في عالم التفسير
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة: 22)

 شرح الكلمات:

اعبدوا: العبادةُ: غايةُ التذلل (المفردات). للمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى (إياك نعبد) في سورة الفاتحة.

ربكم: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (رب العالمين) في سورة الفاتحة.

خَلَقَكُم: خَلَقَ (يخلُق) الأديمَ: قدَّره قبل أن يقطعه. خلَق الشيءَ: أوجده وأبدعه على غير مثال سبق. (الأقرب)

فالخلقُ له معنيان: التقدير والاختراع.

لعلكم: )لعل( من الحروف المشبهة بالفعل… وإذا اتصلت بها ياء المتكلم جاز أن تلحقها نون الوقاية، وجاز تجريدها منها وهو الأشهر، تقول: لعلّي ولعلّني. والمشهور في عملها أنها تنصب الاسم وترفع الخبر مثل (إنّ) نحو: لعلّ زيدًا مقبلٌ. وذهب الفراء مع أصحابه أنها تنصب الاسم والخبر نحو: لعل زيدًا منطلقًا… ولها معانٍ عدة أحدها التوقع وهو تَرجِّي المحبوبِ والإشفاق من المكروه… وتختص بالممكن الذي لا وثوق بحصوله كقول فرعون لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ (غافر:37-38)، قيل إنما قاله جهلًا (الأقرب).

أي قال المفسرون أن فرعون قال هذا بسبب جهالته، إذ كان يظن لغبائه أنه سيجد الطريق إلى الله تعالى من مكان عالٍ. ولكني أرى أن هذا المعنى غير صحيح، إنما أراد فرعون بقوله هذا أنه سوف يتصدى لموسى بمعرفة مستقبله من خلال علم الهيئة والفلك. ومع أن هذه العقيدة باطلة، إلا أنها شائعة على نطاق واسع. أو أن فرعون قال هذا على سبيل السخرية، ذلك أن موسى كان يقول مرة بعد أخرى إن الله في السماء وإنه وملائكته يكلّمونني، فقال فرعون ساخرًا تعالوا ابنوا لي بنيانًا مرتفعًا لعلنا نصل إلى إله موسى ونكلمه نحن أيضًا، أي أن الإيمان بأن الله في السماء ثم الادعاء بأنه يُكلّمني منافٍ للعقل. ولا غرابة في فشل الجاهلين بالعلوم الإلهية في إدارك قضية مكالمة الله تعالى مع العباد.

ويتابع صاحب أقرب الموارد في بيان معاني (لعل) ويقول: إن المعني الثاني هو التعليل، كقوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى .

والثالث: الاستفهام، أثبته الكوفيون.

وقال (أبو البقاء) في الكليات: كل ما في القرآن مِن (لعلّ) فهي للتعليل إلا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (الشعراء:130)

والمراد من قول أبي البقاء هذا أنه حيثما ورد (لعلّ) في القرآن الكريم فهو بمعنى التعليل لا للتوقع إلا في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . (الأقرب)

والرابع: ويكون من قبيل كلام الملوك، أي يقوله الملِك أو غيره عنه على سبيل التوقع، بمعنى أنه أمرٌ مؤكد ويقيني.

تتقون: راجع شرح كلمات قوله تعالى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .

التفسير:

استهلّ القرآن الكريم بإعلان أن خير الدواء ما يصفه العليم الخبير، وهو الله تبارك وتعالى، وأن القرآن الكريم هو الدواء الناجع لتكميل الناس روحانيا؛ فإنه أولا: كتاب جامع للكمالات كلها؛ وثانيا: مبرأ من كل ريب، أي من كل عيب؛ ثالثا: يفتح باب الكمال والرقي بلا حدود، ويتدرج بالمتقي أعلى فأعلى حسب كفاءته. ثم بيّن للمتقين الشروط التي وضعها لمعاصري القرآن الكريم. ثم بيّن مصير الذين يكفرون بهذا الوحي الإلهي. ثم ذكر طائفة ثالثة تدّعي الإيمان بلسانها ولكن قلوبها من الإيمان هواء، أو قلوبهم مؤمنة ولكنهم لا يجرؤون على العمل بحسب ما يأمرهم به القرآن، وأخبر أن هذه الطائفة بنوعيها لن تستفيد من القرآن الكريم، لأن القرآن ما جاء لمجرد أن يشكل طائفة جديدة ليفرح الناس بالانتساب إليها بلسانهم فقط، بل قد جاء ليُحدِث تطورًا حاسمًا في حياة البشر، فما لم يسعوا للعمل به بعد الإيمان فلن ينتفعوا منه شيئًا، كما لا يمكن اعتبارهم من المؤمنين بالقرآن الكريم.

بعد رسم هذه الخطة بإجمال، يوجه القرآن الكريم في هذه الآية أنظار الناس إلى أنه يبلغ بالإنسان إلى المراتب العليا من التقوى، فعليهم أن يكونوا متقين، لكي يتمتعوا بالمنافع المنوطة بالقرآن، وسبيله أن يعبدوا ربهم ليكونوا من المتقين.

والعبادة، كما بينّا عند شرح الكلمات، تعني التذلل الكامل والاتباع الشامل. فما لم يكن هناك اتباع كامل ولم يجعل الإنسان نفسه صالحًا لتلقي التأثيرات الإلهية، فلا تُسمى عبادته عبادةً حقيقية. إن الذي يكتفي بالعبادة الظاهرية فحسب لا يمكن أن يسمى عابدًا، لأنه لم يُقدّم نموذجًا صادقًا للتذلل والاتباع.

لقد قدَّم الله تعالى في هذه الآية تعليمًا آخر لطيفًا وكاملًا عن العبادة، وبين كل ما لا بد منه لتكميل العبادة، وذكر فائدة العبادة أيضًا. من المعلوم أن العبادة الكاملة تتطلب علاقة كاملة، والعلاقة الكاملة تتولد نتيجة إحسان كامل يشمل العابدَ وآباءه أيضًا، ذلك أن الناس في الدنيا لا يصادقون أحدًا صداقة مخلصة إلا لسببين: إما أن يُحسن إليهم أو أن يكون قد أحسن إلى آبائهم من قبل. نجد في التاريخ آلاف الأمثلة للتضحيات التي قدمها الناس من أجل شخص أحسن إلى آبائهم وإن لم يكن قد أحسن إلى المضحِّين إحسانًا خاصًا. لقد ضحى الآلاف بنفوسهم من أجل الملوك والزعماء الظالمين لمجرد أنهم كانوا قد أحسنوا إلى آبائهم في الماضي. ففدى هؤلاء الأولاد بأرواحهم -رغم كونهم مظلومين مقهورين- من أجل هؤلاء الملوك الظالمين لكي لا يُعَدّوا من ناكري الجميل الذي صُنع لآبائهم. أما إذا اجتمع الإحسان بنوعيه، أي أن يكون أحد قد أحسن إليه وإلى آبائه أيضا، فتثور فيه عاطفة الحب الشديد نحو المحسن. ولكي يستثير اللهُ تعالى هذه العاطفةَ الفطرية في الناس قال هنا يا أيها الناس اعبدوا مَن خلَقكم وخلق آباءكم أيضًا. فما دام بعضكم يعامل الآخر بإخلاص بناء على العلاقات العابرة، فلماذا لا تنشؤون علاقة مُخلصة مع مُحسنكم ومحسن آبائكم وأجدادكم أيضًا.

تحثّ هذه الآية على عبادة الله تعالى بأسلوبٍ رائعٍ جدًا، ويوضّح ضرورة العبادة كل التوضيح، حيث قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . لقد أشار الله بذلك إلى أن صانع الشيء هو الأدرَى بكفاءاته وقدراته، فالمهندس الذي يشيد بناء مثلا يعلم مقدار الثقل الذي سوف يتحمله البناء، وكذلك الله تعالى الذي هو خالقُ الإنسان وآبائه والعليم بما زوده به من القوى والمواهب والكفاءات، هو وحده القادر على إصلاح الإنسان. إن عبادته لكائن آخر هو بمنزلة أن يدمّر نفسَه بتسليم زمامه بيد من لا علم له بكفاءاته وقدراته وحدودها. فالعبادة الحقيقية التي لا تعني الحركات والتقاليد الظاهرة فقط، بل تعني السير على الدرب الروحاني، لا تليق إلا بالله تعالى، لأنه الوحيد الذي يعلم كفاءات الإنسان ويعلم كيف يمكن تطويرها وتكميلها.

ثم بعد ذلك بين الله تعالى غاية العبادة، وأخبر بأن غايتها ليست مجرد الإقرار بعبوديته تعالى باللسان فحسب، وحتى لو كان الأمر كذلك لكانت عبادة غير الله ظلمًا أيضا، لكنها لم تكن ضارة لهذه الدرجة. إنما هدف العبادة إحراز التقوى، أي تكميل الروحانية، وأنّى للكائنات الأخرى أن تقوم بتكميل روحانية الإنسان وهي لم تخلقه ولا علم لها بما فيه من قدرات وكفاءات خفية ولا بحدودها، فإنها ستدمّر قواه بدلًا من تطويرها وتكميلها.

ولقد رأينا أن الإنسان كلما أسلمَ قيادته لغير الله تضرّرَ. فمِن قائدٍ فتَح للإنسان أبواب الحرية المطلقة وألقاه بعيدًا عن سبل تكميله الروحاني، وقائدٍ آخر صرَف النظر عن قوى الإنسان فحمَّله من الأعباء الثقال ما ناء به كاهله، فتعطلت قواه ودُمّرت مواهبه؛ ومنهم مَن وجّهه إلى الرهبانية وترْك الطيبات؛ ومنهم من لم يميّز بين النافع والضار وسمَّى الشريعة لعنة، ومن ثَمَّ ألقاه في هوة الدمار. فالله تعالى هو الوحيد الذي أعطاه تعليمًا يساعده على أن لا ينسى مسئولياته، وأن لا يقع تحت أعباء تدمر قواه الفطرية.

فبقوله: لعلكم تتقون نبه الله تعالى إلى أن هدف العبادة أن يترقى الإنسان على ضوء هدي الفطرة السليمة، والبديهي أن لا أحد يقدرُ على إرشاد الفطرة إرشادًا سليمًا إلا مَن هو واقف على جزئيات الفطرة الإنسانية، وهو مَن خلق الإنسانَ لا غيره سبحانه وتعالى.

وبقوله تعالى لعلكم تتقون أشار أيضا إلى أن الأمر بالعبادة لا يهدف إلى منفعة لله تعالى، بل إنما هو لخير الإنسان ونفعه، وليست الغاية المنشودة من العبادة إلا تكميل الإنسان بتحقيق المقتضيات الفطرية على وجه سليم.

وهذا المفهوم ردٌّ وافٍ على شُبهات قوم تركوا العمل بالشريعة بعد اعتبارها لعنة. إنهم لم يعتبروا الشرع لعنة إلا لأنهم ظنوا أحكامه عبثية خالية من الحكمة متوهمين أن الله تعالى إنما يريد بالشرع تذكيرَهم بحاكميته عليهم فحسب. ولكن الله تعالى قد أخبر في القرآن الكريم أن أحكامه ليست عبثية ولا خالية من الحكمة، وإنما غايتها إرشاد الإنسان إلى الطريق المستقيم، وحمايتُه من سبل الإفراط والتفريط، وتنبيهه إلى الأعمال المساعدة على تنمية قواه الخفية. ومَن اعتبر مثل هذا المنهج لعنة فلا يمكن أن يعَدّ من العقلاء. هل تحذير المرء للكفيف من حفرة تقع في طريقه يُعَدُّ لعنةً؟ هل يجوز لأحدٍ أن يقول للكفيف إن هذا الذي يحذرك من الحفرة إنما يدعوك إلى اللعنة! الحق أن الطبيب الذي ينهى المريضَ عن تناول الأطعمة الضارة لا يريد له اللعنة وإنما يريد له الرحمة. إن الذين عدّوا الشرع لعنةً إنما أساس دعواهم ظنُّهم أن أحكام الشرع خالية من الحكمة. قد تكون تعاليم دينهم هكذا، ولكن تعاليم القرآن الكريم ليست هكذا، بل إنه يُعلن أن هذه التعاليم والأحكام لنفعكم ولإنقاذكم من سُبل الدمار.

والاتّقاء يعني لغةً اتخاذُّ شيء سِترًا وجُنّة، والمقصود من الأمر “اتَّقِ” يعني اتخذْ الشيءَ وقاية لك، وعليه فقول الله تعالى لعلكم تتقون يعني: لكي تتخذوا الله تعالى وقايةً وجُنّة، لكي تحموا بعونه أنفسكم من أسباب الهلاك والدمار، وليتولاكم الله عز وجل، وينجيكم من مشاكل الحياة وصعوباتها سالمين معافين، شأنَ المـُرشد الدنيوي الذي يأخذ بالناس من الفيافي والغابات والطرق غير المطروقة سليمًا بدون أذى.

وينطوي قوله تعالى: اعبدوا ربكم على حكمة لطيفة جديرة بالالتفات. فالربّ كما بيّنّا من قبل هو مَن يخلق ثم يتدرج بمخلوقاته إلى كمال النشوء والرقي. وفي ذكر هذه الصفة على وجه خاص إشارةٌ إلى أنه قد وُضع في خلق كل إنسان الأساس لرقيه القادم، ليبني عليه حياته للوصول إلى الكمال، فلا فائدة من العبادة ما لم يعبد الإنسان ربّه الذي يوصله إلى درجة الكمال بحسب قدراته الخفية. لا شك أن هناك أمورا مشتركة بين البشر، فكلّهم مزودون بقدرات متشابهة، ومع ذلك فكل إنسان مختلفٌ عن غيره أيضًا، حتى يختلف الولد عن والده والأخ عن أخيه طبعًا ومزاجًا، فلا يمكن أن يكون التعليم الواحد نافعًا للجميع على سواء. لا شك أن التعليم في مبادئه الأساسية يكون واحدًا، ولكنه في جزئياته يكون مختلفًا، لذا فهناك حاجة لهادٍ عالِمٍ بهذه الجزئيات قادرٍ بحسبها على ترقية الإنسان إلى المراتب العليا. وهذا لا يقدر عليه إلا الرب الذي لم يزل يربّي الإنسان من ولادته إلى شبابه على نحو معين، ويعلَم طبيعته ومزاجه، ومدى اختلافه عن أبيه أو إخوته طبعًا ومزاجًا. وعليه فلا يكفي العمل بالشريعة وحدها، بل لا بد له من علاقة حب وإخلاص مع الرب، لكي يرشد الإنسان من خلال هديه الخاص إلى ما هو أنفعُ له من جزئيات الشريعة نظرًا إلى طبعه ومزاجه. لا شك أن الشريعة تأمر بالصلاة والزكاة، ولكنها لا تقدر على إرشاد الإنسان إلى عملٍ هو أفضل وأدعى لرقيه الروحاني بعد أدائه الحد الأدنى من الصلاة والصدقة مثلًا. هذا الإرشاد لا يتيسر للإنسان إلا بصفة فردية، ولا يتأتى له ذلك إلا من ربه.

باختصار، لا يكون الإنسان في مأمن حتى بعد تلقّي الهداية العامة، أي الشريعة، لأنه بحاجة من أجل الترقيات العالية إلى هداية خاصة لا تتيسر له إلا من ربه على صورة إلقاء. أعني أن يُلقي بها في قلبه ذلك الربُّ الذي خلقه وتكفّلَ بترقيه إلى المدارج العليا. لذا فلا بد للإنسان من إنشاء علاقة حب وعبادة بذلك الرب في كل حال لكي يتلقى منه الهدايه الخاصة أيضًا وينتفع بها.

ومن معاني قوله تعالى لعلكم تتقون أن يتجنب المرء ما يفسد علاقته مع ربه، كما أن فيه إشارة إلى ضرورة تجنب الأمور التي تفسد علاقة المرء مع العباد الآخرين، وعبادةُ الله تعالى تُجنّب الإنسان الخطأَ في الأمور المتعلقة بالناس أيضا. إن الذي يؤمن بأن الله ربّه لا بد أن يُحسِّن علاقته مع عباد الله أيضا، وبالتالي لا بد أن يتجنب ظلم الناس، لأن الذي صار عبدًا لله حقًا ويوقن أنه ربُّه، لن ينظر من أجل سدّ حاجاته إلا إليه سبحانه، ومَن أيقن أن الله تعالى سوف يتولى حاجاته كلها لن يمدّ عينيه إلى أموال العباد، ولن يخون أموالهم لسد حاجاته، ولن يظلمهم. وعليه فمن معاني قول الله تعالى لعلكم تتقون أنكم إذا عبدتم ربكم بإخلاص ويقين فسوف تنجون من أن يظلم بعضكم بعضًا وسيسود العالمَ السلامُ أيضًا. كان صحابة الرسول قد صاروا عبادًا لربهم حقًا، وترون كيف تمتّعَ العالمُ في حكمهم بالسلام والأمن، حتى اعترف الأعداء بسلوكهم الطيب، ولا تزال ذكريات حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حيّةً في قلوب الناس حتى اليوم. لا شك أن حكم عثمان وعلي كان كحكم أبي بكر وعمر y جميعًا، إلا أنني لم أذكرهما في الجملة السابقة لاختلاف الناس فيهما. فالحق أنه من المحال أن يستتب السلام والأمن في الدنيا بدون أن يصبح الإنسان عبدًا لربه. لو أن أهل أوروبا صاروا عبادًا لربهم لما أصيبوا بمرض جوع الأرض، أي هوى الاستعمار، الذي هم مصابون به اليوم.

لقد استدل البعض بقول الله تعالى خلَقكم استدلالا خاطئًا، وقال: هذا يعني أن القرآن الكريم أيضًا يقول بخلق العالم من مادة موجودة سلفًا، فثبت أن القرآن الكريم أيضًا يقول بأزلية المادة.

الحق أن هذا الاستدلال ليس إلا وسوسة، لأن الخلق، وإن كان يعني تقدير شيء موجود، إلا أنه يعني أيضًا إيجاد الشيء وإبداعه على غير مثال سبق، وقد مرّ ذكرُه في شرح الكلمات. فالاستدلال من كلمة الخلق الواردة في سياق معين على أنه لا يعني إلا هذا المعنى استدلال باطل. ألم يعلن القرآن الكريم بنفسه في آية أخرى أن الله تعالى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ (الأَنعام: 102)؟ ولا يغيبنّ عن البال أيضا أن القرآن الكريم لم يستخدم بحق الله تعالى لفظَ (الخلق) فحسب، بل استعمل أيضا لفظ (البديع) و(الفاطر)، والبديع مَن يبدع الشيء أول مرة، والفاطر من يُوجِد الشيء من العدم. لا شك أنه قد وردت في القرآن الكريم كلمات مثل فَطَرَنِي (هود:52) و فَطَرَنَا (طه:73)، ولكنها تشير إلى بدء الخلق وليس إلى الخلق الذي كان فيما بعد.

إن هذه الآية من الأهمية بمكان من حيث أنها تحتوي على أول حكم قرآني. لا شك أن الله تعالى قد قال من قبل إن المتقين يعملون كذا وكذا من الأعمال، ولكن لم يؤمر البشر قبل هذا في القرآن الكريم كحكم من الأحكام أن افعلوا كذا، بل قد جاء أول حكم في هذه الآية نفسها. وهذا الحكم الأول هو عن التوحيد، وقد أمر به الله تعالى بصورة لطيفة وكاملة بما لا يوجد له نظير. فعلى سبيل المثال، أمرَ أولاً بالعبادة مستخدما كلمة الناس، بمعنى أنه تعالى خاطب بهذا الأمر العالم َكلَّه، وليس العرب فقط، وهذا دليل قاطع على أن الإسلام ادّعى منذ البداية أنه جاء لجمع العالم على دين التوحيد وأراد القضاءَ على العبادات القومية ليخلقَ حلقة جامعة للعبادة تشمل البشرية جمعاء.

وثانيا: أخبرَ عن المعبود، فلم يقل القرآن الكريم اعبدوا الله، بل قال اعبدوا ربكم. وباستخدام كلمة الرب ردَّ على الآلهة الباطلة، ذلك أن كثيرا من الناس في العالم يعبدون الأحجار، وباستخدام لفظ الرب قد أخرج كل هذه الأشياء من دائرة العبادة. ثم إن كثيرا من الناس يعبدون الأنهار والجبال والنجوم، فأخرج هذه الأشياءَ أيضًا من دائرة العبادة باستخدام لفظ الذي خلقكم . ثم إن من الناس من يعبدون سلفهم الصالح، فأخرجهم أيضا من نطاق العبادة بقوله والذين مِن قبلكم . باختصار قد استخدم القرآنُ الكريم كلماتٍ جامعةً بحيث علَّم التوحيد الخالص في بضع كلمات فقط. كما اتّبعَ الأسلوب الفطري لتقوية علاقة العباد مع الله تعالى. ذلك أن أساس العلاقات في الدنيا أمرانِ اثنان: إما الحب أو الخوف. والعبادة عند مختلف الشعوب مبنية على هذين الأساسين، كما ذكر ذلك علماءُ مقارنة الأديان في بحوثهم المفصَّلة. وقد أشارت الآية قيد التفسير إلى هذين الأمرين كليهما، ففي الكلمات الأولى أشار إلى الحبّ، ثم بقوله لعلكم تتقون أشار إلى الخوف. والحبّ يتولد بأمرين، إما بالحسن أو بالإحسان، وقد أشار الله تعالى في هذه الآية الوجيزة إلى الأمرين كليهما لخلقِ علاقة حب مع الله تعالى. فإن الله تعالى حسين، لأنه رب. فيا له من صانع، حيث يخلق الشيء في حالة بسيطةٍ جدًا، ثم يطوّره درجة فدرجة حتى يوصله إلى الكمال. ثم تحدَّث الله تعالى بكل روعة عن الإحسان، فذكر أنه تعالى محسنكم ومحسن آبائكم أيضًا حيث قال خلقكم والذين من قبلكم . ثم بقوله تعالى لعلكم تتقون إذ أشار إلى الخوف، فقد نَبَّه أيضا إلى إحسانه في المستقبل. فما أروعَه من كلام معجز، حيث حوى هذه المعاني الواسعة في آية وجيزة جدًا، فتبارك الله أحسن الخالقين!

(راجع أيضًا معاني (لعلّ) لدى شرح كلمات هذه الآية).

ومن الغريب جدا أن المسيح الناصري حينما سُئل عن أعظم وصية في الشريعة، أجاب: {«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ}  (متى 22: 37-39). لكن لو قرأتم الأناجيل لوجدتم أنها تذكر في أولها أمورًا أخرى، ولن تجدوا هنالك أي أثر لهذه الوصية. بل لم يذكر المسيح الناصري هذه الوصية التي هي أعظم وأولى الوصايا ما لم يسأله الناس عنها، مع أنه كان الأولى به أن يذكر في البداية هذا الحكم الذي هو أعظم الأحكام أهمية.

ولو قرأتم العهد القديم لوجدتم أنه لم يُذكَر فيه أيضًا هذا الحكم إلا متأخرًا جدًا بعد أمور كثيرة أقلّ أهمية. وهذا هو حال كتب الأديان الأخرى، فليس هناك أي سِفر من أسفار الأديان ذكر في بدايته هذا الحكم الذي هو أول وأعظم الأحكام ليس بحسب قول المسيح فقط بل بحسب العقل أيضًا. هذا الفضل ما حازه إلا القرآن الكريم، إذ إن أول حكم جاء فيه هو قول الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم . أليس من فضل القرآن الكريم أنه ذكر الحكم الأول في المقام الأول، بينما أخّرته سائر الكتب السماوية إلى غير موضعه.

أما لو تغاضينا عن اصطلاح الحُكم والوصية، لوجدنا أن هذا الأمر قد ذكره القرآن الكريم قبل هذه الآية بكثير، وذلك في سياق الحديث عن أعمال المتقين، حيث قال إنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ، وليس معناه إلا: آمِنوا بالله واعبدوه. ثم بعد ذلك ذكر القرآنُ الكريم الأمرَ الآخر الذي ذكره المسيح في المقام الثاني حيث قال الله تعالى في صفة المتقين ومما رزقناهم ينفقون . وهنا أيضًا يتجلى فضل تعاليم القرآن الكريم على تعاليم الإنجيل، ذلك أن المسيح قد أشار بصدد هذا الأمر إلى حالة القلب فقط، أما القرآن الكريم فقد استعمل كلمات جامعة وقال مما رزقناهم ينفقون ، أي أن على المرء أن يحب جيرانه من صميم القلب، كما عليه أن ينفعهم بعلمه وماله ونفسه أيضًا.

باختصار، قد ذكر الإسلام هذين الحُكمينِ في محلهما المناسب، كما حثّ عليهما بكلمات هي أروع وأفضل من كلمات المسيح .

ولو قال أحد إن الكلمات التي استخدمها المسيح أشد روعة إذ قال: (مِن كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك)، فالجواب أن المعنى الذي ذكره المسيح في جملة كاملة قد بيّنه القرآن الكريم في كلمة واحدة اعبدوا ، لأن العبادة تعني غاية التذلل، أي بذل المرء قدراته وكفاءاتها كلها إلى أقصى الحدود. فالعبادة تشمل كل القلب وكل النفس وكل العقل، وتحوي كذلك كل القوة وكل الأسباب أيضًا. وهكذا فإن القرآن الكريم قد ذكر بلفظ واحد كل ما أراد المسيح الناصري أن يذكره بل وزيادة.

اقرأْ الملحوظة عن ذات الباري تعالى في تفسير الآية بعد القادمة.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) البقرة: 23)

شرح الكلمات:

الأرض: الكرة الأرضية؛ كلُّ ما سفل. (الأقرب)

فراشا: فرش الشيءَ يفرش فرشًا وفِراشًا: بسَطه. وفرش فلانًا بساطًا: بسطه له… والفراش: ما يُفرَش ويُنام عليه. (الأقرب).

الفَرْشُ: بسطُ الثياب، ويقال للمفروش فَرْش وفِراش، قال تعالى: الذي جعل لكم الأرض فِراشًا ، أي ذلّلها ولم يجعلها ناتئة لا يمكن الاستقرار عليها… والفَرْشُ: ما يُفرَش من الأنعام أي يُركَب. (المفردات)

بناءً: جمعُه أبنية. بناه يبنيه بنيًا وبناءً: نقيضُ هدَمَه. وبنى الأرض: بنى فيها دارًا أو نحوها. (الأقرب)

والبناء: اسم لما يُبنى بناءً. (المفردات)

السماء: هنا يعني السحاب. وللمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى أو كصيب من السماء .

أخرجَ: أنبتَ.

الثمرات: جمعُ الثمرة، وهي حمل الشجر. (الأقرب)

والثمر: اسمٌ لكل ما يُتطعَّم من أحمال الشجر. (المفردات)

رزقًا: (راجع شرح كلمات قول الله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون).

أندادا: جمعُ نِدٍّ، وهو المِثل، ولا يكون إلا مخالفًا، ويقال ما له ندّ، أي ما له نظير. (الأقرب)

وندُّ الشيءِ مُشارِكُه في الجوهر، ومثلُهُ مُشارِكُه في أي شيءٍ كان (أي أن المثل عام، والندّ خاص)… نِدُّ الشيءِ: ما يسدُّ مَسَدَّه… قال ابن الأثير: هو مِثل الشيء الذي يضادّه في أموره وينادُّه، أي يخالفه. (التاج)

التفسير:

هذه الآية تُكمل موضوع الآية السابقة. لقد بين الله في السابقة أن العبادة لا تصحّ إلا لربكم الذي خلقكم وآباءكم، لأنه هو القادر على إرشاد قدراتكم وكفاءاتكم على أحسن وجه. أما في هذه الآية فأخبر الله تعالى أنه هو خالق السماوات والأرض، والظاهر أن أعمال الإنسان ما هي إلا نتيجة تأثير هذه الأشياء المحيطة به. ما هي الأعمال الإنسانية يا تُرى؟ إن هي إلا تجارته وزراعته وصناعته وسياحته، وهي كلها نتاج السماء والأرض وتأثيراتهما، فلا يستطيع أن يُسيِّر أعماله للطريق السليم إلا خالق السماوات والأرض وتأثيراتِهما. أما أي كائن آخر فلا يستطيع أن يهديه هداية كاملة، لأنه ليس خالق هذه الأشياء وبالتالي لا يعلم جيدًا تأثيراتها وقواها، كما لا يستطيع أن يسخّرها لخدمة الإنسان، إذ لا سيطرة له عليها. ومن أجل ذلك قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدو ذلك الإله الذي جعل الأرض لكم فراشًا، أي بسَطها بسطًا يساعدكم على الانتفاع بها والعيش فيها براحة. لقد سبق أن ذكرنا أن الفرش يعني بسط الشيء بسطًا يريح الإنسان، فالمراد من جعل الأرض فراشًا أنه تعالى قد هيّأ فيها أسبابًا لراحة الإنسان. والظاهر أنه ليس كل تصرف في الأرض يمكن أن يؤدي إلى راحة الإنسان، لأن هذه الأرض قد تهلك الإنسان أيضًا، لذا فلا بد من قاعدة للانتفاع بما في الأرض من قوى ومنافع. ولا يمكن أن تكون أفضل قاعدة لذلك إلا ما يكون مِن خالق الأرض. كذلك قال الله تعالى أن السماء قد جُعلتْ بناءً أي سقفًا، أي سبب حماية.كم تجلب أضواء الشمس والقمر والنجوم آلاف المنافع للإنسان، ولكن لهذه الأجرام تأثيرات سلبية أيضًا تؤثر على أخلاق الإنسان وعاداته، وهناك آلاف الأمراض والحوادث التي تتعلق بدورات الأجرام الفلكية. وسواء اعترف العلماء بذلك أم لا، فتقع في الدنيا حوادث وكوارث لا يمكن أن تُعزى إلى التغيرات الأرضية. فقد لاحظت مثلا أن النساء يُصَبن بمرض الإجهاض بوجه خاص في أيام معينة، وفي أيام تكثر ولادة الإناث، وفي أيام أخرى تكثر ولادة الذكور، وفي أيام تكثر وتشتد آلام المخاض، وفي أيام أخرى تقع حوادث كسر العظام بكثرة، وفي أيام تكثر حوادث اصطدام القطارات. وهذه التغيرات لا يمكن أن تُعتبر صدفة فحسب، إذ لا بد من سبب وراء زيادة حوادث إصابات بالرأس نتيجة السقوط في أيام معينة، وزيادة حوادث إصابات بالأرجل في أيام أخرى. لقد ذكرتُ هذا الأمر لأطبائنا الذين يعملون في مشفانا، فقاموا بدراسة هذا الأمر ورفعوا بعد ذلك عدة تقارير بأنه قد كثرت في أيام معينة حالاتُ مرض كذا وحادث كذا، مع أنها لا يمكن أن تُعزى إلى وباء، بل هي حوادث تظهر على منوال واحد بكثرة. والغريب أنه كثرت في أيام معينة حالات إصابات بالرأس على التوالي، وفي أيام أخرى جاء المصابون بالأرجل بكثرة، واعترف الأطباء بعد هذه التجربة أن هذا الأمر يدل بالفعل على أسباب خفية تديرها النواميس الطبيعية المدهشة.

ثم إن الأمطار وشحّها، ونضج الثمار والمحاصيل، والتغييرات الجوية، كلَّها ذات صلة بتأثيرات الأجرام الفلكية. كما أن بعض الكوارث والأمراض غير الوبائية لها صلة وثيقة بالأجرام الفلكية. لقد عاينت بنفسي أن المناطق والأيام التي ينخسف فيها القمر انخسافًا كاملًا تكثر فيها حالات آلام المخاض كثرةً ملحوظة. ولقد نبّهتُ الإخوة إلى هذا الأمر مرارًا وقد شاهدوه وأكدوه.

فثبت من هذه الأمور والظواهر أن الأرض والسماء تؤثران معًا على العالم كله بتأثيرات شتى، ونتيجة لرؤية تأثيرات الشمس والقمر والنجوم يتوهَّم بعض الناس أنها شريكة مع الله تعالى فيعبدونها بشتى الطرق استرضاءً لها، والحق أنها كلها أوهام تُسقط الإنسان من مقام الإنسانية إلى الحيوانية. وحقيقة هذه التأثيرات إنما هي أن يعُدّ الإنسان هذا الكون كله مؤثّرًا طبيعيًا على أعماله وقدراته، ويسأل اللهَ عونَه ونصرته لكي يرشده فيما لا يعلمه بعد أن عمل بما يعلمه، ولكي يهيء الله له أسباب الحماية من الغيب. أما عبادة المرء لهذه الأجرام بعد رؤية تأثيراتها فمثلها كمثل أن يشرع في عبادة ديدان الطاعون أو الهيضة. ومن المؤسف أن بعض الجهال في بلادنا يعبدون هذه الأشياء بالفعل، فعبادة “إلهة مرض الجدري” أمر معروف وشهير في بلادنا، وبناء على هذا الوهم لا يذكرون هذا المرض باسمه بل يسمونه (ماتا) أي الأُمّ، وذلك لكي يرضوا إلهة الجدري المزعومة فلا تصيب أولادهم بالجدري. نعوذ بالله من ذلك.

باختصار، لقد بين الله تعالى هنا أنه قد خلق في السماوات والأرض أسباب راحة الإنسان، ولكن ليست كلها ظاهرة، بل بعضها ظاهرة وبعضها خفية، ومن واجب الإنسان أن ينشئ صلته مع الرب الذي خلق هذا الكون ليوفقه للانتفاع بهذه المخلوقات على وجه سليم، ويحفظه مما فيه من مضار خفية. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن ينجو نجاة كاملة مما في التغيرات الأرضية والسماوية من أضرار حتى بعد اتخاذه التدابير اللازمة، بل الله الذي يمكن أن يحميه من أضرارها حماية كاملة. انظروا إلى أنبياء الله تعالى كيف أن أعداءهم بذلوا كل ما في وسعهم للقضاء عليهم، ولكن الله تعالى كان يبطل مكائدهم دائمًا. لقد شنّ الأعداء صنوف الهجوم على رسول ، فقد سعوا لقتله بدسّ السمّ في الطعام، فاستُشهد أحد أصحابه بتناوله، ولكن الله تعالى حفظ النبي الذي كان هو الهدف الأساسي من هذا التسميم. لقد نصبوا الكمائن لاغتياله ولكن الله أفشلهم. وحاول الأعداء أن يهاجموه وهو منفرد، ولكن الله خيّبهم في ذلك أيضًا. ودعوا النبي إلى أحد بيوتهم لإلقاء حجر عليه، ولكن الله تعالى أخبره بالوحي بمؤامرتهم، فاعترفوا بها. إن العالم مندهش حتى اليوم كيف أن أعداءه وصلوا إلى غار ثور وهو بداخله، ولكنهم رجعوا خائبين. كل ذلك قد تم بفضل الله الذي هو خالق السماوات والأرض. لقد تعلق بالله تعالى، فصار الله معه وسخَّر الكون كله لخدمته. كان أعداء المسيح الناصري قد علّقوه على الصليب، وقتلوه في زعمهم، ولكن انظروا كيف أن الله تعالى أرسل عاصفة شديدة مظلمة وأجبرَ الحاكمَ واليهودَ على إنزال المسيح من على الصليب قبل الأوان، وهكذا نجاه من ميتة مهينة أرادها له الأعداء. وهناك في هذا العصر عشرات الواقعات المماثلة التي وقعت على يد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ، فقد أخبره الله تعالى أن داره ستبقى محمية من الطاعون، فلم تقع أية حالة للطاعون في بيته مع أن هذا المرض ظل يتفشى في قاديان لسنوات وحصد الناس يمينًا وشمالًا من داره . هناك واقعة حصلت في شبابه وبعض الهندوس شهود عيان عليها، ومنهم (لالا بِهيم سين) المحامي والد السيد القاضي (كنور سين) الذي عمل قاضي القضاة في ولاية جامون، وقد أدلى بشهادته أمام ابنه هذا حول هذه الواقعة، ويمكن أن يُسأل عنها اليوم أيضًا. والواقعة هي أن حضرته كان يبيت مع نفر من الناس بالطابق العلوي في غرفةٍ ببيت في مدينة “سيالكوت”، فسمع صوتًا خفيفًا من السقف، فأيقظ زملاءه جميعًا، ومِن بينهم (لالا بهيم سين) المحامي، وقال لهم انزلوا مِن هنا فورًا، ولكنهم ضحكوا وقالوا هذا وهمك، ولكنه بعد قليل أيقظ الجميعَ وأجبرهم إجبار الصديق للصديق على الخروج من الغرفة، وأمرهم بالنزول قبْله، لأن السقف سيبقى قائمًا كما هو ما دام هو في الغرفة، لذلك سيخرج هو من الغرفة بعدهم جميعا. ولما خرج الجميع إلى السلّم نزل من الغرفة، وما إن وضع قدمه على السلمّ حتى انهار السقف على الأرض دفعةً واحدة.

كل هذه الأمور التي لم تزل تقع في الدنيا منذ خلْقها حتى اليوم، وستظل تقع، تشكّلُ دليلًا قاطعا على أن لهذا الكون خالقًا، ولا ينجو الإنسان من الهلاك نجاة كاملة إلا بالتعلق به. وهذا هو مفهوم هذه الآية حيث قال الله تعالى للناس إنما خلقت السماوات والأرض لفائدتكم أنتم، ولن تنتفعوا منها حق الانتفاع ولن تنجوا من أضرارها إلا بالتعلق بالله الذي خلقها.

علمًا أن الانتفاع هنا لا يعني ذلك الانتفاع الجائر الذي هو من دأب الملوك الظالمين والزعماء المستبدين، لأنه ليس انتفاعًا بل هو لعنة، فلا يصحّ أن يضع أحد حياة أهل الله إزاء حياة الملوك الجبابرة والدكتاتوريين ويقارن بينهما، لأن هؤلاء لم ينالوا عزًا بل لقوا الذل والهوان.

علمًا أن المراد من السماء في قول الله تعالى والسماء بناءً هو العلوّ، أي كل الفضاء المحيط بالأرض الذي توجد فيه النجوم والكواكب، وليس أية دائرة ملموسة كما يتوهم العامة، والمراد من جعل البناء، أي السقف، أنه تعالى قد جعل هذه السماء سبب حماية. وقد استخدم للحماية لفظ السقف لأنه وسيلة للحماية من أضرار كثيرة، وهو تعبير شائع.

والمراد من قوله تعالى أنه جعل السماءَ بناءً أن الأشياء الضرورية لبقاء الإنسان ذاتُ صلة بالعلو، أي الفضاء، فالماء أيضًا ينزل من فوق، والهواء أيضا يكون من فوق، وكذلك الشمس والقمر وغيرهما، وبتأثيرها تتهيأ كل تلك الأشياء التي هي ضرورية لحياة الإنسان. ثم إنه محتاج إلى السماء من أجل الروحانيات أيضًا.

أما قوله تعالى وأنزل من السماء ماءً ، فالسماء هنا ليست بمعنى الفضاء، بل بمعنى السحاب، وهذا المعنى ليس استعارة، بل تعني السماء لغةً السحاب أيضا. وقد استخدم القرآن الكريم السماء بمعنى السحاب في مواضع أخرى حيث قال الله تعالى وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا (الأَنعام:7)، وقال تعالى يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (نوح:12)، أي يرسل عليكم السحاب الذي يمطر عليكم بغزارة.

ومما يدل على أن السماء في قوله تعالى وأنزل من السماء ماءً تعني السحاب أن الله تعالى استخدم لفظ السماء في هذه الآية مرتين، الأولى بمعنى الفضاء في قوله تعالى (والسماء بناءً)، ولو كان لفظ السماء الثانية في قوله تعالى (وأنزل من السماء ماءً) بمعنى الفضاء أيضا لكان ذِكر الضمير كافيًا، وما كانت هناك حاجة لإعادة لفظ السماء.

بعد أن بيّن الله تعالى أنه هو خالق السماء والأرض وما فيها من تأثيرات وتغيرات مثل السحاب وغيره، قال تعالى أنه ما دام هو خالق كل شيء في الكون، فعليكم أن تدركوا أن الله ليس له ندٌّ، أي ليس هناك كائن هو شريك مع الله تعالى في ذاته وصفاته ومساوٍ له سبحانه وتعالى. وما دام نظام الكون كله خاضع لقانون واحد كما ترون، وليس في الكون ما يدل على أن بعضه مخلوق بيدِ خالق، وبعضه بيدِ خالق آخر، فكيف يستساغ عبادة ما سوى الله تعالى؟ اعبدوا إلهًا واحدًا، وانتفعوا من أفضاله، ولا تدمروا بعبادة غيره حاضرَكم ومستقبلكم.

أما قوله تعالى وأنتم تعلمون ففيه إشارة إلى أن هناك وحدة في نظام الكون، وهي قضية لا يجهلها عاقل، فالجميع يعلم ويعترف أن كل الكون قائم تحت قانون واحد، فلا تقعوا في الشرك وأنتم تعلمون هذا الأمر، بل تمسكوا بالتوحيد منتفعين بهذه المعرفة.

كما أن قوله تعالى وأنتم تعلمون إشارة إلى أن الجريمة لا تُعَدّ كاملةً إلا إذا ارتُكبت مع علم. وهذا التعليم دليل بينٌ على فضل الإسلام، حيث إنه لا يصدر الحكم نظرًا إلى العمل وحده، بل يراعي عند الحكم الظروفَ التي تمت فيها الجريمة ومدى علم الجاني بها.

كما أن قول الله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً… يتضمن إشارة إلى أن تكميل العالَم المادي لا يكون إلا باجتماع القوى الأرضية والسماوية معاً.

يلوث الناس الماء على الأرض، فينزل الله لهم من السماء ماءًا نقيًا. ويلوثون بالتنفس الهواءَ النقيّ، فيرتفع إلى طبقات الجو العليا ويعود نقيًا كما كان. والعين شيء نافع بالطبع، ولكنها لا تعمل بدون السماء، أي بدون ضوء الشمس. باختصار: تعمل الأرض كفراش للإنسان، والسماء كبناء له في العالم المادي، وهذا هو حال العالم الروحاني أيضًا. لا شك أن الإنسان مزود بالعقل، ولكن مثله كمثل العين إذ لا يقدر العقل على العمل بوجه سليم ما لم يجتمع به ضوء الشمس الروحانية، أي الوحي والإلهام. لا شك أن مقتضيات الفطرة نقية جدًا، ولكنها تتلوث بالمطامع المادية، ولا تتطهر إلا بماء السماء، أي الوحي والإلهام. فثبت أن الإنسان لا يقدر أبدًا على العيش الناجح بدون التعلق بالله تعالى. لقد ربط الله الحياة المادية بالأرض والسماء كلتيهما، ليرشدنا إلى العالم الروحاني حيث نبّه أن لا تكتفوا في الأمور الروحانية بالأسباب الأرضية فقط، ولا تعُدّوا عقلكم وفطرتكم كافية، لأن العالم المادي كما هو بحاجة إلى إمداد سماوي كذلك حال العالم الروحاني فهو بحاجة إلى مدد من السماء كل حين، وكما يوجد في العالم المادي سماء فوق الأرض، كذلك يكون القلب والعقل في العالم الروحاني بمنزلة الأرض، وتكون الفيوض الإلهية والهدايات الربانية بمنزلة السماء، وبالعمل معًا تكملان العالم الروحاني، أما بدون اجتماعهما فيظل العالم الروحاني غير مكتمل وغير نافع.

أما قول الله تعالى وأخرجَ به مِن الثمراتِ رزقًا لكم فهو مزيد من الإيضاح والشرح للموضوع المذكور من قبل، حيث أخبر الله تعالى أن الأرض مزودة بقوة النمو بلا شك، ولكن هل هي قادرة على أن تثمر بدون ماء السماء؟ فكيف تظنون أن عقولكم، مهما كانت خصبة وصالحة للنمو، تستطيع وحدها أن تثمر ثمارًا طيبة بدون عون الله تعالى. وكما أن المطر إذا انقطع نزوله فسدت مياه الأرض لم تعُدْ الأرض قادرة على أن تخرج ثمارًا طيبة، كذلك إذا لم ينزل وحي الله -الذي هو نتيجة عبادة الله تعالى- تقاصرت عقول الإنسانية عن تقديم الأفكار الطيبة التي هي ثمرة الروحانية. فلا تدّعوا أنكم تستطيعون بعقولكم أن تقترحوا لأنفسكم الهدى وأنكم سوف تفعلون ذلك.

كما أن قوله تعالى فلا تجعَلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون إيماءة أيضا إلى أن الله تعالى قد طوّركم من الحالة الأدنى إلى مقام أسمى، ولكنكم في المقابل تريدون أن تُسقطوا الله تعالى من مقامه، حيث تجعلون من كائنات ضعيفة جدًا أندادًا له، وكأنكم تقولون بأن الله تعالى أيضًا ضعيف مثلها. لقد جعلْتكم بلا ندٍّ بين المخلوقات، وسخّرت لكم السماوات والأرض، ولكنكم جعلتم لي أندادًا مع أنه لا ندَّ لي في الواقع.

ألا ما أشدَّ جهلاً وغباءً أولئك الذين زعموا ــ مع كل هذه الأيادي الإلهية والنعم الربانية ــ أن الله لم يخلق الإنسان، بل إن الإنسان هو الذي خلق الله! أيْ أن الله تعالى ليس موجودا في الحقيقة، وإنما اختلقه الإنسان بوهمه وخياله. ومن المؤسف جدا أن هؤلاء القوم يُدْعَون فلاسفة وعلماء، وهم أجهلُ مَن على وجه البسيطة في الواقع.

أما وكيف عمِل النبي بالتوحيد الذي علَّمناه الله تعالى في هذه الآية، فأضرب على ذلك مثالًا؛ ذات مرة قال صحابي للنبي : ما شاء الله وشئتَ. فقال أجعلتَني لله ندًا! قُلْ ما شاء الله وحده (مسند أحمد، وابن كثير)

والآن أتناول في ضوء الآيتين الأخيرتين تساؤلًا أثاره بعض العلماء الغربيين المعاصرين، وقد قدّمه الفيلسوف المعروف هربرت سبنسر والسيد فريزر بشكل واضح، ثم أشاعه بعدهما الدكتور روبرتسن سميث، والسيد لورنس غوم، والسيد جرانت أيلن وغيرهم. وهؤلاء فريقان: فريق يزعم بأن عقيدة وجود الله تطورت عن الاعتقاد بوجود الأرواح والجن والجنّيات، وفريق يرى أن الإنسان الأول خاف السباع والزواحف والحشرات السامة فعَبَدها، ثم تطور الأمر بالتدريج إلى الاعتقاد بوجود الله تعالى. ويتفق الفريقان في القول بأن عقيدة وجود الله بدأت أولاً بالتعدد، أي الإيمان بوجود آلهة كثيرة، ثم بالتدريج حلَّ محلَّه الاعتقاد بوحدانية الله تعالى. وقد بنوا نظريتهم على زعمهم بأن تاريخ الإنسان البدائي يدلّ على الاعتقاد بوجود آلهة متعددة، مما يدل على أن الشرك سبق الوحدانيةَ وجودًا، وأن التوحيد ليس في الحقيقة إلا صورة متطورة عن الشرك.

وقال بعض هؤلاء القائلين ــ خوفًا من أهل الدين ــ بأن نظرياتهم هذه لا تمثّل طعنًا في الدين، بل من الممكن أن الإله العاقل قد تدرج في إظهار نفسه للناس كما تدرّج في كشف النواميس الكونية لهم.

ولكني لا أقبل أبدًا أنهم قدّموا هذا القول بعد تدبر وروية، بل أرى أنهم قدّموه خوفًا من أهل الأديان، أو تهدئةً لمشاعر أتباع الأديان، لكن بدون تدبّرٍ كافٍ.

وأساس قولي هذا هو أن كل الديانات الهامة تؤكد على أنها نشأت بالوحي السماوي. وإذا كان الأمر هكذا فتنهار كليةً الفلسفةُ القائلة بأن الله أظهر نفسه شيئا فشيئا، ووجّه الناس أولاً إلى كائنات أخرى سواه. فمِمّا يتنافى مع العقل والمنطق أن يكون الله تعالى قد وجَّه الناس أولاً إلى عبادة الأرواح الميتة، أو الأحجار والأنهار والأفاعي والضواري من الأسود وغيرها، ثم بعد ذلك كله أظهر نفسه للناس، مع أنه لو وجّههم إلى إله واحد منذ البداية لما كان هذا منافيًا للعقل.

ثم إن الديانات المعاصرة كلها تعلن بوجود الوحي منذ بداية الخلق، ولا تقول أيّ منها بأن الإلهام والوحي بدأ فيما بعد. يقول الهندوس ببداية نزول الوحي منذ بداية الخلق، وكذلك اليهود، وكذلك المسيحيون التي تمثل ديانتُهم آخرَ حلقة من سلسلة الديانة اليهودية، وهذا ما يقوله الزرادشتيون وكذلك الإسلام.

ولو كان زعم الفلاسفة هذا صحيحًا فلا بد من الإقرار بأن الفيدا والتوراة والإنجيل والزندافستا والقرآن الكريم كلها كذب وافتراء.

تقول التوراة صراحة إن الإنسان تشرّفَ بالوحي الإلهي بمجرد أن ظهر على الأرض، وأُخبرَ أن الإله واحد. والإنجيل يصدق ذلك كل التصديق. فإذا كان الناس لا يعلمون بوجود الله تعالى منذ البداية، لصار الكتاب المقدس كاذبًا في دعواه بأن الله تعالى قال لآدم: }أثْمِروا واكثُروا واملأوا الأرض وأخضِعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض{ (التكوين1: 28). فهذه الفقرة تؤكد أنه منذ زمن آدم، الذي كان أول إنسان، قد أُخبر أن كل ما خُلق في السماوات وما في الأرض هو مسخر لخدمة الإنسان. فكيف يمكن لآدم، بعد هذا التعليم الرباني أن يفكر أن الشمس والقمر والنجوم وحيوانات الأرض وغيرها آلهةٌ؟ كما لم يكن قبل آدم آباء حتى يعتبرهم آلهة! فلا بد من أحد الأمرين، إما تكذيبُ بيان الكتاب المقدس أو إبطالُ زعم الفلاسفة أن فكرة الإله الواحد تطورت بالتدريج.

وقد قدّم الإسلام النظرية نفسها كما سيأتي ذكرها عند الحديث عن آدم في الآيات التالية، أي أن الله تعالى قد شرّف الإنسان بمجرد خلقه بكلامه ومعرفة وجوده.

فلا يمكن، مع وجود هذه التعليمات، أن تجتمع دعوى الدين وأفكار هؤلاء الفلاسفة بأي حال من الأحوال، بل لا بد من اعتبار أحدهما باطلًا. وسوف أقارن الآن بين النظريتين لأبين أيتهما صحيحة وأيتهما باطلة.

تتأسس نظرية الفلاسفة عن الله تعالى على أمرين اثنين: إنكار الوحي السماوي، والمفهوم الخاطئ للتطور.

أما إنكارهم للوحي فقد نجم عن حرمانهم من هذه النعمة، لأنهم وُلدوا وتربّوا في البلاد المسيحية التي لم تَحْظَ بنعمة الوحي والإلهام منذ أمد بعيد. فلأنهم لم يتلقوا الوحي بأنفسهم، كما لم يروا من تلقّاه، فتوهموا عدم وجود الوحي السماوي بتاتا. ودفَعهم هذا الوهم إلى البحث عن دواعٍ عقلية لوجود الله تعالى، فأرادوا حل هذه المعضلة على ضوء نظرية التطور التي كانت تسترعي أنظارهم في هذه الأيام، فوقعوا في هذه العقيدة الباطلة.

لقد سبق أن بينتُ لدى تفسير قول الله تعالى وبالآخرة هم يوقنون أن القرآن الكريم لا يُعلن نزول الوحي الإلهي فحسب، بل يقرّ بنزوله في كل عصر، ولو ثبت صدق دعوى القرآن هذه لاجتُثّتْ نظرية الفلاسفة هذه من جذورها. يُعلن القرآن الكريم أن كل كلمة من كلماته وحيٌ أنزله االله تعالى على محمد . كما يدّعي القرآن الكريم أن الله تعالى لم يزل منذ بدء الخلق يُنزل وحيه على الخواص من عباده وأتباعِهم، ولم يبرح يكشف لهم وجودَه. كما يدَّعي القرآن الكريم أيضًا أن المؤمنين به سيحظون بوحي الله تعالى دائما. وفي هذا العصر قد ادعى سيدنا مرزا غلام أحمد المسيح الموعود والمهدي المسعود مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية بالتشرف بوحي الله تعالى، وكان يعلن أن وحي الله تعالى ينزل عليه ببركة القرآن الكريم ولخِدْمته. وقد تلقى آلاف الإلهامات التي قد نشرتها جماعته مجموعةً في كتاب “التذكرة”، وهذا الوحي يشتمل على آلاف النبوءات والمعجزات التي قد تحققت ولا تزال تتحقق. فأنّى لنا أن نرضى بقول الفلاسفة بعد رؤية هذه الآيات. كلا بل نعتبر هؤلاء الفلاسفة بعد رؤية هذه الآيات كتلك الشخصية الغبية التقليدية التي كانت تسعى دائمًا لإيجاد سبب غير معقول حتى لأبسط الأمور.

ثم بعد سيدنا المسيح الموعود وببركته، قد ذقنا نحن أيضًا طعم الوحي الإلهي، وقد جرب راقم هذه السطور الوحيَ الإلهي مئات المرات. وبعد هذه التجربة ماذا عسى أن تؤثر فيَّ أقوال هؤلاء الفلاسفة. غير أني أترحم عليهم لتعاسة حالهم وأتعجب من جهلهم بالعالم الروحاني. لو أن هؤلاء يرجعون إلينا ويسألوننا لقلنا لهم إننا بفضل الله جاهزون الآن أيضًا لإثبات صدق ملوك العالم الروحاني الذين خلوا من قبل، مِن خلال الآيات الجديدة والأدلة القوية.

باختصار، ما دام الوحي الإلهي أمرا ثابتًا بالتجربة وبالمشاهدة، فلا قيمة لهذه الحجج النظرية التي لا أساس لها إلا الظن والقياس.

والأساس الثاني لنظريتهم هو مفهومهم الخاطئ لظاهرة التطور، إذ يظنون أن الإنسان في أول أمره عبَد آباءه أو مظاهر الطبيعة والحيوانات وغيرها. والحق أنه ظنٌّ باطل ومرفوض عقلياً وتاريخيا. الواقع أن مفهوم التطور فيما يتعلق بالعقل الإنساني إنما هو مقصور على أن الأمور الدقيقة كُشفت على الناس شيئًا فشيئًا، وتمّ إظهارها بحسب تطور العقل الإنساني. والتطور بهذا المفهوم وبنفس القدر تقول به اليهودية والمسيحية والإسلام أيضًا، أما القول بأن الإنسان البدائي لم يُعْطَ حتى العِلمَ البسيطَ بوجود الله تعالى، فهو قول غير معقول كلية. يا ترى، ما هو المانع الذي منع الإنسان البدائي من قبول فكرة وجود الخالق؟ لا يوجد هناك أي سبب منطقي لذلك بتاتا، فكيف يمكن أن يقبل أحد هذه النظرية غير المنطقية؟

يزعم هؤلاء الفلاسفة أن ما يوجد عند الشعوب المتخلفة من علم عن الله تعالى إنما تيسر لهم عبر العقائد الوثنية، وهي التي صارت أساسًا لعقيدة وجود الإله. وزعمُ الفلاسفة هذا راجعٌ إلى جهلهم بحقيقة ناصعة وهي أن تخلُّف شعب حضاريًا ليس بالضرورة علامةً على كونه بدائيا. ولو أن هؤلاء الفلاسفة أمعنوا النظر في التاريخ لعرفوا أن الأمم المختلفة قد مرّت بمراحل مختلفة من الحضارة، فهناك أمم كانت في عصر من العصور متحضرة ذات باع كبير في العلوم والفنون، ثم باتت في عصر آخر متخلفةً ومحرومة من تلك العلوم. ألم يدرسوا حضارة اليونان والفرس وأهل العراق ومصر؟ وهل غاب عنهم تاريخ الهند والصين؟ ألم يعرفوا من خلال الاكتشافات القديمة التي قام بها إخوانهم في شتى البلاد أنها كانت في الماضي مهدًا لحضارات عظيمة، ثم تلاشت اليوم، وأن هذه البلاد كانت مراكز للعلوم في سالف الأيام، ثم صارت من مصادر الجهل اليوم؟ هل اليونان المعاصر- الذي هو جزء من أوروبا- لا يزال منبعًا لتلك العلوم التي نبعت هنالك في عصر أرسطو وأفلاطون؟ هل تُشاهَد في الهند اليوم آثار الرقي الذي حققته في الأزمنة الغابرة؟ كم حققت مصر في الماضي من الرقي الذي أدنى مثاله تلك المومياوات التي لم تستطع أوروبا حتى الآن معرفة سر تحنيطها، ولكن هل يوجد أي أثر لتلك العلوم الآن في مصر.

فإذا أمكن أن تأتي أدوار الجهل والتخلف بعد أدوار الحضارة والمدنية، فكيف يُستبعَد أن تكون أدوار الشرك قد أتت بعد أدوار التوحيد؟ وبأي دليل يمكن اعتبار أدوار الشرك سابقة على أدوار التوحيد؟ وإذا كان تقدُّم دور الشرك على دور التوحيد غيرَ ثابت فما هو أساس نظرية الفلاسفة هذه؟ وما دام الأمر هكذا فقد بطلت نظريتهم من تلقائها.

ولإلقاء الضوء على هذه القضية، أضرب مثالًا من الأديان الموجودة. كان “كرشنا” نبي الهندوس قبل ألفي سنة، وكان موحدًا، ولا يزال كلامه موجودًا حتى اليوم، وله كتاب معروف باسم “جيتا” وهو يتضمن عقائد التوحيد، ولكن لو قارنّا تعاليم “جيتا” بعقائد الهندوس الذين كانو قبل خمسمائة عام لوجدناهما على طرفي نقيض. عندما جاء المسلمون إلى هذه البلاد قبل قرابة خمس أو ست مائة سنة كان كل بيت هندوسي معبدا للأصنام، وكانوا يعبدون الأوهام، ولم يكن للدين الحقيقي وجود في أي مكان. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يوجد في كتاب “جيتا” أي ذكر لهذه الأوثان التي كانت تحكم أهل الهند قبل خمسمائة عام؟ هل كان فيه أي تصديق للأوهام التي كانت منتشرة في هذه البلاد في تلك الأيام؟ فإذا كانت عقيدة الشرك هي السائدة أولاً، ثم انتشرت عقيدة التوحيد بالتدريج لاحقا، لكان لزامًا أن تكون هذه الأوهام سائدة من قبل، وأن يكون لهذه الأصنام رواج أولاً، ثم بعدها يسود التوحيد، ولكن ما نشاهده هو أن التوحيد كان قد شاع أول الأمر، وكان إنسانٌ موحدٌ مثل كرشنا قد بعثه الله هاديا للهند، ثم بعدها حلّ الشركُ وعبادة الأوهام محلَّ التوحيد.

أما لو قال هؤلاء أن أهل الهند انحرفوا وصاروا مشركين فيما بعد، فأقول لماذا لا يصحّ هذا القول بالنسبة للشعوب الوثنية الأخرى التي كانت في الأدوار الأولى التي انخدع بها هؤلاء الفلاسفة فبنوا عليها نظريتهم؟ كان أساس قولهم أن التطور يقضي بأن يكون الوضع في البداية متدنيا ثم يتطور ويتحسن، ومادام هذا الأساس قد ثبت بطلانه هنا فقد تهدم بناء نظريتهم.

والمثال الثاني الذي أقدّمه هو الديانة اليهودية. لو قرأتم العهد القديم لثبت فيه جليا أنه جاءت على اليهود فترات من الشرك والوثنية بعد فترات التوحيد، بل دَعْ تاريخ اليهود القديم جانبًا، فقد تفشت في اليهود المعاصرين أيضا أفكار الشرك خلاف التوحيد المذكور في التوراة.

أما المسيحية فإن الداعين إلى عقائدها الحالية يعترفون بأنفسهم أن المسيح إنما دعا إلى الإله الواحد. وغنيٌّ عن البيان كيف صارت عقيدة التوحيد تلك محرَّفةً ومشوَّهةً اليوم، فهل هذا دليل على أن دورة التوحيد سبقتْ دورةَ الشرك كما نقول، أم على أن دورة الشرك سبقتْ دورةَ التوحيد كما يدَّعون؟

وأخيرًا، انظروا إلى تاريخ الإسلام الذي ظهر في آخر الأديان. لقد قدّم هذا الدين من البداية حتى النهاية التوحيد الخالص، ولم يكن فيه أي أثر لعبادة الأرواح، ولم يُطِقْ نبيُّه أن يقول له أحدُ أصحابه “ما شاء الله وما شئتَ” كما ذُكر آنفًا، وقد حذّر أُمّته من فخاخ الشرك حتى لحظةَ وفاته قائلا: “لعن اللهُ اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ” (صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البِيعة)، لكن انظروا كيف انحرفت أمته عن التوحيد وكيف وقعوا في الحضيض. سجدوا للقبور، ونسبوا إلى أولياء الله صفات الله تعالى، وتوسلوا إلى الأموات لقضاء حاجاتهم، وليس هناك فعل وثني إلا وقعوا فيه. فهل يصحّ بالنظر إلى انحرافهم عن التوحيد إلى الشرك أن نستنتج أن ابتداء الإسلام كان من الشرك والوثنية، وأن فكرة الإله الواحد جاءت فيما بعد؟ فبحسب نظريتهم التطورية يجب أن تسبق العقيدةُ البسيطة على العقيدة المكتملة بكل جزئياتها.

فما دامت هذه الشواهد التاريخية تؤكد أن التوحيد كان في الأمم أولاً ثم انتشر فيهم الشرك، فما قيمة هذه النظرية الواهية التي يقدمها هؤلاء الفلاسفة المزعومون إزاء هذه الشواهد التاريخية البينة؟ أليست هذه الشواهد دليلًا على أن الشرك كما انتشر بعد التوحيد في هذه الأمم، كذلك انتشر بعد التوحيد في الأمم البدائية.

والحق أن الرقيّ الإنساني يتمّ على فترات متناوبة، ويأتي الانحطاط بعد الرقيّ ويحلّ الرقي بعد الانحطاط، وهكذا. فالقياس بأفكار الناس في فترة معينة من التاريخ والقولُ بأن فترة الانحطاط كانت أولًا فقط ولم تسبقها فترة الرقي قط لَقياسٌ واهٍ لا يصحّ أبدًا.

والدليل الثاني على بطلان زعمهم هو أنه إذا كانت فكرة وجود الإله جاءت نتيجة التطور، فكان لزامًا أن يبدأ الناس في أول الأمر بعبادة الشمس والقمر وغيرهما من الأجرام، ولكن تاريخ القبائل الوثنية يدلّ على أن عبادة الأفاعي وغيرها من الزواحف والحيوانات سبقت عبادةَ الشمس والقمر وغيرهما، حيث وُجدت عبادة هذه الأجرام في الشعوب المتحضرة نسبيا، مع أن الإنسان إذا أخذ فكرة الإله مرتعِبًا من الظروف المحيطة به، فكان المفروض أن يبدأ في عبادة الشمس والقمر والنجوم أولاً، لأنه كان يراها في كل مكان وفي كل يوم، وكانت تؤثّر على العالَمَ كلَّ يوم بتأثيراتها التي من شأنها أن ترعب بوجه خاص قلبَ الإنسان الجاهل بعلوم الفلك آنذاك. أما الأسود والفهود والأفاعي فلم يكن يراها الإنسان كل يوم كما لا يكون تأثيرها واسعًا كسعة تأثيرات الأجرام الفلكية.

بالإضافة إلى ذلك، ما دام الإنسان قد تكوّنَ بالتدريج نتيجة مبدأ التطور فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لقد ظلّ الإنسان يواجه هذه الأسود والنمور والثعابين آلافَ السنوات، ومع ذلك لم يعظّمها تعظيما خاصا، فكيف اعتبرها آلهة فجأة، مع أن هذه الضواري لم يكن لها ما للشمس والقمر والنجوم من طبيعة غامضة سحرية هي ضرورية لفكرة اتخاذ الشيء إلهًا. فاتخاذُ الإنسان شتى الحيوانات والزواحف والحشرات آلهةً في أول الأمر -مع أنه كان يعيش معها، ويتقاتل معها ويقتل بعضها وهو قرد بحسب نظريتهم عن التطور الإنساني- وتفكيرُه في اتخاذ الأجرام الفلكية آلهةً فيما بعد لأمرٌ يفنّد كليةً مزاعمَ ونظريات هؤلاء الفلاسفة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك