بركات الدعاء

بركات الدعاء

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (13)

تحت سسلة “السيرة المطهرة” يتناول الكاتب سيرة سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني، الإمام المهدي والمسيح الموعود

مبرزا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة. (التقوى)

كان سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني يحاول أن يشرح للناس المهمة الأساسية التي أرسله الله تعالى من أجلها.. وهي إيصال الإنسان إلى العتبة الإلهية، وجعْله متصلا بالله اتصالا وثيقا، حتى يصطبغ الإنسان بالصبغة الإلهية فيصير إنسانا ربانيا. ولكي يصل الإنسان إلى هذا الهدف، لا بد له من أن يُسْلم نفسه لله تعالى، وأن يُخضِع أهواءه ورغباته لإرادة الله، مستسلما تماما لمشيئته، وطائعا لكل أوامره، وفي ذلك يقول عز وعلا:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا (الأحزاب:37)

والوصول إلى الله تعالى والاتصال به، ليس بالأمر السهل الذي يمكن للمرء أن يقوم به بغير هاد يهديه الطريق. وخيرُ هاد بعثه الله تعالى لهداية الناس هو سيد الخلق محمد المصطفى ، فكان خير أسوة يتأسى به الإنسان الذي يبتغي وصال ربه، وفي ذلك قال تعالى:

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (الأحزاب:22)

إن العبد المخلص الذي يطلب رضاء خالقه، ويبتغي حبه ووده.. لا بد له من اتّباع القدوة المثلى لكل البشر، فهو النور الذي أحب اللهَ تعالى كما لم يحبه إنسان آخر، فأحبه الله تعالى حبا لم يحبه أحدا من خلقه، وجعله الوسيلة وآتاه الدرجة الرفيعة، وقضى أن من كان مخلصا حقا في حب الله تعالى فعليه أن يتّبع ذلك النبي الأكرم ، فقال تعالى:

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران:32)

وحين ظهر سيدنا أحمد على مسرح الأحداث.. كان الناس عامة قد ابتعدوا تماما عن نور الله، ونور القرآن، ونور رسوله الأكرم. فكان لا بد من بعث ذلك الهادي الذي أرسله الله تعالى إلى الأميين العرب، فمنحهم حياة الإيمان بعد الكفر والطغيان، وقادهم إلى طريق الرحمن الرحيم، بعد أن كانوا أتباع الشيطان الرجيم، وهداهم إلى سبيل الحق المبين، بعد أن كانوا في الظلمة من الغاوين. وقد أوفى الله تعالى بوعده الذي قضى فيه أن يكون لرسول الله بعثتان: بعثة في الأولين وبعثة في الآخرين، كما جاء ذلك في سورة الجمعة:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وِيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ $ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ (الجمعة:3-4)

وقد علمنا في مقدمة هذا الكتاب أن المقصود بالبعثة الثانية لرسول الله هو ظهور رجل من أتباعه، يشابهه في صفاته وأسمائه وأخلاقه، حتى لكأنه هو بنفسه وقد بُعث من جديد.. ذلك هو الإمام المهدي.. سيدنا مرزا غلام أحمد، عليه وعلى مُطاعه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ولذلك فقد أوحى الله تعالى إليه بنفس الكلمات التي أوحاها من قبل إلى رسوله الأكرم ، فقال:

“قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ”.

ولكن أعداء الحق في كل آن لا يريدون أن يروا نور الحق. وكما كان علماء بني إسرائيل في عهد المسيح عيسى بن مريم هم ألدّ أعدائه.. كذلك كان علماء الأديان جميعها في عهد المسيح الموعود والمهدي المعهود هم أيضا من ألدّ أعدائه. وراح هؤلاء يناقشونه ويجادلونه بالباطل ليدحضوا به الحق، وأخذوا يؤلبون عليه عامة الناس ويبثون الكراهية والبغض له ولأتباعه. وراح هو يحاول أن يشرح لهم أنه لم يأت إلا لخيرهم وهدايتهم، وأن اتباعه هو في حقيقة الأمر اتباع لرسول الله ، وطاعته هي في الواقع طاعة الله تبارك وتعالى، ولكنهم أبوا إلا الصد والتكذيب والتكفير، وردّوا بالسبّ واللعن والتحقير.

لذلك فكّر سيدنا أحمد في طريق يُبين به لهم مقدار قربه من الله تعالى، وكيف أن الله تبارك وتعالى قد اتخذه وليا وجعله خليفته في الأرض، وأيّده بروح القدس، وصافاه وصادقه وودّه وأحبه كما يحب الصديق صديقه، وأنه سبحانه يستجيب لدعائه ويسمع لتضرعاته، وأنه لو كان والعياذ بالله من الكذابين المفترين، لما أكرمه الله تعالى باستجابة دعائه، ولما شرّفه الله عز وعلا بتحقيق أدعيته ورغباته. لذلك طبع في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1891 منشورا سماه: “آسماني فيصلة” أي القرار السماوي، ودعا فيه جميع معارضيه من مختلف الأديان أن يتفقوا على أسلوب يمكن به أن يُظهر يقينا صدق دعواه. واقترح لذلك أربع وسائل جعلها اختبارا يُبين ما إذا كان الله يستجيب دعاءه فعلا، وعلى ذلك فهو عنده من المكرمين، أم لا.

اقترح سيدنا أحمد تكوين هيئة من عدة أفراد تتولى الإشراف على هذا الاختبار، ويكون مقرها لاهور عاصمة البنجاب، ويُنتخب أعضاء الهيئة المشرفة بموافقة كل من الطرفين: أي سيدنا أحمد ومعارضيه، ويكون قرار الهيئة بالإجماع أو بأغلبية الآراء.

وتقضي الخطة أن تتولى الهيئة المشرِفة إعداد قوائم بأسماء ومواصفات لأشخاص يعانون من كوارث وقعت بهم في شكل مصائب خطيرة نزلت بهم أو أمراض مستعصية أصابتهم. ويمكن لأي شخص من أتباع أي دين من الأديان، أن يرسل اسمه ومواصفات الكارثة التي أصابته إلى هذه الهيئة، ويطلب إدراج اسمه في القوائم التي تُعدها الهيئة بأسماء هؤلاء المصابين. ويُفتح باب قبول طلبات إدراج الاسماء في هذه القوائم لمدة شهر أو أكثر، حسبما تراه الهيئة مناسبا. وفي نهاية تلك المدة تُعد الهيئة صورا من هذه القوائم، تحتوي على أسماء ومواصفات الكوارث التي يعاني منها المصابون المذكورون. وفي يوم معين يتم تحديده.. تُوَزّع هذه القوائم على كل من يشترك في هذا الاختبار أمام سيدنا أحمد. ويُطلب من المصابين الذين قدموا أسماءهم أن يحضروا بأنفسهم، حتى يمكن للمشتركين في هذا الاختبار أن يتأكدوا من حالاتهم المستعصية. وتقوم الهيئة بعمل قرعة على المصابين المدرجة أسمائهم في القوائم، ثم توزعهم حسب القرعة على كل المشتركين في الاختبار. وتسجل الهيئة اسم كل مشترك في الاختبار، وأسماء الأشخاص الذين تم توزيعهم عليه بالقرعة، وتحفظ صور هذه القوائم في مكتب الهيئة.

وقد أعلن سيدنا أحمد أنه سوف يتولى دفع كل النفقات المطلوبة لإتمام هذا الاختبار، ودفع نفقات دعوة المصابين للحضور في اليوم الذي يتم تحديده، للمثول أمام المشتركين في الاختبار.

ولكي يظهر من هذا الاختبار صدق الصادق أو كذب الكاذب من بين المشتركين مع سيدنا أحمد.. يتجه كل فرد منهم بالدعاء إلى الله تعالى أن يرفع من على المصابين في القائمة التي نالها بطريق القرعة، كل ما يعانونه من مرض أو غم أو مصيبة أصابتهم، ويستمر الدعاء لمدة عام. وتقوم الهيئة بإعداد تقرير عما يحدث من تقدم خلال فترة هذا الاختبار. وإذا حدث أن توفي أحد المشتركين في هذا الاختبار خلال تلك الفترة.. أي قبل انقضاء مدة العام المحددة لهذا الاختبار.. وقبل أن يتبين بوضوح وجلاء نجاحه أو فشله في هذا الاختبار، فإن وفاة المشترك تقوم دليلا على فشله في الاختبار. إذ يعني هذا أن الله تعالى بقضائه الخاص، قد أزاحه من استكمال الاشتراك في هذا الاختبار تدليلا على كذبه. وسوف يتم تحديد نتيجة الاختبار على حسب أحوال الغالبية العظمى من المصابين بالأمراض والكوارث في كل قائمة. وقد أوضح سيدنا أحمد أنه لنجاح هذا الاختبار، لا بد وأن يكون هناك عدد كبير من المصابين في كل قائمة.. وإلا فإن نتيجة الاختبار قد لا تكون قاطعة وحاسمة. فمثلا إذا لم يكن هناك سوى فردين أو ثلاثة في كل قائمة، فإنه من الجائز أن يكون مصابهم مما سبق بشأنه قضاء الله تعالى، ولا يمكن رد القضاء عن هؤلاء مهما كان الدعاء. صحيح إنه لا يرد البلاء إلا الدعاء كما قال رسول الله ، ولكن هذا لا يكون في جميع الأحوال على الإطلاق. إن الإنسان الصالح يُعرف بتقبل الله تعالى للأغلبية العظمى من أدعيته، وليس بالضرورة أن يتقبل الله كل دعاء من أدعيته، وهذه قاعدة معروفة ولا خلاف عليها.

وكتب سيدنا أحمد يقول:

لقد اقترحت إدراج أسماء أشخاص يعانون من مصائب مختلفة، وذلك حتى تتجلى الرحمة الإلهية في صور متعددة، وبذلك يستطيع الناس من ذوي الطبائع المتباينة أن يصلوا إلى تقدير النتائج من وجهات نظر متعددة.

وإنني أعد.. بل إنني أقسم على ذلك.. بأنه إذا ثبت فشلي في هذا الاختبار، فسوف أتولى بنفسي إعلان هذا الفشل وأقر بكذبي، ولن يكون هناك من داع آخر لأي فرد من أولئك الذين يعارضونني أن يحكموا عليّ بالكفر والدجل. وفي هذه الحالة أكون مستحقا لكل تحقير وازدراء وإهانة، ولسوف أعترف في اجتماع عام تعلن فيه نتائج الاختبار.. أنني لم أُرسَل من عند الله تعالى، وأنني كاذب في كل ما دعوت إليه. ولكنني على إيمان يقيني بأن الله تعالى لن يُقدّر لي هذا المصير، ولن يسلمني لهذا الفشل. وإذا رفض رجال الدين الذين أوجه لهم هذا التحدي أن يعلنوا قبولهم له، فإن كل إنسان مخلص يبحث عن الحق بإخلاص لن يؤيد مسلكهم هذا، وسيكون هذا أمرا مثيرا للأسف الشديد. (ملخص من آسماني فيصلة “أي الحُكم السماوي” ص 16-21).

وإنه لمن المؤسف حقا أن أحدا ممن كانوا يعارضون سيدنا أحمد .. والذين توجه إليهم بهذا التحدي.. لم يجرؤ على النّزول أمامه إلى ميدان الدعاء. وبهذا الفشل المزري بعدم قبول التحدي، وبانسحابهم من التصدي له، فقد أقرّوا.. من حيث لا يريدون الإقرار.. بصدقه، واعترفوا.. من حيث لا يريدون الاعتراف.. بمصداقيته وبحقيقة دعواه.

ثم نسأل أولئك الذين يُعارضون سيدنا أحمد اليوم، ونخاطب قلوبهم وعقولهم.. هل رأوا أحدا منذ بدء الخليقة إلى هذا اليوم، كان كذابا مفتريا على الله تعالى، ثم يدعو قومه الذين يخالفونه ويعارضونه إلى امتحان يكون الله تعالى وحده هو الشاهد والحَكم فيه؟ وهل يجرؤ الكذاب الذي يفتري على الله الكذب أن يدعو قومه إلى اختبار تتوقف نتيجته على استجابة الله لدعائه؟ ثم.. ألا يسأل هؤلاء المعارضون أنفسهم.. لماذا لم يقبل أحد الاشتراك في هذا الاختبار لو كانوا حقا على يقين بأن الله تعالى لن يستجيب لدعاء سيدنا أحمد؟

إن هناك الكثير من الوقائع التي يصعب عدها أو حصرها في حياة سيدنا أحمد .. استجاب الله تعالى فيها دعاءه بشكل خارق للعادة، وقد ذكر سيدنا أحمد الكثير من هذه الوقائع في كتبه.

ونود هنا أن نلفت نظر القارئ إلى المرحلة التي تبتل فيها والتي قضاها أثناء إقامته في هوشياربور، والتي أعلن في نهايتها أن الله بخالص فضله وإحسانه قد استجاب لأدعيته، وبشره ببشرى عظيمة عن مولد غلام يحبُوه الله تعالى بقدرات ذهنية وعقلية وأخلاقية وروحانية على أعلى درجة وأسمى مقام. وقد وُلد بالفعل هذا الغلام المبارك يوم 12 يناير (كانون الثاني) عام 1889، وتجلى بكل وضوح تحقق كل ما جاء في النبوءة التي كان قد تلقاها سيدنا أحمد في عام 1886 بخصوص مولد هذا الغلام خلال حياته الطيبة ، وقد أشرنا فيما سبق إلى هذه النبوءة في الفصل الرابع من هذا الكتاب. هذا.. وقد صار ذلك الغلام الموعود، وهو مرزا بشير الدين محمود أحمد ، الخليفة الثاني للإمام المهدي . وقد اختاره الله تعالى لهذه المسؤولية حينما بلغ من العمر الخامسة بعد العشرين.. أي في شرخ شبابه، وظل يقود جماعة المؤمنين لمدة زادت عن الخمسين عاما، انتشرت فيها الجماعة بفضل ربها في العديد من بلدان القارة الإفريقية والأوربية والأسيوية.

وكان من ضمن الوحي الذي تلقاه سيدنا أحمد في المراحل الأولى هذا الوحي باللغة الأردية:

سأبلّغ دعوتك إلى أقصى أطراف الأرضين

وقد ذكرنا فيما سبق الظروف والأحوال التي كانت سائدة في المنطقة خلال حياته ، وحين تلقى هذا الوحي لم يكن يملك من الوسائل.. بل إنه لم يكن حتى يستطيع أن يستخدم الوسائل الأولية البسيطة المتاحة.. لتبليغ رسالته في حدود المنطقة التي تقع فيها قاديان نفسها. ومع ذلك فإننا نرى اليوم أن رسالته قد بلغت فعلا إلى أقصى أنحاء الأرض، وتأسست فروع الجماعة التي أنشأها بأمر من الله.. حول الكرة الأرضية في مختلف البلدان والأقطار، بلغت حتى الآن (1996) مائة وخمسين دولةð. ولو كانت تلك النبوءات من افتراء دجّال أو من خيال كذّاب لكان اسمه قد انمحى تماما، وسقط في بئر النسيان والإهمال منذ وقت طويل، فهكذا كان مصير الكذابين والمفترين على الله، وأما نبوءة سيدنا أحمد فإنها تتحقق وتترسخ وتزداد وضوحا يوما بعد يوم.

حدث في الأيام الأولى للدعوة أن شابا يسمى عبد الكريم كانت قد أرسلته أمه الأرملة من حيدر آباد في جنوب الهند إلى قاديان للدراسة الإسلامية. ولسوء الحظ.. فقد عقره كلب مسعور، وكان أن بعثوا به على وجه السرعة إلى مدينة “كاصولي” لكي يُعالج هناك في معهد “باستير”، ويحصّن ضد مرض الكَلَب الخطير. وبعد أن انتهى من مرحلة العلاج عاد الشاب إلى قاديان لاستئناف دراسته. وحدث بعد عدة أيام من وصوله إلى قاديان، أن بدأت تظهر عليه أعراض مرض الكَلَب، فأرسلوا برقية إلى مدير معهد “باستير” في كاصولي تصف الأعراض التي ظهرت، وسألوا عما يمكن أن يفعلوه من أجل علاجه. وجاء الرد في برقية أرسلها مدير المعهد يقول فيها:

“للأسف لا يمكن عمل شيء لعبد الكريم”

وأبلغوا سيدنا أحمد بحالة الشاب وتطور ظهور أعراض المرض عليه، فلما وصلت البرقية من معهد “باستير” تقتل كل أمل في إمكانية علاج الشاب المسكين.. تأثر سيدنا أحمد وحزن.. شفقة على عبد الكريم، وعلى أمه الأرملة التي كانت تعيش على بعد آلاف الأميال من قاديان، واتجه إلى الله تعالى بالدعاء من أجل شفاء عبد الكريم. ولم تمض لحظات منذ أن بدأ سيدنا أحمد في الدعاء، إلا وتوقفت أعراض المرض وبدأت حالته في التحسن، وقبل مرور أربع وعشرين ساعة.. كانت أعراض المرض قد اختفت تماما، واستعاد صحته كاملة، حتى إنه عاد إلى المدرسة لاستئناف دراسته، وعاش بعد ذلك عمرا طويلا.

ومن المعروف في الدوائر الطبية أنه إذا ظهرت أعراض مرض الكَلَب على المريض فإنه لا يمكن علاج ذلك المريض، ومصيره المحتوم هو الموت. ومنذ سنوات قليلة حدث أن تُوفيت شقيقة كاتب هذه السطور بهذا المرض اللعين، بعد أن عقرها هي وابنتها كلب مسعور وهما في قاعة الانتظار بمطار القاهرة!! ورغم أنهما قد تلقتا العلاج اللازم، إلا أن الأم توفيت بينما نجح العلاج مع الابنة. فحتى سنوات قريبة كان من المستحيل علاج مريض ظهرت عليه أعراض ذلك المرض الخبيث، إلى أن حدثت حالة في الولايات المتحدة الأمريكية لطفل عقره كلب مسعور، وحينما بدأت أعراض المرض في الظهور عليه أمكن علاجه ببعض الأدوية والعلاجات التي اكتُشفت حديثا. ولكن حدوث حالة الشفاء تلك التي وقعت في الولايات المتحدة، لا يؤثر بالطبع في معجزة الشفاء التي وقعت لعبد الكريم في القرن التاسع عشر، والتي لم تكن بسبب علاجه بالأدوية الحديثة، وإنما كانت نتيجة محضة لدعوات وتضرعات سيدنا أحمد .

ولعله من المفيد أن نذكر الآن بعض الوقائع التي تدل على استجابة الدعاء وعلى كشف أمور من الغيب لسيدنا أحمد .. تحقيقا للآية القرآنية التي تقول:

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ (الجن: 27 -28).

وقد أشرنا فيما سبق إلى بانديت ليكهرام من مدينة بشاور، الذي كان من أشد المتحمسين دفاعا عن ديانة الآريا سماج، والذي تجاوزت حماسته كل حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق.

كان ليكهرام قد خدم في دائرة الشرطة لبضع سنين، ولكنه تقاعد في سن مبكرة، وكرّس نفسه لكتابة مقالات من أحط ما تكون الكتابة. وكانت سمومه موجهة بشكل خاص للتهجم على رسول الله ، وكان يصف كتاب الله القرآن بألفاظ وضيعة، وكثيرا ما كان يصف الله تعالى بأسلوب يعوزه التقديس والاحترام. وقد حاول سيدنا أحمد أن يدعوه إلى استعمال أسلوب لائق عند الكلام عن مثل تلك الموضوعات الهامة والتي تمس عقائد الملايين من الناس، ولكن بدون جدوى. وأخيرا.. وفي عام 1893 أعلن سيدنا أحمد الإعلان التالي بخصوص ليكهرام: (الكلمات المائلة ليست من أصل النص)

“…. وليتضح أنني في المنشور الذي أعلنته في 20 فبراير 1886 (وهو التاريخ الذي أعلن فيه عن مولد غلام يتمتع بكفاءات خاصة) قد اقترحت لـ “إندرمن” المراد آبادي و”ليكهرام” البشاوري.. أنهما إذا أرادا فيمكنني أن أنشر بعض النبوءات المتعلقة بمصيرهما. فقد اعترض إندرمن بعد هذا الإعلان فتوفاه الله تعالى بعد فترة قصيرة، وأما ليكهرام.. فقد أرسل إليّ بطاقة بريدية يخبرني فيها أني أستطيع أن أنشر عنه ما أشاء، ولن يكون عنده أي مانع في ذلك. وعلى هذا فلما دعوت الله بهذا الخصوص تلقيت من الله الوحي التالي نصه: “عِجْلٌ جَسَدٌ لَهُ خُوَارٌ لَهُ نَصَبٌ وَعَذَابٌ”….

ثم لما توجهت إلى الله تعالى اليوم، الذي هو يوم الاثنين 20 فبراير 1893، لمعرفة موعد عذاب الله فألقى الله في روعي أنه في خلال ست سنين من اليوم سينال هذا الرجل عذابا عظيما، عقابا له على الأسلوب المتهتك الذي كان يستعمله في حق رسول الله . والآن.. بإعلاني هذه النبوءة.. فإني أود أن أخبر كل المسلمين والمسيحيين، وأتباع جميع الأديان الأخرى، أنه إذا لم ينل هذا الشخص في خلال ست سنوات.. من يومنا هذا.. عذابا* يكون مختلفا تمام الاختلاف عن أنواع البلايا التي تصيب الإنسان عادة، بل يكون خارقا للعادة ويتضمن هيبة إلهية واضحة، فيكون من حقكم آنذاك أن تقرروا بأني لست مرسلا من عند الله تعالى، وأنني لا أتكلم بروح منه. وإذا ثبت كذب هذه النبوءة.. فإني سأكون على أتم استعداد أن أعاقب بأي نوع من العقاب وسأكون راضيا بأن يُربط حبل حول رقبتي، وأن أُعَلّق مشنوقا على الصليب. وبالإضافة إلى هذا الالتزام الذي ألزمت به نفسي.. فإنه من الواضح أن ثبوت كذب أي شخص فيما يتعلق بنبوءاته يُعتبر في حد ذاته مهانة وخزيا شديدا له….

وما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن هذا الرجل قد ارتكب في حق رسول الله إهانات شديدة ما يقشعر له الأبدان، كما أن كتبه مليئة بعبارات التحقير والإهانة والشتائم، ولا يوجد مسلم لا ينفطر قلبه وكبده انفطارا حين سماعه لمحتويات تلك الكتب. إن هذا الرجل في منتهى الجهل رغم أساليبه المتحذلقة والشريرة، وليس لديه أية معرفة باللغة العربية، ولا يستطيع حتى أن يكتب بأسلوب أدبي في اللغة الأردية. إن هذه النبوءة ليست وليدة صدفة، بل إن هذا العبد المتواضع قد تضرّع إلى الله تعالى في هذا الشأن على وجه الخصوص، وتلقيتُ الإجابة التي أعلنتها أعلاه. وهذه النبوءة آية للمسلمين أيضا، وليتهم يدركون الحق وتلين قلوبهم له.

والآن.. فإني أختم هذا الإعلان بذكر الله ذي الجلال والإكرام.. الذي بدأت باسمه العظيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد المصطفى.. أفضل الرسل وخير الورى.. سيدنا وسيد كل ما في الأرض والسماء.” (سراج منير، الخزائن الروحانية ج 12 ص 14-16)

وفي قصيدة نشرها سيدنا أحمد في نفس الآونة باللغة الفارسية ذكر فيها ليكهرام وحدّثه فيها قائلا ما ترجمته:

“احذر أيها العدو الجاهل الغبي الضال

وارتعد خوفا أن ينالك السيف القاطع لمحمد”

وكعادة الجهال من كل جنس وفي كل دين.. راح البعض ينتقدون هذه النبوءة في بعض الدوائر، ويقولون إن كل إنسان.. خلال ست سنوات.. يمكن أن يصاب ببعض الأمراض أو الحمى والإسهال، مما لا يدل بالضرورة على تحقق هذه النبوءة في حق ليكهرام. فكان أن كتب سيدنا أحمد يرد على هذه الانتقادات في كتابه: “بركات الدعاء”، فقال:

“إذا لم يحدث.. نتيجة لهذه النبوءة.. سوى الإصابة ببعض الحمى أو بعض الآلام العادية أو الهيضة، ثم استُعيدت الصحة بعدها، فإن هذا لا يُعتبر تحقيقا للنبوءة، وفي هذه الحالة يثبت أن النبوءة ليست إلا مكرا ودجلا، لأنه لا يسلم أحد من تلك الأمور، فإننا جميعا نمرض بين حين وآخر. وحينئذ فإنني حتما أستحق العقاب الذي ذكرته. ولكن.. إذا تحققت النبوءة بشكل يظهر فيه بكل وضوح آثار العذاب الإلهي، فافهموا أنها من عند الله تعالى….. وليس من الصحيح بتاتا أنني أحمل عداوة شخصية تجاه ليكهرام، بل الحق أنني لا أكن عداوة تجاه أي شخص كان. إن هذا الرجل قد عادى الحق، وتكلم بأسلوب منحط عن أكمل خلق الله تعالى وأطهرهم الذي هو ينبوع كل الحق ومصدره، لذلك فإن الله قد قضى بأن يظهر شرف حبيبه في العالم”. (بركات الدعاء، الخزائن الروحانية ج 6 ص 2،4)

وفي 2 أبريل (نيسان) عام 1893 كتب سيدنا أحمد قائلا:

“في هذا الصباح وأثناء غفوة خفيفة، رأيتُني جالسا في حجرة كبيرة مع بعض صحابتي، حين دخل رجل عملاق مرعب الشكل لدرجة وكأن الدم يقطر من وجهه، وجاء ثم وقف أمامي. فلما رفعتُ وجهي إليه، أدركت أنه كائن له جسم ومظهر غريب، كأنه لم يكن آدميا، بل كان أحد الملائكة الغلاظ الشداد. كان مظهره يثير الفزع والرعب في القلوب. وبينما أنا أنظر إليه سألني: “أين ليكهرام؟” وذكر أيضا اسم شخص آخر وسأل عن مكانه. وحينئذ فهمت أن هذا الرجل قد أُسندت إليه مهمة عقاب ليكهرام والشخص الآخر، ولكني لا أذكر الآن اسم ذلك الشخص الآخر، غير أني أذكر أنه واحد من الذين نشرت عنهم إعلانا. وكان هذا في يوم الأحد الساعة الرابعة صباحا، فالحمد لله على ذلك”. (المرجع السابق ص 33)

وفي كتابه: “كرامات الصادقين” الذي نشره في الجزء الأخير من عام 1893، أعاد سيدنا أحمد التأكيد على فترة الست سنوات المذكورة في نبوءته الخاصة بليكهرام، وفي أحد أشعاره التي نظمها باللغة العربية قال في أحد الأبيات:

وَبَشَّرَنِي رَبِّي وَقَالَ مُبَشِّرًا

سَتَعْرِفُ يَوْمَ الْعِيدِ وَالْعِيدُ أَقْرَبُ

وقد ذكر أن بيت الشعر هذا يشير إلى ليكهرام، وأن يوم عقابه سوف يكون يوما مقرونا بيوم العيد.

وأما من ناحية ليكهرام فقد أعلن هو الآخر في كتابه (تكذيب براهين أحمدية ص311) أن مرزا غلام أحمد سوف يموت بمرض الكوليرا في خلال ثلاث سنوات، حيث إنه في رأيه كان كاذبا في دعواه. وغني عن البيان بالطبع أن نذكر أن السنوات الثلاث قد انقضت، ولم يمت فيها سيدنا أحمد لا بمرض الكوليرا ولا بأي مرض آخر.

وفي يوم السبت 6 مارس (آذار) عام 1897.. وكان هذا هو اليوم التالي ليوم العيد.. تعرض ليكهرام لطعنة خنجر من رجل له جسم عملاق. وقد غرس الرجل الخنجر في صدر ليكهرام، ثم أداره في جسده فمزق أحشاءه في أماكن متعددة مما تسبب في تدفق الدم من جسده بشكل غزير. وكانت أمه وزوجته في غرفة مجاورة، فاندفعتا بسرعة إلى غرفة ليكهرام للإمساك بالمعتدي وهما تصيحان وتصرخان لجذب الانتباه ودعوة الناس والجيران. وكان البيت يقع في مكان مأهول بالسكان يتوسط مدينة لاهور العاصمة، وقد وقع الاعتداء على ليكهرام بين الساعة السادسة والسابعة من عصر ذلك اليوم قبل غروب الشمس، حيث يتزاور الناس عادة أو يجلسون أمام بيوتهم. ويُقال إن أم ليكهرام حاولت الإمساك بتلابيب المعتدي، ولكنه ضربها على رأسها بعصا غليظة ثم اختفى.

كان ليكهرام يقيم في الطابق الثاني من منْزله، وكان أمام داره زحمة من الناس، ولكن أحدا لم يلمح القاتل خارجا من المنْزل. ولم يره أحد من الناس الذين اندفعوا داخل البيت بسبب الصياح والصراخ، وبحثوا عنه في كل أنحاء المنْزل ولكنهم لم يعثروا له على أثر. وتدلت أمعاء ليكهرام خارج جسده من أثر الطعنات التي تلقاها، وكانت جروحه تنْزف بغزارة، فنقلوه إلى المستشفى على جناح السرعة، حيث تولى إثنان من الجراحين العناية به بكل المهارة التي أوتياها، وبذلا كل الجهد لتضميد جراحه، فكانا يحاولان وقف نزيف الدم وخياطة الأمعاء الممزقة، ولكن بغير طائل ودون جدوى. ورغم نزيف الدم المستمر.. فإن ليكهرام لم يمت من فوره، بل ظل على قيد الحياة يعاني الآلام الفظيعة، وكان أثناء تنفسه يصدر أصواتا مثل خوار العجل بسبب جروحه التي أصابته في صدره، وظل يتأوه ويصرخ من شدة الألم حتى منتصف الليل، وبعد ذلك بقليل.. لفظ آخر أنفاسه. وبطبيعة الحال.. لم يُعثر للقاتل على أي أثر.

وقد سببت النهاية المأساوية لليكهرام صدمة فظيعة لأتباع ديانة الأرياسماج، الذين راحوا على الفور يرفعون أصوات الاتهام، بأن هذا الاعتداء القاتل على زعيمهم لا بد وأن يكون قد تم بتدبير من مرزا غلام أحمد، الذي كان قد تنبأ بموت ليكهرام بدقة بالغة، لا يمكن أن تصدر إلاّ عن رجل اشترك بنفسه في تخطيط وتدبير هذه الكارثة. وبناء على شكاواهم واتهاماتهم، قامت شرطة مخفر ﮔورداسبور بمداهمة وتفتيش منْزل سيدنا أحمد في قاديان تفتيشا دقيقا، وكذلك قامت بتفتيش عدة منازل أخرى للعديد من كبار رجال الجماعة الإسلامية الأحمدية في مختلف أنحاء مقاطعة البنجاب. ولكن لم تسفر عمليات التفتيش تلك عن أي أثر يربط من قريب أو من بعيد، أو يثير أدنى شك في تورّط أحد من أفراد الجماعة، أو سيدنا أحمد نفسه، في عملية الاغتيال هذه.

وحيث إن جماعة الآرياسماج قد استمرت في اتهاماتها، بأن سيدنا أحمد هو المتورط في هذا الاغتيال، فقد نشر سيدنا أحمد في 15 مارس (آذار) 1897 الإعلان التالي:

“إذا كان هناك أحد لا يزال يساوره الشك ولا يزال يعتبرني قد تآمرت على هذا القتل، كما يُشاع في بعض الصحف الهندوسية، فإنني أتقدم باقتراح معقول يمكن به كشف حقيقة هذا الأمر. فليتقدم شخص متشكك ويُقسم أمامي ويقول: “إنني أعلم يقينا أن هذا الشخص له يد في مؤامرة القتل، أو أنه قد تم بناء على توجيهاته، وإذا كانت شهادتي هذه ليست صحيحة فإني أدعو الله القادر أن يصيبني بعقاب يكون جدّ مهيب لا يكون من فعل أي إنسان، ولا يمكن أن يكون ذلك من تخطيط أحد من الناس.”

فلو لم يهلك هذا الشخص لمدة عام بعد دعائي عليه، فيَثبُت حينئذ أنني مذنب، وأستحق تلك العقوبة التي يستحقها القاتل. والآن.. إذا كان هناك أحد من الآريا الشجعان.. يريد باتّباع هذا المسلك إنقاذ العالم أجمع من الشكوك.. فليتقدم”. (مجموعة الإعلانات ج2 ص 352- 353 طبعة لندن 1986م)

ولكن.. لم يتقدم أحد لقبول هذا التحدي، ولو تقدم أحد لرأى العالم آية فظيعة أخرى من آيات العقاب الإلهي.

وفي الذكرى السادسة عشرة لاغتيال ليكهرام، كتب أحد زعماء الآرياسماج، وهو “بابو غانس رام” في العدد التذكاري لجريدة: “مسافر آغرا” في يوم 6 مارس (آذار) عام 1913 يقول:

“لقد وقعت هذه الجريمة في لاهور عاصمة مقاطعة البنجاب، ولكن الشرطة فشلت تماما في تتبع أثر القاتل. وكانت من مصادفات الأمور أن تحققت نبوءة غلام أحمد، فاستُشهد بانديت ليكهرام، والله وحده هو الذي يعلم إذا كان ذلك عقابا من عنده، أم أنه كان نتيجة لتخطيط البشر”.

حقا.. لقد كان اغتيال بانديت ليكهرام خلال المدة المحددة في النبوءة.. وبالشكل الدقيق الذي كان يعلنه سيدنا أحمد من حين لآخر.. آية عظيمة، وخاصة للمجتمع الهندوسي في الهند، وعلى وجه الخصوص لطائفة الآرياسماج. (يتبع)

* أما الآن في عام 2006م فقد توطدت الجماعة بفضل الله تعالى في 182 قطرا من أقطار العالم. (الناشر)

ð والآن.. على جميع أولئك الآريين الهندوس أن يتكاتفوا سويا للدعاء لكي ينجو زعيمهم من هذا العقاب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك