رحمة للعالمين

ما أبدع ما وهب الله الإنسان من العقل، هو يواجه أطوارًا من الظروف والأحوال؛ يتيه في بيداء الفلسفة أحيانًا، ويحلق في أجواء الوجدان آونة، تحط به غوامض العلم إلى الأعماق مرة، وتسمو به أنواء الهيام إلى أعالي القدس مرارًا. كانت إحدى هذه الأحوال تملكت كياني، فكنت مستغرقًا في أعماق حياة الرسول ، كان عقلي يحاول أن يدرك حدودها، فإذا بقلبي طغى علي وحطم قيود الزمان، وتحرر من أغلال المكان، واجتاز مدى إمكانه وقوته، وأخذ يحلق في أجواء السماء، وجعلني ذلك الخضم طليق الفكر غير عابئ بالسواحل.

رحمة للسماوات

إن أنظاري طمحت نحو السماوات، فإذا أنا بشمس وهاجة ونجوم متلألئة، ما أبهى منظرها، وما أشد اختلابها للقلوب. كان كل شعاع من أشعتها متهللاً بتباشير الحب، كأن محبوبًا يتطلع إلى الكون من وراء الأضواء المتلألئة. فاضطرب قلبي لهذا المنظر أشد الاضطراب، فكنت أستشف في تلك الأضواء صورة وأية صورة، وهي لحبيب أزلي هو كنز لجميع المحاسن. وكان يسودني عندئذ شعور من قال بالأردية:

جاند كوكل ديكه كر مين سخت بي كل هو گيا

كيونكه كچه كچه تها نشال اس مين جمال يار كا

أي تملكني البارحة اضطراب شديد عند رؤية القمر، فقد كان حسن حبيبي يتجلى فيه بعض الشيء.

لا أدري إلى متى أبقى غارقًا في ذلك لو لم أر أن وجه الشمس أخذ يصفر، وأضواؤها بدأت تتضاءل، وبدا لي القمر والنجوم كأنها ساهمة غائرة، وكأن الذي أعارها النور قد انسحب من ورائها، وكأنها حرمت من نور ذلك الوجه الوضاح المتطلع من وراء اللألآت.. وبدت تلك السيارات المتدفقة بالنور والحياة وكأنها كتل من التربة الهامدة. فتساءلت تائه النظر زائغ البصر: ما الذي سيحدث الآن. فإذا أنا بأشباهي من بني الإنسان في أعماق الأرض، فرأيت ألوفًا ومئات الألوف من عقلائهم مكبين على رؤوسهم أو جاثمين يذوبون بكاء وتضرعا بدعاء آلهتهم، منهم من يستغيث بإله الشمس طالبًا رحمتها ويلح قائلاً: يا إلهي، نوّر داري المظلمة بأشعتك، وعمّر حضن زوجي العقيم بالأولاد، واقض على أعدائي. ومنهم من يقول: إلهي القمر، أضئ ساعاتي الحالكة بأضوائك الباهرة، وباعد بيننا وبين الهموم والآلام. ومن قائل: يا أيتها النجوم، أنت منابع راحتي، يا أيتها الزهرة، عطري بيوتنا بعبير الحب واصرفي إلينا قلوب أحبائنا. ويا أيتها المريخ لا تصبي علينا جام غضبك ولا تجعليني عرضة المصائب، حوّلي عنا نقمتك إلى أعدائنا.

وأخذني الروع لهذا المنظر الفظيع، وقلت في نفسي: ما أشقى الإنسان الذي شوه هذه الأشياء الرائعة الجمال، إذ أخذ يهوى خمار الحبيب دون وجهه ويشغف بزخارف لباسه لاهيا عن جماله الحقيقي، فقال له الحبيب: إليك عني، والهٌ به وتمتع، فإذا بذلك الغر يرى أن اللباس الذي كان أخاذا بجمال لابسه قد أصبح من القبح والرداءة بمكان. فقلت في نفسي أن الظواهر السماوية أيضًا خاضعة لنفس الحالة، ما أجملها وما أروعها وما أجلّها ما دامت مرآة لوجه الحبيب الأزلي، لكن إذا تجردت ذواتها عن ذلك الوجه، تبددت روعتها. ما أقسى علماء النجوم الذين يحللونها ويحولونها إلى كتلة من المعادن أو كرة من الغازات.

ودفعتني هذه الأفكار لأن أجيل في السماوات وجمالها الذابل نظرات لاهفة، ثم أعدت النظر في الإنسان وعقله الضائع.

كنت تائهًا في هذه الخواطر، فإذا أنا بصوت خلاب، أطرب وأحلى ما يكون من الألحان، يستأسر القلوب ويمتلك الألباب، وقال بلهجة ملؤها الجلال والجزالة: لا تسجدوا للشمس ولا للقمر بل اسجدوا لله الواحد القهار الذي خلق الشمس والقمر والنجوم وهي خاضعة لإشارته وتابعة لحكمه، ألا هو الخلاق وله الحكم وحده.

ما أشد تأثير ذلك الصوت وما أملكه للنفوس، وبدت الأرض كأن فرائصها اقشعرت لقوة ذلك الصوت، وأصبح بنو الإنسان كأنهم بعثوا من مراقدهم. فتقدموا إلى خالقهم بوجوه تعلوها ألوان من الحياء والندم والخزي، فخضعوا له. واستردت السماء جمالها، وعاد الحبيب الأزلي يتطلع إلى العالم من وراء الشمس والقمر والنجوم، وصارت كل ذرة من ذرات العالم مظهرًا لجلال الله عز وعلا، وبدت آراء علماء النجوم ونظرياتهم تافهة، وصاح في وجوههم العشاق متبرئين: اضربوا بنظرياتكم الغازية والمعدنية عرض الحائط، تتمسكون بالقشور دون اللباب، الا ترون وراء ركام المعادن ودخان الغازات جمالا وأي جمال، فمن أي وجه يتدفق هذا النور، ومن أي يد تشع هذه الأضواء؟ فرأيت تربة القمر الخامدة التي يزعمها أصحاب النجوم هامدة ميتة بعوامل ألوف السنوات، أجل! رأيتها متهللة، مالها وللبرودة والحرارة، ومالها ولموتها وحياتها، إذ كل ذرة من ذراتها تشرق طربا وحبورا، بأنها تشرفت بكونها آية من آيات الله.

فإذا بقلبي هزته هزة، وتأوهت آها، وقلت: إن ذلك الصوت كان رحمة للأجرام السماوية.

رحمة للملائكة

ثم تصاعدت أنظاري، وتخيلت في السماوات العُلا كائنا في غاية الجمال والنزاهة، وكنت قد رأيت وجوههم في عالم الكشف والرؤيا. وكان الكشف يطابق الخيال تمامًا، وكان هذا المخلوق على غاية الوداعة، ذا أجسام لطيفة لا يبصرها إلا الأنظار الروحانية. هي قدسية الصورة، طاهرة السيرة. هؤلاء جادون كادحون غير حافلين بكر الغداة ومر العشي، كأن كل دقيقة من ساعاتهم خاضعة لخدمة مولاهم، وكأنهم آلات متحركة بإشارة سيدهم. لكنني أبصرت بعين البصيرة أن وجوههم المشرقة واجمة بآثار الحزن وتبدو عليها مسحة من الكآبة. وفتشت عن الداعي، غير أنني لم أجد دافعًا إلى ذلك، كان مولاهم راضيًا عنهم وهم راضون عنه. فما الباعث إذن على هذا الهم؟

فأعدت النظر إلى الأرض، فإذا أنا بمنظر كارثي مروع، رأيت مباني شامخة شيدت باسم هؤلاء الأرواح السامية المقدسة، فوجدت فيها تماثيلها التي يعبدها الناس، وألفيت هناك رجالا جساما ذوي جبب فضفاضة، متظاهرين كأن علوم الدنيا كلها تجمعت في رؤوسهم. كانوا يقولون لمن حولهم، وكأنهم يفضون إليهم سرًا خطيرًا لا يناله الناس إلا بعد أن يستهلكوا أعمارهم متعبدين، ويتجشموا عشرات السنين متبتلين، وكانوا يقولون لهم: إن الملائكة في الوقع (والعياذ بالله) بنات الله، وخير طريق لاستمالة الله حسب أهوائنا أن نستولي على بناته. وكانوا يدلون الناس حسب مزاعمهم على العبادات التي تؤدي إلى هذه الغاية. وكانت وجوه الناس تتهلل سرورًا وكانوا يفدون هؤلاء العلماء المتبحرين بنفوسهم.

ثم التفت إلى ناحية أخرى، فإذا أنا بأناس آخرين من أمثال المتجببين السابقين كانوا واقفين عند بئر في لفيف من أتباعهم يتناجون في أمر، وكانوا يقولون قول من يحل لغزا معقدا: إن البئر هي التي حبس فيها ملكان هاروت وماروت لعشقهما ببغي (مومسة)، حتى أن بعض المتجببين كانوا يصرون على أنهما ما زالا محبوسين هنا، وبعضهم كانوا يزعمون أن أحد أساتذتهم رآهما معلقين رأسا على عقب أيضًا. الأمر الذي كان يهز بعض أتباعهم هزًّا. وآنئذ عرفت أن الإنسان لم يكف عن الاعتداء حتى على الملائكة.

وكنت في دهشة مما رأيت، فإذا أنا بنفس ذلك الصوت الأخاذ الحلو الذي كان ينبعث بخليط عجيب من الحب والجلال، وكان يقول: إن الملائكة هم عباد الله وليسوا ببنات الله، إنهم يطيعون الله حق طاعته، ولا يعصون الله ما أمرهم. فانتبه الناس من سباتهم وصحوا من غفوتهم، وتندموا على عقائدهم البالية، وهدمت تلك المباني الشاهقة التي كانت شيدت باسم هؤلاء البنات المزعومات لله، وأسست في مواضعها معابد باسم الله الواحد القهار، وتخربت تلك الآبار التي كانت تذكارا لعصيان الملائكة، وصارت معطلة لا يزورها زائر. فرأيت الملائكة مستبشرين كأن غاسلاً نقَّى ثيابهم بعد أن اتسخت ببعض الرشاش الدنس. فأرسلت آها آخر، فقلت: إن ذلك الصوت كان رحمة للملائكة أيضًا.

رحمة للزمان

وحادت أنظاري عما سبق إلى الزمان، ومنذ متى هؤلاء الملائكة قائمون بأعمالهم؟ ومنذ متى هذه الشمس والسيارات حولها تؤدي واجباتها؟ من يدري أن الزمان، مهما كان، كم واجه من التطورات؟ كيف ومنذ متى ظل مقياسا للمسرات والآلام؟ لو كان كائنا حيا لكان أفخر ما يكون بما قدم لخلق الله من خدمات إلى وقت غير محدود.

كنت في هذه الخواطر، فإذا أنا بوصمتين في وجه الزمان، فسمعت أناسًا يقولون: إن الزمان غير فان وأزلي وأبدي كالله تعالى تماما. وسمعت آخرين يدّعون أن الزمان ظالم غشوم، إنه أودى بقريبي فلان، إنه جائر أصابني بهلاك ودمار.

فقلت في نفسي، إن الزمان لو كان ذا حياة لحزن على هذه الأقوال، فإذا أنا بنفس ذلك الصوت يقول: إن الذين يزعمون أن الدهر هو الذي يهلكنا ويدمرنا، أو إنه إله، هم مخطئون وليسوا من الحقيقة في شيء. إن الإماتة والإحياء بيد الله لا يبقى شيء إلا ما أبقاه الله، وليس الدهر له إلا كعرض من الأعراض. ثم قال ذلك الصوت ما الدهر إلا صفة من صفات الله ، فأنتم الذين تسبون الدهر إنما تسبون الله. فزاد قلبي دنوا إلى صاحب ذلك الصوت، فقلت بقلب مفعم بالحب: إن ذلك الصوت كان رحمة للدهر أيضًا.ن الدهرأن

رحمة للأرض

وانصرفت أنظاري عن الدهر إلى الكوكب الأرضي، فقلت في نفسي: إن أرضنا ليست بأقل جمالاً من الكواكب الأخرى، بل إنها أجمل منها ببادئ النظر، لأن تلك الكواكب ليست إلا مصادر الضوء، لكن أرضنا هذه، علاوة على كونها مضيئة، تحتوي على أنواع من الخضرة وبدائع من المناظر، وجبال مكللة بالأزهار، وأنهار جارية، وعيون دفاقة، ووديان مظللة، وأشجار متدلية بالأثمار، وغابات متبرجة بالأزهار، وحقول مهتزة، ومضارب غاصة بالغلال، وطيور مغردة، ومواش متوثبة في دلال وإعجاب، وغيرها مما لا يحصى. وطغت عليّ فتنة هذه الأرض طغيانًا جعلني أرى وحوشها وثعابينها وعقاربها وحشراتها السامة الأخرى وبعوضها وجرذانها التي تسبب الطاعون، على غاية من الجمال. ففكرت أن الأسد لا شك حيوان متوحش ويفترس الإنسان أحيانًا، لكن لولاه لما اختبرنا شجاعة الشجعان ولما وصفنا أحدًا بقاهر الأسود، ولما بقي للإنسان وسيلة لهذا الاختبار غير الاعتداء على بنى نوعه. وهذا الوحش لا ينفعنا حيًا فحسب، بل يفيدنا ميتًا أيضًا، إن شحمه وأنيابه، وجلده، دواء وزينة وزخرف. وتبينت أن لحم الأفعى، ولولا العقرب لما شفي أصحاب حصوة الكلى بغير عملية جراحية، وكذلك لم أجد البعوضة غير آلة انذار بجو رطيب وأرض حمئة، هذه الناموسة المسكينة كيف تنبهنا ليلاً ونهارًا وتخبرنا بأن منافذ البيت وسخة نتنة والمصارف الأرضية للمدينة مملوءة بالأوساخ، وأن الناس ساهون عن نعمة المياه. وقصارى القول أنها لا تنفك تنبؤنا وتذكرنا بواجباتنا. وعندما ترانا لا نتحرك ولا نتجنب الكسل، تغضب وتضطر للعض، إن انتشار المرض لا يرجع إلى البعوض مثلما يرجع إلى كثرة الرطوبة الأرضية والمنافذ الوسخة المتعفنة والمصارف الحمئة النتنة والمياه المهملة. فكل كائن بدا لي مظهرا رائعا لجمال خالقه وتمثلت في كل ذرة صورة ذلك الحبيب الأزلي.

غير أنه فاجأت مني التفاتة إلى المدن والقرى، فإذا أنا بأناس يسجدون للجبال والأشجار والأحجار والأنهار والحيوانات، ويتهالكون على القشور دون اللباب. فتعكرت طبيعتي الصافية وطغت على قلبي الكراهية، وعاد لي الماء النقي الصافي، فضلاً عن الأسد والأفعى والعقرب، مليئًا بملايين الديدان، وأحسست حتى من المروج النضرة روائح مثيرة كريهة للخضروات النتنة. ورأيت أن هذه الأرض لم تعد تصلح للبقاء ولا يومًا واحدًا، وبدا لي كأن كل شيء بها صار ميتًا، وأن مناظرها الخلابة ليست إلا كتبرج العجوز العاهرة التي لا تستطيع رغم ألوف الحيل والحلى أن تستر دمامتها وفظاظتها.

كنت في هذه الهواجس فإذا أنا بنفس ذلك الصوت الحلو الأخاذ الذي انبعث يقول: إن هذه الأرض وما فيها خلق لخير الإنسان، إن جبالها وأنهارها ودوابها وطيرها وثمارها وغلالها كل أولئك إنما تهدف إلى تنوع أعمال الإنسان وتقربه إلى خالقه ، باستخدام هذه الأمانات خير استخدامها. إن خيرات هذه الأرض وويلاتها ببادي النظر كلها لبلاء الإنسان. فبورك من يتمتع بها ويقرب بها إلى الله.

ولم يكن وقع ذلك الصوت إلا رسالة نشاط وانبساط لكل ذرة من ذرات العالم، أصبح نفس هذا العالم جنة، وبدا كان جنة الآخرة هي ليست إلا حلقة من حلقات جنة الدنيا.

كم من أناس استمعوا إلى ذلك الصوت، فسعوا إلى خالقهم تائبين عن الشرك والبدعة متندمين على ما بدر منهم من الأخطاء، فعادت الدنيا مظهرًا لجلال الله وجمال الحبيب وأي حبيب. فزفرت زفرة، وقلت: إن ذلك الصوت كان رحمة للأرض أيضًا.

رحمة للإنسانية

فلذا أمعنت النظر في تعبد الإنسان دون سائر الكون، وأبصرت أخطاءه وتوبته العاجلة منها، وعاينت كفاحه المتواصل على علاته وزلاته. واهتز قلبي سرورا، فقلت ما أروع هذا المخلوق في هذه الدنيا الفاتنة، وما أشد استهواءه للقلوب.

لكن بينما كنت أتمتع بهذا الشعور، فإذا أنا بأناس تحللوا بحلل سوداء، ذوي لحى متفرعة وسبحات فخمة، ووجوه جادة بطابع علماء الدين، كان يطوقهم حشد من الناس يستمعون إليهم باهتمام، ويتأثرون بأقوالهم أيما تأثر. وبدا لي كأن معظم أهل الدنيا قد أصبحوا وما زالوا يصبحون ضحية سحرهم. كانت وجوههم تنم على العلم، وكانت أقوالهم تفوح بعبير الحب والمؤاساة، وخاطبوا الناس قائلين: أيها الأشقياء، لماذا تتظاهرون بالسعادة؟ ولأي أمل تعيشون؟ ألم يبلغكم عن الهوة السحيقة من النار التي حفرها لكم آباؤكم، أجل تلك النار الأبدية تضطرم بالكبريت وتنتظركم تلك الظلمات الحالكة التي تبدو لها ظلمات العالم أنوارًا، فلماذا أنتم مسرورون إذن؟

بأي وجه تطالبون بالنجاة، وكيف تجرأ قلوبكم أن تتمناها؟ ألا تدرون أن الطاهر والدنس لا يلتقيان، ولم يعد بإمكان أحد أن يغير الماضي. من منكم يدعي بالنجاة والطهارة وإنه حقيق بلقاء الله؟ من منكم يدعي أن بإمكانه أن ينجو ويتطهر؟ لأن الشريعة تدنس ولا تطهر، وأن أحكامها تدفع إلى العصيان ولا إلى الطاعة. من الذي يستطيع أن يتمسك بجميع الأحكام، والذي يرفض حكمًا تافهًا فهو من العصاة. وأليس قطرة أو ذرة من النجس تنجس كل ما تقع فيه مهما كان ذلك الشيء أجود؟ فكيف يمكنكم إذن أن تظنوا أنكم الأطهار أو باستطاعتكم أن تكونوا بهذه الصفة؟ أنسيتم أن أباكم آدم جنى ذنبا ونسي نعمة الله عليه، فأزله الشيطان هو وزوجته حواء أمكم وجعلهما من العصاة، أنتم من أولادهما. كيف تظنون أنكم لا ترثون معاصيهما. أتأملون أن تستولوا على أموال آبائكم ولا تؤدوا دَينهم؟ وتلقوا حسناتهم ولا تلقوا سيئاتهم؟ وإذا تلقيتم الإثم كميراث فكيف تتقون لعنة هذا الميراث؟ أتزعمون أن الله يغفر لكم؟ أيها البله ألا تعرفون أنه رحيم وعادل أيضًا، ورحمته لا تخالف عدله، فكيف يمكن أن ينسى عدله لأجلهم.

فرأيت أن تيار التشاؤم في خطباتهم كان من القوة بدرجة نسفت جبال الآمال، والوجوه التي كانت تتهلل بالسرور ما لبثت أن غامت بالحرمان واليأس، وتحولت الدنيا وأهلها إلى ألعوبة محطمة. وبعد لأي عاد العلماء إلى صرخاتهم، قالوا: لا تيأسوا، إن آمالكم وإن تحطمت لكن هنا طريقًا لتحقيقها.

وقال هؤلاء الرجال (القساوسة) إنذاركم مقترن ببشارة، إن عدل الله اقتضى عقابكم، لكن رحمته أنقذتكم، إذ بعث ابنه الوحيد لكي يصلب من غير ذنب ويكون كاذبا وهو صادق.. فتمثل ابنه بصورة المسيح فصلبه اليهود بغير ذنب، فتحمل عبء آثام المؤمنين وتوسل لنجاتهم فآمنوا به يحمل خطاياكم، فبذا يتحقق عدل الله ورحمته أيضًا، فينجو العالم.

فرأيت أن اليأس قد زال ثانية، وأخذ الناس يرقصون فرحين. فاحتفل العالم بعيد لم يسبق له مثيل، فتهافتت الناس والتفوا حول الصليب الذي نجاهم متضرعين، وأخذوا يقبلونه متحمسين أحيانًا، ويضمونه إلى صدورهم آونة، واستقبلوه استقبالا كله ثورة وجنون.

غير أنني رأيت عندما عاد الهدوء بعد نوبة الحماس. أن بعض الناس كانوا يتهامسون قائلين: إن استحالة تجنب الإنسان عن المعاصي معقول لكن رسالة أمل المستقبل لا يرضى به العقل. إذ كان العدل واجبًا على الله، فهو أوجب على ابنه. وإذا كان العفو عن المذنب يناقض العدل فعقاب البريء أيضًا يعارضه. فكيف أمكن إذن أن احتمل ابن الله خطايا الناس، فعاقب الله ذلك البريء بخطاياهم؟

ثم قالوا: قد استعصى على أفهامنا أن الموت حسب ما أخبرنا جزاء الخطيئة، ولما لم تبق للخطيئة باقية، فكيف بقي الموت الذي هو جزاؤها. إذ العفو المطلق عن الذنوب يستدعي انقراض الموت أيضًا. ثم اعترف بعض الناس بأننا الآن أيضًا نجني الذنوب، فإذا كان الذنب الموروث قد انقطع عنا بتاتًا، فلماذا نندفع إليه الآن رغم الاتقاء؟ ولما سمعهم الآخرون يتحدثون متشجعين انبروا يقولون: نحن أيضًا نذنب نحن أيضًا..

ثم رأيت في عالم الخيال هؤلاء الناس يقولون: لماذا خلقنا الله؟ ما أسوأ الإنسانية التي كانت تعد من المثل العليا. كيف نبتت عن بذور الخطيئة وكيف نمت في جوها، وكيف تغذت بها. وكانت الخطيئة لفها ولفيفها. فإلى أي غرض يهدف خلق الشيء الفاسد؟ ما هذه الجنة؟ ولمن هي؟ لأننا لا نرى إلا اليأس والقنوط ولا نتبين إلا حقيقة السعير.

وبينما كانوا يتخبطون في هذه الهواجس، فإذا هم بذلك الصوت الرحيم المنعش الذي كان قد حل معضلات لهذه الدنيا مرارا يرتفع في الأجواء، وسادت العالم الأنغام المطربة المنبعثة من صداه، فهب كل إنسان يصغي إليه، وأخذ يخفق كل قلب بعواطف الرجاء والأمل. فارتفع ذلك الصوت وأذاع للعالم رسالة مسهبة في هذا الموضوع أعبرها بكلامي وأمثالي، قال ذلك الصوت: إن الذي يدفع أحدًا إلى اليأس فإنما هو مسؤول عن هلاكه، إن غرس الإيمان لا يزدهر إلا بين الخوف والرجاء، ولا يتم ذلك أيضًا إلا بعدما يكون الرجاء أوسع من الخوف. فالذي يقضي على الأمل فإنما هو يضاعف الخطيئة ولا يمحوها ويثير الأخطار ولا يقللها، أخطا آدم بلا شك لكن كان ذلك نسيانا ولم يكن عزما. لكن ليس من اللازم أيضًا أن يرث الابن أباه في كل ما عمل، لو صح ذلك لظل ابن الأبوين الجاهلين جاهلا وابن العلماء عالما. وليس أبناء المسلولين مسلولين دائما، ولا أبناء الجذاميين جذاميين. الوراثة واضحة في بعض الأمور وليست في كلها. وحيثما كانت مؤثرة، خلق الله من الوسائل ما يساعد على التخلص منها. ولو لم تكن هذه الوسائل المؤدية إلى تعقيم الوراثة، لما أجدت الدعوة والتعليم أي نفع. إن إيمان أولاد الكفار ليدل على أن قانون الوراثة لا يجري في الإيمان والكفر، ولو كان الإيمان أيضًا منوطًا بالوراثة لكانت بعثة المسيح نفسه باطلة.

وقال ذلك الصوت أيضًا:

إن الله خلق الإنسان وزوده بقوى صالحة، ثم بعض الناس يعملون على تنمية هذه القوى فينجحون، وبعضهم يدوسونها بأقدامهم فيفشلون. إن الشريعة بلا شك كلها صالحة للعمل، لكن النجاة لا تتوقف على العمل وحده بل هي تتأسس على الإيمان الذي يستمد الفضل. والعمل وسيلة لتقوية الإيمان، ولا شك أن له أهمية قصوى. لكن مع ذلك هو ليس إلا وسيلة لكمال الإيمان. والواسطة لا تبطل الغاية، الشجرة تنبت من البذر، لكن الماء هو الذي ينميها. فالإيمان هو البذر والعمل هو الماء الذي يسقيه وينهض به. مجرد الماء لا ينبت الأشجار، لكن البذر وإن كان ضعيفًا، يأخذ في النماء ولو كان الماء قليلاً. الفلاحون دائمًا يخطئون في السقي، لكن أخطاءهم لا تبيد الحقول ما لم يفرطوا في ذلك. إن العمل يجدد الإيمان، ونقصه ينقص الإيمان، لكن قلّته التي لا تثير شرًا ولا بغيًا ولا تكون مفرطة، لا يمكن أن تهلك حرث الإيمان. وإذا كان هناك اعتداء بالشر عبارة عن إلزام العقاب بل هو انقاذ البريء منه. فالعفو عن المذنب بالرحمة لا يعارض عدل الله، بل هو عين العدل، فإذا كان العدل مجرد معادلة الجزاء للعمل، فليس للمغفرة والنجاة معنى، فبذلك لا تكون مغفرة الذنوب فقط مخالفة للعدل، بل الزيادة في جزاء العمل أيضًا تكون ضد العدل، لأن العدل يقتضي المعادلة. ولو صح ذلك لاستحالت نجاة أحد إلا لأيام معادلة لعمره، وهي أيضًا بقدر أعماله. لكن لا يسلم أحد بذلك. فلا ندري لماذا إذن تحدد رحمة الله في هذه القضية.

وأيضًا قال ذلك الصوت: إن الله مالك، فلا تُحد نعمته ورحمته، لا شك أنه يزن الأعمال، لكن وزنه إنما هو لئلا ينقص حق المستحق، وليس لئلا يزيد أحدًا على حقه. إن المسيح كان إنسانًا نزيهًا ورسولاً، غير أن الادعاء بحمله آثام الناس ليس بصحيح، لا بد أن يحمل كل إنسان صليبه يوم القيامة، والذي لا يحمل صليبه بنفسه فلن ينال النجاة إلا أن يغفر الله له من فضله ويحمل بنفسه مسؤوليته. فلا تقولوا أن الإنسان مفطور على الشر. بل من أفسد ما خلع الله عليه فهو فاسد. غير أن عباد الله ليستحقون أن ينالوا قربه، وإنهم لينالونه. ولم يكد يرتفع هذا الصوت إلا أن تفتحت منافذ القلوب وتوضحت روابط الخالق والمخلوق، وحل الأمل محل اليأس مقترنًا بخشية الله، وانسد باب كل اتكال مفرط وبطل كل استغناء غير لائق. الذين كانوا متخاذلي الهمم من قبل عادوا إلى كفاح التحرر من ربقة الشيطان، والذين كانوا تجاوزوا الحدود بالتفاؤل، وكانوا يفكرون في تخفيف أعبائهم على حساب غيرهم، أسرعوا إليها واستقلوها بأنفسهم. وانقشعت غيوم الاضطراب، وخيمت الطمأنينة على القلوب.

فأبصرت ببصيرتي، أن الإنسانية ترقص سعادة، فأرسلت زفرة أخرى مثل التي تضطرب في صدر عاشق ناء عن حبيبه، ولمحت على أفق بعيد موانع غير متناهية من الأبعاد الزمانية، فأطرقت رأسي متحسرًا، وانطلق لساني وقلبي متدفقًا بالعواطف: إن ذلك الصوت كان رحمة للإنسانية أيضًا.

رحمة لنوع الإنسان

خطر ببالي أن ذلك الصوت هل هو رحمة لبني الإنسان كما كانت رحمة للإنسانية؟ هل الإنسان ينتفع به من الناحية الجسمانية؟ وهل هو محتاج إليه؟

بينما كنت متحيرًا في علامات الاستفهام هذه، فإذا أنا بأناس والهين يتعبدون الله ليلاً ونهارًا، وهم معلقون رأسًا على عقب. ورأيت آخرين قائمين في مياه قارسة البرد، ورأيت طائفة منتشين بحب الله قاعدين بين نيران مضطرمة يذكرون الله في حر لافح. وألفيت آخرين كتبوا على أنفسهم العزوبة، وأن الرجل لن يلاقي امرأة ولا امرأة تلاقي رجلاً. وبعضهم حرموا على أنفسهم الطيبات وتعاهدوا على أنهم سيحرمون أنفسهم من الأطعمة الشهية شيئًا فشيئًا. رأيت هؤلاء الناس جميعًا في هذه الأوضاع. فتحير قلبي في مصيرهم. إن تضحياتهم البالغة العظيمة كانت تدفعني إلى تقديرهم من ناحية، ومن ناحية كان قلبي يتساءل: هل الله خلق كل هذه الروائع لكي يهملها الإنسان ويحرم منها نفسه؟ ثم أليس الله نفسه هدف اعتراض بأنه خلق كل ذلك بغير فائدة إيجابية، ولم يُعن بمصالح حقيقية.

بينما كنت في هذا التساؤل سمعت نفس ذلك الصوت يرتفع، وشعرت كأن صاحب ذلك الصوت خبير بأسرار النفوس، وتبينت له أعماق الفطرة الإنسانية، وكان وجودًا مطلعًا على سرائر الإنسان عليمًا برغباته وآماله. وسمعت ذلك الصوت الذي لا تدرك حلاوته حلاوة، وروعته تزري بالأنغام الدنيوية كلها، أجل! سمعت ذلك الصوت يقول: يا أيها الطائشون، إن تظاهركم بالتبتل لا ينفعكم، وليس التعبد أن تذيقوا أجسامكم أنواع المشقات، بل التعبد الحقيقي هو نزاهة القلوب، وليس من الشجاعة في شيء من يفر هاربًا من المخالفة، بل الشجاع هو الذي يندد بالعدو في ميدان المعركة. إن الشيء الذي طهره الله لا يصدر عنه الإثم، إن الإثم ينشأ بعد تعدي حدود الله. يا أيها البسطاء، أفلا تفكرون أن الله لم يفرض عليكم حقوقه وحدها، بل نظرًا إلى كونكم مطبوعين على التمدن هو فرض عليكم حقوق أصدقائكم وجيرانكم وأمتكم، بل فرض عليكم حقوق أنفسكم أيضًا. فإنكم، إن تضربوا بهذه الحقوق كلها عرض الحائط وتختاروا الرهبانية، تكتسبوا عشر سيئات لأجل حسنة واحدة، فبدلاً من أن تخرجوا من وحول الإثم تغوصون فيها غوصًا. إن عزوبتكم لا تورثكم العفة. ولو كان انقراض بني الإنسان حسنة، لما خلقه الله أصلاً. أتعيبون ما خلق الله وتغيرون خلقه. إلاّ أن الحسنة ليست بأن تصُّبوا على أنفسكم الآلام بلا مبرر، وأن تتخطوا الحيطان دون الأبواب، بل الحسنة أن تتمتعوا بنعم الله حسب الحدود التي فرضها، لكي تغزر فيكم الدماء الصالحة وتوفقوا للأعمال الصالحة.

رأيت أن روعة هذه النصيحة وتقدسها جعل الوجوه الذابلة الساهمة متهللة، واكتسى المخلوق الفزع الخاوي الذي كان يخاف حتى أشباح نفسه حللا من الإنسانية، وأخذ يرى جمال الله وعظمته من وجهة جديدة. والذين كانوا يتخيلون في كل كائن عدوًا، وفي كل جميل يدًا للشيطان، وكانوا يظنون الدنيا محدقة بالأعداء. وكانوا مشدوهين حينما يرون أنفسهم مخذولة، فرأيت وجوههم فائضة بالطمأنينة. فبدلاً من أن يحسبوا كل شيء سمًّا، أخذوا يتبينون فيه فضائل الترياق، وعوضًا عن أن يحسوا أنفسهم محصورين بين الأعداء، أخذوا يستيقنون بأن الله قدر لهم أنصارًا في كل خطوة، وضرب لهم على كل مرحلة معالم لإرشادهم. فتندموا على استعجالهم وتأسفوا على سقطاتهم، وأخذوا يشكرون الله على أنه لم يملأ هذه الدنيا بأعدائهم بل عمرها بأصدقائهم، وخروا سجدًا لهاديهم ومربيهم بعواطف التشكر.

فأطلقت زفرة أخرى، وقلت: إن ذلك الصوت كان رحمة لنوع الإنسان أيضًا.

رحمة للأنبياء السابقين

حينما شعرت أن الإنسان مطبوع على الصلاح وهو يتمتع بمواهب كافية لأسمى درجات التقدم، وأن سبل قرب الله غير محدودة، قلت: دعنا نر شخصيات نابغة خلقها الله تعالى وما أحسن ما خلق، ونطالع المثل العليا للفطرة الإنسانية، لكي نتبين مدى كمالاتهم وأجواء تحليقهم. وتخيلت أنني أخاطب الهنادك، فسألتهم: إنكم تدعون بكونكم أقدم الشعوب وبأن دينكم هو أقدم الأديان، فهل من شخصية نابغة ظهرت في دينكم. فسررت حينما علمت أن شخصيات بارزة من النوابغ ظهرت فيهم، فقدموا لي أولياء “ويد” أمثال “منوجي” و “بياس جي”، وقصوا علي أحوال “كرشن جي”، وأطلعوني على تاريخ “رام شندر جي”. فتمتعت بأحاديثهم الشائقة عن كفاح هؤلاء العظام في سبيل إصلاح العالم.

فعندئذ طلبت إليهم أن يحدثوني أيضًا عن مؤسس البوذيين الذين يجاورونهم. فانبروا يقولون: إنه كان إنسانًا مغرورًا ولم يكن من أولياء الله. فقلت: حدثوني عن أولياء آخرين. لكنهم ما برحوا يصرون على أن دينهم هو أقدم الأديان، وأن الله قد هدى العالم بواسطة أوليائنا نحن، وليس الله بحاجة إلى هداية أو وحي آخر لأجل المعرفة إلا بعد هدايتنا.

فعندئذ التفت نحو البوذيين، وسألتهم عن أحوال مؤسسهم. وكانت تلك الأحوال ممتعة وأخاذة إلى درجة جعلتني أشتاق لها اشتياقًا، وأخذ حبها بمجامع قلبي. فاعترفت لهم بأن مؤسسهم كان في الواقع رجلاً عظيمًا، إنه كابد الآلام ليريح الناس وقاسى الشدائد لكي يخففها عن الآخرين، وبذل كل ساعة من حياته لخير الإنسانية. إن تاريخه يشبه تاريخ “كرشن جي” ورام شندرجي، وإنه مثلهما كان نجمًا متلألئًا في سماء الروحانية. فلا أدري إذن لماذا لا يقدره الهنادك. فردوا عليّ قائلين: إنك مخطئ إنه لا اشتراك بين “جوتم بوذا” وبين “كرشن جي” و “رام شندر” إن ما تسمعون عن “كرشن جي” و”رام شندر” إنما هو قصص لا أساس لها، وإن أولياء الهنادك لم يدركوا مكانة مؤسسنا. فلم أبرح على إصراري على أن أولياء كلا الدينين متشابهون.

فعندئذ توجهت نحو الزردشتيين، فسألتهم هل من ولي ظهر في ملتهم. فقصوا عليّ أحوال مؤسسهم “زرادشت”. فابتسمت لها أنوار قلبي، وانشرح صدري انشراحا، لأن حياة هذا الرجل المثل الأعلى كانت درسًا عظيمًا، نضاله ضد السيئات، وجهوده لتوطيد دعائم الصالحات وكفاحه لتوجيه الناس إلى خالقهم، كان كل ذلك من العظمة بمكان يسير الدماء الجامدة في العروق وينبض القلب الهامد حياة.

إنني وقفت على أحواله فاستفدت منها أيما استفادة، فقلت: إنه مثيل كرشن، ورام شندر وبوذا. وكان في الحقيقة قدوة جديرة بالاقتداء واتباع آثاره. ولكنني دهشت عندما استنكر أتباعه ذلك وعدوه نيلا من عظمة سيدهم. وقالوا لي: ألا تدري أن الهنادك متصلون بالأرواح الخبيثة، أمّا سمعت أنهم يخضعون لآلهة مثل “أندر” وغيره، وإن تدرس كتبنا تعرف أنها أسماء الأرواح الخبيثة. فإذن كيف شبهت أولياءنا بأوليائهم. فتضاعفت دهشتي التي كانت تتدرج إلى الشدة لتزمت الأقوام الأخرى. فخاطبت اليهود واستطلعت منهم أحوال أنبيائهم، فقدموا إلي أسرة طويلة من الأنبياء. إنهم حددوا بداية الدنيا بآدم، وذكروا طوفان النوح وانتصاراته وإبراهيم وغلبته، وسردوا إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود ويسعيا وعزرا عليهم السلام جميعًا. وعلاوة على هؤلاء هم ذكروا لي أعمال عشرات الأولياء. وخصوا بذكر موسى بأنه كان نبيًّا عظيمًا، واكتملت به الشريعة في العالم، وادعوا أن شريعته كاملة الأحكام بحيث تدوم ما دامت السماوات والأرض ولن يستطيع أحد أن يغير حرفًا من بين هؤلاء الأنبياء. إن إبراهيم وموسى وداود ذوي شأن ممتاز، وأخص منهم إبراهيم الذي كانت أحواله تثير في القلوب عواطف الحب والرقة.  إن كفاح موسى لأجل التربية القومية ولجوءه إلى الله كطفل بريء كان منظرًا أخاذًا لم أكن لأنصرف عنه. غير أن عشق داوود لربه لم يكن أقل إثارة، كان تيار الحب قدس كل ذرة من وجوده، وكان روح الموسيقى ترقص في كل لحن من ألحانه، إن نواحه الملتاع لم تكن تنم على أعماق حب الله، بل إن أغنيته الغرامية كانت تكشف عن هيام مجبوب لم يوجد بعد، لكن أصحاب البصيرة كانوا يهيمون بحبه بعد أن رأوه ببصائر روحانية. وقد رأيت ضوءًا من هذه الأضواء في أقوال موسى، لكنني تبينت فيها حكيمًا يتكلم. إن أنغام داود كانت تفيض بألحان العشق ولوعة الحب. كان داود تائه بين النيرين الشمس والقمر، وكان يطغى عليه جلال الشمس مرة ويغلبه جمال القمر مرة أخرى، وأحيانًا كان يشغف بقوة الشمس العاكسة، وآونة كان يشتاق إلى قوة القمر المنعكسة.

إن روحي فاضت بالسعادة والسرور عندما اطلعت على أحوال أنبياء اليهود، وظنت أنها وجدت ضالتها هنا. فسألتهم ماذا ترون في أولياء الهنادك والبوذيين والزردشتيين؟ وكانت دهشتي لا تعرف الحدود حينما سمعتهم يقولون لي: لا تنخدع بآراء هؤلاء، إنهم ضالون. الوحي لا ينزل إلا باللغة العبرية، وإن لسان الله عبرية، ولسان أهل الجنة أيضًا العبرية، والملائكة أيضًا لا يتكلمون إلا بالعبرية. إنهم يدعون بالوحي بالسنسكريتية والبراكرتية والبهلوية، إن ادعاءهم لباطل بتاتًا.

فاحتج بعض الناس على ذلك قائلين: إن لسان الشيطان عندكم عبرية، فإذا كان الشيطان يستطيع أن يوسوس في قلوب الناطقين بالسنسكريتية والبراكرتية والبهلوية، فلماذا لم تستطع الملائكة إذن أن تلهمهم بالحسنات، وإذا كانوا هؤلاء أيضًا من مخلوقات الله فماذا فعل خالقهم لأجل هدايتهم؟ لكن اليهود لم يحفلوا بذلك، وقالوا إن كل الأمم ليست بسواء، وإننا نحن شعب الله المختار، ولسنا والآخرون بأشباه.

فغاض قلبي في أعماق نفسي، وبدا لي نور يتقلص شيئًا فشيئًا، وأخذ الظلام يزحف ويسود ليحتل مكانه. فتوجهت نحو المسيحيين متألم القلب ملتاع الفؤاد، فسألتهم في عالم الخيال عن المسيح. والقصص التي ساقوها لي كانت أليمة إلى درجة جعلت عينيّ تغرورقان بالدموع مرارًا. فقلت لا شك أن هذا النبي كأمثاله في الأمم الأخرى يحتل مكانة مرموقة. فبدلاً من أن يسروا بقولي اغتاظوا، وقالوا لا تذكر لنا الأنبياء الآخرين، لأنه لم يبعث أحد في غير بني إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل وإن كانوا مبعوثين من الله لكن كلهم كانوا خاطئين، لم يظهر أحد من آدم إلى ملاكي بل إلى يحيى يكون طاهر النفس، إنما التقدس لابن الله وحده الذي تمثل بوجود المسيح.

فتساءلت عن مصير سائر الأمم. فقالوا لا نجاة لها إلا بالإيمان بالمسيح. فقلت إن المتأخرين عن المسيح يمكنهم النجاة بهذا الطريق، لكن ما هو مصير المتقدمين كـ “كرشن” و”رام شندر” و”بوذا” و”زردشت”؟ فحركوا رؤوسهم بالنفي متأسفين، وقالوا لا نجاة إلا لمن آمن بموت المسيح المقدس.

فأصبحت كاسف البال، لأن قوم المسيح كان آخر قوم لقيتهم. فتساءلت في نفسي: اللهم، ما هذه المشكلة؟ إنك خلقت الجمال في كل مكان، لكن شعب كل بلد يحسد الآخر. أليس هذا الجمال الذي أراه بجمال؟ أو زاغت أبصار الناس؟

بينما كنت أعاني هذا الاضطراب، فإذا أنا بنفس ذلك الصوت المحبوب، ذلك الصوت الكاشف الملمات، الموجه نحو الصراط المستقيم، فقال ذلك الصوت: يا أمم العالم البلهاء، “إن من أمة إلا خلا فيها نذير”. إن الله هو رب العالمين جميعًا وليس رب أمة مخصوصة. هو ليس بظلاّم، لا يعذب بغير تنبيه، فكيف يمكن إذن أن ينزل العذاب ببلد ولا يبعث به رسولا. وليس له لسان معين، هو خالق الألسنة كلها، وينزل وحيه بلسان الناس، ولا يتكلم إلا لكي يفهم الناس تعاليمه المنزلة. إن أنبياء الله جميعًا كانوا أصفياء أتقياء، ولكم فيهم أسوة حسنة. والذي يكفر بأحد منهم، يطرد من حضرته ، وإن الذي يتتبع آثارهم فهو مبارك ومهتد.

فخرت روحي ساجدة لله على هذا الصوت، فقلت اللهم مولاي الحبيب! لو لم يرتفع هذا الصوت من عندك لتحطمت. إنك وهبتني معرفة للجمال الحقيقي. والأعمى الذي يجهل هذا الجمال كان يمكن أن يبقى غير متأثر بكيفية الدنيا هذه التي رأيتها، لكن أنا الذي وهبتَه العينين. لو لم أسمع هذا الصوت لجننت وتشردت في الغابات ممزقًا ثيابي كالمجانين. إنني لا أرى فرقًا بين “كرشن” و”رام شندر” و”زردشت” و”موسى” و”عيسى” عليهم السلام. وكان العز المغلق بأن أرى الجمال موجودًا ولا أجد له نظارًا، لكن أشكرك على إحسانك بأنك رفعت ذلك الصوت. إن قلبي فاض حبًّا بصاحب ذلك الصوت، وظننت أن صبري يوشك أن ينفذ. فانشرح صدري عن زفرة أخرى، فقلت إن ذلك الصوت كان رحمة لأنبياء العالم كلهم. فبادرت مضطربًا لأن أتمسك بأذيال صاحب ذلك الصوت ، لكن ما لبثت أن اصطدمت دونه بحجاب ثلاثة عشر قرنًا، ماضٍ جموح، وأحقاب فائتة قاهرة، آه! يا أعزائي كيف أكشف لكم عما جرى لي في ذلك الوقت، كأنني كنت رجلاً يكاد يموت عطشًا، وكأس الماء المعين يكاد يمس شفتيه وهو يشعر ببرده، لكن في تلك الدقيقة منع عنه الكأس مانع وهو لا يزال يمتص ريقه.

هذه كانت حالي، كنت أشعر كأن صاحب ذلك الصوت على خطوات مني، رغم مدى ثلاثة عشر قرنًا. كنت ألثم أذياله، غير أنني لم أستطع أن أتمسك به. وعندئذ كنت أتمنى لو ألقى داود فأضمه إلى صدري فأبكي بكاء مريرًا يشكو هو مستقبله وأشكو إليه ماضيّ، لأنه كان يتلهف قائلاً: لماذا ولدت قبل حبيبي العظيم بثلاثة عشر قرنًا، وكنت أشكو بأنني لماذا ولدت بعد حبيبي بثلاثة عشر قرنًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك