في رحاب القرآن الكريم
أمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(134).

شرح الكلمات:

آبائك –الأب: الوالد. يُسمّى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا. ويسمى العمُّ مع الأب أبوين، وكذلك الأم مع الأب، وكذلك الجد مع الأب (المفردات).

التفسير:

قوله تعالى (إذ حضر يعقوب الموت) أسلوب للكلام لا يعني حالة النـزع والغرغرة، وإنما يعني عندما اقترب موته.. وإلا فإن الإنسان لا يستطيع الكلام وقت النـزع. .عندما تبدأ غرغرة الموت تؤثر على حواسه.. وإن كانت مدتها تقل أو تطول بعض الأحيان. وقد قال النبي (إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (الترمذي، أبواب الدعوات)..أي قبل حالة الغرغرة والنـزع يمكن أن تقبل توبة الإنسان. .لأنه عند غرغرة الموت تختل الحواس. وهذه الغرغرة على نوعين: البدائي والحقيقي. وكان سيدنا المهدي يقول: إن أبانا كانا قويا جدا، وعندما بدأت غرغرة موته قال: غلام أحمد، هذه هي الغرغرة. وبعد بضع دقائق أسلم الروح.

فقوله تعالى (إذ حضر يعقوب الموت) يعني اقترب أجله ووقت موته.

وقوله تعالى (إذ قال. .) بدل من (إذ حضر..) وكأن المعنى: عندما رأى يعقوب وقت موته قريبا وصّى أبناءه وقال لهم: ما تعبدون بعدي؟ قالوا:نعبد إلهك وإله آبائك.

لقد اعترض المسيحيون على هذه الآية قائلين بأن إسماعيل لم يكن من آباء بني يعقوب وإنما كان عما لهم، فلماذا ذكره القرآن ضمن (آبائك)؟ ولكن اعتراضهم دليل على جهلهم الشديد باللغة العربية، فكلمة (الأب) تستخدم للعم أيضا. ولكنهم ما داموا لا يقرءون القرآن إلا بنية الاعتراض عليه لذلك يثيرون الاعتراض على كل شيء، ولا يرون أن هذا دليل على عَماهم هم.

وهنا ينشأ سؤال: ما داموا قد قالوا: (نعبد إلهك) فلماذا أضافوا (إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا).. مع أن معبود اليهود هو معبود إبراهيم وغيره؟ الحكمة في هذا التكرار أن ذات الله تعالى غيب وراء كل غيب. .لا يمكن أن يراها الإنسان. إننا نستخدم لله كلمات: رب، رحمان، رحيم، ولكنها لا تكفي لتقديم حقيقة كاملة واضحة لذات الله. عندما يريد الإنسان توضيح أمر يسلك طرقا مختلفة، فمثلا حينما يريد ذكر إحسان من محسن يقول: لفلان عليَّ يد. ثم يشرح إحسانه ونعمته عليه، وكيف أحسن، وبماذا أحسن إليه. كذلك فإن جمال الله وجلاله يتم ظهورهما بتجليات مختلفة عديدة.. فمنها ما ظهر على إبراهيم، ومنها ما ظهر على إسحاق، ومنها ما ظهر على إسماعيل. فرأى أولاده ذكر آبائهم ضروريا، وقالوا: إننا واقفون على تجليات الله التي ظهرت على هؤلاء. لقد شاهدنا حياة إبراهيم، والتجليات التي ظهرت عليه، كما رأينا ما ظهر على إسماعيل وعلى إسحاق من تجليات. وهكذا يذكرون علمهم التفصيلي عن الله ويقولون: هل يمكن أن نكفر بالله بعد رؤية كل هذه التجليات. ومثل ذلك ما حدث عند فتح مكة إذ أمر النبي بقتل هند زوجة أبي سفيان أينما وُجدت لأنها حرّضت على قتل كثير من المسلمين. ولكنها كانت امرأة ذكية، إذ اختفت متنكرة وسط السيدات اللاتي جئن ليبايعن رسول الله . وعندما اشترط عليهن النبي ألا يشركن بالله قالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه (تاريخ الطبري، السنة الثامنة، فتح مكة)..أي هل نشرك بالله بعد كل هذا؟ كنت وحيدا وقام العرب جميعا في وجهك، ولقد خالفناك وعارضناك وبذلنا كل ما في وسعنا لمحاربتك، ورغم كل هذا أفلحت ونجحت، ولم تغن عنا أصنامنا شيئا، فهل نشرك بالله بعد كل هذه الآيات البينة. كذلك أجاب أولاد يعقوب. كان ما صدر من بعضهم مع يوسف يدل على عدم إيمانهم، كما كانت عبادة الأصنام شائعة في مصر، لذلك سألهم أبوهم في آخر حياته: كنتم تطيعوني وتتبعونني في حياتي. .فأخبروني الآن.. ما هي نيتكم بعد وفاتي؟ فقالوا: لقد تقوّى إيماننا الآن، وقد ظهرت علينا كل هذه التجليات الإلهية، فكيف يمكن أن نترك الله وعبادته؟ كنا جهّالا عندما عادينا يوسف وألقيناه في البئر، أما الآن فلا يمكن أن نرتكب هذه الحماقة مرة أخرى.

قوله تعالى (إلها واحدا) بدل من (إله آبائك). لأنهم ذكروا الله مضافا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وقد يُساء الفهم ويظن أن الآلهة متعددة، ولإزالة سوء الفهم هذا قالوا (إلها واحدا). وقد يكون (إلها واحدا) حالا من المفعول به (إلهك)..أي حال كونه إلها واحدا. إن الإله سيكون واحدا وإن تعددت تجلياته. والحق أن في هذا القول تنبيها لليهود إلى أن يعقوب أوصى قبل وفاته بعبادة إله واحد، ومع ذلك فإنكم –ذريته –تعبدون اليوم أهواءكم.

وما كان اسم الإسلام ليُنسخ أبدا، لذلك أطلق اسم الإسلام كعلم على أهله حتى لا يقع الفساد و الاختلال؛ ولا يسمى بالمسلمين إلا اتباع دين باق إلى يوم القيامة.

قوله تعالى (ونحن له مسلمون) يبين أن كل عابد صادق في عبوديته لله مسلم عند القرآن. ذلك أن يعقوب قال (لا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، وقال أبناؤه (ونحن له مسلمون).. وتمّ هذا الحوار حينما لم يكن النبي قد بعث بعد، ويتبين من ذلك بوضوح أن التابع الصادق لأي دين سماوي كان مسلما، ولذلك كان الأتباع الصادقون للأديان السابقة، الذين عملوا بتعاليمها بإخلاص.. كلهم في نظر القرآن مسلمين، لأن كل من يؤمن بالله ورسول زمنه يصبح مسلما.

ولكن هناك فرق بين أولئك المسلمين وبين المسلمين من أمة محمد. فهؤلاء لم يكن اسمهم مسلمين، ولكننا -أمة محمد – ننادى باسم المسلمين كعَلَم لنا. كان أبناء الأمم السابقة مسلمين من حيث الطاعة والانقياد لله بلا شك، ولكنهم ما كانوا يستخدمون وصف مسلم اسما لهم وما كانوا ينادون به، أما أمة النبي محمد فإنهم مسلمون من حيث الطاعة والانقياد، ومن حيث الاسم الذي ينادَون به أيضا. والسبب في ذلك أن الأديان السابقة كانت معرضة للنسخ، وما كان اسم الإسلام ليُنسخ أبدا، لذلك أطلق اسم الإسلام كعلم على أهله حتى لا يقع الفساد و الاختلال؛ ولا يسمى بالمسلمين إلا اتباع دين باق إلى يوم القيامة.

الحق أن الله تعالى لا يطلق على أحد اسما إلا إذا كان مقدرا أن يبقى الاسم إلى الأبد. .فمثلا لم يوهب أحد من الأنبياء شرف وجود اسمه في كلمة الشهادة سوى نبينا محمد . لا شك أن بعض المسلمين قد اخترعوا من عندهم شهادات تتعلق بالأنبياء السابقين “لا إله إلا الله –عيسى روح الله ” أو”لا إله إلا الله موسى كليم الله ” أو لا إله إلا الله –آدم صفيّ الله “، واختلقوا لهذه الشهادات روايات أيضا (دعاء كنج العرش، أي دعاء كنـز العرش، ص 14و15) ولكن الحقيقة أنه لم يكن لأحد من الأنبياء منذ آدم إلى عيسى – عليهم السلام – أي كلمة للشهادة. هناك كلمة واحدة للشهادة هي تلك التي قدمها النبي .. أي “لا إله إلا الله –محمد رسول الله “، ولو كان قد أضيف اسم نبي إلى اسم الله من قبل هكذا ثم أزيل لكان في هذا إساءة، ولذلك لم يُقرن باسم الله تعالى إلا اسم محمد رسول الله.. لأن المقدَّر أن يبقى اسم محمد هكذا إلى يوم القيامة.

على كل حال، فإن من سنة الله تعالى أنه لا يهب لشيء اسما إذا كان من المقدر أن يُمحى هذا الاسم. ولما كانت أمة المصطفى قدِّر لها أن تبقى ليوم القيامة لذلك سماها الله أمة مسلمة. كذلك أطلق الله على تعاليم المصطفى اسما وهو القرآن، أما الكتب السماوية مثل التوراة والإنجيل وغيرهما فلم يسمِّها الله باسم من عنده، وإنما هي أسماء من وضع الناس. نعم، لقد ذكرها الله بنفس هذه الأسماء في القرآن، ولكن لا حجة في ذلك على أن التسمية من الله. فمثلا ذكر القرآن اسم الصحابي “زيد “، وهذا لا يعني أن الله سماه زيدا عند مولده، وإنما سماه بهذا الاسم أبواه، وذكره الله بنفس هذا الاسم لأنه كان معروفا به.

ثم أن عدم تسمية اتباع الأديان السابقة بمسلمين يرجع أيضا إلى أن الدين الكامل هو الذي يستحق أن يعطى هذا الاسم. فلما جاء ذلك الدين الذي هو أفضل الأديان بسبب كماله أطلق الله عليه اسم الإسلام، ليشير اسمه إلى غايته وغرضه بما فيه الكفاية.

ويعترض القسيس المسيحي ويري Wherry على هذه الآية قائلا إن محمدا قد ادعى فيها بأن السابقين من الأمم كانوا تابعين لدينه، ثم يأتي القسيس بحجج كثيرة ليدحض بها هذا الادعاء الذي هو اختلاق من عنده (تفسير ويري للقرآن، ج1 تحت هذه الآية).

الحق أن ويري قد خدع نفسه. فالإسلام لا يقول إن هؤلاء الأوائل كانوا يعملون بنفس الأمور التفصيلية الموجودة في الإسلام، وإنما يقول إن هؤلاء كانوا في وقتهم أتباعا صادقين لأديان صادقة. وهذا ما لا يمكن أن يرفضه أي إنسان سليم العقل. أما تسمية “مسلمون “فلم تطلق كعلَم إلا على أمة محمد دون غيرها.

وبقي سؤال: هل قام يعقوب بهذه الوصية أم لا؟ وما الدليل عليها؟

أولا-إنه ليس من واجبنا تقديم الدليل على ذلك من التوراة. وثانيا – من البديهي المعروف أن كل رجل صالح ينصح أولاده بمثل هذه النصائح ويوصيهم بالعمل بها، وخاصة الوصية قبل الموت للأولاد أمر شائع نشاهده في حياة آلاف الناس. وثالثا – إن هذه الوصية كانت ضرورية ليعقوب لأن أولاده كانوا قد تعثروا من قبل، والآباء يهتمون بأولادهم إذا تعثروا من قبل فينصحونهم قبل الوفاة، لذلك كان هذا الأمر منطقيا وفطريا لا يُنكر.

ولو كان سيدنا يعقوب قد قام بهذه الوصية فعلا لم يكن من المتوقع أن يحتفظ بنو إسرائيل بها في التوراة؟ إن هؤلاء الذين أبغضوا سيدنا إسماعيل لدرجة أنهم يتحينون الفرص للطعن في بني إسماعيل.. كيف يتوقع منهم أن يتركوا في التوراة ذكر إسماعيل وبنيه بخير؟

ورغم أن كتبهم ليست بمناجاة من التحريف والتشويه بأيدي الناس إلا أننا نجد لهذه الوصية آثارا باهتة قد هيأها المسيحيون أنفسهم. فهناك العديد من العلماء المسيحيين الذين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم منهم، “رودويل Rodwell “،فقد كتب في هامش ترجمة للقرآن الكريم أنه ذكر في “مدراش رَبَّاه “-وهو جزء من التلمود –في شرح تكوين، إصحاح 2:49: أنه عندما غادر أبونا يعقوب هذه الدنيا جمع أبناءه الاثني عشر وقال لهم: أصغوا لقول أبيكم إسحاق. هل في قلوبكم أية شبهة حول إلهكم القدوس؟ فقالوا: اسمع يا إسرائيل أبانا، كما ليس في قلبك أدنى شبهة كذلك ليس في قلبنا، لأن ذلك السيد هو إلهنا وهو واحد (ترجمة رودويل للقرآن ج1 ص 351 تحت هذه الآية).

فواقعة جمع يعقوب لأولاده، ووصيته لهم، وإقرارهم بإله واحد ثابتة في التوراة، وإن لم يرد بكل التفاصيل. وهذا هو الفارق بين القرآن المجيد والتوراة، مما يزيده عظمة. فبرغم من نزوله بعد التوراة بتسعة عشر قرنا يبيّن التفصيل الصحيح لهذا الحادث في حين أن التوراة لم تفعل ذلك مع أن الحادث من زمنها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك