كسر الصليب

السيرة الطاهرة (17)

تحت سلسلة السيرة الطاهرة يتناول الكاتب سيرة حضرة ميرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود مبرزاً الوقائع والأحداث الهامة من حياته الطاهرة

كان القس ألفريد ليفروي يشغل منصب بيشوب Bishop مدينة لاهور عاصمة البنجاب. وكان يُلقي الخطب بأسلوب الدعاة المسيحيين المتحمسين، وكان معروفاً بأنه يضمر العداء الشديد للإسلام والمسلمين، حتى إن بعض مواقفه في هذا الصدد قد ذُكرت في كتاب صدر عنه في بريطانيا اسمه “حياة ومكاتبات جورج ألفريد ليفروي” الذي ألفه هـ.هـ. مونتجمري، ونشرته في لندن شركة لونجمانز وجرين عام 1920.

وكان البيشوب يتقن اللغة العبرية واللغة العربية واللغة الفارسية كما كان يتحدث اللغة الأردية بطلاقة. وكان متحدثاً بارعاً له تأثير أخاذ على مستمعيه، وقد تم تعيينه في منصب البيشوب عام 1899. وخلال ربيع عام 1900، وفي أوائل فصل الصيف من ذلك العام.. ألقى البيشوب عدة خطابات عامة في أماكن متعددة من مدينة لاهور، ذكر فيها أن يسوع وحده من دون كل الأنبياء الآخرين.. وخاصة رسول الإسلام .. كان هو الوحيد الذي بلا خطية، بينما ارتكب الباقون الكثير من الذنوب والخطايا.

ولم يكن خافياً بالطبع مدى الحب العظيم الذي يُكنُّه سيدنا أحمد عليه السلام تجاه رسول الله وكيف أنه لا يطيق أن يسمع كلمة واحدة تنال من هذا الإنسان الكريم الذي كان ولا يزال رحمة للعالمين، والذي كان يذكره دائماً بالشكر والثناء عليه في جميع كتاباته وأشعاره وأحاديثه، ويقول إن كل خير أصابه وكل نعمة أنعمها الله تعالى عليه إنما هي بفضل طاعته واتباعه لهذا النبي العظيم. ولذلك.. ما أن وصل إلى مسامعه ما قاله وردده البيشوب ليفروي في أنحاء لاهور عن رسول الله حتى راح يتصدى بسرعة للدفاع عن حبيبه، فأصدر منشورين في 25 مايو (أيار) عام 1900 لتوزيعهما على الناس في نفس اليوم المزمع فيه أن يُلقي البيشوب ليفروي محاضرته بعد الظهر. وبعد المحاضرة.. طلب الحاضرون من البيشوب أن يُعلق على الموضوعات التي تناولها المنشوران. ولكن البيشوب تحاشى الإجابة معتذراً بأن الموضوعات التي تناولتها المنشورات موضوعات جديدة بالنسبة له، وأنه رآها اليوم للمرة الأولى، مع أن المنشورين كانا يعالجان نفس الموضوعات التي كان قداسة البيشوب قد تحدث عنها في الاجتماعات السابقة. وفي نهاية المنشور الثاني كتب سيدنا أحمد عليه السلام يقول أنه إذا كان قداسة البيشوب مخلصاً في مجهوداته، وأنه يريد فعلاً إظهار الحق للناس، فعليه أن يُعلن أنه على استعداد لعقد مباحثة عامة مع المسلمين للمقارنة بين محمد ويسوع، لمعرفة أيهما أعظم من حيث العلم الإلهي الذي وهبه الله لكل منهما، ومن حيث الأسوة الحسنة التي قدمها كل منهما في أتباعه وأعدائه على السواء.

وقد وجّه عدد كبير من المسلمين خطاباً إلى قداسة البيشوب، يدعونه فيه إلى قبول عقد مباحثة علنية مع حضرة مرزا غلام أحمد على مدى خمسة أيام، وتتناول خمس موضوعات يترتب عليها بيان صدق الإسلام أو المسيحية، واقترحوا القواعد الواجب اتباعها في عقد هذه المباحثة، والتمسوا من البيشوب أن يوافق.. ولو من أجل يسوع الذي يؤمن به.. على عقد هذه المباحثة، حتى تُتاح الفرصة لمن يريد أن يعرف الحق أن يختار طريق الحق.

وقد علَّقت الصحيفة الإنجليزية اليومية البيونير The pioneer التي تصدر من مدينة (إله آباد) قائلة:

“إن ذلك الخطاب الموجه إلى قداسة البيشوب يحمل توقعات عدد كبير من وجهاء المسلمين، ويكفي قراءة الأسماء الأولى من التوقعات ليتبين الاهتمام الكبير في المجتمع المحمدي لعقد هذه المباحثة.”

وفي 12 يونيو (حزيران) 1900 أرسل البيشوب رداً على الرسالة المذكورة عدّد فيها بعض الأسباب.. أو الأعذار.. لعدم استطاعته قبول الاشتراك في تلك المباحثة المقترحة، وكان أحد تلك الأعذار قوله:

“إن مرزا صاحب.. بإطلاقه على نفسه لقب مسيح.. فإنه بدون أي وجه حق، وبغير أي سلطة، قد اغتصب لنفسه ذلك الاسم الذي نُدعى به نحن المسيحيون، والذي نُكن له أعلى تقدير وأعظم احترام، كما أنه يُشكل في رأيي إهانة بالغة لمن أقدسه وأعبده باعتبار أنه ربي ومولاي. فكيف يمكن لي الموافقة على الالتقاء معه بشكل ودّي؟”

وقد تم توجيه خطاب إلى قداسة البيشوب في 10 يوليو (تموز) 1900 ذكر فيه المرسل ما يلي:

“إن قداستك قد امتنعت عن المقابلة مع مرزا غلام أحمد بشكل ودّي، باعتبار أنه يُلقّب نفسه بلقب المسيح، الذي يوقره المسيحيون ويعبدونه، ويتخذونه إلهاً ورباً لهم. وحتى لو كان الأمر كما يظن قداسة البيشوب، فإن هذا لا يُشكل سبباً للكراهية والبغض، وتوقفت علاقات الود. وإن هذا التصرف الذي يدفعك إليه هذا البغض، لا يليق أن يصدر من أتباع أي دين، دع عنك أتباع الدين المسيحي، وخاصة أحد رجالات الكنيسة البارزين، الذي ليس من واجبه فقط الامتثال لوصايا إنجيل متّى المذكورة في إصحاح 5:44 ولكن عليه أن يقوم بتعليم تلك العقائد للسواد الأعظم من الناس، وينشرها بين الأوساط غير المسيحية. ولكني أؤكد لكم على أن مرزا صاحب لا يدّعي أبداً أنه يسوع المسيح بنفسه، وإنما هو شخص جاء مثيلاً لذلك النبي في صفاته وأخلاقه، تماماً كما جاء يوحنا (يحيى عليه السلام) مثيلاً لإيليا النبي. وبالإضافة.. فإن المسلمين أيضاً يوقرون المسيح عيسى بن مريم باعتباره نبياً عظيماً، وإن مرزا صاحب باعتباره في مقدمة المسلمين من أهل زمانه، فإنه أيضاً يحترمه ويوقّره، بينما هناك الملايين من الناس من غير المسلمين والمسيحيين، لا يعتبرونه نبياً ولا يعترفون حتى بصدقه، مما يُعتبر إهانة كبرى لمقامه، ومع هذا فإني أعتقد أن قداستكم كثيراً ما اتصلتم وتعاملتم وتحادثتم مع هؤلاء الأشخاص، ولا أظن أن قداستكم قد عبرتم عن مشاعر البغض لهم، كما عبرتم عنها في خطابكم تجاه مرزا صاحب.”

وفي نهاية الخطاب ذكر الكاتب:

“حينما ذُكر هذا الموضوع أمام مرزا صاحب وسُئل عما إذا كان امتناع قداستكم عن مقابلته بشكل ودي، يجعله هو أيضاً يبادلكم مشاعر الكره والبغضاء التي أبديتموها نحوه، فأجاب بما يلي:

“إنني لا أناصب أحداً العداء في هذا العالم، وأنا لا أبغض الناس ولكن أبغض العقائد الزائفة الخاطئة التي يؤمنون بها. وأما فيما يتعلق بالأفراد.. فإن مشاعري تجاههم، هي مشاعر العطف ورجاء الخير لهم، فكيف أعتبر أحداً من أعدائي.. خاصة وأنه يشغل مركزاً مرموقاً بين أتباع دينه، ويحتل مقاماً عالياً نظراً لمكانته وعلمه؟ إنني أحبه رغم أي لا أحب معتقداته، ولكن بغضي لهذه العقائد، لا يتجاوز كراهتي لإضفاء الصفات الإلهية على البشر، ونسبة الأخطاء والضعف البشري لرب الكون. إنني لا أمانع مطلقاً في مقابلة قداسة البيشوب في اجتماع ودي، لأنه من الممكن لكل فريق أن يستفيد من ثمرات ذلك الاجتماع، حيث أن بذور الإخلاص لا بد وأن تحمل ثماراً طيبة. إن من أوْلى واجبات الإنسان المصلح أو المبشر، أن يستقبل بكل بِشْرٍ وترحاب، أولئك الذين يؤمنون بأفكار مغايرة لما يؤمن به هو. وفي الحقيقة.. إنني لن أكون فقط قد ضللتُ وبعدتُ عن أداء مهمتي كمصلح ديني، بل إنني أكون.. في نفس الوقت.. قد وجهت ضربة قاتلة إلى كل مبادئ الأخلاق، لو أنيي اعتبرت أولئك الناس من أعدائي.. الذين هم بالأولى في حاجة إلى الشفقة عليهم، لأنهم.. ولسوء حظهم.. قد سقطوا في هوة الخطأ. إن مثل هذا التصرف من جانبي سوف يحرم أعداداً كبيرة من الناس من أن يسمعوا تلك الحقائق الربانية النبيلة التي من واجبي أن أبلغها للجميع. ويقول القرآن الكريم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) (التوبة: 129)، أي أننا أرسلنا إليكم رسولاً يمتلئ قلبه بالعطف عليكم، حتى إنه يعز عليه ويُحزنه ما يصيبكم من مكاره، كما لو كانت تخصه هو شخصياً، وهو دائماً حريص عليكم وعلى راحتكم وسعادتكم. وأيضاً يقول تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) (الشعراء: 4). وتشير هذه الآية إلى المعنى الحقيقي للتضحية بالحياة، الذي يقوم به الأنبياء لإصلاح أحوال أقوامهم. هذه هي الآيات التي أتَّبِعُها وأعمل بمقتضاها، ويمكن للمرء أن يفهم من ذلك.. بكل سهولة.. حقيقة مشاعري تجاه أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أعداءً لي.”

ورغم هذا الخطاب الذي تم إرساله إلى قداسة البيشوب.. إلا أن قداسته لم يُغير موقفه، وكتب في 12 يوليو (تموز) 1900 يقول:

“لقد استلمت خطابكم ولكن ليس عندي ما أغيره ولا ما أضيفه إلى الأسباب التي سبق لي أن ذكرتها في خطابي السابق الذي اعتذرت فيه عن دعوتكم لي للإجراء أي مباحثة مع مرزا غلام أحمد”.

وقد علقت بعض الصحف على مسلك قداسة البيشوب ليفروي واعتذاره عن عقد المباحثة كما طُلب منه، ونقتطف فيما يلي بعض العبارات من صحيفتين محايدتين إحداهما الديلي تلغراف الهندية الصادرة بتاريخ 19 يونيو (حزيران) 1900 التي قالت:

“على صفحة أخرى يجد القارئ منشوراً يُعتبر من أكثر التحديات الدينية إثارة، وهو صادر في هذا البلد من المدرسة الإسلامية التي تتبع مرزا غلام أحمد القادياني، ومُوَجه إلى بيشوب لاهور. وسبب كونه مثيراً، أنه مُقدم بروح من الصدق والإخلاص. إن مرزا غلام أحمد هو رئيس قاديان، وحسب كلمات التحدي.. فإنه لا يُعلن أنه المسيح المنتظر فحسب، وإنما يُثبت دعواه بدلائل وبراهين متعددة، وقد أثبت أنه هو الموعود المنتظر الذي جاء ذكره في القرآن وفي الكتاب المقدس. ويبدو أن أتباع هذه الشخصية الفريدة يبلغ حوالي ثلاثين ألفاً، موجودون في مختلف أنحاء العالم، ويرغب أصحابه وأتباعه في عقد مباحثة مستفيضة ومتنورة مع قداسة بيشوب لاهور، حول مصداقية المسيحية والإسلام. وكان قداسة البيشوب قد ألقى عدة محاضرات هناك، وكان قد أقنع عددا كبيرا من المحمديين (أي المسلمين) أنه متحدث بارع، لا يرقى أحد من أهل هذه البلاد إلى مستواه في العلوم الدينية. وإن معلوماته الواسعة، ومعرفته باللغة العربية والفارسية والأردية.. وأساليبه الودودة المتنورة.. كلها تُعد أسباباً لاختياره للمباحثة مع بطل الإسلام. وقد صيغ التحدي المقدم إليه بكلمات مهذبة رصينة، مما يدل على رغبة أكيدة لعقد المباحثة بين الطرفين.. على أساس من الاحترام المتبادل.. تتناول المقارنة بين مزايا المسيحية والإسلام. ويأمل أولئك الذين تقدموا بهذا التحدي.. وهم أعداد غفيرة من مختلف البلاد.. أن يوافق قداسة البيشوب من أجل اسم يسوع المسيح على عقد هذه المباحثة.وفي رأينا أن قداسة البيشوب سيكون قد أحسن صنعاً لو قبِل التحدي، فإن الزعم بالتقدمية والفوقية بدون إثبات ذلك في مباحثة علنية يُعد خطأ بالغاً. كما أن من حق من تقدم بهذا التحدي أن يعتبر القضية قد حُسمت لصالحه، حيث أن الطرف الآخر لم يجرؤ على الدفاع عن معتقداته. كذلك فكون مرزا غلام أحمد القادياني ليس هو المسيح الموعود الذي جاء ذكره في القرآن وفي الكتاب المقدس.. يجب ألا يعتبر سبباً لامتناع قداسة البيشوب عن عقد المباحثة معه. فإن هذا الموضوع ليس من الموضوعات التي تتناولها المباحثة، ولكن من الممكن لقداسة البيشوب أن يُقنع خصمه بخطأ دعواه إذا ما قبل التحدي. وفي حقيقة الأمر.. إن رغبة المسلمين أن يتولى مسيحهم مباحثة قداسة البيشوب، لَيُعتبر تقديراً منهم لغزارة علمه واعتباره أعلى سُلطة دينية في الهند. وبالإضافة.. فإننا لا نرى كيف أن عقد مثل هذه المباحثة يمكن أن يُكلف قداسة البيشوب وقته الثمين؟ إذ أن من واجبه ألا يدع فرصة كهذه تفلت من بين يديه، دون أن ينتهزها لإفحام معارضيه، وللرد عليهم وعلى أفكارهم، خاصة وأن المطلوب منه أن يُثبت أي من الديانتين.. الإسلام أو المسيحية.. هي الديانة الصحيحة والحية، وأي التعاليم.. هي التعاليم الأعظم والأكثر تطبيقاً من الناحية العملية. إننا نود أن نرى ذلك التحدي يخرج إلى حيز التنفيذ لأن الموضوع على جانب كبير من الأهمية.”

وعلقت صحيفة إنديان سبكتيتور Indian Spectator على رفض البيشوب ليفروي قبول التحدي فقالت:

“يبدو أن بيشوب لاهور قد انسحب بأسلوب يتسم بالتسرع أكثر مما يتسم بالكرامة، إذ أنه لم يقبل التحدي الذي كان هو بنفسه من أسباب إثارته، فإن قداسته قد دأب منذ وقت طويل.. وأخذ على عاتقه.. أن يُبين لمستمعيه المحمديين أن يسوع هو فعلاً المسيح الصادق. وقد وجّه التحدي إليه مرزا غلام أحمد.. وهو الذي كنا قد نشرنا في بعض مقالات سابقة، بعض ادعاءاته التي يقول فيها أنه مسيح أيضاً. والآن.. قد يكون مرزا غلام أحمد مجرد مدّع كاذب، أو لعله يُصدق فعلاً ما يدّعي به، وفي أي من الأحوال فإننا لا نرى سبباً يمنع قداسة البيشوب، من عقد المباحثة معه. إن قداسته يذكر أن مرزا غلام أحمد يتسبب في إهانة بالغة، وازدراء كبير للمسيح، بسبب ادّعائه أنه المسيح المنتظر. وقد قام اليهود منذ ألفي عام بصلب يسوع المسيح لأنهم اتهموه بنفس الاتهام. إنهم أيضاً شعروا بالإهانة والازدراء لأنه أطلق على نفسه اسم المسيح. كذلك فإنه من الغريب حقاً ما ذكره قداسة البيشوب، أن الغالبية العظمى من المحمديين، ينظرون بكثير من الازدراء إلى مرزا غلام أحمد، بسبب ادعاءاته بأنه هو المسيح المنتظر، ويستدل بذلك على كذب هذه الادعاءات. ولكن حينما سأل بيلاطس (الحاكم الروماني الذي تولى محاكمة المسيح عليه السلام) اليهود المجتمعين عمّن يريدون إطلاق سراحه في عيد الفصح: يسوع أو برباس؟ أجمعوا كلهم على إطلاق سراح اللص المجرم برباس. فهل كان هذا المسلك يُثبت أن ادعاءات السيد المسيح لم تكن تقوم على أساس؟ إننا لسنا من أتباع مرزا غلام أحمد، وبالطبع فإننا لن نجعل لادعاءاته مكانة أعلى من تلك التي ليسوع المسيح، ولكننا نعترض على المنطق الذي يحاول قداسة البيشوب الاستناد عليه في إجراء مباحثة دينية. وإذا حدث أن العالم الإسلامي بأجمعه قد أيّد ادعاءات المرزا.. فهل كان ذلك يغير من رأي البيشوب في مصداقيته؟ إن المعتقدات الدينية في هذا البلد تمر بحالة من الذوبان والفناء، ومن الأحرى بأولئك الحريصين على المسيحية، أن يروا تلك المعتقدات تتبلور وتتركز حول الحق، وألا يتبعوا من الأساليب ما يتنافى مع الطبائع الطيبة”.

وهكذا نرى أن المبشرين المسيحيين بكل ما أتوه من علوم ومعارف.. ومهما بلغت درجاتهم ومراكزهم التي يشغلونها.. كانوا يخشون المنازلة مع سيدنا أحمد عليه السلام. لم يكن البيشوب ليفروي جاهلاً بما كان يكتبه المسيح الموعود عليه السلام من مقالات يُفند فيها المعتقدات المسيحية الباطلة.. ولم يكن يخفى عليه الكتب التي نشرها سيدنا أحمد، وأوضح فيها جمال التعاليم الإسلامية وعظمتها، وتفوقها على تعاليم جميع الأديان الأخرى، ولم يكن يجهل كذلك نتائج المباحثات التي أجراها مبشرون مسيحيون آخرون مع سيدنا أحمد عليه السلام، ولذلك فإنه كان يخشى أن يلتقي معه في مباحثة علنية، وأخذ يتعلل بالعلل  الواهية، ويسوق الأعذار الهزيلة، وإن تهربه المهين من عقد تلك المباحثة، لأبلغ دليل على أن المسيح الموعود عليه السلام قد كسر الصليب، الذي لم يستطع أحد أن يقيمه أو يدافع عنه بدليل أو برهان، ولا بعقل أو منطق، مما اضطر أولئك المبشرين المسيحيين أن يلتجئوا إلى أساليب التآمر الخسيس، ويستعملوا المسلمين أنفسهم، في محاولاتهم للقضاء على سيدنا أحمد وعلى جماعته المباركة، كما سنرى في حلقات مقبلة من هذه السلسلة إن شاء الله.

فعليه أن يُعلن أنه على استعداد لعقد مباحثة عامة مع المسلمين للمقارنة بين محمد ويسوع، لمعرفة أيهما أعظم من حيث العلم الإلهي الذي وهبه الله لكل منهما، ومن حيث الأسوة الحسنة التي قدمها كل منهما في أتباعه وأعدائه على السواء.

ورغم انسحاب بيشوب لاهور من عقد المباحثة العلنية، ورغم تجنب المبشرين المسيحيين عقد أي مباحثة مع المسيح الموعود عليه السلام، إلا أنه لم يتوانَ في إظهار حقائق الإسلام العظمى، وكشف زيف العقائد الخاطئة التي افتراها رجال الكنيسة عبر الأزمان الغابرة، والتي جاء المبشرون المسيحيون من كل حدب وصوب لينشروها بين المسلمين في أصقاع الأرض.

وفي 15 يناير (كانون ثان) 1901 أعلن سيدنا أحمد عليه السلام، عن إصدار مجلة شهرية باللغة الإنجليزية، اسمها مجلة مقارنة الأديان Review of Religions والتي كان يُشرف على تحريرها بكل جدارة مولانا محمد علي.. المفكر الإسلامي المعروف. وتخصصت هذه المجلة في عرض محاسن الإسلام لأهل الغرب، والرد كذلك على الاعتراضات التي يثيرها المبشرون المسيحيون ضد الإسلام. وقد لاقت هذه المجلة ترحيبا وتقديرا في كل من إنجلترا وأمريكا. وكتبت مجلة هلال ليفربول في عام 1903 تقول:

“إن مجلة مقارنة الأديان تجمع الكثير من المقالات الرائعة، كما أنها تحتوي على تفنيد علمي، ورد منطقي، على كل الاعتراضات التي يُثيرها المسيحيون عادةً، الذين لا يعلمون الكثير عن الإسلام وعن نبي الإسلام. ونحن لم نعثر على شيء مشابه، مكتوب بهذه المهارة في هذا المجال”.

وقد كتب مستر محمد الكسندر راسل وب.. أول أمريكي دخل الإسلام عن طريق كتابات المسيح الموعود عليه السلام فقال:

“إنني على يقين أن هذه المجلة سوف تكون وسيلة فعالة في تصحيح الفكر الديني في كثير من الدوائر، وأعتقد كذلك أنه على المدى الطويل ستتمكن هذه المجلة من إزالة العوائق التي أقامها الجهل في طريق الحق”.

ولقد صدقت توقعات مستر محمد راسل.. إذ ما زالت هذه المجلة تقوم بواجبها حتى اليوم خير قيام.

ومن التعليقات الطريفة كان ذلك التعليق الذي نشرته مجلة أسرة الكنيسة The Church Family وكانت لسان حال الكنيسة الإنجليكية. وتعود طرافة التعليق إلى أنه يُبين مدى القلق الشديد، الذي تعكسه المجلة، من التصدي لكل ما يُكتب أو يُنشر ضد الإسلام، بشكل يُهدد العقائد المسيحية نفسها، وبأسلوب لم ير رجال الدين والكنيسة مثيلاً له من قبل، يقول التعليق:

“إننا لن نحاول بأي وسيلة الرد على ما يُنشر تحت توجيه مرزا غلام أحمد، وإلا فإنه سيقوم بنشر ما لا حصر له من المقالات ضد المسيحية.. الأمر الذي قد يؤدي إلى هدم الكتاب المقدس وإزالة أثره تماماً”.

ورغم طرافة هذا التعليق، إلا أننا نرى كيف يُبين المخاوف التي استشعرها رجال الدين المسيحي، وقلقهم البالغ من وجود سيدنا أحمد عليه السلام في ساحة النضال.. حتى أولئك الذين يقطنون بعيداً عنه في بريطانيا على بُعد آلاف الأميال، كما أنه يوضح يقينهم بأن أي هجوم على الإسلام، أو أي انتقاص يوجهونه إلى سيد الخلق أو أي نقد يثيرونه ضد كتاب الله القرآن، سوف يُقابل بوابل من الشهب الثاقبة، التي تنهال على رؤوسهم، وتحرق كل تطاولاتهم، كما تدمر أيضاً الأسس التي يستندون عليها في ديانتهم وعقائدهم. ولا يحتاج الأمر كثيراً من الذكاء، لاستنتاج أن هؤلاء لم يكونوا ليستسلموا بسهولة للهزيمة، أو ينسحبوا تماماً من الساحة، ويتركوها لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود. وحيث أنه لم يكن في جعبتهم أي سلاح من فكر، أو دليل من عقل، أو برهان من منطق، ليستعملوه في حربهم الخاسرة، فكان لا بد من التآمر، واستعمال أسلحة أخرى غير شريفة.. تماماً كما حاول الأب الدكتور هنري مارتن كلارك أن يزيح المسيح الموعود من طريقه، بوسائل الغش والخداع وتزييف الحقائق. ومن هنا كانت المؤامرة الكبرى التي سوف نتحدث عنها في إحدى الحلقات المقبلة إن شاء الله.

ولعل المسمار الأخير الذي دقه المسيح الموعود عليه السلام، في نعش العقائد الباطلة التي كان يُروّجها المبشرون المسيحيون، هو الكتاب الذي نشره في 25 إبريل (نيسان) عام 1899 بعنوان: “المسيح في الهند”. وقد وضح في هذا الكتاب كيف أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.. بعد أن نجّاه الله تعالى من الموت على الصليب الذي أراده له يهود عصره.. قد هاجر من فلسطين، وذهب للبحث عن “خراف بيت إسرائيل الضالة”. فهو كان يُعلن دائماً أنه.. كما وصفه القرآن: (ورسولا إلى بني إسرائيل)، وكما أكد على ذلك بقوله في الإنجيل: “لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (إنجيل متى 25:15). ولكن قبائل بني إسرائيل الاثنتا عشرة لم تكن كلها تعيش في فلسطين عندما جاء المسيح، بل كانت قبيلتان فقط هما اللتان تعيشان هناك، بينما انتشرت القبائل العشر الأخرى، في منطقة العراق وإيران وأفغانستان وشمال الهند في كشمير. وكان ذلك حين غزا الملك نبوخذنصّر ملك بابل أرضَ فلسطين حوالي عام 603 قبل الميلاد، وقضى على ما تبقى من دولة إسرائيل التي قضى الآشوريون على الجزء الشمالي منها في عام 722 قبل الميلاد، وحطم نبوخذنصّر هيكل سليمان، وأخذ بني إسرائيل في الأسر، وحملهم إلى بابل، فقد كانت تلك هي وسيلة الحصول على الأيدي العاملة في ذلك الوقت. ولكن الإسرائيليين تحالفوا مع أعداء البابليين وهم الفرس، وحين غزا الملك كورش ملك مادي وفارس، مملكة بابل، كان بنو إسرائيل هم الطابور الخامس، الذين اعتمد عليهم الملك كورش في تقويض المقاومة البابلية من الداخل. وقد كافأهم الملك كورش، وسمح للبعض منهم بالعودة إلى فلسطين، وإعادة بناء الهيكل مرة أخرى. فعادت قبيلتان منهم إلى فلسطين، بينما انتقلت معظم القبائل الأخرى من العراق.. أرض بابل.. إلى الشرق في مملكة مادي وفارس (وتشمل إيران وأفغانستان وشمال الهند)، ليعيشوا تحت حكم الملك كورش الذي كان رجلاً صالحاً ومشهوراً بالعدل.

وقد زار كاتب هذه السطور القبر المذكور في عام 1980، واستمع إلى روايات أهالي المنطقة عن هذا القبر، وشاهد كذلك بعض السجلات التاريخية القديمة، والمخطوطات التي ورد فيها اسم عيسى عليه السلام.

ولما جاء المسيح عليه السلام في فلسطين، أخبره الله تعالى بما يُدبره له اليهود، كما أخبره بأن عليه أن يُهاجر من فلسطين، ويذهب إلى بقية الخراف الضالة من بيت إسرائيل، لذلك فقد قال عليه السلام.. كما جاء ذلك في الإنجيل:

“ولي خراف أُخر.. ليست من هذه الحظيرة.. ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد” (إنجيل يوحنا 16:10)

وبعد المحاولة الفاشلة لصلب سيدنا عيسى عليه السلام، خرج من فلسطين مهاجراً، حتى لا يقع مرة أخرى في أيدي اليهود والرومان، وذهب إلى الشرق للوصول إلى بقية الذين أُرسل إليهم، حتى يُبلغهم بقرب تأسيس ملكوت الله على الأرض.. أي بقرب بعث رسول الله وتأسيس دين التوحيد في الأرض. ويبدو أنه قد لاقى نجاحاً في دعوته بين قومه، الذين كانوا يسكنون تلك المناطق، حتى أنهم جميعاً كانوا في انتظار ظهور الإسلام، ولعل ذلك كان السبب في سرعة انتشار الإسلام أيضاً في تلك المناطق. وقد عاش عيسى بن مريم عليه السلام يؤدي رسالته، إلى أن بلغ من العمر مائة وعشرين عاماً، كما أشار إلى ذلك رسول الله في حديث له لفاطمة، في مرضه الذي توفي فيه: “إن جبريل كان يُعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه لم يكن من نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني ذاهباً إلا على رأس الستين”. (المواهب اللدنية المجلد الأول 42) وكان عيسى عليه السلام قد استقر به المقام في كشمير بشمال الهند، حيث توفاه الله ودُفن بها، وأرشد الله المسيح الموعود عليه السلام إلى قبره الموجود حتى الآن، في شارع خانيار بمدينة سرينجر عاصمة كشمير، وقد زار كاتب هذه السطور القبر المذكور في عام 1980، واستمع إلى روايات أهالي المنطقة عن هذا القبر، وشاهد كذلك بعض السجلات التاريخية القديمة، والمخطوطات التي ورد فيها اسم عيسى عليه السلام. وقد برهن المسيح الموعود عليه السلام، على أن المدفون في هذا القبر هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ومعه أحد التلاميذ، وقدّم على ذلك العديد والكثير من الأدلة المستقاة من الإنجيل، ومن القرآن، ومن الأحاديث النبوية، ومن السجلات التاريخية، ومن العلم الإلهي الذي علمه الله تعالى إياه.

وقد أحدث الكتاب الذي نشره حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، دويّاً هائلاً في الأوساط المسيحية وغير المسيحية على السواء، وتم ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية تحت عنوان (Jesus in India)، ونُشر في أوربا وفي أمريكا، وما زال الكتاب يثير اهتمام الكثيرين من الباحثين والمفكرين، وهو بلا شك يعتبر آية بيّنة على صدق المسيح الموعود عليه السلام، لأنه يبين كيف أن الله تعالى قد كشف له عن بعض أمور الغيب، التي تتعلق بالماضي أيضاً، كما يفعل سبحانه مع أنبيائه ورسله، فالغيب لا يتعلق بالمستقبل فقط، وإنما يشمل كذلك ما غاب في الماضي، كما فعل سبحانه وتعالى مع رسول الله حين أوحى ليه أن جسد فرعون قد نجا، وأنه محفوظ ليكون آية لمن يأتي من بعده، فقال عن فرعون: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون) (يونس: 93)

حقاً.. إن كثيراً من الناس عن آيات الله لغافلون!   (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك