاء يُدركون حقّ الإدراك عند طرح هذه الاقتراحات أنَّ النبي لن يرضى بها في أي حال، الأمر الذي سيُلهب مشاعر الشعب ضده مرةً أخرى، فيقولون: ما أضيق هذا الشخص صدراً وما أشدّه تطرُّفاً إذ لا يتخلّى عن بعضٍ من أفكاره توحيداً للشعب وجمعاً للشمل والكلمة. هؤلاء ينسون تماماً أنه مما لا شكّ فيه أنّ الشعب شيءٌ عزيز والبلد أيضاً شيءٌ عزيز، ولكنّ الحقائق أعزّ منهما، ولا يَعون أبداً أنَّ ما أصابهم من نكسةٍ وزوال كان سببه رفضُهم لهذه الحقائق. فما الجدوى إذاً من صلحٍ يدفع الإنسان إلى إخفاء الحقائق التي هي في الحقيقة قوام رقي الأمم وملاك ازدهارها، وما الفائدة من سلمٍ ينحرف بالأمة بعيداً عن سبيل الفلاح؟!

آهٍ! إنَّ هذه الفكرة الفاسدة ترسخ دائماً في أذهان الأمم المندفعة إلى هوّة الزوال والانحطاط. يريدون إحراز الرقي والتقدّم دون أي تغيير في نظامهم القائم. إنما دأبهم دوماً ضد المصلحين والأنبياء أن يُولُوا الأولوية للصلح القومي على أي شيءٍ آخر، مع أنه لا شيء أشدّ زيفاً واستحالةً من أن ينعقد صلحٌ حقيقي في أمة منهارة متردّية. لقد صرّح القرآن هذا الأمر بقوله قُلُوبُهُمْ شَتَّى ، ومع ذلك لا ينفكون يُلقون باللائمة كلها على الأنبياء قائلين: إنَّ هؤلاء هم السبب في كل هذه الفرقة والفتنة والفساد. يبغون باسم الصلح القومي إخفاء الحقائق، الأمر الذي لا يرضى به أحدٌ من أهل الصدق والسداد، وهذا يتيح لأعداء الحق فرصةً لإثارة عواطف القوم ضد النبي. هذا ما يحدث بالضبط بين المسلمين اليوم، والأسف كل الأسف على أنهم رغم هذا التصريح القرآني لا يشعرون بما يفعلونه وبما صاروا إليه. رحمهم الله! يأمر الله تعالى هنا رسوله أن يردّ على اقتراحات أئمة الكفر ويقول لهم: كيف أُغيّر هذا التعليم الإلهي من تِلقاء نفسي وأنتم تعلمون أنني لم أدّعِ أبداً أنَّ هذا التعليم من بنات أفكاري ونتاج عقلي. لو كانت المسألة خاصة بفكري لَحقَّ لكم أن تُطالبوا بإخضاع عقل فردٍ واحد لعقول الشعب كله، ولكن الحق أنَّ هذه الوصفة وصفةٌ إلهية ولا يمكن تغييرها أبداً بخطأٍ موهومٍ فيها. نعم، هناك طريقٌ وحيد لإحداث تغيير فيها ألا وهو أن تُغيّروا ما بأنفسكم.

وقوله تعالى وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .. يتضمّن إشارة لطيفة إلى أنَّ التعليم الإلهي ينزل بحسب حالات البشر، وأنه هو الوصفة المــُثلى لأمراضهم، لذلك يقول النبي: لو غيّرتها بنفسي لحصلت خسارةٌ فادحة، لأنَّ هذا هو التعليم الوحيد القادر على إصلاح أنفسكم، فتغييره لن يُجدي نفعاً بل إنه ضارٌ ايما ضرر. وتعني هذه الفقرة أيضاً أنَّ ما تجدونه في الوحي من أنباء هلاككم ودماركم، تكرهونها وتقترحون حذفها وتغييرها، فإنها سوف تُلغى وتزول تلقائياً حينما تُغيّرون ما بأنفسكم وتُصلحون حالتكم، عندها ستصبحون الوارثين لأنباء تُبشّر بالرقيّ والازدهار وتَعِدُ بالغلبة والفلاح.

وهكذا فكأنّما يقول لهم: لا سبيل لتغيير هذه الأنباء المنكرة عندكم إلا أن تتغير حالتكم هذه، أما أنا فلا أملك خيار تغييرها من تلقاء نفسي.

كما تعني هذه الجملة أنني لا أستطيع تغييرها بنفسي ما لم يغيّرها الله تعالى، لأنني إنما أتّبع ما يوحى إليَّ من لدنه.

وهنا ينشأ سؤال: هل يقوم النبي بأي عمل دون إشارة الوحي الإلهي؟ والجواب: إنه يعمل بالوحي وبدون الوحي أيضاً. وعندما نقول إنّه لا يقوم بأي عمل إلا على ضوء الوحي فإنما نعني بذلك أنه يذوب في حب الله ويتفانى في طاعته لدرجة أنه لن يقوم بأي عمل دون وحيٍّ رباني. بيد أنَّ الله نفسه يأمره بأن يقوم ببعض الأعمال مستخدماً عقله الموهوب من لدنه تعالى. فبما أنَّ الله نفسه يحضّه في وحيه على أن يستمر في استنباط بعض المسائل باسترشاد العقل والفراسة، لذلك فإنّه يستخدم فراسة عقله أيضاً في بعض الأمور. وبناء على ذلك يمكن القول إنه لا يعتمد على استنباط المسائل بعقله وإنما يتبع الوحي الإلهي فقط. ولكنه يقوم بالاستنباط بعقله فعلاً – ولو بأمر من الله – فلذا يمكن القول أيضاً إنه يعمل على ضوء ما يمليه عليه عقله.

كما أنَّ هذه الجملة تمثّل أيضاً ردّاً مفحماً للّذين يزعمون أنَّ كتابة البسملة في مستهلّ السور القرآنية، أو تدوين القرآن بالترتيب الحالي، أو تسميةَ سورة بهذه الأسماء، كل ذلك كان بأمرٍ من الرسول وليس من الله تعالى. فالله تعالى هنا يعلن أنَّ كل ما يفعله الرسول فيما يخصُّ القرآن إنما يفعله بناءً على وحينا.

ولكنه لا يستقيم أبداً الظنّ أنَّ كل ما يفعله أو يقوله النبي إنما مصدره الوحي الإلهي فقط، وإلا فكيف نفسّر ما يصدر عن الأنبياء من أخطاء اجتهادية في بعض الأحيان؟ سوف نضطر عندئذٍ للاعتقاد الباطل بأنه يخالف، والعياذ بالله، الوحيَ الإلهي أحياناً. إذ كيف نُفسّر مثلاً، مع هذا الاعتقاد الخاطئ، قولَ الله تعالى لرسوله الكريم عندما أَذِنَ لمن جاءوه ليستأذنوه بأن يتخلَّفوا عن الخروج معه لغزوة تبوك عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (التوبة: 43)؟ فهل نقول بأنَّ الرسول أَذِنَ لهم بالقعود في البيوت مخالفاً الوحيَ الربّاني؟

وقد يكون للجملة معنى آخر أيضاً وهو: قد طالبوا الرسول هنا بتغيير القرآن نفسه وكانت جملة إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ أيضاً في صدد الوحي القرآني فقط، والمراد: أنَّ كل ما أقوله مما يخصُّ القرآن الكريم إنّما أقوله بناءً على الوحي الإلهي، ولا دخل لي فيه أبداً، فلا أستطيع تغييره ولو تغييراً بسيطاً. كما أنَّ هذه الجملة تمثّل أيضاً ردّاً مفحماً للّذين يزعمون أنَّ كتابة البسملة في مستهلّ السور القرآنية، أو تدوين القرآن بالترتيب الحالي، أو تسميةَ سورة بهذه الأسماء، كل ذلك كان بأمرٍ من الرسول وليس من الله تعالى. فالله تعالى هنا يعلن أنَّ كل ما يفعله الرسول فيما يخصُّ القرآن إنما يفعله بناءً على وحينا.

وقد زعم البعض الآخر: لا شك بأن الرسول كان يتبع الأوامر الإلهية بخصوص القرآن، ولكن صحابته قاموا من تلقاء أنفسهم بتعديلاتٍ وتغييرات فيه.

ولكن العقل السليم يرفض هذا الزعم كليةً، لأنه مادام الرسول لم يُمنح هو حقَّ التبديل في القرآن فكيف سيشرّع ذلك للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. إنهم ما كانوا ليتجاسروا على فعل ذلك ما لم يصبحوا مرتدّين ضالين، والعياذ بالله. وقد قال بعض الكتّاب المسيحيين الذين يطعنون في القرآن بأنَّ محمداً قد حاول بقوله مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ التهرّبَ من مواجهة الأسئلة التي انهالت عليه من قبل الكفار عندما نُسخت آيات من القرآن، حيث اكتفى بقوله لهم: لست أنا المسؤول عن النسخ، بل كل ما يأتي في القرآن إنما يأتي بأمرٍ إلهي (تفسير وهيري للقرآن).

والحق أنَّ هذه الفكرة فكرةٌ فاسدة زائفة تماماً، وهذه الجملة لا تُثبت وجود النسخ في القرآن كما زعموا، بل على النقيض من ذلك فهي تُصرّح أنه لم يكن هناك أي نسخ في القرآن قط. ذلك أنَّ الكفار ما كانوا ينوون تصديق القرآن إذا ما تمَّ فيه تغيير أو تعديل، كلا، وإنما كانوا يهدفون بذلك الكيد برسول الله . فلو رضخ لمطالبهم لقالوا: انظروا إلى هذا القرآن إنّه ليس كلاماً من لدنه تعالى كما يزعم محمد، وإنما هو من اختراعه وافترائه، ولذلك تجدونه يتلاعب به كيفما يشاء. ولكنه حين عارضهم ولم يُذعن لمطالبهم ولم يغيّر فيه شيئاً أثاروا العامة ضده قائلين: انظروا إلى هذا الشخص المتعنّت، إنه لا يريد التعايش مع القوم في صلحٍ واتحاد. فلو كان القرآن عرضةً للنسخ والتغيير كما يزعمون لما كان الكفار بحاجة إلى مثل هذا الاحتيال والمكر، وإنما كان يكفيهم أن يعترضوا على ما حصل فيه من نسخٍ وتغيير. فالحق أنَّ هذه الفقرة ليست دليلاً على وجود النسخ في القرآن، بل على العكس فإنها تنفي زعم النسخ فيه في أي وقتٍ كان.

ومن غرائب القدر أنَّ واضعي هذه الروايات قد اختلقوا رواياتٍ أخرى تقول: كانت في القرآن آية كذا وكذا أو سورة كذا وفُقِدت فيما بعد، ولكنهم لم يهتدوا لوضع روايات تقول: كانت في القرآن آية كذا فنُسِخت ونزلت مكانها آية كذا!!

وليس المقصود من جملة إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أنه لولا خوفي من أن يُصيبني عذابٌ عظيم لغيّرتُ في القرآن الكريم، كلا، لأنَّ كلمات الآية لا تقول: أخاف أن يُصيبني العذاب بفعل ذلك، وإنما تقول: لو فعلت ذلك فسيأتي (عذاب يومٍ عظيم) و”عذاب اليوم العظيم” يعني عذاباً قومياً يحلُّ بالشعب كله، إذ يكون عظيماً واسع النطاق ذا آثارٍ باقية في هذا العالم. فالآية إذن إشارة إلى أنَّ التعليم النازل من عند الله تعالى يكون ذا نفعٍ عظيم للناس، وبه يُناط رقيُّهم وتقدُّمهم، ولو أنَّ أحداً أحدث فيه تغييراً أو تعديلاً لأَخَّر الشعب والبلد عن موكب التقدّم وقرّب إليهم دمارهم. فلا خير في تغييره بل الخير في تطبيقه وتنفيذه. ومثال ذلك أن يصف الطبيب وصفةً لمريض فيقول له المريض: لن أتناول هذه الوصفة العلاجية إلا إذا غيّرت الدواء الفُلاني فيها، فيردّ الطبيب عليه قائلاً: إنّني أخاف إن غيّرتُهُ فَيُسبِّب ضرراً، ولا يعني الطبيب بقوله هذا: لولا خوفي من الأذى لغيّرته، بل كل ما يعنيه هو أنه لن ينفعك إلا هذه الوصفة كما هي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك