صدق الإمام المهدي عليه السلام

صدق الإمام المهدي عليه السلام

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (11)

تحت سلسلة “السيرة الطاهرة” يتناول الكاتب

سيرة سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني، الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزًا الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة. (التقوى)

حين يُطرح موضوع صدق الإمام المهدي للبحث والمناقشة.. نسمع الكثير من الآراء التي تذكر أعمالا معينة يقوم بها الإمام المهدي، حسب ما جاء في العديد من الأحاديث النبوية. وهناك صورة عامة مرسومة في أذهان الناس، مستخلصة من مجموعة الأحاديث التي وردت في هذا الشأن عن الإمام المهدي والمسيح الموعود في آخر الزمان. ورغم وجود الكثير من التناقضات والاختلافات في هذه الأحاديث.. إلا أن الصورة المتوقعة للإمام المهدي بصفة عامة تكاد تكون واحدة، وهي أنه سوف يقود المسلمين ويحكم الدنيا، ويحارب الكفر وينتصر عليه، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد، وأنه سوف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. وعلى ذلك.. إذا جاء من يدّعي أنه الإمام المهدي، ولم ير الناس وقوع هذه الأمور على يديه.. فإنه يوصم بالكذب والدجل والافتراء، ولا يهتم أحد بالنظر في دعواه أو الاستماع إلى قوله وبرهانه.

هذا المسلك الذي يسلكه أكثر الناس في هذا الشأن يجانبه الصواب، وهو حتما لا يقود الإنسان إلى معرفة الحق بل يقود إلى الضلال، وذلك لأن هذا المسلك يعتمد على معيار واحد فقط، ويتناسى معايير أخرى أكثر أهمية. هذا المسلك يبحث في دليل واحد فحسب، ويتغاضى عن دلائل أخرى أكثر دقة. هذا المسلك يحصر اهتمامه في مظهر واحد، ويهمل مظاهر أخرى أكثر وضوحا.

ولتوضيح الأمر نسوق مثالا للتجارب التي يقوم بها التلاميذ في المدارس للتعرف على مسحوق من المساحيق مجهولة الهوية. فإذا أُعطى التلميذ مسحوقا أبيض، وطُلب إليه تعريف هذا المسحوق فيمكن القول بأنه طحين القمح، وذلك بالاعتماد على شكله ولونه الظاهري فقط، دون استخدام وبحث وتطبيق التجارب التأكيدية الأخرى، التي تحدد بالضبط وبكل دقة نوعية هذا المسحوق. بينما إذا حاول التلميذ الاستعانة بكل هذه التجارب الأخرى، لتبين له أن المسحوق الأبيض ليس سوى مسحوق الطباشير، أو ملح مطحون، أو رمل مصحون، أو حجر الرخام الأبيض المسحوق. وهذا هو خطأ الاعتماد على صفة واحدة فقط وإهمال الصفات الأخرى، وعدم الأخذ بكل التحليلات اللازمة للتأكد من نوعية المسحوق المجهول. وهذا بالضبط هو نفس المسلك الذي يسلكه الناس عامة في الاعتماد على مظهر واحد، أو دليل واحد، من أدلة صدق الإمام المهدي، دون الاعتداد بكل الأدلة الأخرى، وبغير اعتبار للمعايير المتعددة التي لا بد من أخذها في الاعتبار حتى نصل إلى الحقيقة كاملة.

إن الأمم السابقة التي ضلت طريقها، ورفضت الإيمان بالأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى إليها، إنما كان ضلالها بسبب نفس هذا المسلك الذي اتبعته تلك الأمم فيما مضى، والذي يتبعه عامة المسلمين اليوم في موضوع الإمام المهدي. إن الأمم السابقة اعتمدت على تحقق بعض النبوءات بصورة معينة، رسموها في أذهانهم، وتخيلوا تحققها حسب تصورهم، فلما لم تتحقق توقعاتهم بالصورة التي تخيلوها.. رفضوا الإيمان برسلهم فضلوا الطريق.

ونسوق مثالا لهذا ما حدث عند بعثة المسيح عيسى بن مريم إلى اليهود.. إذ كان الناس في ذلك الوقت يعيشون في ظروف مشابهة تماما للظروف التي يعيشها المسلمون اليوم، وكان في كتبهم الكثير من النبوءات التي تتحدث عن مجيء المسيح الموعود به لهم، والمخَلِّص الذي كانوا في انتظاره. وكان اليهود يعيشون تحت احتلال الرومان كما كان المسلمون يعيشون تحت احتلال الدول الغربية. وكانت النبوءات تتحدث عن مخَلِّص يأتي ليقيم مملكة عظيمة لليهود، كما تتحدث النبوءات عن إمام مهدي يأتي ليقيم مملكة عظيمة للمسلمين. كانت النبوءات عند اليهود تتحدث عن إمام يقود اليهود وينتصر على أعدائه وأعدائهم، وبالمثل هناك نبوءات عن إمام مهدي يقود المسلمين وينتصر بهم على أعدائهم. كانت النبوءات عند اليهود تتحدث عن إمام يأتي بالمال والثروة لليهود، وبالمثل هناك نبوءات تتحدث عن إمام مهدي يفيض المال في زمنه حتى لا يقبله أحد.

فماذا حدث في زمن المسيح عيسى بن مريم ؟

لقد جاء المسيح المنتظر لليهود.. ولكنهم لم يؤمنوا به وحاولوا أن يقتلوه ويصلبوه!!

لماذا حدث هذا؟ كانت النبوءات موجودة، وكانوا يعرفونها، وكانوا في انتظار نبيهم الموعود، فماذا حدث؟

لم يحقق المسيح لليهود الصورة التي رسموها في أذهانهم عنه.. فرفضوا أن يؤمنوا به وكذبوه.

كان اليهود ينتظرون مخلّصا يقيم لهم مملكة عظيمة فجاءهم عيسى بن مريم يقول لهم: مملكتي ليست من هذا العالم. لقد تصوروا من النبوءات التي كانت بين أيديهم أن المسيح سيقيم لهم مملكة عظيمة في هذا العالم لأنهم فسروا تلك النبوءات تفسيرا حرفيا، وفهموها على أنها تعني مملكة مادية في هذه الدنيا، فجاء هو ليقول إن المملكة الموعودة هي مملكة الآخرة، التي يبنيها الإنسان في هذه الدنيا بأعماله الصالحة.

كان اليهود ينتظرون ملكا يقودهم في الحرب لقتال أعدائهم الرومان.. فجاءهم عيسى بن مريم يدعو إلى السلام ويقول أحبوا أعداءكم، وصلوا من أجل المسيئين إليكم.

كان اليهود ينتظرون قائدا ينتقم من أعدائهم ويقضي عليهم، فجاءهم عيسى يقول من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.

كان اليهود ينتظرون نبيا يحررهم من ذل العبودية للحكم الروماني، فجاءهم عيسى ليحررهم من ذل العبودية للإثم والمعصية.

كان اليهود ينتظرون مخَلِّصا يخلصهم من دفع الضرائب، التي كان يفرضها عليهم قيصر وكانت تثقل كاهلهم، فجاء المسيح يقول لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

كذلك كان اليهود ينتظرون نزول إلياس النبي من السماء قبل أن يأتي المسيح المنتظر، فجاء المسيح يقول لهم إن يوحنا (يحيى ) الذي وُلد على الأرض، هو إيليا المزمع أن يأتي.

وهكذا كان عيسى بن مريم مخيبا لآمال اليهود.. لأنهم لم يجدوا فيه ما توقعوه، ولم يحقق هو لهم ما كانوا ينتظرونه، مما تصوروا أنه سوف يتحقق حسب مفهومهم وتفسيرهم لكل النبوءات التي كانت بين أيديهم.

وليس الخطأ من جانب عيسى ، وإنما كان الخطأ من جانب اليهود، لأن النبوءات تحتمل تفسيرا حرفيا كما أنها تحتمل تفسيرا معنويا، وهم أخذوا بالحرفية وتمسكوا بها، فرفضوا الإيمان بالمخَلِّص الذي أرسله الله إليهم.. ولا يزالون حتى الآن في انتظار مسيحهم الموعود!

وحين جاء رسول الله كان اليهود أيضا ينتظرون مجيئه، وكانوا يتوقعون أنه سوف يقودهم في الانتصار على أعدائهم من الأوس والخزرج، وكثيرا ما كان اليهود يتفاخرون بقرب ظهور الرسول الأعظم، ويقولون للأوس والخزرج إنهم سوف يطردونهم خارج يثرب حين يأتي زمان ذلك النبي العظيم. ولعل أقوال اليهود هذه كانت من العوامل التي شجعت الأوس والخزرج على الإيمان برسول الله حين سمعوا به في مكة قبل أن يؤمن به اليهود حتى يكون لهم قدم السبق عليهم.

ولكن.. لماذا رفض اليهود قبول رسول الله ؟

لأنهم فسروا النبوءات التي تتحدث عن مجيء ذلك النبي العظيم تفسيرا خاطئا.

تقول إحدى تلك النبوءات:

“أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به (سفر التثينة الإصحاح 18 فقرة 18)

فالنبوءة تتحدث عن نبي مثل موسى .. أي يأتي بشريعة من عند الله، ويجعل الله كلامه في فمه.. أي إنه لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى، وهو من إخوة بني إسرائيل .. أي من بني إسماعيل، ولكن اليهود فهموا هذه العبارة على أنها تنطبق على إخوتهم من بني إسرائيل وليس من بني إسماعيل، فكان أن ضلوا الطريق ورفضوا رسولهم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

ويذكر لنا القرآن في هذا الشأن نبوءة على لسان عيسى بن مريم تختص برسول الله .. إذ يقول تعالى في سورة الصف:

وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (الصف:7)

ولا شك أن “أحمد” هو اسم من الأسماء الصفاتية لرسول الله ولكنه ليس اسمه الذي كان يناديه به الناس، وليس اسمه الذي ذكره الله تعالى في القرآن، وليس اسمه الذي أطلق عليه منذ مولده، وليس اسمه الذي جاء في كلمة الشهادة، وليس اسمه الذي يُذكر في الأذان وفي الإقامة.. إن ذلك الاسم هو محمد وليس أحمد. فلماذا ذكر عيسى بن مريم اسم صفة لرسول الله ولم يذكر اسمه الحقيقي: محمد؟

إن النبوءات لا تتحقق أبدا بحرفيتها الواضحة الظاهرة، لأن النبوءات تتعلق بالغيب، والإيمان بالغيب جزء من متطلبات الإيمان.. والإيمان الحقيقي يُبنَى على الفكر والتدبر، ولذلك فقد جعل الله تعالى الإيمان بالغيب هو أول علامات المتقين، فقال في أول سورة البقرة:

الم  ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ  الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ

 أما قبول الحقائق الواضحة التي لا تتطلب الفكر والتأمل فلا يُسمَّى إيمانا، فلا يقول أحد إنه يؤمن بأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب.. فهذه حقيقة واضحة يعرفها كل الناس، ولا تتطلب الفكر أو التدبر، وإذا أنكر إنسان هذه الحقيقة فإنه لا يكفر بقضية إيمانية، ولا يسميه الناس كافرا، وإنما قد يقولون عنه إنه ناقص العقل. فالحقائق الواضحة لا يُثاب المرء عليها إذا قبلها، ولا يُعاقَب عليها إذا رفضها. وأما القضايا الإيمانية التي تتطلب الفكر وتقوم على التدبر، فهي التي يُثاب المرء على قبولها ويُعاقَب على إنكارها. ولنأخذ قضية وجود الله مثلا.. إن وجود الله من أعظم الحقائق، ومع ذلك فهو يتطلب إعمال الفكر ويُبنَى على التدبر، ولذلك فهو قضية إيمانية يُثاب المرء على الإيمان بها أو يُعاقب إذا أنكر وجود الله. ولكن لا يثاب المرء ولا يعاقب إذا صدق أو كذب مواعيد قيام القطارات أو مواعيد وصولها.. أو النشرات الجوية عن حالة الطقس.. حتى ولو كانت بظهر الغيب.. فهذه ليست قضايا إيمانية تتطلب الفكر والتدبر.

وعلى هذا.. إذا كانت جميع النبوءات التي تتعلق بمجيء نبي من الأنبياء، سوف تتحقق بنفس حرفيتها الظاهرة الواضحة.. لفقدت على الفور خاصيتها الإيمانية، ولصارت حقائق يصدقها الجميع.. الصالح منهم والطالح.. المؤمن منهم والكافر.. وبهذا فإنها لا تكون غيبا. فالغيب كما ذكرنا جزء من الإيمان، والإيمان يتطلب الفكر والتدبر. وحيث إن الأنباء والنبوءات التي تتعلق بمجيء مبعوث من عند الله هي فعلا جزء من الغيب.. فإنه من المحتم ألا تتحقق بحرفيتها الظاهرة الواضحة. وهذا هو ما حدث لليهود مع عيسى بن مريم ، وهو نفس ما حدث عند بعث رسول الله ، وهو ما يحدث الآن عند بعث الإمام المهدي .

إن الخطأ في تفسير النبوءات التي تتعلق بالمستقبل أمر وارد، وقد وقع فيه الأنبياء أنفسهم.. الذين يتلقون تلك الأنباء الغيبية. ولنأخذ سيدنا نوحا مثالا على ذلك.. لقد فهم من وعد الله بنجاة أهله من الغرق أن جميع أفراد أسرته سوف ينجـون، فلما غـرق ابنه قال لربه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي (هود:46) فأخبره الله تعالى أن وعد النبوءة ينطبق على أهله المؤمنين فقط، وأما غير المؤمنين فلا يُعَدّون من أهله فلا يشملهم الوعد. وهذا رسول الله .. جاءته الأنباء من الله تعالى أنه سوف يهاجر إلى أرض بها نخيل، فظن أنه ذاهب إلى اليمامة بينما قضى الله تعالى أن يذهب إلى يثرب. كذلك رأى الرسول في رؤيا أنه يدخل مع المؤمنين المسجد الحرام، ورؤيا الأنبياء وحي، وقد جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم حيث يقول تعالى:

لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ (الفتح:28)

وذهب رسول الله في كوكبة من أصحابه ليدخل مكة حسب الوعد المذكور، فمنعه أهل مكة. وأراد المسلمون الحرب معتمدين على حتمية تحقق النبوءة بالشكل الذي فهموه، ولكنه عارض الحرب، وعقد معاهدة مع أهل مكة على العودة دون دخول مكة، وقال إن الله لم يحدد أن موعد تحقق النبوءة سيكون في ذلك العام أو في وقت لاحق.

وهكذا نرى أن الاعتماد على تحقق الأنباء الغيبية بشكلها الظاهر، وبحرفيتها الواضحة، قد يؤدي إلى الخطأ. والمسلك الأمثل في هذا الشأن هو أن نترك كيفية تحقق تلك الأنباء ومواعيد تحققها إلى الله ، فإنها في مجملها سوف تتحقق، ولكننا لا ندري كيفية تحققها، ولا نعرف زمن تحققها، ولا نعلم بأي شكل من الأشكال يمكن تحققها.

ومن هنا كان خطأ المسلك الذي يقوم برسم صورة معينة لكيفية تحقق تلك الأنباء الغيبية، وتطبيق هذه الصورة المتخَيلة على كل من يدّعي أنه المبعوث المنتظر.. هكذا فعل اليهود فضلوا.. وهكذا يفعل عامة المسلمين اليوم.

كيف السبيل إذن لمعرفة مبعوث الله تعالى؟ وهل نقبل كل من يدّعي أنه الإمام المهدي؟ وهل نستجيب لكل من يقول أنه مبعوث من عند الله؟

كلا بالطبع. فهناك دلائل ومعايير ثابتة وعامة.. لا تتعلق بشخص معين، ولا تتوقف على تحقق نبأ ما بشكل أو بآخر، وهذه الدلائل والمعايير في عموميتها يمكن تطبيقها على جميع الأنبياء والرسل.. وخاصة على سيد الخلق أجمعين . ومن هنا جاءت قوة هذه الدلائل، وثقل وزن تلك المعايير. فإن الدليل الذي يُثبت صدق رسول الله لا بد وأنه يُثبت صدق كل نبي آخر، والمعيار الذي يحقق نبوة رسول الله لا شك أنه يحقق كذلك نبوة أي مبعوث آخر.

وتزخر كتب الجماعة الإسلامية الأحمدية التي عالجت هذه الموضوعات بالكثير من تلك الدلائل والمعايير، وهناك الكثير من المطبوعات والشرائط المسموعة والمرئية التي تبحث في هذه النقاط الهامة، ويمكن لمن يريد بحث الأمر بتفصيله الرجوع إلى تلك المراجع، والتي يمكن طلبها من الجماعة التي انتشرت مراكزها الآن في مائة وخمسين دولة* من دول العالم، ونكتفي في هذا المبحث بأن نعرض ثلاثة أو أربعة من تلك الدلائل على القارئ الكريم.

حين يريد الله تعالى أن يختار أحد عباده لمقام النبوة.. فإنه سبحانه يُهيِّء المناخ الملائم، ويبني الأساس المتين لهذا الاختيار، حتى من قبل أن يولد ذلك العبد. ومنذ لحظة ولادته يتولاه الله تعالى بعنايته ورعايته، ويحفظه من كل شر، ويؤدبه بأدبه، ويقيه من ارتكاب السيئات والوقوع في المعاصي، ويُهَيء فكره وعقله لفعل الخيرات، ويحبب إليه الأمور الطيبة، ويُكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويطهر قلبه ووجدانه، ويمنحه القوة على تحمل المشاق، والقدرة على القيام بأعباء المسؤولية التي سيلقي بها على عاتقه، ويؤهله لأداء الأمانة التي سيضعها على أكتافه. هذا ما فعله الله تعالى مع موسى كما يقول تعالى في كتابه العزيز:

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي…. وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى  وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (طه:40-42)

وكما فعل الله تعالى مع موسى.. هكذا فعل أيضا مع سائر الأنبياء. وقد قال رسول الله : “أدَّبني ربي فأحسن تأديبي” (كنـز العمال المجلد 11 الفصل 3 في فضائل متفرقة تنبيء عن التحدث بالنعم..رقم 31895) ولهذا فقد قال عنه تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم:5)، وقد أعده الله تعالى للمهمة الكبرى.. التي قام بها رسول الله خير قيام.. فقال له في أول البعثة: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (المزمل:6). وهكذا كانت حياة رسول الله .. حتى قبل الدعوى.. قائمة على الطهر والصدق والأمانة وجميع مكارم الأخلاق.

وحين أمره الله تعالى بإعلان دعوته.. ذهب رسول الله إلى جبل الصفا، ونادى على القبائل، فاجتمعوا إليه فقال: “لو أني أخبرتكم أن وراء هذا الجبل جيشا يريد أن ينقضّ عليكم فهل أنتم مصدقِيّ؟ قالوا: ما عهدنا عليك كذبا.. فأنت الصادق الأمين. قال: فإني رسول الله إليكم”. وهكذا استعمل رسول الله هذا الدليل الذي يتعلق بطهارة حياته، واستقامة أمره، وصلاح خلقه، وقيامه على الصدق.. قبل إعلان الدعوى.. ليؤكد على قومه أنه مبعوث فعلا من عند الله.. وأن هذه الدعوى ليست كذبا أو افتراءً على الله تعالى.

وقد فعل رسول الله هذا واستند إلى هذا الدليل الهام، امتثالا لأمر الله تبارك وتعالى الذي قال فيه:

قُل لَّوْ شَآءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلآ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُـرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (يونس:17)

وهنا يلفت الله تعالى أنظار المعارضين والمخالفين إلى طهارة حياة رسول الله طوال فترة إقامته بين ظهرانيهم لمدة أربعين سنة من قبل الدعوى، وكيف أنه عاش هذا العمر الطويل دون أن ينطق بكذبة واحدة على أي مخلوق. وبالتالي.. فليس من المعقول أن من لا يكذب على إنسان طوال عمره.. يتحول فجأة بعد أن بلغ من العمر أربعين سنة.. ويكذب على الخالق ويقول افتراء عليه إنه يوحي إليه. إن صدق رسول الله قد ثبت لكل من تعامل معه، وقد صار مثالا لأقرانه حتى إنه كان معروفا بينهم باسم الصادق الأمين.

وقد حدث نفس الأمر مع سيدنا عيسى بن مريم الذي حفظه الله تعالى.. من قبل الدعوى.. من سوء العمل وكذب الحديث وارتكاب الخطايا. ولذلك فقد تحدى قومه وقال: “من منكم يبكتني على خطية؟ فإن كنت أقول الحق فلماذا لستم تؤمنون بي؟” (انجيل يوحنا- 8: 46)، وهنا أيضا يلفت المسيح أنظار قومه إلى صلاح أمره وحسن خلقه وأدبه الذي أدبه به ربه.

كذلك كان الحال مع سيدنا مرزا غلام أحمد.. الإمام المهدي والمسيح الموعود .. إذ لفت الله تعالى أنظار أقرانه.. عن طريق الوحي الذي أوحاه إليه.. إلى طهارة حياته منذ نعومة أظفاره، معتبرا ذلك دليلا على صدقه، وبرهانا على مصداقيته. وقد استعمل الله نفس الألفاظ التي استعملها في حق رسول الله والتي جاء ذكرها في كتابه العزيز، ولكنه أنزلها مرة أخرى على سيدنا أحمد ، فقال:

[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِليَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في الْقُرْآنِ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ. وَلَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى. وَإِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] (تذكرة ص245)

كذلك نجد شهادة أصدقائه وأعدائه على السواء، بأنه عاش طوال حياته متمسكا بأهداب الصدق، ومستمسكا برباط التقوى. وعلى سبيل المثال.. نسوق شهادة المولوي محمد حسين البطالوي.. زعيم فرقة أهل السُنة، والذي صار عدوا لدودا للإمام المهدي بعد إعلان دعواه، إذ كتب في مجلته “إشاعة السنة” تقريظا لكتاب “البراهين الأحمدية” ووصف مؤلفه سيدنا مرزا غلام أحمد بهذه الكلمات:

“إن مؤلف البراهين الأحمدية.. في شهادة أصدقائه وأعدائه على السواء.. قد أقام حياته على شريعة الإسلام، وإنه تقي وورع، والله حسبه”.

وكما استدل رسول الله بطهارة حياته وتمسكه بالصدق قبل الدعوى.. كذلك استدل الإمام المهدي بطهارة حياته أيضا، وبُعده الكامل عن أي خطية أو معصية، فقال ما تعريبه:

“إنَّكم لعمري لا يمكنكم أنْ تتـهموني بكذب أو افتراء أو خداع في أوائل حياتي بينكم، فتحسبون أنّ من كان هذا شأنـه من عادة الكذب والافتراء لا يبعد أنْ يكون قد اختلق هذا الأمر من عنده. ألا فهل منكم من أحد ينتقد شيئًا من شؤون حياتي؟ وما ذلك إلا فضل منـه  أنَّـه أقامني على التقوى منذ نعومة أظفاري! وإن في ذلك لآية للمتفكرين.” (تذكرة الشهادتين، الخزئن الروحانية ج20، ص64)

وإن المرء ليجد سجلا حافلا من الأدلة التي تؤيد هذه العبارة، وقد سبق ذكر بعض منها في الصفحات السابقة، ويكفي أن نذكر هنا أنه لم يستطع أحد بتاتا أن يتهمه بأنه قد نطق ولو بكذبة واحدة طوال حياته. ولا يُعقل ولا يُتصور أن من كان هذا شأنه في التمسك بالصدق في جميع الأحيان، وفي كل المناسبات، وفي كل الظروف، وفي جميع أدوار وأطوار حياته، فإنه.. رغم كل هذا.. يمكن أن يرتكب هذه الخطيئة العظمى، فيفتري على الله الكذب ويدّعي زورا أنه يتلقى الوحي من الله تعالى. ولو لم يكن الأمر كذلك.. لما أمر الله تعالى رسوله الصادق الأمين أن يذكر هذا الدليل لقومه برهانا على صدقه.

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُـرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ   (بونس:17)

حقا.. أفلا يعقلون؟

إن سيدنا أحمد.. الإمام المهدي .. بدأ يتلقى الوحي من الله تعالى في أوائل الستينيات من القرن التاسع عشر، ولكن زاد نزول الوحي عليه وصار يأتيه بشكل منتظم ومتصل بعد وفاة والده عام 1876، وكان إذ ذاك قد بلغ أربعين سنة، واستمر نزول الوحي عليه إلى أن انتقل إلى جوار ربه في 26 مايو (أيار) 1908، وعلى هذا فإن فترة نزول الوحي استمرت أكثر من ثلاثين عاما.

وقد اتفق جميع علماء المسلمين، واجتمعت كلمتهم، وانعقد إجماعهم، على أن مصير من يفتري على الله الكذب هو الدمار والهلاك والخيبة والخسران، وذلك حسب وعد الله تعالى الذي ذكره في كتابه العزيز:

إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (النحل:117) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ (الأنعام:94) وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (طه:62)

ولإثبات صدق رسوله الأعظم .. ذكر الله تبارك وتعالى وعيدا لكل مفتر كذاب يتقوّل على الله ويدّعي كذبا أنه أوحى إليه فقال:

فَلآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ $ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ $ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ  وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ $ تَنْزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ $ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ $ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ $ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (الحاقة: 39-48)

هنا يعدد الله تعالى دلائل صدق التنـزيل الذي يتنـزل على رسول الله ، فيقول إن هذا التنْزيل ليس بقول شاعر، وليس بقول كاهن، بل هو تنـزيل من رب العالمين. والدليل على ذلك أنه لو كان هذا الشخص الذي أُنزل عليه الذكر، قد تقوّل على الله بعض الأقاويل، فكذب على الله أو افترى عليه، وادّعى كذبا نزول الوحي عليه.. لأخذه الله باليمين، أي لأخذه بالعقاب الشديد أخذ عزيز مقتدر، فأنزل عليه عقابا أليما يكشف كذبه ويفضح سره ويُبين افتراءه. وهذا العقاب هو أن الله تعالى يُسلط عليه من يُهلكه.. أي يقطع منه الوتين، والوتين هو الشريان الذي يحمل الدم إلى القلب، وقطعه كناية عن الموت والهلاك. ولن يستطيع أحد منكم أن يحجز عنه هذا العقاب، لأن هذا قدر الله الذي قدّره لكل كاذب يفتري على الله الكذب.

وقد قدّر الله تعالى هذه العقوبة في الدنيا لمن يفتري على الله الكذب، كما جعل له في الآخرة عقوبة أخرى أيضا، وذلك حتى لا ينخدع به الناس ويصدقوه، فيكون سببا في ضلالهم وحيادهم عن الطريق المستقيم.

وقد يحدث أن يتوهم إنسان غلبه جنون العظمة فيدّعي كذبا أنه إله.. ولكن الله تعالى لم يتوَعّد مثل هذا الإنسان بعقاب مماثل في الدنيا والآخرة، بل اكتفى بعذابه في الآخرة فقط، وذلك لأن دعوى الوحي تحتمل الصدق والكذب، وأما دعوى الألوهية فلا تحتمل الصدق أبدا، بل هي في ذاتها دليل كذب مدّعيها. فمن يصدق إنسانا عاجزا يدّعي لنفسه الألوهية، يكون هو نفسه المسؤول عن جريرته. ولهذا فقد ذكر تعالى أن عقاب مدّعي الألوهية سيكون جهنم في الآخرة فقال:

وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأنبياء:30)

وأما مدّعي الوحي الكاذب، فقد توعده الله تعالى بأن يسلط عليه من يُهلكه ويقطع دابره، حتى لا ينخدع أحد بدعواه الكاذبة. أما إذا كان مدّعي الوحي صادقا في دعواه، وكان الله تعالى هو الذي يوحي إليه فعلا.. كما كان الحال مع رسول الله ، فإن الله تعالى يؤيده وينصره، رغم أن العالم كله يقف أمامه، ويعارضه ويخالفه ويحاربه، ويحاول بكل وسيلة أن يقضي عليه، ولكن تأييد الله تعالى يتنـزل عليه، وتكلؤه رحمته، وتحيطه حفاظته، وتتولاه عنايته.

ومن رحمة الله تعالى أنه لا يُنْزل عقابه على مدّعي الوحي الكاذب فور نطقه الكذب، وإنما يمهله بعض الوقت حتى يتوب ويرجع عن كذبه ويعود عن افترائه. فإن فعل.. فإنه سبحانه يتوب عليه ولا ينْزل عليه عقابه، كما حدث مع طُليحة بن خويلد الأسدي، الذي كان قد ادّعى النبوة كما فعل مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ولكنه تاب عن ذلك وحسُن إسلامه، فكان يحارب في صفوف المسلمين.

وأما من يُصرّ على أنه يتلقى الوحي من الله تعالى، ويستمر في إصراره على ذلك، ويواصل إعلان ذلك الوحي على الناس، ويدعوهم للإيمان به، فإن كان كاذبا فإن الله لا محالة يوقع به عقابه، ويُسلط عليه من يهلكه ويقضي عليه.. كما حدث مع مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وسجاح الكاهنة.. وهو ما حدث مع كل من ادّعى الوحي كذبا سواء في العصور القديمة أو الحديثة. وأما إذا لم ينْزل عقاب الله تعالى على من يدّعي تلقي الوحي، رغم إصراره واستمراره وتواصله في إعلان ذلك الوحي على الناس ودعوتهم إليه، فقد اتفق العلماء على أن هذا دليل صدقه وبرهان تأييد الله له.. تماما كما حدث مع رسول الله ، إذ أنه أعلن أنه يتلقى الوحي من الله تعالى، وأصر عليه، واستشهد بالله عليه، واستمر على ذلك الإصرار لمدة تقرب من ثلاثة وعشرين عاما. ومع ذلك.. فلم يُسلط الله عليه من يقتله أو يهلكه، بل كان يؤيده ويحفظه، وفي ذلك أعظم دليل على صدقه .

كذلك فقد أعلن سيدنا أحمد أنه كان يتلقى الوحي من الله تعالى، وتواصل نزول الوحي عليه منذ منتصف العقد السابع في القرن التاسع عشر، واستمر هو يعلن على الملأ هذا الوحي لمدة زادت عن الثلاثين عاما كما سبق بيانه، ومع ذلك.. وبرغم محاولات أعدائه المتكررة للتخلص منه.. فلم يُسلط الله عليه من يقتله أو يهلكه. أليس في ذلك أعظم دليل على صدقه ، كما كان ذلك دليلا على صدق رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام؟

لقد كان الوحي الذي يتلقاه الإمام المهدي ، يحمل في ذاته أدلة صدقه، ويحتوي على براهين نزوله من عند عالم الغيب والشهادة، فقد كان يحتوي على النبوءات المتعددة التي تحققت أثناء حياته، وتحقق البعض منها حتى بعد وفاته. كذلك كانت كلمات الوحي التي تلقاها تحتوي على موعظة وحكمة، وتبشير وإنذار، ووعد ووعيد، للأتباع والأعداء على السواء، وكلها كانت تتحقق بشكل يخرج عن تدبير البشر، ولا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة رب العالمين.

لقد كانت عناية الله تعالى دائما تحيط الإمام المهدي ، وتولاه الله تعالى بحفظه ورعايته، ونجاه من كل سوء، وكان سيدنا أحمد آمنا كل الأمن من العقاب الذي قضى سبحانه وتعالى أن يأخذ به كل كذاب مفتر على الله، وفي هذا أعظم دليل على صدقه .. كما ذكر الكتاب العزيز أنه أيضا الدليل على صدق التنْزيل على الرسول الكريم .

لقد بعث الله تعالى إلى الدنيا الكثير من الأنبياء، وفي كل مرة كان الناس يتلقون مبعوث الله بالصد والعدوان، ويصمونه بالكذب والبهتان، ويتآمرون عليه ليقتلوه أو يخرجوه من المكان، ولكن الله تعالى كان يحفظ أنبياءه، ويصون رسله، ويؤيد مبعوثيه، ثم يُنْزل العذاب والعقاب على المخالفين والمعارضين.

لقد تآمر الناس على نوح فقالوا يهددونه:

لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (الشعراء: 117)

وأراد الناس الانتقام من إبراهيم فقالوا:

حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (الأنبياء:69)

وحاول الناس التخلص من شعيب فقالوا له:

لَنُخْرِجَنَّك يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا (الأعراف:89)

وهكذا كان دأب الناس دائما مع مبعوث السماء:

وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ   (غافر:6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (إبراهيم: 14)

ولكم حاول الناس أن يقتلوا رسول الله .. لقد تآمروا على حياته في مكة، ثم راحوا يحاربونه في المدينة، وكان يهود المدينة والمنافقون يتربصون به، ومع ذلك فقد أوحى إليه سبحانه أنه سوف يعصمه من الناس، ولن يستطيع أحد منهم أن يقتله، فقال:

يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّ بِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ   (المائدة: 68)

وإن هذه العصمة الإلهية لحياة الرسول التي استمرت طوال عمره الشريف، والتي تجلت في نجاته من القتل بيد أعدائه، لهي خير دليل على أنه كان صادقا في دعواه.

كذلك كان الله تعالى يؤيد عبده الإمام المهدي ، ويحفظه من كيد أعدائه. وبشَّره عن طريق الوحي بأنه سوف يحفظه من الناس.. تماما كما وعد رسول الله ، بل لقد أنزل الله تعالى على عبده الإمام المهدي والمسيح الموعود بشارات في كلمات تشابه تلك التي وعد بها رسوله الأكرم بأن يعصمه من الناس فقال:

[يَرْحَمُكَ رَبُّكَ وَيَعْصِمُكَ مِنْ عِنْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْصِمْكَ النَّاسُ. يَعْصِمُكَ اللهُ مِنْ عِنْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْصِمْكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِينَ] (تذكرة ص243)

نعم.. إن بعض المتشككين والمتهكمين قد يقولون إن كل كذاب ودجال ومدّع يستطيع أن يفتري على الله كل ما يُصَوّره له خياله المريض ورأيه السقيم، ويستطيع مثل ذلك الإنسان أن يختلس من كتاب الله بعضا من الآيات التي أنزلها الله تعالى على رسوله الكريم وينسبها إلى نفسه زورا وبهتانا.

نعم.. قد يفعل ذلك أحد الكذابين الدجالين، ولكن.. ماذا يفعل الله تعالى بذلك الإنسان؟ هل يتركه وشأنه؟ هل يؤيده بنصره ويعزه بعزته.. أم يُنْزل عليه عقابه ويُظهر كذبه ويفضح افتراءه ويكشف دجله ويجعله عبرة لكل من يعتبر؟

لقد أعلن سيدنا الإمام المهدي أن الله سوف يعصمه من الناس، حتى ولو لم يعصمه أحد من أهل الأرض.. فماذا حدث؟ لقد كذبه الناس وعارضوه، واتهموه بالكفر والخروج عن الدين، وأصدر علماء السوء من قادة الفرق الإسلامية فتاواهم بارتداده عن الدين، وأحلوا قتله وأهدروا دمه، واعتبروا اغتياله عملا عظيما يودي بفاعله إلى الجنة بغير حساب. وقد كانت حياته معَرَّضة لكل الأخطار.. كان يعيش في قرية صغيرة لم يكن بها مركز للشرطة، ولم يوجد بها ولا شرطي واحد لحفظ الأمن والنظام، ولم يكن هناك أية قوة عسكرية بأي شكل من الأشكال، ولم يطلب الإمام المهدي أية حماية من السُلطة، ولم يعين أحدا من أتباعه لحراسته، ولم يقم باتخاذ أي تدبير لتوفير الحفاظة والسلامة له.

كان يذهب إلى المسجد لأداء الصلوات الخمس مع عامة الناس، وكان يمكث في المسجد بعد الصلاة لمقابلة الزائرين الذين كانوا يتوافدون إليه من مختلف الجهات، ومن كل مناح الحياة، وكان يقضي مع الناس وقتا طويلا يجيب على أسئلتهم.. ويعظهم.. ويتلو عليهم آيات ربه.. ويعلمهم الكتاب والحكمة ومكارم الأخلاق، ويجعلهم ربانيين.

كان يذهب قبل الظهيرة لممارسة رياضة المشي الحثيث، وكان يسير لأميال عديدة، وكثيرا ما كان يذهب في صحبة بعض أتباعه الذين لم يمنعوا أحدا من الوصول إليه أو الحديث معه. كذلك كان من وقت لآخر يسافر إلى هذه المدينة أو تلك، وينتقل من هذا المكان إلى ذاك، وكان مُعَرَّضا خلال تلك الأسفار والانتقالات إلى كل الأخطار التي يتعرض لها المسافر، بل إنه كان يتعرض لأخطار أخرى بالنظر إلى حملات العداء الشديد، التي كان يشنها عليه أعداؤه، وخاصة من المولويين والقسيسين وقادة الآرية والهندوس. ومع كل هذا.. فإن الحفاظة الربانية كانت دائما معه، وكانت العناية الإلهية تحفظه دائما وأبدا من كل سوء، وحقق الله تعالى وعده بأنه سبحانه وتعالى هو فعلا الذي يعصمه من الناس. فهل هذا شأن الله تعالى مع الدجالين والكذابين الذين يفترون على الله الكذب؟

إن الحفاظة الإلهية هي من الأمور التي قدّرها الله تعالى لأنبيائه.. إلا ما شاء سبحانه. وقد تحدى أولئك الأنبياء أقوامهم.. أن كل تدابيرهم وكل خططهم وكل مؤامراتهم سوف تبوء بالفشل والخسران، ولن يتمكن الأعداء من القضاء على الأنبياء الذين وعد الله بالحفاظ عليهم. فقال نوح مخاطبا قومه:

يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوآ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ $ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ $ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ   (يونس:72-74)

هنا يعلن نوح أنه لم يفعل شيئا إزاء مؤامرات قومه سوى أنه توكل على الله. وأما أعداؤه فعليهم أن يجمعوا أمرهم، ويستعينوا بتدابير شركائهم، ولا يكن أمرهم عليهم غمة، بل تتفق كلمتهم وتتوحد إرادتهم، ثم يقضون ويقررون هلاكه، ثم لا يُنظرونه ولا يؤجلون تدبيرهم ولا يتركون له ملجأ أو مهربا. ثم يبين سبحانه وتعالى أنهم كذبوه، فكان أن نجّاه الله من كل تدابيرهم، وعصمه من كل سوء، وحفظه من كل شر.

كذلك وجّه الله تبارك وتعالى مثل هذا التحدي إلى أعداء رسول الله ، وبشر رسوله بالنصر في الدنيا وفي الآخرة فقال:

مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (الحج:16)

وهذا أيضا ما حدث مع الإمام المهدي .. فقد بشره ربه بتأييده، وبأنه سيمزق أعداءه كل ممزق، وبأنه سيكون معه في كل حين.

ونقتبس فيما يلي بعض الفقرات مما أوحى به الله تعالى إليه:

[إِنِّي مُهِينٌ مَّنْ أَرَاد إِهَانَتَكَ وَإِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. يَا أَحْمَدُ بَارَكَ اللهُ فِيكَ. مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَّا أُنْذِرَ آبَآؤُهُمْ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ. قُلْ إِنّي أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.كُلُّ بَرَكَةٍ مِّنْ مُّحَمَّدٍ فَتَبَارَكَ مَنْ عَلَّمَ وَتَعَلَّمَ. وَقُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ …بُشْرَى لَكَ يَا أَحْمَدِي. أَنْتَ مُرَادِي وَمَعِي. غَرَسْتُ كَرَامَتَكَ بِيَدِي. أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا. قُلْ هُوَ اللهُ عَجِيبٌ. يَجْتَبِي مَن يَّشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ. لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَإِذَا نَصَرَ اللهُ الْمُؤْمِنَ جَعَلَ لَهُ الْحَاسِدِينَ……. الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ. قُلْ هَذَا فَضْلُ رَبِّي وَإِنِّي أُجَرِّدُ نَفْسِي مِنْ ضُرُوبِ الْخِطَابِ وَإِنِّي أَحَدٌ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ. يُرِيدُونَ أَن يُّطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللهُ يُتِمُّ نُورَهُ وَيُحْيِ الدِّينَ. نُرِيدُ أَن نُّنَزِّلَ عَلَيْكَ آيَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَنُمَزِّقُ الأَعْدَاءَ كُلَّ مُمَزَّقٍ. حُكْمُ اللهِ الرَّحْمَنِ لِخَلِيفَةِ اللهِ السُّلْطَانِ] (تذكرة ص237-241)

ولأن الإمام المهدي كان على بينة من ربه، وكان على يقين من تأييده ونصره، فقد تحدّى أيضا المخالفين والمعارضين قائلا ما تعريبه:

“أقول للمشايخ المعارضين وندمائهم نصيحة لله إن السب والشتم ليس من شيمة الشرفاء. فإن كانت هذه هي سجيتكم فهذا شأنكم. أما إذا كنتم تعتبرونني كاذبًا فبإمكانكم أيضًا أن تدعوا عليّ مجتمعين في المساجد أو فرادى، وابغوا استئصالي بالتضرع والابتهال، فإذا كنت كاذبًا فلا بد أن تستجاب تلك الأدعية التي تقومون بها دومًا. ولكن تذكروا أنكم لو دعوتم بشدة حتى تُجرّح ألسنتكم، وتخروا ساجدين بالتضرع والابتهال حتى تهترئ أنوفكم، وتتآكل حلقات العيون وتسقط الرموش من كثرة الدموع، وتضعف بصارتكم بسبب كثرة البكاء، ولو تعرضتم في نهاية المطاف لنوبات الصرع من جراء الضعف الدماغي الشديد وأصبتم بماليخوليا، فلن تُقبل تلك الدعوات لأنني بعثت من الله…. اعلموا أنه لا يموت أحد على الأرض ما لم يُكتب له الهلاك في السماء. إن روحي تتسم بذلك الصدق الذي نُفح به إبراهيم ، فإن لي مع الله تعالى نسبة إبراهيمية. لا أحد يعرف سرّي سوى الله. إن المعارضين عبثًا يُهلكون أنفسهم. إنني لست تلك الشجرة التي يمكن أن تُستأصل بيدهم…. اللهم! ارْحمْ هذه الأمة، آمين. (أربعين رقم 4، الخزائن الروحانية ج 17 ص472- 473)

ثم يقول في موضع آخر:

“إنني على يقين تام بأني لن أحتاج أحدا من دون الله حتى أغادر هذه الدنيا. فهو الذي سيعصمني من شر كل عدو، فالحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، هو وليي في الدنيا والآخرة، وهونعم المولى ونعم النصير. وإنني على يقين تام بأنه سينصرني ولن يُضيعني، وإن نهضت الدنيا كلها وصارت في معاداتي أسوأ من الوحوش الضارية، فمع ذلك سوف يعينني الله وينصرني، وإني لن أُدفن في قبري خائبا خاسرا، لأن ربي معي في كل خطوة أخطوها، وإنني معه“. (ضميمة براهين أحمدية، الخزائن الروحانية ج 21ص 294)

ويقول أيضا:

“لا يعلم أحد ما في قلبي مثلما يعلمه الله . ولو تركني الناس جميعا فإنه تعالى سوف يخلق قوما آخرين يكونون رفقائي. إن العدو الغبي يظن أن أمري سوف يفسد بمكائده وخططه، وتتفرق الجماعة، ولكن ذلك العدو السفيه لا يدري أن ما تقرر في السماء لا تقدر الأرض على محوه. إن الأرض والسماء ترجفان أمام ربي. إن الله هو ذاك الذي يُنْزل عليّ وحيه القدسي ويُطلعني على أسرارٍ غيبية. ولا إله إلا هو، ولا بد أن يهِبَ لهذه الجماعة نموًّا وازدهارا إلى أن يميز الله الخبيث من الطيب.” (نفس المرجع السابق ص 294-295)

فهل هذه العبارات تخرج من أفواه الكذابين؟ وإذا خرجت.. فهل يترك الله هؤلاء الكذابين دون أن يأخذهم بعذاب أليم، وينتقم منهم انتقام الجبارين؟

وهل يمكن أن يفيض وجدان المفترين بهذا اليقين؟ وإذا كان.. فهل يحقق الله مساعي المفترين ويكتب لهم النصر على أعدائهم ويبارك في دعوتهم وينشر جماعتهم في أنحاء الأرضين؟

ألا إن في ذلك لآيات للمتفكرين..

* أما الآن في عام 2006م فقد توطدت الجماعة بفضل الله تعالى في 182 قطرا من أقطار العالم. (الناشر)

Share via
تابعونا على الفايس بوك