وأنى لعقل الناس نور كنوره

وأنى لعقل الناس نور كنوره

مصطفى ثابت

تحت سلسلة السيرة المطهرة يتناول الكتاب

سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد

الإمام المهدي والمسيح الموعود

مُبرِزاً الوقائع والأحداث الهامة من حياة حضرته المطهرة

(الحلقة الأخيرة)

في الحلقات الماضية تحدثنا عن حُبّ سيدنا أحمد لله تعالى، وعن وُدّه وتقديره لرسوله ، ومدى تقديسه وتعظيمه لكتاب الله، وكيف أن الله تعالى أعطاه علوم القرآن، وأفاض عليه من معارف الفرقان، فاستطاع أن يرى فيه كنْزًا من المعارف لا يفنى. وحيث إن الله تعالى قد جعله من المطهرين، فقد استطاع أن يمسّ تلك الكنوز القرآنية وأن يستخرج منها مالم يسبقه فيها الأولون من المفسرين.

لقد أحبّ سيدنا أحمد القرآن حبًّا جمًّا، فعلّمه الله تعالى من لدنه عِلمًا، وآتاه علوم القرآن وأنار بصيرته بنور الفرقان، فاستطاع أن يرى بنور الله في الآيات فصوصا من الحِكَم، بينما لم ير سواه في التفسير غير اللمم. وقد ملك كتابُ الله قلبه وفؤادَه، فأعطاه الله كل ما سأله وأراده، ولذلك لم يكن له مثيل في الدفاع عن القرآن، لأنه كان على يقين أنه كتاب عظيم الشأن، لا يأتي بمثله إنس ولا جان، ولا يصل إلى حقيقة معانيه إلا من طهّره الرحمن. فهو كتاب لا يفهمه إلا المؤمنون المخلصون، كما أنه كتاب محفوظ مكنون، لا يمسّ معانيه إلا المطهَّرون.

وكما هو شأن المحبين.. الذين يعبّرون عن هواهم بأعذب الأغنيات، ويصفون غرامهم بأرق الكلمات، أنشد سيدنا أحمد يتغنى بمدح القرآن، ونقتطف هذه الباقة من بعض قصائده التي قال فيها:

؟

رسولٌ كريمٌ ضعَّف اللهُ شأنه

وبدرٌ منيرٌ لا يضاهيه نيِّرُ

.

وجاء بقرآن مجيد مكمَّلٍ

منيرٍ فنَوَّرَ عالَمًا وينوِّرُ

,

كتاب كريم حازَ كلّ فضيلة

ويسقي كؤوسَ معارفٍ ويوفِّرُ

.

وفيه رأينا بيناتٍ من الهدى

وفيه وجدنا ما يقي ويبصِّرُ

.

كعينٍ كَحيلٍ زُيِّنت صفحاته

بناظرةٍ مِن عِيْنِ خُلدٍ يَنْظُرُ

.

طريٌّ طلاوتُه ولم تعفُ نقطةٌ

لِما صانَه اللهُ القدير الموقِّر

.

فيا عجبًا مِن حسنه وجماله

أرى أنه دُرٌّ ومِسكٌ وعنبرُ

.

وإن سروري في إدارة كأسه

فهل في الندامى حاضرٌ مَن يكرِّرُ

.

وريَّاه قد فاق الحدائق كلها

نسيم الصبا من شأنه تتحيَّرُ

.

إذا ما تلا من آية طالبُ الهدى

يرى نوره يجري كعين ويمطُرُ

.

وفيه من الله اللطيف عجائبٌ

أشاهده في كل وقت وأنظرُ

.

أيعجب مِن هذا سفيهٌ مشرَّدٌ

وألهاه عن نور ظلام مكدَّرُ

.

إلى قوله يرنو الحكيم تلذذا

ويُعرِض عنه الجاهل المتكبرُ

.

كتاب جليل قد تعالى شأنه

يدافي رؤوسَ المنكرين ويَكسِرُ

.

هو السيف في أيدي رجالِ مَواطنٍ

فلن يَعصِمَ دِرعٌ منه فوجا ومِغفَرُ

.

كلام يفُلُّ المرهفاتِ بحدّه

يبشّرنا في  كل أمر وينذِرُ

.

فدًى لك روحي يا حبيبي وسيدي

فدًى لك روحي أنت وِردٌ مُنضَّرُ

.

أنحن نفرّ من النبي وبابه

خَفِ اللهَ يا صيدَ الردى كيف تجسُرُ

.

أنترك قرآنا كريما ودُررَه

فما لك لا تدري صلاحا وتَفجُرُ

.

هل العلم شيء غير تعليم ربنا

وأيّ حديث بعده نتخيرُ

.

كتابٌ كريمٌ أُحكمتْ آياته

وحياته يحيي القلوبَ ويُزهِرُ

.

يدُعُّ الشقيَّ فلا يمسُّ نكاته

ويروي التقيَّ هدًى فينمو ويثمرُ

.

ومتَّعني مِن فيضه لطفُ خالقي

فإني رضيعُ كتابِه ومُخَفَّرُ

.

كريمٌ فيؤتي من يشاء علمَه

قديرٌ فكيف تكذبَنَّ وتَهكِرُ

.

وتغنى بمحاسن القرآن في قصيدة أخرى فقال:

وإن كتاب الله بحرُ معارفٍ

ونجدنْ فيه عيونَ ما نستعذبُ

.

وكم من نكات مثل غِيدٍ تمتَّعَتْ

بها مُهْجتي مِن هدي ربي فجَرِّبوا

.

إذا ما نظرتُ إلى ضياء جماله

فإذا الجمال على سنا البرق يغلِبُ

.

رأيتُ بنورٍ نورَه  فتبيَّنتْ

عليَّ حقائقه ففيها أُقلَّبُ
.

يصدّ عن الطغوى ويهدي إلى التقى

خفيرٌ إلى طرق السلامة يجلِبُ

.

يجرّ إلى العليا وجاء من العلى

كما هو أمرٌ ظاهرٌ ليس يُحْجَبُ

.

وسرٌّ لطيفٌ في هداه ونكتةٌ

كنجمٍ بعيد نورها تتغيبُ

.

ومن يأته يُقبَلْ ومن يُهدَ قلبُه

إلى مأمنِ الفرقان لا يتذبذبُ

.

يُضيء القلوب ويدفَعنّ ظلامَها

ويشفي الصدور سوادُه ويهذِّبُ

.

فقلتُ له لما شربتُ زلاله

فدًى لك روحي أنت عيني ومشرَبُ

.

وكم مِن عَمِينٍ قد كشفتَ غطاءهم

ونجّيتَهم عما يعفِّي ويَشغَبُ

.

ألا رُبَّ خصمٍ خاضَ فيه عداوةً

فألهاه عن خوضٍ سناه المؤنِّبُ

.

وأنَّى لِعقل الناس نور كنوره

وإن النهى ببيانه يتهذَّبُ
.

ومن يطلب الخيراتِ فيه ينَلْنَهُ

ويرى اليقينَ التام والشكُّ يهرُبُ

.

ومن يطلُبَنْ سبلَ الهدى في غيره

يكُنْ سعيه لعنًا عليه فيُعطَبُ

.

ومن يعص فرقانا كريما فإنه

يطع السعير وفي الجحيم يُقلّبُ

(كرامات الصادقين، الخزائن الروحانية: ج7 ص97-99)

وفي قصيدة أخرى يقول عن القرآن، داعياً الناسَ إلى كتاب الله المنان:

هـلمّ إلى كتـاب الله صدقًا

وإيمـانًا بتصـديق الجـنانِ

.

ومـا القـرآن إلا مثـلَ دُرَرٍ

فرائـدَ زانَها حسـنُ البـيانِ
.

به ما شئتَ مِن عـلم وعقـل

وأسـرارٍ وأبـكار المعـاني

.

يسكِّت كلَّ مَن يعـدو بضغنٍ

يبكّت كلَّ كـذّاب وجـاني

.

رأيـنا دَرَّ مُـزْنتِـه كثـيرًا

فـدَينـا ربَّنـا ذا الامتـنانِ

.

ومـا أدراك ما القرآن فيضًا

خفـيرٌ جـالبٌ نحو الجِـنانِ

.

لـه نورانِ نورٌ من علـوم

ونورٌ مـن بيـان كالجُـمانِ

.

كلامٌ فائق ما راقَ طرفي

جـمـالٌ بعـده والنَّـيِّرانِ

.

أَياةُ الشمس عند سَناه دَخْنٌ

وما لِلَّعْـلِ والسِبْت اليمـاني

.

وأين يكون للقـرآن مِثـلٌ

وليس لـه بهذا الفـضل ثاني

.

ورِثنْا الصُّحْفَ فاقتْ كلَّ كُتْبٍ

وسبقتْ كلَّ أسفـار بشانِ

.

وكل النـور في القـرآن لكنْ

يمـيل الهـالكون إلى الدخانِ
.

بـه نلنـا تُراثَ الـكاملـينا

به سِرْنا إلى أقصـى المعاني

.

فقُـمْ واطلُبْ معـارفه بجهدٍ

وخَفْ شرَّ العواقب والهوانِ

.

وآخـر كلمـنا حمدٌ وشكرٌ

لرب محسـن ذي الامتـنانِ

؟

هذا هو سيدنا أحمد .. هذا هو الإنسان الذي ملأ قلبه حب الله تبارك وتعالى، وفاض في وجدانه حب الرسول ، وأنار فؤاده حب القرآن الكريم، فكان في كل كلامه، وفي جميع عمله، نموذجا مجسّما لهذا الحب العظيم. لم يكن من الغريب أن يختار الله تعالى هذا الإنسان الذي صاغه الحب، وخمرته المحبة، ليكون الإمام المهدي والمسيح الموعود، فهو أقدر الناس على إيصال ذلك الحب إلى قلوب غيره من البشر. فمن شرب من كأس الوصال الإلهي يعرف تماما كيف يروي غليل الآخرين، ومَن طعم مِن خوان محمد يعلم يقينا كيف يُطعم الجائعين، ومن غاص في بحار القرآن العميقة وارتوى من ذلك النبع العظيم فهو الذي يستطيع أن يسقي العطاشى المحرومين.

إن القضية ليست فقط قضية الإيمان بالله ورسوله وكتابه، فإن الناس يؤمنون يقينا بوجود الكثير من الأشياء في هذه الدنيا. إن الملايين من البشر يؤمنون بوجود مدينة لندن مع أنهم لم يروها بأعينهم، ولم يزوروها بأنفسهم، ولم يجربوا قط الحياة في شوارعها ودروبها. ولكن ما قيمة هذا الإيمان الذي لا تُحركه مشاعر الحب ولا تُصليه أحاسيس الهوى والغرام؟ ما قيمة إيمان الإنسان بالله إذا كان لا يحرص على وصال الله بالصلاة، أو قد يُصلي بعض الوقت ثم ينقطع عنها، وإذا أدى الصلاة أدّاها بقلب ينوء بأمور الدنيا، وفكرٍ تائهٍ في خضم مشاغل الحياة؟ ما قيمة الإيمان برسول الله إذا كان المرء لا يتّبعه في كل أمور حياته، حسب جهده وطاقته، ولا يتخذ منهاجه وسُنته، نبراسا له في كل شؤون دُنياه، بل يكتفي بتمتمة بعض الكلمات كلما ذكر اسمه الشريف؟ ما فائد الإيمان بالقرآن إذا كان الإنسان لا يسعى لفهم ذلك الكتاب، ولا ينهل من ذلك النبع الدفاق، بل يكتفي بقراءته في المواسم والمناسبات فقط.. في شهر رمضان أو حين وفاة الأهل والأحباب؟ إن الإيمان بغير العمل كالصحراء الجرداء، التي لا نبات فيها ولا ماء. الإيمان الذي لا يُحركه الحب، ولا ينبض بوصال المحبوب، يستوي تماما مع الإيمان بوجود مدينة من المدن، أو بوجود نصب تذكاري، أو بوجود تمثال شهير كأبي الهول. ومهما ادّعى المرء أن إيمانه قائم على الحب فإنه كاذب في دعواه، ما لم يكن العمل الصادق، والسعي الدائب، والجهاد المستمر، والذكر الدائم للمحبوب، هو الذي يُؤكد دعوى الإيمان، فقد قال رسول الله : “ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن هو ما وَقَرَ في القلب وصدّقه العمل.” (كنز العمال، المجلد الأول، الفصل الأول في حقيقة الإيمان) لقد قضى سيدنا أحمد حياته الشريفة كلها في العمل من أجل أن يعرف الناسُ الإلهَ الحقيقي ويعبدوه، وسعى في كل لحظة من لحظات عمره لكي يُدرك الناس عظمة رسول الله ويطيعوه، وجاهد في كل آن وكل مكان تواجد فيه لكي يَعلم الناس سمو شأن تعليم القرآن ويتّبعوه. نعم.. إنه كان في أوائل حياته منزويا عن الناس، ومائلاً إلى العزلة والانفراد ليخلو إلى ربه، يسأله ويتلقى منه عِلما. إنه لم يكن يبتغي منصبا أو سيادة، ولا كان يصبو إلى رياسة أو قيادة، رغم أن الناس كانو يطلبوا بيعته وهو رافض لهم وكاره لها، إلى أن أمره الله تعالى بأخذ البيعة وإنشاء الجماعة الإسلامية الأحمدية. فانساب الحب من قلبه إلى قلوب أتباعه، كما ينساب الجدْول من النبع الدافق إلى الأرض العطشى فيرويها بماء الحياة. وأشرق النور من وجدانه فأنار وجدان أفراد جماعته، وأضاء ظلمات دنياهم وحطم طواغيتها،وبدد زخرفها وزينتها. وهكذا.. غرس سيدنا أحمد بيده الكريمة.. لا.. بل بيد الله تبارك وتعالى.. بذورًا طيبة في أرض الإيمان، ورواها بوابل من الحب والحكمة والعرفان، وتعهَّدَها كالراعي الوفي والحارس اليقظان، وغذّاها بغذاء المحبة والبر والإحسان، وشملها بأدعية مباركة إلى الله الولي المنّان، فأنبتت شجرات وارفة الظلال كالجنان، وأينعت ثمرات طيبة فوق الغصون والأفنان، وامتدت جذورها في البلاد وفي كل مكان، وآتت أُكُلها كل حين وفي كل آن.

هذه هي شجرة الجماعة الإسلامية الإحمدية.. الشجرة المباركة التي غرسها الله تعالى بيد سيدنا أحمد ، فكان أصلها ثابت وفرعها في السماء، تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها. لقد دخل في هذه الجماعة أناس عرفوا ربهم حق المعرفة حسب طاقتهم فأحبوه، وأدركوا قدر رسولهم سيد الخلق فأطاعوه، واستناروا بنور القرآن الكريم وهُداه فاتّبعوه. لقد اعتصموا بحبل الله جميعا ولم يتفرّقوا، واجتمعت كلمتهم وتوحدت إرادتهم، رغم أنهم جاءوا من خلفيات متفرّقة وأديان مختلفة. كان بعضهم يدين بالهندوسية، وكان بعضهم من أتباع ديانة السيخ، وكان منهم من يدين بالمسيحية أو يؤمن باليهودية، وكان من بينهم من يدين بالزرداشتية والبوذية وغيرها من الأديان، وكان الكثير منهم من يدين بالإسلام المعاصر الذي غزته الإسرائيليات وأفكار العصور الوسطى، ولوّثته دعوات العنف والإرهاب، وشوّهته جماعات سياسية تتخذ من الإسلام وسيلة للوثوب إلى السُلطة والاستيلاء على كراسي الحكم، وأساءت إليه أفكار المستشرقين من أهل الغرب، والمستغربين من أهل الشرق. وكان هؤلاء الأتباع  الكرام الذين توَحّد أمرهم في سلك الجماعة الإسلامية الأحمدية يتكلمون بلغات مختلفة، وينتمون إلى بلاد شتى، فمنهم من كان من بلاد العرب، ومنهم من كان من أمريكا، ومنهم من كان من بريطانيا، ومنهم من كان من أفريقيا، ومنهم من كان من أستراليا، ومنهم من كان من دول أوروبا وآسيا، بلغاتهم المتباينة وتقاليدهم المتغايرة؛ ومع ذلك فقد اتحدوا جميعا على يد رجل واحد. لقد حاولت بعض الدول أن تقيم اتحادًا فيما بينها كما قامت الوحدة بين مصر وسوريا، ولكنها سرعان ما انحلت. وتعرضت الولايات المتحدة الأمريكية إلى انفصام بين اتحاد ولاياتها، الأمر الذي أدى إلى الحرب والقتال بين ولايات الشمال وولايات الجنوب، ثم انتهى الأمر بانتصار ولايات الشمال وفرض الوحدة على الجميع بقوة السلاح ونص القانون. ونرى في عالمنا المعاصر كيف أن الدولة الواحدة تتمزق وتنقسم، كما حدث في الهند وفي الباكستان وفي اليمن وفي تشيكوسلوفاكيا وفي يوغوسلافيا، وكما تطالب كوبيك بالانفصال عن كندا، وكما انهار وتحطم الاتحاد السوفيتي العظيم، وما زالت نزاعات الانفصام تستشري بين الدول الروسية، وكان لا بد من الحرب والقتال لإجبار المنفصلين على البقاء في الاتحاد كما حدث في الشيشان.

أما جماعة المؤمنين التي أنشأها رسول الله ، فقد كانت تنتمي إلى العديد من القبائل التي كانت متحاربة فيما بينها، بل إن حروب الأوس والخزرج لم تنته تماما إلا بعد دخولهما في الإسلام. ومع انتشار الإسلام في اليمن والبحرين دخلت فيه قبائل كثيرة، تختلف عن قبائل قريش التي كانت هي الأخرى يمزقها النِّزاع والاختلاف، ولكن كل هؤلاء اتحدوا، واتفقت كلمتهم، وساروا خلف قيادة واحدة.

والأمر الذي يستدعي التساؤل هو.. لماذا تمكن رسول الله من خلق روح الألفة بين المؤمنين به، الذين كانوا ينتمون إلى قبائل مختلفة، ولماذا استطاع سيدنا أحمد أن يزرع روح المحبة بين المؤمنين به، الذين كانوا ينتمون إلى بلاد وأديان ولغات وتقاليد مختلفة، بينما لم تنجح دعوات الاتحاد بين الدول، أو حتى في الدولة الواحدة، إلّا بقوة السلاح أو بحكم القانون الذي تسانده القوة العسكرية؟ والجواب الطبيعي لهذا السؤال هو أن جماعة الأنبياء تقوم على أواصر المحبة والرحمة، وتربط بين قلوب أفرادها روابط الحب والألفة. إن الحب الذي يجمع هؤلاء أقوى من كل أنواع السلاح، وأشد تأثيرا من جميع القوانين، لأن الله تعالى بنفسه يضع ذلك الحب في أفئدتهم، وهو الذي يملأ قلوبهم بالمحبة والرحمة.

يقول تعالى:

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  (الأنفال: 64)

وفي مكان آخر يذكر سبحانه وتعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح: 29)

إن هذه الألفة التي يجعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين، وهذه الرحمة التي يربط بها الله تعالى بين أفئدتهم، هي التي تجمع بينهم وتُوَحّد كلمتهم، وتجعلهم على قلب رجلٍ واحدٍ، إلّا ما شذّ وندر من المنافقين والمتطلعين إلى السُلطة والقيادة، وهؤلاء لا يمكن أن تخلو منهم جماعة حتى ولو كان مؤسسها هو رسول الله نفسه. هكذا كانت دائما جماعة الأنبياء.. يربط بينهم الحب ويجمعهم الوفاء. ويقول تعالى عن أتباع عيسى :

وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ( الحديد:38)

إن هذه الرأفة والرحمة التي جعلها الله تعالى في قلوب أتباع المسيح الإسرائيلي ، هي نفسها التي جعلها سبحانه في قلوب أتباع المسيح الإسلامي . وقد وعد الله تعالى المؤمنين الصادقين الذين يحسنون عمل الصالحات أن يجعل بينهم محبة وودًّا. يقول سبحانه:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ( مريم: 97)

إن هذه المحبة التي يؤلف الله تعالى بها بين قلوب عباده، وهذه المودة التي يجعلها سبحانه في وجدان المؤمنين به، هي التي تُوحّد بينهم، مهما اختلفت جنسياتهم، ومهما تغايرت ألسنتهم، ومهما تباينت عاداتهم وتقاليدهم، تماما كما جمعت بين محمد العربي ، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي في جماعة المؤمنين الأولى، بينما ظل أبو جهل وأبو لهب في عداء مع رسول الله ، رغم اتفاق اللسان، وصلات القرابة، وروابط القبيلة.

واليوم.. بعد مرور أكثر من مائة عام على إنشاء الجماعة الإسلامية الأحمدية.. فإننا نرى بوضوح مظاهر هذه الألفة والرحمة والمحبة والمودة، التي تجمع بين قلوب أفراد تلك الجماعة المباركة.

لقد أوقفت الكثير من أفراد هذه الجماعة حياتهم لخدمة الدين، ورفع لواء الإسلام ونشره في أنحاء الأرض. وحينما أراد إمام الجماعة أن يبعث الدعاة والمـُبلِّغين إلى أقاصي الأرض، تسابق المخلصون ليحملوا الأمانة، وبذلك استطاعت الجماعة أن تنشئ المراكز في القارة الأمريكية والأوربية. لقد كان أول مسجد يبنى في لندن هو المسجد الذي أقامته الجماعة عام 1924، وكان أول مسجد يقام في هامبورغ بألمانيا هو مسجد الجماعة، وكان أول مسجد يقام في برلين هو مسجد الجماعة، وكان أول مسجد يقام في فرانكفورت هو مسجد الجماعة، وكان أول مسجد يقام في كوبنهاجن بالدانمرك هو مسجد الجماعة، وأول مسجد يقام في جوتنبرغ بالسويد هو مسجد الجماعة، وأول مسجد يقام في أوسلو العاصمة النرويجية هو مسجد الجماعة، وأول مسجد يقام في زيورخ بسويسرا هو مسجد الجماعة، وأول مسجد يقام في هولندا هو مسجد الجماعة، وأول مسجد يقام في إسبانيا بعد خروج المسلمين منهزمين منذ قرون عديدة هو مسجد الجماعة في بدروآباد بضواحي قرطبة على الطريق السريع الممتد بين قرطبة ومدريد. هذا وقد أعلن إمام الجماعة الإسلامية عام 1997 عن مشروع لإنشاء مائة مسجد في ألمانيا وحدها.

وفي أفريقيا كان المبشرون المسيحيون يجولون في عرض البلاد وطولها، ينشئون المدارس ولا يسمحون بالتعليم فيها إلا لمن دخل النصرانية، فكان أن بعث الخليفة الثاني للإمام المهدي ، في أوائل العشرينيات من هذا القرن إلى إفريقيا غربًا وشرقًا، وشمالاً وجنوبًا، بكوكبة من المبشرين الإسلاميين الأحمديين، فتَصدَّوا لدعاة النصرانية، ورفعوا لواء الإسلام، وأدَّبوا الناس بآداب رسول الله ، وعلَّموهم القرآن الكريم، وبَنَوا الآلاف من المساجد، وأقاموا العشرات من المستشفيات والمدارس، واستطاعوا بفضل الله تعالى كسب الملايين من القلوب المخلصة التي دخلت الإسلام، بعد أن كانت قد سقطت فريسة للتبشير المسيحي.

وكان من الطبيعي أن تضطرب القوى التبشيرية في العالم، وكان من المنطقي أن تتوجس قوى التحكم العالمية شرًّا من قيام جماعة إسلامية لا تدين لها بالولاء، ولا تتسول من أصحاب الريالات البترولية أو ممن يملكون الدولارات الخضراء. وشعرت قوى الشر بأن وجود إسلام يخاطب العقل والقلب والوجدان يمثل خطرًا شديدًا على وجود تلك القوى، فهي تسعى لكي تكون صورة الإسلام في العالم صورة مشوهة، وتحاول قدر جهدها أن لا يعلم الناس عن الإسلام سوى أنه دين يدعو إلى العنف والإرهاب، أو ينادي بالتخلف ومنع النساء من قيادة السيارات كما يحدث في السعودية، أو يحض على استبعاد المرأة وإغلاق مدارس البنات كما حدث في أفغانستان، تحت حكم جماعة طالبان، التي ساندتها باكستان.. التي تساعدها السعودية.. التي تؤيدها أمريكا.

ولذلك..لم يكن من الغريب أن تتصدى تلك القوى للعمل على وقف نشاط الجماعة الإسلامية الأحمدية ومحاولة القضاء عليها. فأصدروا الفتاوى لتكفيرها، وسنوا القوانين لوقف نشاطها واعتبارها أقلية غير مسلمة، وأصدرت الحكومة الباكستانية في زمن الدكتاتور الجنرال ضياء الحق أمرًا عسكريًا بمعاقبة كل فرد من أفرادها يظهر بأي مظهر إسلامي، حتى ولو استعمل التحية الإسلامية وقال “السلام عليكم”، فإنه يعرّض نفسه للسجن ثلاث سنوات، وغرامة مالية غير محددة. وقد قُدم بالفعل مئات أفراد الجماعة للمحاكمة بتهمة ارتكاب هذه الجريمة الخطيرة! بل أودعوا السجون، لا لأي جريمة سوى أنهم يقولون “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. وراح جنود الحكومة بإيعاز من المشائخ ومطالبة من المولويين، يطمسون معالم هذه الكلمة الطيبة من على مساجد الجماعة الإسلامية الأحمدية، ويطلونها بالطلاء الأسود!! وقامت فرق الشرطة والأمن بتفتيش بيوت أفراد الجماعة، لنزع هذه الكلمة الطيبة من على جدران بيوتهم !!! وكأننا قد عدنا مرة أخرى لنعيش في عهد الرسول ، حينما كان يعذب المؤمنون بواسطة سادة قريش لإصرار المؤمنين على قولهم “لاإله إلا الله محمد رسول الله”. ورحم الله بلالاً.. الذي آذوه وعذبوه، لأنه كان يصرّ على نطق هذه الكلمة الطيبة. غير أن هناك فارقًا واحدًا.. وهو أن أولئك الذين كانوا يضطهدون المسلمين ويعذبونهم، كانوا من المشركين، أما هؤلاء الذين يقومون اليوم بنفس أعمال أولئك المشركين، فإنهم.. ويا للعار.. يدينون بنفس دين الإسلام، الذي يؤمن به وينتمي إليه أيضًا أفراد الجماعة الإسلامية الأحمدية.

إن جماعة الأنبياء لا بد أن تلقى التعذيب والاضطهاد، ولا بد لها من تقديم التضحيات، ولا بد لها من تحمل أنواع المرارة وصنوف الآلام. وهي في كل مرحلة من مراحل الابتلاء التي تمر بها تتمسك دائمًا وأبدًا بأهداب الصبر، ولا تحيد قيد أنملة عن حدود التقوى. إنها لا تنتقم من أولئك الذين يضطهدونها، بل تدعو لهم بالخير والهداية. ولا تكيل الصاع صاعين لمن ينزلون بها صنوف الآلام والتعذيب، بل تزيد من سعيها لإيصال الحقيقة إليهم، وتبليغهم بالحق الذي يجهلونه. لذلك.. فإن الابتلاء الذي تتعرض له لا يصيبها بنكسة ولا ضعف، بل يزيدها قوة وحماسًا وتقدمًا.

والأنبياء يسعون بكل طاقتهم، ويجاهدون بكل ما آتاهم الله تعالى من قوى، لكي يُنشئوا تلك الجماعة المباركة التي سوف تحمل مشعل الهدى والإيمان من بعدهم. إنهم يربون أفراد جماعتهم على التقوى والإيمان، ويقيمونها على البر والإحسان، ويغذونها بلبن التضحية والإيثار، ويسقونها رحيق الصدق والإخلاص.

هذه هي مهمة الأنبياء.. إنهم يُنشئون جماعة من المؤمنين تكون على قدم الصدق من ربها ذي المجد والآلاء، لتضرب أروع الأمثال في التضحية والفداء، وتستقبل كل أنواع الآلام والشدائد والابتلاء، وتبذل في سبيل ربها الأرواح والنفوس والدماء، وتبلغ في الإيمان والإخلاص كل قمة وعلاء. وحين يناديها منادي السماء، تلبي من فورها النداء، وتقول سمعنا وأطعنا بغير مراء. لا تخيفها صولة الأعداء، ولا تهاب العواصف الهوجاء، ولا تفتر همتها لطول الليلة الليلاء، ولا تحيد عن الحق إذا طال البلاء، ولا يَفُتُّ في عزمها انتقاد الجهلاء، ولا يثنيها سخرية السفهاء، ولا ينال منها التهكم والاستهزاء، ولا يؤثر فيها السب والهجاء، ولا يسيؤها حملات البهتان والافتراء، ولا تئن من ثقل حمل الأمانة والأعباء. بل تمشي قُدمًا بكل وفاء، متخلية عن الثوائر النفسية وعن الأهواء، وراجية من الله حسن الرجاء، ومتقلبة في أفضال الله وفي النعماء، وباذلة في سبيله كل عطاء، شاكرة لفضله في الخير والسراء، وصابرة لقضائه في السوء والضرّاء، لا ترجو من سواه أي أجر أو جزاء، ولا تدين لغيره بحمد أو ثناء. تسعى إليه سعي الطلباء، وترفع إليه أكف الضراعة والدعاء، تنساب إليه كما ينساب جدول الماء، وتهرع إليه في كل شدة ورخاء، تتخذ من ذكره مشربًا عذب السقاء، وتنال من وصاله طعاما نمير الغذاء، وتكتسي بتقواه حُلّة من جميل الكساء.

هذه هي جماعة الرسل والأنبياء، جسد واحد متعدد الأعضاء، لا يفرقها اختلاف الآراء، ولا يشتتها تنافس الزعماء، بل يجمعها خالق السماء والغبراء، على طريق الحق والنور والضياء. يهوي إليها كرام الناس من الفضلاء، ويحيد عنها العمي والصم من الخبثاء. يخالفها أهل السوء من الدهماء، ويعارضها أهل الشر من التعساء، يرجون لها الاندحار والفناء، فيكتب الله لها النصر والعزة والبقاء. يبغضها أهل الظلم والظلماء، ويهواها أهل الخير من النبلاء، ويؤيدها أهل الحق من الشرفاء. ينخرط في سلكها العباد الأتقياء، وتجمع في صفوفها النخبة من النجباء، ويَشرُفُ بها من كان يخشى اللهَ من العلماء. هؤلاء هم زمرة الصلحاء، فاجعلنا يا رب دومًا من هؤلاء السعداء، واجعلنا لهم في الجنة من الرفقاء، واكتبنا مع الصدّيقين والصالحين والشهداء، واغفر لكاتب هذا الإملاء، واجْزِه من لدنك في الدنيا والآخرة خير الجزاء، بجودك وكرمك يا أكرم الكرماء، وارحمه بفضلك ورحمتك يا أرحم الرحماء، يا محبوبنا.. يا ربنا.. يا ذا الخير والمجد والآلاء.

وآخر دعوانا أن الحمد كله والولاء لله رب العلمين في الأرض وفي السماء.

Share via
تابعونا على الفايس بوك